1- أميل حبيبي: التأثُّر والتأثير
هذا الصيف أنا مشغول بأميل حبيبي، ولا أدري لماذا مرّت ذكرى وفاته في أيار دون أن أقرأ مقالاً عنه، بل ودون أن أقرأ خبراً عن ندوة أقيمت هنا أو هناك، في هذه المدينة أوتلك. هل ما كتبه أميل حبيبي يقلّ أهمية وقيمة عما كتبه غسان كنفاني أم أن السبب يعود إلى ماضي كل منهما السياسي، وإلى موقع كل منهما وموقفه من الكيان الإسرائيلي؟ وهل لتسلم أميل جائزة الدولة الإسرائيلية صلة بالأمر؟
وأنا أُمعِن النظر في واقعنا الثقافي وفي احتفالاتنا برموزنا تساءلت إن كنا، في آب، سنحتفل بالشاعر محمود درويش، كما احتفلنا بغسان.
هذا الصيف درست لطلبة الماجستير رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974). سأدرس صلة الرواية بالتراث العربي القديم والحديث، وصلتها بالآداب العالمية، وسأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى أبعد من تاثّر أميل بالآداب العربية والعالمية، إذْ سأتساءل إن كان حبيبي ترك أثراً في غيره من الكتّاب. هل هذا بدعة؟
في الأدب العربي دراسات كثيرة عن الأثر الذي تركته أشعار شاعر ما في غيره من الشعراء. بدأت هذه الدراسات بالتوقف أمام ظاهرة السرقات المحمودة والمذمومة، وهي ضرب من تأثر اللاحق بالسابق، بقصد أو بغير قصد، ولم تنته بتأثير قصيدة البوصيري:
أَمِنْ تذكّر جيران بذي سلمٍ مزجتَ دمعاً جرى من مقلة بدمي
لم تنته بتأثير هذه القصيدة في الشعراء اللاحقين في زمنه، فمن قرأ أحمد شوقي أو استمع إلى أم كلثوم ولا يعرف قصيدة شوقي:
ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعَلَمِ أَحَلَّ سفكَ دمي في الأشهرِ الحُرُمِ
ها نحن في الأشهر الحُرُمْ، في رمضان ـ شهر رمضان، لا رمضان كاتب الكلمات في مناسبات. وها هو الدم السوري يسفك في سورية كلّها.
هذا الصيف أنا مشغول بإميل حبيبي، بتأثره بالأدبين؛ العربي والعالمي، وبتأثيره في غيره من الكتّاب.
عدد الطلاب الذين أُدرِّسهم خمسة. هل كانوا قرأوا شيئاً لإميل، من قبل، غير ما قررته على بعض الطلاب في مرحلة البكالوريوس. أنا أدرس إميل في مرحلة البكالوريوس في ثلاث محاضرات أو في خمس محاضرات على أمل أن يقرأه الطلاب فيما بعد، بعد تخرجهم، ولكنهم لا يقرأون إلاّ المقررات، وبعد أن يحصلوا على الشهادة يكفيهم الله شرّ القراءة، فلا يقرأون إلاّ النحو ـ إن قرأوه. هل أظلم الطلاب بقولي هذا؟ وحين أشدد على طلبة الدراسات العليا فيرسب منهم عدد لا بأسَ به، إنما أفعل ذلك لأنهم يواصلون وعودهم لي بأنهم بعد تخرجهم، سيقرأون، وأنا تعلمت من التجربة أنهم يعدون ولا ينفذون.
هل ترك أميل حبيبي أثراً في الرواية العربية والفلسطينية؟ هناك عشرات الدراسات والكتب التي أنجزت عن حبيبي وحياته. دارسون عرب ودارسون فلسطينيون ودارسون من العالم تناولوا ما كتب هذا الكاتب، بل ومنهم من تناول سيرته، فأجاب عن سؤالي: لماذا اهتم بغسان أكثر من الاهتمام بإميل؛ داخل فلسطين وخارجها؟ هل أُحيل إلى كتاب خضر محجز: "إميل حبيبي بين الوهم والحقيقة"؟
أتت الدراسات على تأثر إميل بالمقامات وبالجاحظ وبالقرآن الكريم وبألف ليلة وليلة وبأدب الرحلات وبالشعر العربي القديم، وبالشعر الفلسطيني الحديث، وعد كاتبو هذه الدارسات إميل حبيبي ملك التناصّ في الرواية العربية المعاصرة، لدرجة أن دارساً مغربياً هو سعيد علوش ألّف كتاباً عن حبيبي عنوانه "عنف المتخيل: دراسة في أدب إميل حبيبي" (1986)، أحصى فيه اقتباسات إميل حبيبي وتضميناته، والأخيرة أكثر من الأولى، بل هي الأصحّ. وكتب آخرون، غير سعيد علوش، عن صلته بالتراث العربي، كتب هؤلاء كتابات كثيرة، لدرجة أن اللاحق، أحياناً، أضاف إضافات قليلة إلى السابق، وما تبقى مما كتب كان من باب التكرار ليس أكثر.
وأنا والكاتب أحمد حرب، وأحمد قبلي، كتبنا عن إميل و"كنديد" لـ (فولتير)، ثم كتبت أنا عن إميل و (يا روسلان هاتشيك) صاحب رواية "الجندي الطيب شفيك" وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، فأنجزت في العام 2009 بحثاً شاركت فيه في جامعة البتراء عنوانه "إميل حبيبي: نقض الفكر الصهيوني/ إميل حبيبي أديباً ومفكراً" قارنت فيه بين "المتشائل" ورواية (ثيودور هرتسل): "أرض قديمة ـ جديدة". هل شططت في هذا؟ وسأعرف، مؤخراً، من الكاتب وليد أبو بكر أنه كان كتب مقالات عن تأثر إميل بـ (دون كيشوت) وبـ (الجندي الطيب شفيك)، وسأسأله عن مقالاته ومكان نشرها فلعلنا نفيد منها، غير أنه لم يعد يذكر أين نشرها ومتى وفي أي الصحف؟!
هل أتى الدّارسون على تأثير إميل حبيبي في غيره من الكتاب اللاحقين له؟ ـ أي هل أثر إميل في الرواية العربية والفلسطينية؟ لهذا أنا مشغول بإميل منذ فترة، ولهذا قررت أن أدرسه، صيف هذا العام، لطلبة الدراسات العليا. بمن تأثر إميل وفيمن ترك أثراً؟ من هم الكتّاب الذين تأثر بهم، ومن هم الكتّاب الذين تأثروا به؟
طلاب الدراسات العليا غالباً ما يكون أكثرهم ـ إن لم يكن كلهم ـ طلاباً بكراً ـ أعني أنهم يأتون بلا تجربة في القراءة، فكيف يمكن أن أدرسهم عن تأثير كاتب في غيره، كاتب معاصر في كتّاب معاصرين، روائي في روائيين، وهم لم يقرأوا من الروايات إلاّ ما كان مقرراً عليهم في مرحلة البكالوريوس ـ أي رواية أو روايتين على أكثر تقدير؟ هنا سأعتمد على نفسي ـ قد أتهم لاحقاً بأنني حاج أشغل الطلاب لصالحي.
أنا قارئ لا بأس به، ولا أُبالغ إذا زعمت بأنني واحد من مائة ممن يقرأون في فلسطين باستمرار. ولهذا، وأنا أقرأ، أعرف الأثر الذي تركه كاتب مثل إميل في الرواية العربية، وتحديداً في الرواية الفلسطينية، وهذا ما قلته لطلابي، صيف هذا العام وفي المحاضرات وطلبت منهم أن يتابعوه ـ إن استطاعوا.
سأقترح على الطلاب أن يقرأوا الروايات التالية في ضوء قراءة "المتشائل": آلام السيد معروف لغائب طعمة فرحات و"حارس المدينة الضائعة" لإبراهيم نصر الله، و"بنات الرياض" لرجاء الصانع. ولن أفاجأ بعد سنوات إن قرأت رسالة دكتوراه في الموضوع.
أنا أُفرّخُ موضوعات لطلبة الدراسات العليا، وهم يتهمونني بأنني حاج. رمضان كريم. هم سيقولون: اللهم إني صائم، وأنا سأقول: اللهم إني مفطر.
عادل الأسطة
2012-07-22
***
2- إميل حبيبي و(ثيودور هرتسل)
هل قرأ إميل حبيبي رواية (ثيودور هرتسل) "أرض قديمة ـ جديدة" (1903) وكانت روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) في جانب منها تدحض ما ورد في رواية (هرتسل)؟ في إحدى المقابلات التي أجريت مع اميل حبيبي قال إنه كتب روايته رداً على مقولات وزير المعارف الإسرائيلي (آيغال ألون) الذي قال بعد حزيران 1967 إنه ليس هناك عرب في فلسطين، ولو كان هناك فلسطينيون وشعب فلسطيني لكان له أدب، وبالتالي فأفضل برهان على عدم وجود شعب فلسطيني هو عدم وجود أدب له.
في روايته "أرض قديمة ـ جديدة" لم ينكر (هرتسل) وجود عرب في فلسطين، فقد كان هؤلاء حاضرين فيها، ممثلين بشخصية رشيد بك الذي رحب باليهود ونشاطهم ورأى فيه إثراء لأهل البلاد، وسيستغرب رشيد بك هذا من تساؤل المسيحي صديق اليهودي ـ أي من تساؤل (كينجز كورت) صديق (فريدريك ليفنبرغ): ألم يتضرر سكان البلاد من المشروع الصهيوني، وسيقول رشيد بك متسائلاً: كيف تعتبر لصاً من يقدم لك يد المساعدة ومن يعطيك؟ لقد أثرانا اليهود. بل وسيذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول إن اليهود سيجلبون الحضارة والخير العميم لسكان فلسطين. بل إن الرواية تحدثت عن وجود الكنيس إلى جانب الكنيسة إلى جانب الجامع، ودعت إلى تعايش الأديان. هل كانت رواية (هرتسل) أكثر صدقاً من مقولات (آلون)؟ ولكن ما صلة هذا بالعنوان؟
نقلت رواية (هرتسل) إلى العربية في العام 1968 ـ الطبعة التي أملك صورة عنها ـ وإن كان غسان كنفاني أشار إلى أنها نقلت في العام 1962، وصدرت في حيفا عن دار هاينس دويتش فيرلاغ.
وهذا يرجح ترجيحاً كبيراً أن يكون إميل قرأ الترجمة العربية إن لم يكن قرأ الترجمة العبرية للرواية التي كتبت أصلاً بالألمانية.
حفلت الترجمة العربية الصادرة في العام 1968 عن المجلس الأعلى للآداب والفنون التابع لوزارة المعارف والثقافة/ تل أبيب (دار النشر العربي)، وقد ترجمها (منير حداد)، حفلت بصور لفلسطين ولـ (هرتسل) وأفراد عائلته، صور تعود إلى ما قبل بدء المشروع الصهيوني وأخرى إلى ما بعد إقامة دولة إسرائيل، وغالباً ما كانت الصور توضع جنباً إلى جنب ليظهر المترجم والجهة الداعمة الفرق بين ما كانت عليه فلسطين قبل تأسيس دولة إسرائيل، وما غدت عليه بعد تأسيسها، والمترجم والجهة الداعمة يريدان أن يعززا ما ورد في الرواية. فماذا ورد في الرواية؟
يزور اليهودي (فريدريك ليفنبرغ) وصديقه المسيحي (كنجز كورت) فلسطين في بدايات ق19، ويريانها أرضاً جرداء تكثر فيها المستنقعات والملاريا، ويريان مدنها: يافا وحيفا والقدس مدناً بائسة مثل الشرق البائس المتخلف. فأين هذه البلاد ومدنها من سويسرا والريفيرا الفرنسية؟ وأين سكان هذه البلاد الوحوش من الرجل الأوروبي المتحضر؟ ويتخيل (فريدريك ليفنبرغ) فلسطين بعد عشرين عاماً من سيطرة الحركة الصهيونية عليها، يتخيلها وقد غدت قطعة من أوروبا، بل قطعة من الجنة، الشوارع عبدت وسفلتت، والمستنقعات جففت وتحولت إلى أراض زراعية مونعة ومثمرة، والقطارات الكهربائية أخذت تصل بيروت ودمشق وشرق الأردن، وغور الأردن وقد غدا أرضاً خضراء. ويمتاز أفراد الشعب القادم من أوروبا ـ أي الإسرائيليين الأوائل / الرواد / البيونير ـ يمتازون بروح المبادرة، حتى إن القطارات الكهربائية في فلسطين لتغدو أحدث من تلك الموجودة في أوروبا، ولا تختلف المصانع في الأرض القديمة ـ الجديدة عن المصانع في برلين، فأي تغيير أحدثه اليهود؟ وأية عجائب شهدتها البلاد؟ وأية معجزة تحققت؟ ويقرأ المرء في رواية (هرتسل) عشرات العبارات التي تشيد بمجهودات أبناء الشعب اليهودي والصفوة فيه، فهل راق هذا لاميل حبيبي؟
في العام 1948 أقيمت دولة إسرائيل، وتشرد ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني وأكثر، ولم يبق من الفلسطينيين في قراهم ومدنهم سوى 150,000 مواطن (شرد 650,000 مواطن). واضطر الباقون أن يعملوا في المزارع والمصانع وفي البناء، وبعد هزيمة 1967 انضم إلى هؤلاء عشرات الألوف من عمال الضفة الغربية وقطاع غزة، وازدهر البناء وازدهرت التجارة والزراعة في الدولة الناشئة، فمن الذي بنى الدولة؟ الأيدي العاملة العبرية أم الأيدي العاملة العربية؟ ومن الذي حقق المعجزة التي يتحدث عنها الإسرائيليون؟
في الروايات الصهيونية التي خرجت من معطف "أرض قديمة ـ جديدة" مثل رواية (آرثر كوستلر) "لصوص في الليل" و(ليون أوريس) (أكسودس) يصور العرب على أنهم عجزة كسالى لا يجيدون سوى البكاء، وإذا ما قارن المرء بين المناطق التي غدت تشكل دولة إسرائيل، والمناطق الفلسطينية التي حكمتها مصر والاردن، لاحظ الفرق شاسعاً وردد مقولة عجز العرب وكسلهم ـ كما تذهب الروايات الصهيونية، وكما يخدع المرء للوهلة الأولى ـ ، فماذا رأى اميل حبيبي في روايته "المتشائل"؟
في أكثر من موطن من مواطن روايته يأتي اميل على هذا الجانب، لا ليقر به، بل ليدحضه، وهكذا يحضر في روايته الخطاب الصهيوني كما يحضر نقيضه، أيضاً، فالرواية تحفل بشخصيات إسرائيلية يهودية صهيونية وبشخصيات عربية. حتى الشخصيات العربية التي تخدم الدولة العبرية وتتعاون معها، مثل شخصية سعيد بطل الرواية، لا يروق لها الخطاب الصهيوني، بل إنها تسخر منه وتتهكم على أصحابه، لأن لها رأياً آخر يقول عكس ما تقوله الرواية الصهيونية.
في الرسالة الرابعة من الكتاب الثاني "باقية" من "المتشائل" يتساءل سعيد: "فمن شيد المباني الشاهقة في هذه البلاد، وشق طرقها العريضة، وزفتها وأحكم الاستحكامات، وحفر الملاجئ، ومن زرع القطن، ثم جناه، ثم حلجه.." و"من شيد المباني وشق الطرقات وحرث الأرض وزرعها، في إسرائيل، غير العرب الباقية في إسرائيل؟ فالعرب الباقية، صبرا، فيما احتلته دولتنا من أرضٍ لهم لم يجد لها أحمد الشقيري متسعاً في ملفات خطبه الرنانة... إلخ.
وفي الرسالة الثالثة من الكتاب الثالث "يعاد الثانية" يزعم رجل المخابرات الصهيوني أن من كبار اليهود في دولة إسرائيل من يعتقد أن الدولة تعامل العرب داخل السجون معاملة أفضل منها خارج السجون وأن هؤلاء الكبار "موقنون أننا بذلك نشجعهم على الاستمرار في مقاومة رسالتنا الحضارية في المناطق الجديدة....".
وسيفخر الرجل الإسرائيلي بما أنجزه الإسرائيليون: "الخضرة، الخضرة على يمينك وعلى يسارك وفي كل مكان، أحيينا الموات وأمتنا الحيات (وكان يعني الأفاعي)، ولذلك أطلقنا على حدود إسرائيل القديمة اسم "الخط الأخضر" مما بعدها جبال جرداء وسهول صحراء وأرض قفراء تنادينا أن أقبلي يا جرارات المدينة".
وسيكتشف سعيد زيف ادعاءات الرجل الإسرائيلي حين يقيم في قرية عربية يعمل سكانها في أحد الكيبوتسات، فما إن تحاصر القرية وما إن يمنع سكانها من الخروج للعمل، حتى يتوسط أهل الكيبوتس لهم ليفك عنهم الطوق فالأراضي "تتوق إلى أيادينا الماهرة، فيتوسطون لفك الطوق، فنعود إلى العمل في حقولهم.." وهنا يعقب سعيد : "فالخضرة نبت سواعدكم، إذن، لا كما ادّعى الرجل الكبير، كأن اميل بهذا ينقض الرواية الصهيونية من أساسها. حقاً هل كانت رواية (هرتسل) من قراءات إميل حبيبي؟.
عادل الأسطة
2013-08-04
***
3- كما في حياته هو في مماته يشعل النار فينا وينام ملء جفونه
أثارت الحلقة التي بثتها فضائية "الميادين" عن الكاتب الراحل إميل حبيبي تحت عنوان "في الهوامش" جدلاً عنيفاً بين محبي الرجل المتبنين أفكاره ورؤاه وبين الذين يختلفون معه ومع أطروحاته السياسية الأيديولوجية.
كما لو أن إميل حبيبي قال ما قاله المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها / ويسهر القوم جراها ويختصم
ولقد نام في 1996 نومته الأبدية ملء جفونه وترك الآخرين يختصمون ويتجادلون، كما اختصموا وتجادلوا في حياته وكان يومها لا ينام. كان يصحو ويتدخل في الجدال ويشارك فيه ولم يكن يومها ليأخذ ببيت المتنبي ولم يكن أيضاً يأخذ بمقولة نظرية التلقي التي التفتت إلى القارئ ولم تلتفت إلى المؤلف. غدا أصحاب هذه النظرية يرددون "المعنى في بطن القارئ" خلافاً لمن سبقهم ممن كان يرى أن المعنى في بطن المؤلف. كما لو أنهم أخذوا بمقولة رولان بارت "موت المؤلف“.
مرة تدخّل إميل حبيبي في إبداء رأيه في بعض نصوصه. سئل إن كان قصد معنى ما فأجاب: لم يخطر المعنى ببالي ولكن أظن أنه ممكن، وهنا طلب منه بعض قرائه ألا يفسر نصوصه وأن يترك تأويلها للنقاد.
ليس تسلم إميل حبيبي جائزة الدولة العبرية هو العامل الوحيد الذي ألب عليه كثيرين، وليس ميله إلى جناح غورباتشوف أيضاً العامل الوحيد الذي ألب عليه كثيرين مثل رفيقه في الحزب توفيق زياد الذي هاجم إميل بقصيدة عنيفة عنوانها ”المرتد"، نشرها في ديوانه «أنا من هذي المدينة».
بعد تسلمه الجائزة كتب فيصل دراج في كتابه «بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية»، 1996، مقالاً عن حبيبي عنوانه "إميل حبيبي الوجه الضائع بين الأقنعة المتعددة" تساءل فيه عن تقلبات الرجل واختلاف مواقفه.
وقبل دراج وبعد زياد كتب سميح القاسم عن إميل ما لم يخطر ببال أحد.
اختلف رفيقا الأمس لربع قرن تقريباً وتركا الحزب وسار كل في طريق وأشار سميح إلى ما حدّثه عنه إميل عن سفره إلى براغ لتسهيل صفقة سلاح للدولة الإسرائيلية، وحول هذه الصفقة دار جدل كبير لم يقعد ولم ينته ووصلت الأمور إلى حد الاتهام بالعمالة/الخيانة.
قبل سميح القاسم وتوفيق زياد كان الخلاف الكبير بين إميل حبيبي والشاعر راشد حسين، وقد اعتمد د.خضر محجز في رسالة الدكتوراه «إميل حبيبي بين الوهم والواقع» على كتابات خصوم حبيبي وتتبعها بدقة شبه متناهية ولم تكن صورة إميل في الكتاب الذي صدر في العقد الأول من القرن الحالي إيجابية. إنه كتاب أثار أيضاً ضجة كبيرة بين محبي الرجل المتبنين أفكاره ورؤاه وبين الذين يختلفون معه.
لم يكن التشكيك بإميل حبيبي واتهامه قبل التسعينيات عنيفاً وكبيراً كما غدا بعد انشقاقه عن ”الحزب الشيوعي الإسرائيلي“ وتسلمه جائزة الدولة العبرية. بعد هذين الحدثين اختلفت الأمور كثيراً ولم يعد الحزب وصحافته يدافعان عن إميل، وعلى العكس من ذلك أخذا يهاجمانه هجوماً عنيفاً وتشابه موقفهما مع مواقف من هاجم الرجل من قبل منذ الخمسينيات.
لعل ما مد مهاجمي إميل بمسوّغات أخرى إضافية إقراره في آخر لقاء أجري معه ونشر في مجلته «مشارف» أنه حين كتب روايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» عام 1974، كان يكتب عن نفسه.
قبل الإقرار أشار في المقدمة التي كتبها لكتاب «الرسائل» بين محمود درويش وسميح القاسم أنه كان يكتب الرسائل إلى نفسه. وقوله هذا لم يلفت نظر النقاد إلى إعادة قراءة المتشائل في ضوء هذه العبارة الدالة.
في بداية التسعينيات نشرتُ دراسة في جريدة «نابلس» وازنت فيها بين إميل وبطله سعيد ورأيت أن سعيداً يشبه إميل. لم يعترض الرجل وبلغت به الجرأة أنه وافق على نشر الدراسة في مجلته. حقاً لقد اندهشت مما فعله، وبعد ثلاثة أشهر من نشر الدراسة نُشرت المقابلة التي أقر فيها بأنه حين كتب روايته كان يكتب عن نفسه "أنا في عمر لا يسمح لي بالكذب، حين كتبت المتشائل كنت أكتب عن نفسي“ (ببعض اختلاف).
بطل رواية إميل بطل متعاون قدم خدمات للدولة الإسرائيلية ثم توقف وقرر أن يبيع البطيخ على التعاون وحين هدده رجل المخابرات بأنه سيكشف أمره أمام أبناء شعبه صاح سعيد وقال لرجل المخابرات: أعطني شهادة بتعاوني معكم وسأعلقها على العريشة“.
إشكالية عودة إميل إلى فلسطين بعد قيام الدولة العبرية كانت أيضاً عاملاً من العوامل التي اعتمد عليها أعداؤه للنيل منه وللتشكيك في وطنيته، عدا اختلاف الرؤى والموقع والموقف.
هل عاد إميل بشروط اسرائيلية؟ وما هي هذه الشروط؟
في هذه الأثناء صدر كتاب هلل كوهين «العرب الصالحون» ويبدو المؤلف شيوعياً يتبنى وجهة نظر الشيوعيين أكثر مما يتبنى وجهة نظر معارضيهم. يدافع كوهين في مواطن عديدة عن ”الحزب الشيوعي الإسرائيلي“ وطروحاته أمام طروحات بعض التيارات القومية والزيارات الموالية للحزب الصهيوني الحاكم ما بين 1948 و1967، ويأتي على عودة ما لا يقل عن 20 ألف فلسطيني تسللاً أو بتصاريح -وقد عاد إميل متسللاً وأتى في «المتشائل» على عودته- ويرى كوهين أن كثيرين من هؤلاء العائدين وافقوا على التعاون مع المخابرات الإسرائيلية مقابل السماح لهم بالبقاء.
سعيد أبو النحس المتشائل يقر في الرواية بتعاونه مقابل البقاء. والسؤال هو: هل كل ما كتبه إميل عن سعيد حدث معه أم أن سعيد كان يجمع بين ما حدث مع إميل وما قام به غيره من العائدين تسللا؟ للدكتور عادل منّاع كتاب صدر من عامين أتى فيه على سيرة إميل حبيبي وما أورده لم يكن لصالح إميل. لعل ما كتبه منّاع يستحق وحده مقالة خاصة.
منشورة في:
إميل حبيبي من وحي الأيام
عن موقع رمان
***
4- «شارع فرعي في رام الله» و«اخطية»
تحيل قصة أكرم هنية الجديدة "شارع فرعي في رام الله" قارئ الأدب الفلسطيني إلى نصوص أدباء فلسطينيين منهم إميل حبيبي في روايته "اخطية" 1985 - تماماً كما تحيل قارئ قصص أكرم هنية نفسه إلى قصصه السابقة.
هل يعد الربط بين قصة "شارع فرعي في رام الله" و"اخطية" نوعا من التزيّد والمبالغة والذهاب بعيداً في قراءة النص؟
لا أدري إن كان هذا خطر ببال المؤلف.
لم تعد المقولة النقدية القديمة "المعنى في بطن الشاعر" هي الأكثر شيوعاً كما كان الأمر في قرون وعقود خلت، فلقد شاعت أيضا مقولات نقدية جديدة تهمل المؤلف وتحل القارئ محله.
لقد غدت العلاقة بين النص والقارئ، فالنص مثير والقارئ يتلقاه ويستجيب له بناء على ثقافته، كما يقول (فولفجانج ايزر) أحد أقطاب نظرية التلقي الألمانية التي شاعت في أواخر 70 ق 20، وما زال لها حضور لافت.
باعتباري قارئاً لـ"شارع فرعي في رام الله" فإن العلاقة غدت بيني وبين النص، وعليه سأقدم اجتهاداً ما، قد يروق للمؤلف وقد لا يروق له، وقد يقول إن ما خطر ببالي لم يخطر بباله، وله ذلك.
وأنا أقرأ القصة تذكرت "اخطية" وأخذت أتساءل عن وجه الشبه والاختلاف بين العملين، وأمعنت النظر في هذا.
لم أعد قراءة "اخطية "من جديد فقد اتكأت على ما بقي منها في الذاكرة - وإن تصفحت بعض صفحاتها مجددا.
تقوم "اخطية "على فكرة الكتابة عن حيفا التي كان إميل حبيبي يقيم فيها يوم كتب الرواية ومقارنتها بحيفا في زمن مضى يعود إلى ما قبل العام 1948.
ما بين 1948 و1985 خمسة عقود تقريبا كان إميل شاهدا عليها.
لقد عرف المدينة في زمنين؛ زمن العرب وزمن الدولة العبرية، وأخذ وهو في المدينة زمن الإسرائيليين يحنّ إلى المدينة نفسها زمن العرب، وقد أشار إلى اختلاف الزمن في الرواية، وأشار في التصدير إلى أنه يحنّ إلى حيفا وهو في حيفا.
إنه يشير إلى مرور الزمن منذ الصفحات الأولى للرواية، ويعود ليكتب عن الطفولة المبكرة وحياته في زمن كون المدينة عربية قبل أن تهوّد.
يتحسّر حبيبي على زمن مضى؛ لأنه زمن البراءة والطفولة، ويرثي لزمن آخر جديد فقدت فيه البراءة واستبدلت غزلان المكان ببناجرة وديانات - نسبة إلى بن غوريون ودايان - ويستطيع المرء أن يقتبس فقرات كثيرة يبدو فيها الحنين أوضح ما يكون. (مثلاً ص 70 و71 من طبعة الكرمل 1985):
"كانت الدنيا حلالا، وكان العيش فيها حلالا. ولم نكن نعرف من الحرام ما نتجنبه سوى النميمة. وكنا نتجنبها مهما غلا الثمن........
كانت الجيرة حلالا والجار من أهل البيت، وكان الجار ينتسب إلى جاره. و...و...و...".
يحن إذن إميل إلى المكان وهو فيه، ولكن يجب ألا ننسى أن المكان غير أكثر سكانه وتغيرت أسماء شوارعه، كما حلت لغة أخرى محل العربية وإن ظل العرب الباقون يتكلمون لغتهم العربية التي اختلطت بها لغة أخرى.
كما لو أن إميل حبيبي غير قادر على استيعاب ما جرى وما آل هو وبقية العرب إليه.
الماضي هو الجميل وزمن الطفولة هو الزمن الذهب وأما الحاضر فهو بائس.
هل يختلف الأمر كثيراً في قصة أكرم هنية التي صدرت بعد 32 عاماً من صدور رواية إميل، وإن اختلف فأين تكمن مواطن الاختلاف؟
يكتب هنية قصته عن رام الله، ويرصد التغيرات التي طرأت عليها منذ 50 و 60 ق 20 حتى العام 2016 - التغيرات التي ألمت بالمدينة بعد مجيء السلطة الفلسطينية.
وكما عاش إميل في حيفا في زمنين، فإن هنية عاش في رام الله في زمنين، والكتابة عن المكان في زمنين هي ما يسم عمله من ألفه إلى يائه.
يرصد الكاتب التغيرات التي طرأت على البشر والحجر؛ على العادات والتقاليد واللباس وعلى المباني.
لقد بدت رام الله في العقدين الأخيرين، لمن يعرفها، مدينة مختلفة كليا.
المدينة التي كانت أقرب إلى قرية فيها خدمات مدينة غدت عاصمة وألم بها ما ألم بمدن شهدت تطورات مشابهة، مثل عمان ودبي.
التطورات التي حدثت استساغها قليلون ولم ينسجم معها كثيرون؛ من سكان المدينة نفسها وممن قدم إليها من الريف، والأخيرون يذكرون بالشعراء العرب الذين وفدوا على المدن الكبيرة من الريف، مثل أحمد عبد المعطي حجازي وبدر شاكر السياب. - هنا نتذكر رواية عباد يحيى "جريمة في رام الله" حيث غادر الريفي المدينة وعاد إلى قريته وإن كانت عودته لا تؤيدها المعطيات على أرض الواقع.
هل يحن أكرم هنية إلى رام الله في 50 و60 و70 ق 20، كما حن إميل حبيبي إلى حيفا زمن كون المدينة عربية؟
لا يكتب هنية قصة سيرية - تبدو اخطية في جزء كبير منها أشبه بسيرة ذاتية لإميل - إن الكاتب يختفي وراء المهندس ماجد ويترك له أن يقص عن حياته في رام الله في زمنين مختلفين، وأحيانا، ومن خلال حوارات عديدة، يترك لشخوص آخرين المجال ليعبروا عن وجهات نظرهم في المدينة وفي غيرها من المدن كالقدس عما يجري.
هل بدا هؤلاء كلهم مثل إميل؟
قسم من هؤلاء ينحاز للواقع الجديد ولرام الله الجديدة، بل إن الجيل الجديد الذي لم يعش في المدينة قبل مجيء السلطة يحب رام الله فيما هي عليه ولا يشعر بالغربة التي يشعر بها بعض كبار السن، ولا نجد حنيناً إلى الماضي يشعر بالأسى كما نجده لدى إميل حبيبي نفسه.
وليس أمام المرء إلا أن يثير أسئلة، ولعل أهمها هو: الآن رام الله، خلافا لحيفا، لم تتهوّد؟ ولأن سكانها كانوا عرباً وما زالوا عرباً.
طبعاً هناك مجال لمقاربات أخرى أهمها عنصر اللغة في الرواية والقصة، ولا أعني هنا لغة إميل التراثية ولغة هنية الأقرب إلى الفصيحة المبسطة، وإنما أعني اللغة الثانية التي تحضر في الرواية والقصة؛ العبرية في "اخطية" و"الانجليزية" في "شارع فرعي في رام الله".
عادل الأسطة
2017-07-23
***
5- تعريب الجزائر وعبرنة فلسطين "المـوت فـي وهـران" و"إخطية"
في الشهرين الأخيرين، أنهيت قراءة ثلاث روايات للكاتب الجزائري الحبيب السايح هي «أنا وحاييم» و»تلك المحبة» و»الموت في وهران»، ولم أكن قرأت له من قبل، نظرا لأن أعماله لم تتوفر في مكتبات فلسطين، ونظرا أيضا لأن دور النشر الفلسطينية لم تعتد طباعة أعماله، فقد اقتصرت طباعتها على أعمال الطاهر وطار وأحلام مستغانمي وواسيني الأعرج وفضيلة الفاروق، وربما أيضا نظرا لعدم قراءة مراجعات لرواياته في صحفنا المحلية، ولأنه ليس كاتبا جزائريا كلاسيكيا كتب بالفرنسية وترجمت أعماله إلى العربية مثل كاتب ياسين ومالك حداد ومحمد ديب، والأخيرون عرفناهم من خلال دور نشر عربية ومن خلال تركيز أحلام مستغانمي على تجربتهم في ثلاثيتها «ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير».
أول مراجعة لأحد أعمال الحبيب السايح قرأتها كانت مراجعة واسيني الأعرج لرواية «أنا وحاييم»، فقد خصها بمقال أتى فيه على كتابة السايح عن يهود الجزائر ومدح صنيعه، وكان علي أن أقرأ الرواية لاهتمامي بالموضوع.
وأنا أقرأ «الموت في وهران» تذكرت الروايات والقصص الجزائرية التي أتت على حرب التحرير من ١٩٥٤ إلى ١٩٦٢، ومنها «الطعنات» و»الشهداء يعودون هذا الأسبوع» و»اللاز» و»الزلزال» لوطار، و»الدار الكبيرة» و»الحريق» و»النول» لمحمد ديب. إن «الموت في وهران» تستحضر أيضا أجواء حرب التحرير. غير أن ما تذكرته أيضا هو رواية إميل حبيبي «إخطية».
لا تأتي «إخطية» على تفاصيل حرب ١٩٤٨، ولكنها تأتي على تذكر كاتبها مدينة حيفا في زمن العرب وترصد التغيرات التي طرأت على المكان وتهويده من خلال تغيير أسماء شوارع حيفا وتبدل عوالمها؛ ما كانت عليه وما صارت إليه، وهذا نلحظه أيضا في رواية الحبيب السايح، فهو غالبا ما يذكر أسماء الأماكن في زمن الاستقلال ويشير إلى ما كانت عليه في زمن الاستعمار الفرنسي ويأتي على ذكر مواطنين فرنسيين عاشوا في المدينة أيام استعمارها.
عندما كتبت ملاحظة عابرة حول هذا الموضوع عدها الحبيب السايح ملاحظة ظريفة ونبيهة، وأعتقد أنا أنها قد تشكل مدخلا لكتابة رسالة ماجستير أو دكتوراه في باب التوازي بين التجربتين الجزائرية والفلسطينية والأدبين الجزائري والفلسطيني، وقد كان هذا موضوعا محببا للفلسطينيين في المناطق المحتلة بعد العام ١٩٦٧، وأذكر أنه في العام ١٩٧٧ عقدت في مكتبة بلدية رام الله ندوة لمناقشة رواية «اللاز» ومقارنة التجربة الفلسطينية بالتجربة الجزائرية اتكاء على الرواية، بل إنني شخصيا أشرفت على رسالة ماجستير عن تأثير الرواية الجزائرية على الرواية الفلسطينية.
ما الذي ذكرني برواية حبيبي المذكورة؟
في «الموت في وهران» غالبا ما يذكر السايح أسماء أمكنة؛ شوارع وأحياء، في الزمنين؛ زمن الاستعمار وزمن الاستقلال، وغالبا ما يضعها بين قوسين، ويبدو الأمر لافتا للنظر منذ الصفحات الأولى:
- كان هو الذي أوصلني أول مرة إلى مدرستي في حي اللوز (ليزامندبي، سابقا) ...
- أقمنا في غرفتين منها مطبخ وحمام في الطابق السفلي، واقعة في حي سيدي الحسني (صناناس، سابقا).
- وغالبا ما كنت كسرت الشارع إلى الأسفل نحو رصيف سوق (ميشلي، سابقا ).. الخ.
ويبدو الأمر جليا واضحا في رواية حبيبي «إخطية» أيضا منذ الصفحات الأولى:
- انتهجت، إذا، طريق «حيفا الفوقا». وذلك بعد أن عبرنا «جسر شل» الذي أصبح «جسر باز» (والبترول واحد)، من تحته. فشارع «هجيبوريم» - يعني الأبطال الذين «طردوا» عرب روشيميا من بيوتهم وأكواخهم، فجسر روشيميا (من فوقه). ثم شارع «هحالوتس».
- سموا هذا الشارع باسم «هحالوتس» ومعناه «الطليعي». فلا يجوز لنا، تاريخيا، ترجمته إلى اللغة العربية كما فعل إخواننا اليهود بالعديد من الأسماء العربية العريقة في هذه المدينة، أو بدلوها تبديلا، حتى أصبح شارع الناصرة شارع «إسرائيل بار يهودا»... والأمثلة كثيرة.
ثمة إشارة أخيرة يمكن ملاحظتها في أثناء قراءة الروايتين تكمن في أن حبيبي لم يلجأ إلى العامية الفلسطينية والتراث الشعبي الفلسطيني إلا نادرا، بخلاف الحبيب السايح الذي وظف الموروث الشعبي الجزائري ما كان أحيانا حائلا دون فهم القارئ غير الجزائري بعض مقاطع من الرواية. هل أقول إن السايح عرب الأماكن ولكن «جزأر» بعض أجزاء من الرواية؟
الأمر يستحق التفكير والمساءلة والتعمق.
عادل الأسطة
2021-06-27
***
6- أميل حبيبي وحضوره في الرواية العربية أولاد الغيتو: اسمي آدم نموذجاً
توقف الدارسون، وهم يدرسون أميل حبيبي، أمام تأثره بالأدبين؛ العالمي والعربي، ولم يدرسوا تأثيره في الأدب العربي، علماً بأن المنهج الاجتماعي الماركسي يركز على دراسة تأثير الأديب وأدبه في مجتمعه وفي غير مجتمعه. وكنت، من قبل، أشرت إلى تأثير الروائي في الرواية العربية والفلسطينية: غالب طعمة فرمان وأحمد حرب ورجاء الصانع وإبراهيم نصر الله وصاحب رواية "مقدسية أنا".
يبدو تأثير أميل حبيبي أوضح ما يكون في رواية إلياس خوري، وإلياس لا يخفي تأثره برواية "المتشائل" وبصاحبها، بل إن بطله آدم يأتي مراراً على ذكر رواية أميل، ولا يأتي على أية رواية أخرى لحبيبي، ما يعني أن "المتشائل" هي رواية أميل الأكثر تأثيراً وحضوراً بين نتاجه.
ولقد حاولت أن أحصي الصفحات التي ورد ذكر أميل فيها مباشرة أو بشكل غير مباشر فوجدتها لا تقل عن عشر صفحات هي: 116، 153، 154، 239، 264، 273، 279، 303، 362، 383. ويقر آدم/ إلياس بأستاذية أميل.
"لا أريد أن أناقش الآن مسألة تلاعبي بهُويّتي، فهذا التلاعب هو قصة حياتي، وليس قصة أكتبها كي تصير أمثولة أو رمزاً، كما فعل أستاذنا أميل حبيبي مع تشاؤل بطله سعيد" (ص302).
وتبدو أستاذية حبيبي في الكتابة، وتأثر إلياس به، في طريقة قص أميل، الطريقة التي تعتمد على الذاكرة، وهو ما يقوم به آدم، إذ يؤلّف حكايته/ روايته، لا من ذاكرته هو، كما فعل أميل، بل من ذاكرات الآخرين: "هذا هو جوهر حكاية أميل حبيبي كلها، فالرجل لم يكتب سوى ذاكرته، بعدما قام بتقطيعها إلى فلذات صغيرة، استخدمها كما يستخدم الميكانيكي قطع غيار قديمة من أجل إصلاح محرك سيارة معطّل".(ص154).
ويقرّ آدم بأنه فكّر أن يكتب رواية، لكنه في بداية حياته ما كان قادراً، لأنه لم يكن ينظر إلى نفسه على أنه روائي، وإن كان مثقفاً وكاتب مقال في صحيفة عن الموسيقى وأم كلثوم، وقصته هو، حيث عثر عليه تحت شجرة زيتون أراد أن يكتبها رواية تروي حكاية المأساة الرهيبة التي عاشها سكان اللد، من خلاله. لكنه لم يستطع. قال إنه ناقد وليس روائياً، و"هذه القصة تحتاج إلى روائي مثل غسان كنفاني أو أميل حبيبي" (116). ولتتذكر أن إلياس بدأ حياته الأدبية ناقداً، وحين كتب الرواية كتب رواية متواضعة، إذ لم تضعه رواياته الأولى، خلافاً للأخيرة، في مرتبة متقدمة بين الروائيين العرب.
ويقارن آدم بين شخصية وشخصية (دوف) في رواية كنفاني، وشخصية سعيد في "متشائل" حبيبي، ويرى نفسه أقر إلى سعيد منه إلى دوف، على الرغم من اختلافه عنه.
أراد آدم أن يصير يهودياً ليتفهم معاناة اليهود، وتخيل نفسه نجا من الهولوكست في معسكرات النازية، ليشبه دوف الذي صار يهودياً، وسعيد الذي تعاون مع الإسرائيليين، ولكنه وجد نفسه مختلفاً عن هذين: دوف وسعيد "فشخصية سعيد جرى تركيبها على النمط الكانديدي كي تنقل تجربة المقاومة عبر التعامل، أو التعامل عبر المقاومة، وتقدم شخصية رمزية تختزل معاناة الفلسطيني في دولة إسرائيل، أما أنا فلم أتعاون ولم أقاوم، ولست مركباً من أي نموذج، وحكايتي لا تختزل سوى حكايتي، ولا أريد أن أكون رمزاً." (ص273).
ما لفت نظري حقيقة هو رؤية آدم لأميل الذي انتهى به الأمر بأن صدق أدبه وكذب حياته، مثل (غوغول) الكاتب الروسي، ومثل غسان كنفاني أيضاً. (ص239). هنا يأتي إلياس، من خلال بطله، على فكرة الكتابة وصلة الكاتب بها فالفنان "لا يضع أعمالاً أو يكتب نصوصاً، الفنان هو مجرد وسيط لا حول له، لذا ينتهي الأمر بالكاتب أن ينكتب لا أن يكتب". وهي فكرة طريفة تذكرنا بمقولة موت المؤلف لدى البنيوي (رولان بارت)، وهي مقولة غير خافية على إلياس، بل إنه يوردها في روايته، فليس المهم الكاتب، وإنما المهم نصه، لأن الكاتب يموت ويبقى النص. ولا أريد أن أناقش هذه القضية، فما يهمني هو قول آدم: "ألم ينته الأمر بأميل حبيبي إلى تصديق أدبه وتكذيب حياته؟" (ص239).
وسيتساءل قراء كثيرون عن مغزى هذه العبارة ومدلولها. هل أقر أميل حبيبي بأن أدبه أصدق من حياته؟ وأين؟
لا تخلو الإجابة من خطورة ومجازفة، وقد تلحق الأذى بأميل. في عدد 9 من مجلة مشارف (حزيران 1996) حوار أجراه، مع أميل، أحمد رفيق عوض وآخرون، وحين سئل أميل إن كان هناك أصل داخلي لشخصية بطله سعيد أجاب: "كنت أكذب وأقول في الماضي إن شخصية سعيد.. هي عكس شخصيتي، ولكنني الآن في عمر لم أعد فيه بحاجة إلى الكذب. لقد كنت أتحدث في "المتشائل" إلى حد كبير عن نفسي".
وكلام أميل هذا كلام خطير جداً، بل وجريء جداً، بخاصة إذا ما قرئ في ضوء القراءات النقدية لشخصية سعيد، وهي قراءات اعتبرت سعيد شخصاً متعاوناً مع الاحتلال. هل ما كتبه إلياس دفاع عن أميل حبيبي؟؟؟!!!
عادل الأسطة
2016-06-26
***
7- أثر ترجمة عادل زعيتر لرواية (فولتير)
(كنديد) في الأدب الفلسطيني
وأنا أقرأ رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) راودني السؤال التالي: لو لم يقرأ إميل حبيبي رواية (فولتير) التي ترجمها عادل زعيتر إلى العربية، وهي رواية (كنديد)، هل كان سيكتب المتشائل؟ وإذا كان كتبها، وقد كتبها، هل كان سيكتبها على الشكل الذي كتبها عليه؟
إن تساؤلي هذا، كما لاحظت، قد خطر ببال كثيرين قرأوا الرواية، حين نشر إميل جزأها الأول، قبل أن يتمها، في مجلة الجديد الحيفاوية، في العام 1972، وجزأها الثاني في آخر العام 1972، وقد التفت إميل إلى هذه التساؤلات وهو يكتب بقية الرواية التي صدرت كاملة في العام 1974.
وأشير، ابتداءا، إلى أن إميل كان يجيد الإنجليزية ويقرأ من خلالها كلاسيكيات الأدب العالمي، وبالتالي، فإنه قادر على قراءة (كنديد) بالإنجليزية- حيث نقلت إليها- لو لم ينقلها عادل زعيتر إلى العربية، ما يعني أن إميل يمكن أن ينجز المتشائل كما أنجزها لو لم ينقلها زعيتر إلى العربية. هذا افتراض وارد، ولكن ما يجعلنا مطمئنين إلى أن ترجمة زعيتر هي التي تركت أثرا في إميل، وجعلته، حين شرع يكتب روايته، يكتبها محاكيا "كنديد"، مستفيدا من الترجمة، إنه هو نفسه أشار في روايته، حين نقل فقرات من كنديد، في الفصل الذي كان عنوانه: "الشبه الفريد بين سعيد وكنديد" أشار إلى أنّ الفقرات مأخوذة من ترجمة عادل زعيتر، لا من لغة أخرى، ما يعني أن حبيبي اطلع على الترجمة العربية وقرأها، وربما لولاها لما قرأها "كنديد"
هكذا إذن نكون نحن مدينين لعادل زعيتر وترجمته، فلولاهما معا: المترجم والنص المُترجَم، لربما ما حظي الأدب الفلسطيني بنص أدبي يُعد الآن من كلاسيكيات الأدب الفلسطيني، بل ومن كلاسيكيات الرواية العربية، نص ترك أثره في الرواية العربية بشكل ملحوظ، نص يعد من أجمل نصوص الرواية الفلسطينية، إن لم يكن أجملها على الإطلاق.
ولا ادري إن كانت هناك دراسات تناول فيها أصحابها تأثير "المتشائل" في الرواية العربية، وإن كنت أعرف دراسات أتى أصحابها فيها على تأثر حبيبي فيها بالآداب العربية والعالمية، وهي كثيرة:
أنا شخصيا، ومن خلال متابعتي لروايات عربية وفلسطينية وقصص قصيرة، لاحظت تأثر أصحابها بإميل حبيبي في جوانب معينة، ويمكن أن أذكر هنا رواية غائب طعمة فرمان "آلام السيد معروف"، ورواية إبراهيم نصر الله "حارس المدينة الضائعة"، وسأذكر أيضا بعض قصص كاتب فلسطيني من الداخل – أي من المناطق المحتلة في العام 1948- هو علاء حليحل، ومنها قصة كان نشرها في جريدة الأيام (رام الله) عنوانها: "المذقون" (6/3/2004). وربما هنا أفشي سرا شخصيا: في نهاية سبعينيات القرن العشرين، وكنت قرأت المتشائل غير مرة، أخذت أكتب نصوصا نثرية باسم مستعار هو عادل الراوي، أفدت فيها من أسلوب الرسائل في رواية المتشائل. أنا أيضا كنت واقعا تحت تأثير هذه الرواية التي دفعتني، في حينه، إلى قراءة "كنديد"، لأن إميل أشار إلى تأثره بها.
ذكرت أنني أعرف دراسات أتى أصحابها فيها على تأثر إميل بكنديد. وقد عدت إلى هذه وأبرزها دراسة د. أحمد حرب التي ألقاها في العام 1980 في مهرجان الأدب الوطني الفلسطيني الأول، وقد صدرت في كتاب. لكن أحمد حرب لم يعتمد على الترجمة العربية، أعني على ترجمة عادل زعيتر، وإنما اعتمد على الترجمة الإنجليزية، وأظن أنها احتوت على الجزء الأول، لا على الجزأين الأول والثاني معا، وترجمة زعيتر تضم الاثنين، وقد أتى على الإشكالات التي أثيرت حول الجزء الثاني من الرواية، الجزء الذي شكك بعض الدارسين في أن يكون من وضع (فولتير).
ما كتبه أحمد حرب في دراسته عن أوجه الشبه بين متشائل إميل حبيبي وكنديد (فولتير)، أشار إليه إميل في روايته، وكما ذكرت فقد التفت إليه قراء الجزء الأول من رواية المتشائل، حين نُشِر على صفحات الجديد. هنا سأعتمد على ما أورده إميل في نصه حول صلة روايته بكنديد، تاركا المجال لمن يريد أن يدرس أوجه الشبه بين الروايتين أن يعود إلى دراسة د. أحمد حرب. وسأقتبس ابتداء فقرات دالة من المتشائل وأتوقف أمامها.
الفقرة الأولى تتمثل في العنوان الفرعي: "الشبه الفريد بين سعيد وكنديد". طبعا هذه العبارة توضح بما لا يدعو مجالا للشك أن إميل يدرك أن هناك تشابها بين بطله سعيد، وبطل رواية (فولتير) كنديد. وأن هذا الشبه فريد، كما يقول العنوان الذي هو من وضع المؤلف الضمني.
وأما الفقرة الثانية المهمة فهي:
"فينتبه صاحبي الفضائي على أزيز طائرات نفاثة تروح وتغدو فوق البحر، شمالا إلى رأس الناقورة، ثم تغدو فتختفي وراء الجبل فأحسب أن سمكة مذعورة شدت في خيطه، فأشد في خيطي شدا خفيفا، فيهديء من روعي.
ويقول: تذكرت ما أتاني من تقول أصحاب صاحبك على ما نشره من رسالتك الأولى إليه وقولهم: احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مئتي عام!"
ويوضح الكاتب في الهامش أن كنديد أو التفاؤل هي قصة (فولتير) الشهيرة التي نشرها عام 1759.
وهنا أتوقف أمام دلالات العبارة السابقة، وهي دلالات أشرت إلى بعضها من قبل.
هناك ثلاث عبارات دالة هي:
* تَقَوُّل أصحاب صاحبك.
* على ما نشره من رسالتك الأولى إليه.
* وقولهم: احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مئتي عام.
أما الأولى: تَقَوُّل أقوال صاحبك فتعني أن قراء الجزء الأول من المتشائل، فسروها وأولوها، وأشاروا إلى تأثر إميل بكنديد.
وأما الثانية فهي إشارة إلى نشر إميل أجزاء من المتشائل قبل أن تصدر في كتاب.
وأما الثالثة فيظهر فيها رأيهم في المتشائل أسلوبا. هل جدد إميل في الرواية، هو الذي بدأ يكتب وهو في الخمسين؟ وحين حاول [احتفز الأستاذ ليشب] فماذا أنتج؟ ورأيهم أنه أنتج نصا يعود إلى مئتي عام خلت- أي إلى العام الذي صدرت فيه رواية "كنديد" وهذا يعني أن إميل تأثر في أسلوب روايته بأسلوب (فولتير).
وأما الفقرة الثالثة فهي:
" فأقول:
ما شأنه وهو رسول؟ فما على الرسول إلا البلاغ!
فيقول:
كنديد متفائل أما أنت فمتشائل.
فأقول:
هذه نعمة خص بها قومي دون بقية الأقوام.
فيقول:
إن في الأمر لمحاكاة.
فأقول:
لا تلمني، بل لُمْ هذه الحياة التي لم تتبدل، منذ ذلك الحين، سوى أن "الدورادو" قد ظهرت فعلا على هذا الكوكب.
فيقول:
أفصح".
واللافت هو قول الآخر/ صاحبه له: إن في الأمر لمحاكاة، مع أن أنا المتكلم/ المؤلف الضمني يشير إلى فرق بين كنديد، وبينه، فكنديد متفائل أما هو فمتشائل. والسبب يعود، كما نعلم من أنا المتكلم، إلى الاختلاف بين الأقوام، فسمة التشاؤل نعمة خص بها قومه.
واللافت أيضا هو رؤية أنا المتكلم للحياة، فهي لم تتبدل منذ مئتي عام إلا جزئيا. تتكرر التجارب، ويتكرر التشرد، ويتكرر القتل، وتتكرر الرحلات، وببساطة يتكرر كل شيء. وربما نتذكر هنا ما قاله الشاعر العربي القديم: ما أرانا نقول إلا معادا مكرورا.
وإذا كان هناك من اختلاف بين ما كانت عليه الحياة قبل مئتي عام، وما غدت عليه زمن إميل حبيبي- أي بعد مئتي عام من حياة كنديد (فولتير)، فهو أن ما كان خياليا غدا واقعيا. اعني أن الدورادو التي كتب عنها (فولتير) في روايته كانت ضربا من الخيال، أما زمن إميل حبيبي فقد غدت واقعا. وقد يثير المرء حول (الدورادو) التي يعنيها إميل تساؤلا مهما: أين هي؟
ومن ثم يبدأ أنا المتكلم يقارن بين الشبه الفريد بين سعيد وكنديد، ويتمثل، كما أفصح عنها، بالتالي:
يأتي سعيد على تعزية (بنغلوس)، وهو صديق (كنديد)، نساء الآبار على ما فعله بهن عسكر البلغار، من اغتصاب ومن بقر بطون ومن قطع رؤوس ومن هدم قصور، بقوله:
"غير أنه انتقم لنا، فقد أصاب الآبار بمثل ذلك السوء بارونية مجاورة يملكها سنيور بلغاري".
ويعقب عليها قائلا: "فبمثل هذه التعزية تعزينا نحن، بعد مئتي عام". وهنا نتذكر ما سلف من أن إميل يدرك أنه يحاكي كنديد، لأن الأحداث تتكرر.
ويرى سعيد/ إميل أن إسرائيل انتقمت من الفلسطينيين بقتل نسائهم وأطفالهم، بعد أن قتل الفلسطينيون، في العام 1972، رياضيين إسرائيليين في مدينة ميونيخ في ألمانيا. وبعد أن حققت إسرائيل انتقامها اجتمع الوزير (بنغلوس) الإسرائيلي- إشارة إلى وزير المعارف والثقافة في حينه- بأرامل الرياضيين الإسرائيليين المغدورين وعزاهن.
ويقتبس سعيد/ إميل من "كنديد" الفقرة التالية:
و"كنديد" يعن له، في يوم من أيام الربيع، أن يتنزه وأن يمضي قدما معتقدا أن استخدام الإنسان لساقيه، كما يروقه، هو امتياز للنوع البشري، كما هو امتياز للنوع الحيواني، ولم يكد يسير فرسخين حتى أدركه أربعة أبطال طول الواحد منهم ست أقدام، فأوثقوه، وأتوا به إلى سجن مظلم".
ويأتي سعيد/ إميل على ما ألم ببضعة أولاد من قرية الطيبة مضوا إلى مدينة ناتانيا ليروا البحر، فألقي القبض عليهم واقتيدوا إلى محكمة عسكرية أوقع بهم حاكمها عقوبة الغرامة، فمن عجز عنها أودع السجن.
ويورد إميل من رواية كنديد ما كان يفعله القرصان، حين استولى على سفينة في عرض البحر، بالنساء، وينقل ما روته امرأة عجوز عما نزل بها من تفتيش، إذ قالت:
"ويعرون من فورهم كالقرود.... ومن الأمور التي تثير العجب سرعة تعرية هؤلاء السادة للناس. ولكن أكثر ما أدهشني هو إدخالهم إصبعا إلى مكان فينا جميعا لم نكن، نحن النساء، لندع شيئا يدس فيه غير أنابيب المحقنة....".
ويذكر سعيد/ إميل ما تفعله السلطات الإسرائيلية بالمواطنين العرب جوا وبحرا وبرا- في مطار اللد، وفي ميناء حيفا، وفوق الجسور المفتوحة.
وبعد أن ينتهي سعيد من قص هذه الحكايات على صاحبه الفضائي يقول الأخير مستريحا:
فهل تَقَوُّل أصحاب صاحبك عليه، بانه قلّد كنديد، يعود إلى أنهم حين كانوا يعرونهم، كانوا يدخلون أصابعهم هناك؟".
مرة أخرى يعود سعيد/ إميل إلى قضية التقليد والمحاكاة، إلى قضية تأثره في متشائله بفولتير في كنديده. وعلى الرغم من التشابه الذي لوحظ في الأمثلة الثلاثة، وعلى الرغم من التشابه بين الروايتين، وهذا ما توقف أمامه أحمد حرب بإيجاز يمكن أن يتوسع فيه أكثر وأكثر، ثمة ما هو مختلف بين سعيد وكنديد. ومن هنا نجد أنا المتكلم/ سعيد/ إميل يجيب صاحبه الفضائي قائلا:
" إن الأمر، يا سيدي، مختلف جدا، فبنغلوس كان يعزي نساء شعبه المبقورات البطون بأن عسكر شعبه قد فعل مثل هذه الفعلة بنساء الأعداء. أما عرب إسرائيل فهم ضحية العسكرين، عسكر الآبار وعسكر البلغار".
وحين يطلب صاحبه منه أن يأتي بمثل على هذا، يورد له ما ألم بقرية برطعة التي سطا فريق من اللصوص فيها على قطيع بقر أردني، فعانى سكان القرية معاناة مرة من الطرفين الأردني والإسرائيلي. دخل الجنود الأردنيون إلى القرية وعاقبوا سكانها وضربوهم ضربا مبرحا، ولما غادرها الجنود الأردنيون دخل إليها الجنود الإسرائيليون، فضربوا من وجدوا سليما- أي من لم يضربه الجنود الأردنيون، وهكذا دفعوا ثمنا باهظا، ولم يجدوا من ينتقم لهم، وبالتالي لم يجدوا من يعزيهم بأن عسكر شعبهم انتقموا لهم.
وينهي سعيد/ إميل هذه المقارنة العجيبة بين عرب إسرائيل وبين كنديد فيقول:
"كنديد، يا سيدي، كان يقول: "كل شيء في هذا العالم حسن لا ريب فيه. وذلك مع الاعتراف بإمكان الأنين قليلا مما يحدث في عالمنا روحا وبدناً". أما أنا فحتى الأنين لم يكن متيسراً لي".
فيقول صاحبي الفضائي: أفصح!
فأفصح وأقول:"
ولعل وقت المحاضرة لا يتسع لمزيد من المقارنة، ولعلني أعود ثانية إلى الروايتين وأجري مزيدا من المقارنات، لعلني أو لعل طالبا آخر يدرس الفرنسية ينجز ذلك، وشكرا.
***
8- هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
توقف دارسو غسان كنفاني أمام تأثره بأدباء عالميين مثل (وليم فولكنر) و(برتولد بريخت) وأدباء صهيونيين مثل (ليون أوريس) و (آرثر كوستلر)، و (ثيودور هرتزل). فعلى سبيل المثال، لاالحصر، قارنت رضوى عاشور بين "ما تبقى لكم" و "الصخب والعنف"، وكان كنفاني نفسه قد أقر بإعجابه برواية (فولكنر)، وقارن محمد صديق في كتابه: "الإنسان قضية" (بالانكليزية) بين "عائد إلى حيفا" و "دائرة الطباشير القوقازية" (لبرتولد بريخت)، ومثله فعل الناقد السويسري (هارتموت فيندرش) الذي نقل أكثر أعمال كنفاني إلى الألمانية. وربما أكون أول من التفت إلى تأثر كنفاني بالأدب الصهيوني، لا إعجاباً به وإنما نقضاً له، وذلك في كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و 7891" وكتابي "الأدب الفلسطيني والأدب الصهيوني".
ولا أعرف، في حدود ما قرأته من دراسات تناول أصحابها فيها نتاج كنفاني، إن كان هناك دارس أتى على تأثر كنفاني بالأدب العربي قديمه وحديثه، وبأدباء بعينهم مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، على سبيل المثال. وإن كنت قرأت دراسة طريفة، بالألمانية، لدارس ألماني، اهتمامه بالأدب العربي الحديث اهتماماً ضئيلاً على أية حال، هو (فولفديتسرش فيشر: Wolfdie trich Fischer)، إذ قارن هذا بين روايتي "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، و"رجال في الشمس" لغسان كنفاني، دون أن يكون قصده إظهار تأثر الثاني بالأول، فقد رمى إلى دراسة الأسلوب والرمز والسارد وتأثير الكاتبين في الأدب العربي.
قبل خمسة أعوام تقريباً، وربما أكثر بقليل، أثار كاتب أردني هو محمد سناجلة زوبعة في فنجان، حين زعم أن كنفاني سرق (فولكنر)، وقد رد عليه، يومها، غير دارس ذاهبين إلى أن كنفاني تأثر بـ (فولكنر) ولم يسرقه، لأنه أقر بإعجابه به، ولم يخف هذا، ولم يزعم أنه لم يقرأ "الصخب والعنف"، والتأثر غير السرقة، فما من كاتب لاحق إلا وتأثر بهذه الدرجة أو تلك بالأدباء الذين قرأ لهم. وقد أخذ أدباء كثيرون يقرون بهذا، ربما اعتماداً على مقولات (ميخائيل باختين) الذي رأى أن كل كلام، عدا كلام آدم عليه السلام، هو كلام يعتمد على كلام السابقين. وسنجد دارسين وباحثين يميزون بين التناص والتلاص، وسنجد شعراء كباراً مثل محمود درويش يقولون بتواضع كبير إن قصائدهم ليست سوى فسيفساء من نصوص الآخرين، وانها إنما تحمل (تحمل) اسمهم فقط.
هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
لم أقرأ، من قبل، كتابة تأتي على هذا السؤال الذي لم يثر في حدود ما أعرف قبل الآن، وربما لم يلتفت دارس الى هذا، لأسباب عديدة أبرزها أن غسان أصدر عشرات الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات قبل أن يغدو إميل حبيبي كاتباً أدبياً ذا شأن، ففي الوقت الذي بدأ اميل فيه يكتب "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" في العام 2791، وهي العمل الأدبي الأبرز له الذي ترك أثراً كبيراً على الرواية العربية، كان كنفاني استشهد مخلفاً آثاراً أدبية تركت آثارها في جيل من الكتاب العرب.
بناءً على ما سبق ربما يعتقد البعض أن السؤال مغلوط ومعكوس، فما دام كنفاني أنجز أكثر كتاباته حين بدأ اميل يتحول الى كاتب أدبي، وقد عرف كاتباً سياسياً بالدرجة الأولى، فالأصح أن يكون السؤال: هل تأثر اميل حبيبي كاتباً أدبياً بغسان كنفاني؟.
ما تجدر الإشارة إليه أن إميل الذي كتب المقالة السياسية منذ الأربعينيات من القرن 02، وواصل كتابتها وتألق في ذلك منذ الخمسينيات حتى التسعينيات من القرن العشرين، كتب قصصاً قصيرة قليلة جداً قبل 1948 وما بين 1948 و 7691، اتبعها بعمله "سداسية الأيام الستة" )1968( الذي اطلع عليه كنفاني، وأورد نموذجاً منه في كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم في فلسطين ما بين 48 و 6691"، هل تركت "السداسية" إذن أثرها على كنفاني؟ هذه السداسية التي كانت من قراءاته قبل أن يكتب "عائد إلى حيفا"، و "أم سعد" وأعمالاً أخرى لم يتمكن من انجازها لاغتياله من الموساد، أعمالاً أدرجت في أعماله الكاملة، مع أنها غير كاملة، وهي "العاشق" و"الأعمى والأطرش" و"برقوق نيسان"؟.
ما بين العامين 1948 و 1967 كتب اميل حبيبي قصتين قصيرتين لا غير ظهرتا، فيما بعد، مع "سداسية الأيام الستة"، هما "بوابة مندلبوم" و "النورية"، ونصاً آخر عنوانه "قدر الدنيا" وتمثيلية "قدر الدنيا"، وربما لم يلتفت إلى هذه الكتابات إلا بعد أن غدا إميل، بعد العام 7691، اسماً لامعاً في الحياة الأدبية الفلسطينية.
سوف أقرأ في بداية العام 2006 قصة "بوابة مندلبوم" وهي قصة كنت قرأتها منذ عقود ولم التفت إلى ما التفت إليه مؤخراً، وهو ما أدرجته في العنوان الذي يشير الى تأثر كنفاني بإميل. هنا سوف أتذكر ثانية مقولة أصحاب نظرية التلقي الألمانية (هانز روبرت يادس) و (فولفجانغ ايزر): "إن قراءة نص أدبي واحد في زمنين مختلفين "تؤدي الى قراءتين مختلفتين"، وهو ما حدث معي. إن قراءتي الثانية لقصة اميل قالت لي ما لم تقله لي القراءة الأولى. لقد قالت لي القراءة الثانية إن غسان متأثر بإميل.
والسؤال هو: ما هو وجه التأثر وأين؟ وسأبدأ بالجزء الثاني من السؤال لأنه لا يحتاج الى شرح، خلافاً للجزء الأول وهو الأهم.
إن من يقرأ "بوابة مندلبوم" و "عائد إلى حيفا" يلحظ تأثر كاتب الثانية بكاتب الأولى ـ أي تأثر كنفاني بإميل. أما ما هو وجه التأثر، فإن الاجابة عنه ربما تتطلب اقتباساً من القصة والرواية.
في العام 1993 كنت أنجزت بحثاً عنوانه "الوطن في شعر ابراهيم طوقان" (مجلة النجاح للأبحاث، 6991)، وكنت أتيت فيه على تعريف الشعراء والأدباء الفلسطينيين للوطن معتمداً لا على أقوالهم في المقابلات التي تجرى معهم، وانما على ما ورد في نصوصهم النثرية والشعرية التي ظهر فيها تعريف لكلمة الوطن. وتعود هذه النصوص الى سميح القاسم "الصورة الأخيرة في الألبوم" )1979( ومحمود درويش "أنا من هناك" )1986( وقبلهما غسان كفاني، في روايته المعروفة "عائد الى حيفا" )1969( وغابت "بوابة مندلبوم" عن ذهني، وربما أكون هنا مثل (امبرتو ايكو) صاحب رواية "اسم الوردة". في كتابه "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية" )2000( يأتي على قضية مهمة تشبه هذه التي أكتب عنها. يقول (ايكو) إنه وهو يحاضر سأله قارئ عن روايته "اسم الوردة" وإن كان تأثر في أثناء كتابتها، برواية معينة. وكان جوابه انها قد تكون أثرت فيه وانها من بين الكتب التي قرأها. (انظر ص 96 وما بعدها من ترجمة سعيد بنكراد الصادرة عن المركز الثقافي العربي، 0002). ولو كان كنفاني على قيد الحياة لسألناه إن كان تأثر، وهو يكتب "عائد الى حيفا" )1969( بـ بوابة مندلبوم". ما هو وجه التأثر إذن؟.
ربما أكون أتيت عليه وهنا أوضح أكثر. في "بوابة مندلبوم" يسرد أنا المتكلم الذي يقيم في فلسطين المحتلة العام 1948 قصة أمه البالغة الخامسة والسبعين، هذه التي تنوي السفر الى القدس غير المحتلة لتقيم فيها، وتظن أنها ستموت فيها ولن تعود الى الناصرة، وحين يودعها أهلها ومعارفها تقول: "لقد عشت حتى رأيت المعزين بأم عيني"، وينتابها، وهي تغادر وطنها، شعور غامض يقبض على حبة الكبد فيفتتها، شعور يخلف فراغاً روحياً وانقباضاً في الصدر، كتأنيب الضمير، شعور الحنين الى الوطن. وهنا يخوض أنا المتكلم في معنى هذه الكلمة:
"ولو سئلت عن معنى هذه الكلمة، "الوطن"، لاختلط الأمر عليها كما اختلطت أحرف هذه الكلمة عليها حين التقتها في كتاب الصلاة: أهو البيت، اناء الغسيل وجرن الكبة الذي ورثته عن أمها (لقد ضحكوا عليها حينما أرادت أن تحمل معها في سفرها اناء الغسيل العتيق هذا، وأما جرن الكبة فلم تتجرأ على التفكير بحمله معها!)، أو هو نداء بائعة اللبن في الصباح، على لبنها، أو رنين جرس بائع الكاز، أو سعال الزوج المصدور، وليالي زفاف أولادها الذين خرجوا من هذه العتبة الى بيت الزوجية واحداً وراء الآخر وتركوها لوحدها!" "... ... ولو قيل لها إن هذا كله هو "الوطن" لما زيدت فهماً".
إن الكتابة عن دال الوطن وتعريفه على هذه الشاكلة سيكون له حضور واضح في "عائد الى حيفا". حقاً إن كلمة وطن تكررت مراراً في أشعار ابراهيم طوقان، وحاول تعريفها، إلا أن ما كتبه عنها كان عابراً:
تلك البلاد إذا قلت اسمها وطن
لا يفهمون، ودون الفهم أطماع.
غسان كنفاني، على لسان الشخصية المحورية في الرواية: سعيد. س، يأتي على تعريف مفردة الوطن، وربما كان "تعريفها، ابتداءً، لا يختلف عما ورد في قصة "بوابة مندلبوم"، وإن كان أضاف اليها معاني أخرى لم ترد في القصة.
يرد في "عائد الى حيفا" المقطع التالي:
"سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل. ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة، ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ النبوة؟ ما هو الوطن؟..".
ويكتشف سعيد. س ان الوطن هو ألا يحدث ما حدث، وأن فلسطين الحقيقية هي أكثر من ذاكرة وريشة طاووس وولد وخرابيش قلم رصاص على جدار السلم...
"لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق..".
إن الأسطر الأخيرة في ما أضافه كنفاني الى ما ورد في قصة بوابة مندلبوم، فهل كان كنفاني، وهو يكتب روايته بعد سنوات طويلة على كتابة قصة اميل حبيبي وبعد هزيمة نكراء للجيوش العربية، هل كان يضع قصة حبيبي وما ورد فيها أمامه ليقدم تعريفاً آخر لمفردة الوطن؟! ربما!، غير أني أعتقد أن اميل حبيبي ترك أثراً واضحاً على غسان، وعلى غيره من الكتاب العرب، ولعل الموضوع بحاجة الى كتابة أخرى!!.
***
9 - قراءة في قصة إميل حبيبي (حين سعد مسعود بابن عمه )
"حين سعد مسعود بابن عمه" واحدة من قصص ستة كتبها إميل حبيبي ما بين نيسان 1968 وتشرين الأول من العام نفسه، ونشرها ابتداءً في مجلة "الجديد" التي أصدرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي، لتنشر، فيما بعد، في مجلة "الطريق" التي يصدرها الحزب الشيوعي اللبناني أولا، وفي كتاب في روايات الهلال في مصر، في مطلع العام 1969، مع رواية (فيركور): "صمت البحر"، وهي رواية من الأدب المقاوم، لاقت ذيوعاً وانتشارا واسعين في العالم العربي، وتناولها بالدرس د. طه حسين وآخرون، وتركت بصماتها في أدبنا العربي.
ولم يكن إميل حبيبي، حين كتب السداسية، يحترف الأدب، فلم يكن كتب ما بين العام 1948 والعام 1967، سوى قصص قصيرة قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بالإضافة إلى تمثيلية قصيرة. كتب إميل "لا حيدة عن جهنم"، وكتب "بوابة مندلباوم" و"النورية" و"قدر الدنيا". ولم يلتفت إليه أديبا. وحين قدم لكتاب "سداسية الأيام الستة" يوم صدرت في حيفا، بعد أن ذاع صيته في العالم العربي، بسبب السداسية، أشار إلى أنه يحترف السياسة ويتذوق الأدب، فيسند بذلك الواحد بالآخر، وأشار إلى انه يكتب القصة في أوقات متباعدة، يكتبها حين يضيق صدره عن آهة لا يقوى صدره على حبسها.
والتفت إميل في المقدمة إلى ما كان يشغله دائما: الفرقة وتخيلات اللقاء، "وهما في الواقع موضوع جميع القصص التي جمعتها في هذا الكتاب". وإذا كانت "بوابة مندلباوم" التي كتبها في آذار من العام 1954 تأتي على الفراق، حيث تترك المرأة مدينة الناصرة التي كانت تقيم فيها، لتقيم في القدس العربية، مفترقة بذلك عن عائلتها، فإن قصة "حين سعد مسعود بابن عمه" تأتي على اللقاء بين أبناء العائلة الواحدة، ولكن إثر هزيمة العام 1967.
وربما ما يجدر الإشارة إليه، قبل تناول القصة، الالتفات إلى نهايات إميل حبيبي السياسية والأدبية. لقد عرف إميل كاتبا سياسيا، وسياسيا بالدرجة الأولى، ولم يكن يعرف أديبا، وقد أقر هو بهذا، وهذا ما لاحظناه قبل أسطر، حين اقتبسنا عبارته التي صدر بها السداسية، ولكنه انتهي أديبا، وإن ظل يكتب المقالة السياسية، غير أنه ظل يكتبها دون أن يكون يعبر عن وجهة نظر حزب، بخاصة بعد أن ترك الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وفي هذه الأثناء- أي بعد تركه الحزب- أخذ يقول غير ما كان يقوله، وهو في الحزب، عن العلاقة بين الأدب والسياسة. كان، وهو في الحزب، يجمع بين بطيختين في يد واحدة، وحين مال إلى الأدب قال: إنه غير قادر على حمل بطيختين في يد واحدة، بطيخة الأدب وبطيخة السياسة، فاحتفظ بالأولى، وترك الثانية. ولا أدري إن كان يعبر بذلك عما قاله في مقدمة السداسية: ويعود الأدب يسند السياسة الصحيحة.
وربما يتساءل المرء: هل حقق الأدب لإميل حبيبي من الشهرة أكثر مما حققته له السياسة؟ بخاصة في العالم العربي والعالم، لا في فلسطين المحتلة في العام 1948، ففيها كان إميل معروفا جيدا، حتى قبل أن يغدو أديبا، بل إنه عرف أديبا في فلسطين، بعد أن اعترف به أديبا في العالم العربي، بعد هزيمة حزيران، فهو حين نشر السداسية في الجديد، وحين نشر قبلها بعض قصصه في الجديد أيضا، لم يلتفت إليه النقاد في فلسطين، ولم يعترفوا به أديبا إلا بعد أن اعترف به في العالم العربي، يكتب إميل:
" فأخذ عدد من دور الإذاعة العربية، ومنها القاهرة، في اقتباس قصص "السداسية" تمثيليات إذاعية أثارت اهتمام الناس هنا في إسرائيل، الذين كان كثيرون منهم قد مروا عليها في "الجديد" دون انتباه. هذه هي الطبيعة الإنسانية، عموما، فكيف لا نفهمها في فرع يحن إلى جذعه!".
ولقد أعاد العالم العربي نشر أعماله الأدبية مرارا، وأنجزت عنها دراسات ورسائل ماجستير ودكتوراة، لم يكن إميل ليحظى بها لو ظل سياسيا، دون أن يكتب الأدب، وترجمت اعماله إلى العديد من اللغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والعبرية أيضا، واحتفل بها وبه، احتفالا كبيرا. ترى ألهذا حمل إميل، في النهاية، بطيخة الأدب؟ ربما يستحق الأمر دراسة مفصلة، فثمة أسباب أخرى أيضا، لا شك في ذلك.
العنوان والتصدير:
يقول لنا العنوان إن مسعودا سعد بابن عمه، وهذه السعادة لم تكن عادية، ذلك أنها جاءت بعد شعور مسعود بغربة داخل وطنه، سببتها نكبة العام 1948، وقد لاحظنا ونحن نقرأ قصة نجوى قعوار فرح "أمر الخيارين" وقصة توفيق فياض "الحارس" المأساة التي ترتبت على الحرب: تشرد العائلة الفلسطينية وتشتتها، وحين تم اللقاء، في قصة قعوار، انتهت القصة بالموت، موت أبي إبراهيم، لأنه التقى بأبنائه، ولكنه فارق وطنه وأشجار زيتونه ومنزله.
وأما الحارس في قصة فياض فما عاد يلتقي بابنته وحفيدته، ولا ندري إن كان التقى بهما، بعد هزيمة 1967، هذا إذا ظل على قيد الحياة.
لقد ظل مسعود، في الناصرة، تسعة عشر عاما كأنه مقطوع من شجرة، فلا أقارب له، لا أعمام ولا أبناء عمومة، فهؤلاء كلهم في جنين أو في المنفى، ولا إمكانية للقاء. صحيح أنه بين أهله الفلسطينيين في الناصرة، ولكن أهله هؤلاء ليسوا أقاربه، وإذا كان المثل قال: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، فمن سيقف إلى جانب مسعود حين يختلف مع رفاقه الأطفال، وهكذا سيظل مسعود مقطوع الأصل والفصل، يكنى بكنى غريبة، مع أنه يحبها إلا أنه يحب أن يكون له، كغيره، أعمام وأخوال.
ولهذا، ما إن يزور سامح وأهله مسعوداً وأهله، حتى تختلف مشاعر مسعود، بل وحتى تختلف معاملة أصدقائه له، "فلأول مرة سمع الأولاد يقولون له، دون سبب معقول: مرحبا، وظلوا يمرحبونه من عتبة البيت حتى دكان أبي إبراهيم..."
وهكذا اختلفت معاملة الآخرين له. حين سعد مسعود بابن عمه، اختلف سلوكه، واختلفت تصرفاته، بل واختلف سلوك الآخرين وتصرفاتهم نحوه، بل إن معاملة أمه له أيضا اختلفت فقد وجدها لأول مرة تفهمه ولا تعانده:
"قامت مع الفجر وفتحت صندوق الثياب وألبسته بزة العيد ببنطلونها الطويل. ولأول مرة لم يعاند والدته، فغسل وجهه دون جر ودون لكمات. وتظاهر بالأدب في حضرة ابن عمه، سامح، الذي في مثل سنه، والذي يلفظ القاف قافا ويفخمها. ولأول مرة أفطر دون أن يشرشر على قميصه. ولأول مرة وجد أخاه الكبير، مسعدا، يدس في جيبه، وفي جيب سامح، قروشاً".
هذا، وغيره، ما حدث حين سعد مسعود بابن عمه. حين التقى به بعد أن كان الآخرون يظنون أنه مقطوع الأصل والفصل. ولقد تبين له أنه ليس كذلك، وأنه ليس غريبا في هذه الدنيا. كأن لسان حال مسعود، قبل أن يلتقي بابن عمه لسان حال فيروز وهي تغني:
لماذا نحن يا أبت
لماذا نحن أغراب
أليس لنا بهذا الكون
أصحاب وأحباب؟؟
وسيزول هذا الشعور، وهذا التساؤل، حين يلتقي مسعود بابن عمه، ولن يحيا، طالما ظل سامح بصحبة مسعود، بمشاعر مثل هذه، ولن يتساءل مثل هذا التساؤل. ولكن النهار يوشك أن يغرب، ولا بد من أن يعود سامح إلى المكان الذي جاء منه، وهذا ما سيقلق مسعودا، ولذلك نجده في نهاية القصة لا يجرؤ على أن يسأل أخته الفيلسوفة، السؤال التالي، خوفا من لطمة كف:
"هل، حين ينسحبون، سأعود كما كنت... بدون ابن عم؟"
وحين ينام ينام وهو يحلم بسامح وبأخيه الذي في الكويت، الذي زار القاهرة، وحضر غناء عبد الحليم حافظ بشخصه.
ونحن، الآن، ونحن نقرأ هذه القصة بعد أربعين عاما من كتابتها، ندرك أنه- أي مسعود- ما عاد بابن عم. لقد غدا بدون ابن عم، بل ولقد غدا بدونه منذ سنوات سابقة تعود إلى الفترة التي غدا الوصول فيها إلى الناصرة وبقية مدن فلسطين غير ممكن إلا بتصريح إسرائيلي يصعب الحصول عليه ،ولقد ازداد الطين بلة منذ العام 2000 ، وتحديداً منذ 28/9/2000 ، بداية تفجر الانتفاضة الثانية .
لقد غدت حسرة مسعود، وحسرتنا، مضاعفة، فإذا كانت الحسرة سببها عدم المعرفة،إن كان لنا أبناء عم،أو إن لم يكن،فقد غدا السبب أننا نعرف أنهم موجودون ،وأننا غير قادرين على الوصول إليهم . لقد عادت الأسرة الفلسطينية تعاني ،من جديد،من التشتت والغربة ،ولقد عادت ،من جديد ،غير قادرة على التواصل إذا ما أرادته ، لا لسبب ذاتي فردي ،بل لسبب يعود إلى الاحتلال ،وهذا ما كان قبل العام 1967 ،وهذا ما أبرزته قصص "بوابة مندلباوم" لإميل حبيبي ، و"عام آخر" لسميرة عزام، و"متسللون" لحنا إبراهيم .
وسيكون موضوع الفرقة فاللقاء فالفرقة حاضراً حضوراً لافتا في رواية إميل حبيبي " الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974). إنه موضوع له حضوره الكبير في أدب الداخل الفلسطيني، وأدب الخارج- أي أدب المنفى، وهذا ما لحظناه أيضا في رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969). ترك سعيد. س ابنه خلدون، وهو رضيع، في المنزل، في غمرة فوضى الحرب في العام 1948، وظل الأب والأم تسعة عشر عاما محرومين من رؤيته، فربي تربية يهودية، وغدا يهوديا بالتربية، وحين زاراه في العام 1967، بعد الهزيمة، تنكر لهما. وهكذا انتهى اللقاء بالافتراق، كما انتهى لقاء مسعود بابن عمه سامح بالافتراق أيضا. ولئن كان الفلسطيني في قصة سميرة عزام "فلسطيني" يشعر بغربة بين إخوته العرب، فإن مسعود يشعر بغربة بين أخوته الفلسطينيين أيضا.
أدب الهزيمة، هزيمة حزيران:
انعكست هزيمة حزيران في نصوص أدبية كثيرة، وتعد هذه واحدة منها. ولقد لفت الأمر أنظار الدارسين فأنجزوا غير دراسة وغير كتاب في هذا الجانب، ولعل أبرز هذه الكتب كتاب: انعكاس هزيمة حزيران في الرواية العربية. ولعل صاحب الكتاب أتى على "سداسية الأيام الستة" ودرسها، كما درسها كثيرون.
في هذه القصة نلحظ انعكاس الهزيمة على المجتمع الفلسطيني، وهو انعكاس يبدو، للوهلة الأولى، إيجابيا، فبعد أن كانت العائلة مشتتة، لا يعرف أفرادها بعضهم بعضا، اجتمعت العائلة وسعد أفرادها، وهكذا ولدت الهزيمة السرور، على الأقل سرور مسعود بابن عمه، ومثله كثيرون. ولكن هذا اللقاء الذي تم بعد افتراق نجم عن الهزيمة نقيضه، فقد افترقت عائلات كثيرة من جديد، ولم تعد ترى بعضها إلا عند الضرورة القصوى. لم يعد كثيرون من الفلسطينيين، من أهل الضفة والقطاع، ممن لهم أقارب في الشام أو في لبنان، قادرين على لقائهم، إلا بعد مشقة، وهكذا افترق الفلسطينيون من جديد، وازداد الأمر تعقيدا. والهزيمة التي وحدت الفلسطينيين، تحت الاحتلال، وجمعت الأسرة، في قصة حبيبي، وفي الواقع أيضا، وإن جزئيا، عادت لتباعد بين أسر أخرى. كان لي عم مقيم في الشام، كان يزورنا قبل العام 1967، وما عاد إخوته، بعد الهزيمة، يرونه، ومات دون أن يحضروا جنازته.
ولئن كان إميل حبيبي في قصته يصور لقاء العائلة، ولا يقص عن تجربة ذاتية، ولا يصور أثر الهزيمة عليه شخصيا، فإن قارئ الأدب العربي، والفلسطيني منه، يلحظ تأثير الهزيمة عليه بوضوح- أي الأدب. وربما تذكر المرء هنا الشاعر نزار قباني والشاعر مظفر النواب والروائي عبد الرحمن منيف، ولربما تذكر أيضا الشعراء محمود درويش وتوفيق زياد وفدوى طوقان.
بدت النزعة المازوخية في أشعار قباني ومظفر وفي رواية منيف "حين تركنا الجسر" أوضح ما تكون. لقد انعكست الهزيمة عليهم سلبا ،وتلذذ الشاعران في تعذيب الذات وشتمها وجلدها ،فيم عد الدارسون ، ومنهم جورج طرابيشي، رواية منيف أبرز رواية عربية عانى بطلها، بسبب الهزيمة، من المازوخية .
وعلى النقيض من الأدباء العرب بدا شعراء المقاومة في الداخل ،رأى زياد في الهزيمة للخلف خطوة من اجل عشر للأمام،ورأى فيها كبوة ،وكم يحدث أن يكبو الهمام ،وازداد ، إصرارا على التحدي والمواجهة،وظل وفيا لأرائه حتى وفاته . وذهب درويش إلى انه في لحم بلاده، وهي فيه ،وانه لا يكتب أشعارا وإنما يقاتل،وان حبه لبلده لم يتفتت بين السلاسل ،وحين زارته فدوى طوقان في حيفا تعلمت منه ومن رفاقه الكثير، وهي إذا كانت قبل الهزيمة تبكي، منطوية على نفسها، معبرة عن تجاربها الذاتية المحبطة،حيث الوحدة والعزلة والغربة، فإنها تعلمت من الهزيمة،ومن رفاقها الشعراء ،ووعدتهم ألا تبكي بعد اليوم،وغدت شاعرة تكتب الشعر القاوم .
لم يكن، إميل حبيبي،وهو يكتب قصصه يعبر عن تجربة ذاتية،ومثله عبد الرحمن منيف الذي صور انعكاس الهزيمة على نفسية المثقفين العرب في الخارج . كانا يكتبان عما فعلته الهزيمة،وعن تأثيرها في الأفراد،لا فيهما . وخلافا لهما كان الشعراء الذي انقسموا مابين جالد للذات ومصر على المقاومة.
أسلوب الحكاية:
راوي الحكاية هو من حارة مسعود،ويرويها بضمير الغائب (الضمير الثالث ) ويبدأها بالتالي: "ما تجعس مسعود كما تجعس في صباح ذلك اليوم التموزي القائظ حين نزل إلى الشارع يعلن بالدليل الحسي القاطع أن له،هو أيضا ,أعماما وأبناء أعمام".
ويفصح لنا الراوي عن كونه واحدا من أبناء حارة مسعود، ويفصح لنا أيضا أن مسعوداً له نشاط سياسي، ومع انه لم يزد عن العاشرة إلا أنه ليس طفلا. ويواصل الراوي القص بالضمير الثالث ،ولكن الانعطافة بالأسلوب تبدو أوضح ما تكون منذ السطر الثالث عشر إذ يفاجئنا بالأسطر الأربعة التالية .
"وهاكم، يا شطار، قصة ذلك الصباح التموزي القائظ،الذي تجعس فيه مسعود،الفجلة،كما لم يتجعس في حياته من قبل .لقد بلغني من فم العصفورة التي كثيرا ما تدهش الأطفال بما تنقله من أسرارهم إلى كبارهم ، فإنهم لا يدركون أن هؤلاء الكبار إنما هم صغار كبروا :،،
وفي الأسطر الأربعة هذه ما يزيل اللبس الذي قد ينشأ حين يقرأ المرء الأسطر الأولى، فيظن للوهلة الأولى أن الراوي من جيل مسعود، وانه يعرفه ؟ أن هذه الأسطر تقول لنا أن الراوي كبير في السن، وان ما بلغه من أخبار عن مسعود وزيارة ابن عمه له،إنما تم من خلال فم العصفورة، وهذا ما يبرز أوضح ما يكون في الحكاية، ويبدو إميل متأثر بأسلوبها. وكتابة القصة القصيرة المتأثر صاحبها بأسلوب الحكاية الشعبية بدا واضحا ليس في القصة الفلسطينية القصيرة، بل وفي القصة القصيرة العربية، بل أن رواد هذه في العالم العربي أفادوا من أسلوب المقامات ،الأسلوب الذي أفاد منه إميل بوضوح، على غير مستوى، في روايته" المتشائل" (1974) .
ولم يبرز تأثر إميل بأسلوب الحكاية على أسلوب قصّه وحسب، بل انعكس على لغتها التي كانت قريبة جدا من لغة الحكاية،مع فارق أنها ليست عامية إلا في بعض المواطن، وهذا ما لفت نظر د.محمود غنايم في كتابه :"المدار الصعب: رحلة القصة الفلسطينية في إسرائيل" "حيث توقف أمام مفردات عامية في القصة أبرزها مفردة تجعس. وما من شك في أن لغة إميل في القصة تختلف عن لغته في المتشائل،وفي الأخيرة تبدو أكثر اقترابا من الفصيحة،بل هي فصيحة لدرجة تذكرنا بلغة الجاحظ وكبار الكتاب العرب الذين كتبوا بالفصيحة :أن لغته في "المتشائل" خارجة من رحم نصوص الكتاب المذكورين،ولغة كتاب المقامات .وليس الأمر كذلك في قصة"حين سعد مسعود بابن عمه".
كلمة أخيرة:
في تقديمه يكتب إميل عن أسلوب الشتم:"ونحن،رجال السياسة،ندرك أن التنهد،مثله مثل الشتيمة،لا يقدم ولا يؤخر،فعلينا أن نصدر عن الواقع،مهما يكون مؤلما، للسير به إلى الأمام،لا إلى خلف، نحو التغيير السوي الممكن ،لا المغامر،غير الممكن ،ولكن على الرغم من كل واقعيتنا، هل نستطيع أن نمنع الإنسان عن التنهد ،والمظلوم عن الشتم؟"ولا تخلو القصة من مظاهر الشتم، الشتم الذي سيكون أوضح ما يكون في أشعار الشاعر العراقي مظفر النواب،الشعر الذي كتبه أيضا إثر الهزيمة 1967 .
***
10- إميل حبيبي... الجلوس على الخازوق
يعتبر إميل حبيبي واحدا من ثلاثة أدباء فلسطينيين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وهم غسان كنفاني ومحمود درويش وإميل حبيبي. ومن هنا يحق للقاريء أن يتساءل: هل يعقل الكتابة عن أدب مرحلة السلام دون الاتيان على ما كتبه.
أشير، ابتداء، الى أن إميل لم يكتب بعد عام 1990 نصوصا قصصية أو روائية، وجل ما أنجزه في باب الأدب، عدا افتتاحيات "مشارف" الثمانية الأولى، نصان أحدهما مسرحي عنوانه "أم الروبابيكا". "هند الباقية في وادي النسناس" (مشارف، أيلول 1995، عدد2)، وثانيهما يدرج تحت باب السيرة الذاتية وهو "ذكريات: سراج الغولة أو لا تطفئوا هذه الشمعة" (مشارف، آيار 1997، عدد 16)، وليس هذان النصان بجديدين كليا. فالأول هو إعادة كتابة، بشكل جديد، لقصتين كتب إميل أولاهما، وهي "النورية"، قبل عام 1967، وكتب الثانية، وهي "أم الروبابيكا" بعد هزيمة حزيران، وأدرجها في مجموعة "سداسية الأيام الستة" القصصية. ويتشكل النص الثاني من مجموعة نصوص كتبها المؤلف في فترات مختلفة، ومن فقرات من أعماله الأدبية العديدة. لقد أنجز إميل عام 1988 نصا باللغة العبرية لينشر في مجلة اسرائيلية هي "بوليتكا"، وهو نص موجه للقاريء العبري أساسا، وعاد اليه في مرحلة السلام، ليوافق على نشره، بعد تعديل اجراه عليه، بالفرنسية، وذلك بناء على طلب دار النشر الفرنسية (آكت سود)، لتصدره مع نص آخر كتبه الكاتب الاسرائيلي (يورام كانيوك) في كتاب يري القاريء الفرنسي وجهتي النظر العربية واليهودية في عملية السلام الشرق أوسطي ومستقبلها. وقد عكف إميل، قبل وفاته، على نقله الى العربية. ويلاحظ أنه يضم اليه افتتاحية العدد السابع من "مشارف" (آذار 1996).
وتبدو دراسة حبيبي، مثل دراسة معظم أدباء المقاومة، وبخاصة البارزون منهم مثل درويش والقاسم، تبدو دراسة مربكة توصل الى نتائج مختلفة. ولعل ذلك يعود الى المنهج الذي يوظفه الدارس في دراسته. فهم اذا ما درسوا اعتمادا على المنهج الماركسي الذي يربط ما بين الموقع والموقف، وهذا ما قام به الناقد الفلسطيني المعروف فيصل دراج في كتابه "بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية" (1996)، - وقد تناول فيه حبيبي ودرويش وآخرين، - بدا هؤلاء الأدباء مخيبين للآمال، وذلك لمغايرة نهاياتهم بداياتهم، ولعدم ثباتهم على موقف واحد. وهم - أي الثلاثة- اذا ما درسوا وفق المنهج الجمالي ثمن نتاجهم، وبخاصة نتاج درويش الذي أضافت كل مجموعة من مجموعاته اللاحقة قصائد تفوق سابقاتها. وسيبدو الأمر، هنا، مختلفا في حالة إميل حبيبي، فاذا ما درس ناقد نصوصه الروائية، بناء على مفاهيم فني الرواية الغربية، غبنه واعتبرها - أي رواياته - روايات مجهضة، وهذا ما رآه الناقد صبحي شحروري الذي درس "خرافية سرايا بنت الغول" (انظر مجلة شمس، باقة الغربية، آذار 1993. ع 3)، واذا ما درسه ناقد روائي يرى أن الرواية العربية لا ينبغي ان تكون صورة طبق الأصل عن الرواية الأوروبية، ومن هذا المنطلق كان حبيبي يكتب، - ثمن نصوص حبيبي تثمينا عاليا.
وسوف يختلف عن الناقدين الماركسي والجمالي الناقد اللغوي الذي يرى في اللغة العربية الكلاسيكية مثاله الأعلى، خلافا للناقد الواقعي، اذ سيعتبر الناقد الكلاسيكي نصوص إميل نصوصا متينة معتبرة، وسوف يثمنها، بناء على ذلك، تثمينا عاليا. ويختلف عنه الناقد الواقعي الذي سينظر اليها، للغتها، على أنها نصوص تغترب عن الواقع وتنتمي الى زمن مضى وانقضى.
وليس هناك من شك في أن نصوص إميل، وبخاصة "المتشائل" نصوص مربكة، وأن النتائج التي يخلص الدارس اليها ليست واحدة. إنها نصوص تصلح لأن تدرس وفق منهج الاثارة والاستجابة، النص والقاريء، أو نظرية الاستقبال، على الرغم من أن كاتبها في سنوات حياته الاخيرة أكثر من الحديث عنها، وأضاء ما خفي على النقاد من مقاصد ومرامي كان يهدف اليها في أثناء الكتابة. ومرامي إميل ومقاصده لم تكن دائما واحدة، وهذا ما يجعل من نظرية قراءة النص قراءة تعتمد على قصد المؤلف نظرية ليست دقيقة، وبخاصة حين يتحدث المؤلف عن نصوصه بعد سنوات طويلة من إصدارها. واذا كانت قراءة النص في زمنين مختلفين تؤدي الى نتيجتين ليستا متقاربتين بالضرورة، وذلك لاختلاف ثقافة الدارس وتطورها، فلماذا لا تختلف رؤية الكاتب لعمله حين ينظر اليه بعد عشرين عاما من كتابته.
لقد سئل إميل أكثر من سؤال عن أعماله، وأشار في أثناء الاجابة الى ما نصحه به النقاد الذين طلبوا منه ألا يقوم بدورهم، لأن ما يكتبه الكاتب والمبدع يصبح واقعا خارجا عن ارادته، وملكا للقاريء. ومع ذلك نجده يفسر أعماله، ويوضح كيف أنه اكتشف، بعد
كتابتها، أشياء لم تخطر له على بال:
"ومع ذلك، وفي هذا الاطار، في هذه الحدود، سمحت لنفسي أن اكتشف هدفين من وراء شخصية سعيد أبي النحس المتشائل. (انظر: مشارف، حزيران 1996، عدد 9، ص 13) و "هنا ايضا" العديد من النقاد طلب مني ألا أجيب على هذا السؤال..لأن هذه مهمة الناقد كما يقولون، ومع ذلك مستفيدا من أجوبتي، فان لي مساهمة في هذا الجواب..." (نفسه، ص 18)
وكما ذكرت ابتداء، فإن قراءة النص اعتمادا على أقوال مؤلفة- ويثمن اصحاب منهج تفسير النصوص تفسيرا علميا هذا لأنهم يرون أن المعنى في بطن الشاعر، كما قال النقاد العرب- لا توصل دائما الى نتائج دقيقة يطمئن المرء اليها. فقد يفسر الكاتب نصوصه في زمن ما تفسيرا آخر غير الذي رمى ابتداء اليه، وهناك عوامل عديدة تؤدي الى ذلك منها تغير مواقف الكاتب السياسية وثراء ثقافته واتساعها...الخ. وهذا ما حدث مع اميل نفسه الذي كثيرا ما عاد، بعد خروجه من الحزب، الى نصوصه ليدعم موقفه الجديد، وليشير الى أنه كان تنبه الى هذا من قبل، ولكنه لم يقو، في حينه، على التعبير عنه مباشرة، فآثر كتابته في نص ادبي. وهذا ما بدا واضحا في افتتاحية العدد السابع من "مشارف" (آذار 1996) التي كتبها تحت عنوان "نحن ناس، أيها الناس"، وقد ادرجها ضمن نصه الأخير "سراج الغولة".
الواقع الأسود فوق الأمنيات:
يذهب إميل في "سراج الغولة" الى الزعم أنه "واحد من أولئك الذين لا يستطيعون أن يروا من القمر الا وجهه المضيء" (مشارف، عدد 16، ص 22). ومن هنا أبرز صورة ايجابية للانسان اليهودي، وكتب عن صديقه القديم (أبراهام بن صور) الذي ساعده عام 1948، ودافع عنه وعن أمه يوم كان اليهود يطردون العرب الباقين من بيوتهم. وقد يكون (أبراهام) هذا هو المعلم يعقوب الذي ذكر في المتشائل، وقد برزت في هذه شخصيات يهودية عديدة (انظر مقالتي في مشارف، آذار 1996. عدد7).
حقا ان المتشائل تحفل بنماذج يهودية عديدة، كما تحفل ايضا باضفاء صفات اجمالية على اليهود الغربيين، الا أن نص "سراج الغولة" يقدم انسانا يهوديا يساعد العرب ولا يلجأ الى اضطهادهم وطردهم، وهذا ما بدا في المتشائل. والسؤال الذي يثيره الدارس هو: هل أبرز إميل هذه الصورة لليهودي، لأنه كتب نصا موجها للقاريء العبري، وكأنه يرمي من وراء ذلك الى نيل رضاه ابتداء، لينال، من ثم، جائزة الدولة العبرية للآداب، أم لأنه، بسبب التجربة والشيخوخة معا، آخذ ينظر الى الانسان في العدو، وهذا ما دعا اليه، بوضوح، في افتتاحية العدد السابع:
"وصرت أعتقد ان المهمة الأساس، أمام مبدعي الأدب والشعر وبقية الفنون هي البحث عن هذه اللؤلؤة- الضعف الانساني- في أعماق البحور الانسانية. وهذا ما نسميه باسم "أنسنة العدو"...(ص 9).
وهنا يتذكر المرء دراسة فيصل دراج "إميل حبيبي: الوجه الضائع بين الاقنعة المتعددة" التي أوردها في كتابه "بؤس الثقافة" ليتساءل إن كان إميل يأخذ بمقولة "لكل مقام مقال" و "لكل قاريء خطاب". حقا إن اميل لا ينكر، في معظم ما كتبه أنه من دعاة التعايش، وأنه يطلب من الأدباء والمبدعين أن يكتبوا بما يعزز هذا الاتجاه، الا ان الواقع الاسود فوق الأمنيات، وهو بذلك يلقي بظلاله على الجميع، ومن ضمنهم إميل نفسه.
كتب إميل افتتاحية العدد الثامن من "مشارف"، وهي آخر ما كتبه، ليعبر عن خيبته من الكاتب الاسرائيلي المعروف (يزهار سميلانسكي) صاحب روايتي "خربة خزعة" و "الأسير" اللتين نقلتا الى العربية، وقد ادان مؤلفهما فيهما المؤسسة العسكرية الاسرائيلية لما قامت هذه به في حروبها مع العرب، وبخاصة فيما يمس سلوكها مع القرويين العرب. وسبب خيبة إميل من (يزهار) أن الاخير كتب مقالين يناقضان تاريخه كله، فقد وصف العرب بأنهم "من آكلة لحوم البشر"، ودعا حكومته، بناء على ذلك، الى وقف التفاوض معهم. يكتب إميل:
"لقد اصبت بخيبة أمل شديدة ذكرتني بخيبة الأمل التي أصابتني في ليلة التاسع والعشرين من تشرين الاول (اكتوبر) العام 1956 حين جاءني أحد معارفي اليهود من نشيطي حركة "مبام" وأبلغني بالفظائع التي ارتكبت في تلك الليلة نفسها أمام مداخل قرية كفر قاسم. حدثني عن الاطفال والنساء الحوامل الذين قتلوا بدم بارد. فلم اصدق ان يقوى آدميون على ارتكاب مذبحة بهذا المدى حتى ولو كانوا في ثياب الجندية وينفذون أوامر عسكرية. لم أكتف بعدم التصديق بل حسبت ان هذا التبليغ هو مجرد استفزاز مقصود به أن نضيع صوابنا.
طردت زائري اليهودي من بيتي وأنا أصرخ: كذاب واستفزازي" (ص 8).
ويبدو ان تجربة إميل مع (أبراهام بن صور) هي التي جعلته لا يصدق ما قاله له الصديق اليهودي، ولو كانت له تجربة اخرى، مثل تجربة اهل دير ياسين، لصدق هذا، وان كان الواقع يعزز ان ما قام به الجنود في كفر قاسم ليس استثناء، فدولة اسرائيل كلها اقيمت على طرد شعب كامل من أرضه، بوسائل عديدة من الارهاب.
أم الروبابيكا: زاروني والا ما زاروني:
وتبقى "أم الروبابيكا" التي نقحها اميل في 25/8/1995، النص الأدبي الوحيد الذي بين أيدينا للكاتب، ويمكن دراسته ضمن ادب مرحلة السلام. و "أم الروبابيكا" مسرحية لممثلة واحدة اقتبسها عن قصتين قصيرتين: كتب واحدة منهما قبل عام 1967، وهي قصة "النورية"، وكتب الثانية اثر هزيمة حزيران 1967، واسمها "أم الروبابيكا"، وقد صدر هذه باغنية فيروزية هي:
"بالايمان.. راجعون
للأوطان.. راجعون
راجعون، راجعون
راجعون".
والنص، كما تغنيه فيروز، يعبر عن إصرار الفلسطينيين على العودة الى ديارهم، ولم يردده الناس تردادا يعبر عن سخرية ليعطي بذلك معنى مغايرا الا في لحظات الاقرار بالهزيمة والشعور بأن العودة غير واردة اطلاقا. واذا كان النص في قصة حبيبي قابل للتفسيرين-، اي الجاد والساخر- فان الكاتب في نصه المسرحي يأخذ بتأويل واحد له، هو السخرية لا أكثر ولا أقل، فبعد ان تغني أم الروبابيكا المقطع تعقب عليه:
"بالايمان... راجعون
عيش يا كديش، تيجيك الحشيش
بكرة بالمشمش " (مشارف، 97)
وهكذا يعبر مردد النص عن يأسه من امكانية الرجوع، وهذا ما يبدو واضحا في نهايته. فأم الروبابيكا التي يتركها زوجها واولادها، وتظل في حيفا وحيدة معزولة حتى من عرب حيفا، تيأس من امكانية زيارة اهلها لها، وتخاطب الجمهور:
"يا حبايبي..
بس سلموا لي عليه
سلموا لي عليه
وقولوا له:
هند الغالية
ترعى عز وتقعد غز
مثل جبالنا العالية
زاروني والا ما زاروني
انا قاعدة
وهاي قاعدة " (مشارف، 122)
وكان اميل قد أدرك منذ عام 1974، يوم انتهى من كتابة المتشائل ان الفلسطينيين جالسون، ارادوا ام لم يريدوا، على خازوق هو كل ما تبقى لهم، واذا ما قورن خازوق اهل الداخل بخازوق الغربة بدا اكثر احتمالا. يرد في المقطع العاشر من الجزء الثالث من المتشائل النص التالي:
"وكانوا يأتونني وحدانا
فأتاني صديقي القديم، يعقوب. وكان حزينا. فصحت به: الخازوق يا صديق
العمر! قال: كلنا نقعد عليه! قلت: ولكنني لا أراكم ! قال: ولا نحن نرى أحدا. كل وخازوقه وحيد. وهذا هو خازوقنا المشترك. ومضى"
ويأتيه الرجل الكبير، ويطلب منه أن يرضى بما هو عليه، ويأتيه الشاب الذي يبيع الجرائد ويطلب منه ان ينزل معه الى الشارع، وتأتيه يعاد وتشده الىالغربة والرحيل، فيرفض...الخ، ولما يأتي الشيوعي بائع الجرائد بفأس ليهوى على قاعدة الخازوق حتى ينقذ المتشائل يصيح هذا به حتى يكف "وتشبثت بخازوقي" (انظر: السداسية والمتشائل، 1985، حيفا، ط7 ص 194 و 195).
ويكرر اميل في نصه الاخير "سراج الغولة" هذا. يقول: "لعلكم تذكرون أنني لم اجد من موئل لسعيد أبي النحس المتشائل، في وطنه، سوى رأس خازوق. ولم يدر في خلدي، في ذلك الزمن السحيق، ان الخازوق هو مكان عال يصلح منه الاشراف على آفاق قرن جديد وألف جديدة من السنين، بل لم يدر في خلدي ان لا يجد شعبي مكانا في وطنه، بعد هذا العمر الطويل، سوى رأس خازوق".
"ولكن حتى ولو كانت هذه هي صورة الواقع الحقيقية، فاننا نفضل رأس خازوق فوق تراب الوطن على رحاب الغربة كلها، فقد وجدناها، كلها، حرابا وفراشها أشبه بفراش فقير هندي: رؤوس مسامير أو خوازيق صغيرة وكبيرة علىقدر المقام". (مشارف، ص 12)
وكان إميل قد أورد هذا الكلام في افتتاحية العدد الاول من مجلة مشارف (1995)، ليعزز نهجه في دعمه لمسيرة السلام.
٢٠٠٨
***
11- إميل حبيبي... ثالثة ورابعة : إشكالية الفهم ... إشكالية الترجمة
مرت في هذا الشهر ذكرى وفاة إميل حبيبي فحضر في ذهني غير مرة ، وأسهمت كتاباتي في الفيس بوك ،وتذكيره لي بها ، في الاستحضار ، ففي أيار من أعوام سابقة كنت خربشت طالبا من المهتمين بالكاتب والملمين بالعبرية أن يعلموني كيف ترجم انطون شماس عبارة إميل في " المتشائل " :" كنت أحسبك حمارا فإذا أنت أحمر " ، ولما لم يجبني أحد كتبت إلى الشاعرة سهام داوود أطلب منها المساعدة فلم تتوان في تقديمها ، وأنفقت وقتا تبحث فيه حتى عثرت على المطلوب وأرسلته إلي .
كان شماس ، حسب فهم سهام مع أنها قالت إن هناك دقة في الكتابة قد تخفى على من عبريته " على قده " ، كان ترجم العبارة كالآتي " كنت أحسبك حمارا فإذا أنت أشد حمرنة " ، وهي تختلف عن الترجمة الإنجليزية " فإذا أنت شيوعي " والترجمة الألمانية التي جمعت بين الترجمتين ؛ ترجمة شماس وترجمة سلمى الخضراءالجيوسي . ( حول ذلك أنظر كتابي " في مرآة الآخر : استقبال الأدب الفلسطيني في ألمانية " : إميل حبيبي ، صعوبة الترجمة ٢٠٠٠ ) .
تتنافى ترجمة انطون ، حسب الفهم السابق ، وروح شخصية بطل الرواية الذي يتغابى ويتظاهر بالجهل ، وتتنافى وقواعد شروط اشتقاق اسم التفضيل في علم الصرف العربي التي منها قابلية الاسم للتفاوت . وهناك فرق بين الغبي والمتغابي والمريض والمتمارض والذكي والمتذاكي والفصيح والمتفاصح والجاهل والمتظاهر بالجهل والأبله والمتباله ، وقد أعادني ذلك إلى سلسلة مقالات أنجزتها في الترجمة يخص جزء منها " المتشائل " والعبارة المذكورة . ولما فضلت أن أعرف من قراء عرب آخرين يعرفون العبرية معنى عبارة " أدوم حمور " التي استخدمها شماس فقد سألت آخرين ، فقال لي قسم مثل المحامي حسن عبادي ، إن المقصود هو " أشد حمرنة " - أي أحمر من حمار ، وقال آخرون ، مثل سهيل كيوان و د . نبيل طنوس و د.فياض هيبي ، إن المقصود هو " أحمر صعب خطير " . وإن كان المعنى الثاني ما فهمه شماس وقصده فلم يخطيء الترجمة ، وزاد الطين بلة أن كلمة " حمور " بالعبرية تعني حمار وتعني خطير وصعب ، حسب وضع النقطة فيها وهو ما شرحه لي د . طنوس . وهكذا لا يختلف القاريء العبري للعبارة عن القاريء العربي . هناك قراءتان ؛ الأولى أحمر من حمار أو أكبر حمار ، والثانية أحمر صعب أو احمر/ شيوعي لئيم ، ولا يلتفت إلى القراءة الثانية إلا قلة متخصصة ، في حين يذهب ذهن الكثرة إلى القراءة الأولى .
كنت مرة توقفت أمام مقال غسان كنفاني في كتاب " فارس فارس " عن المترجمين العرب " القدس بين ٣ مصائب: الاحتلال والتأليف والترجمة " وفيه أتى على مصيبة المترجمين العرب الذين ترجموا " جريكو " إلى " جرش " و " النقب " إلى " النجف " ، وكنت اقتبست من روايات حبيبي نفسه تحديه أن يترجم له شماس بعض العبارات العربية إلى العبرية ، فكتبت تحت عنوان " إميل حبيبي وصعوبة الترجمة " وأوردت تحدي حبيبي لشماس في " خرافية سرايا بنت الغول " :
" أجبته ما عدا إلا هذا الذي بدا . وما لم يبد ما عدا ولن يعود . وأتحدى انطون شماس أن يترجم هذا الطباق والجناس إلى لغة قريبة أو بعيدة وعلى رأسها لغة أكلوني البراغيث التي تغندرت بها لغتنا الصحفية " ( حبيبي ، سرايا ، ص ١٥١ ) .
ليس سبب الكتابة السابقة الرغبة في التكرار أبدا ، ففي العام الماضي قدمت عرضا لكتاب بشير أبو منة الذي ترجمه من الإنجليزية إلى العربية مصعب حتايلي وتوقفت أمام فقرة لم يفهمها المؤلف فهما صحيحا ، فنقلها إلى الإنجليزية بناء على فهمه الخاطيء ، لا حسب المعنى الذي تقوله الرواية . هذا كله ذكرني بعبارة ناقد عن " المتشائل " وصعوبة ترجمتها إلى اللغات الأخرى ، ذيلت بها منشورات صلاح الدين في القدس طبعتها في ١٩٧٤ ونص العبارة :
" إذا ما ترجم هذا الكتاب إلى لغة أخرى ( لو كان من الممكن أن تستوعبه لغة أخرى ) كان تحديا صعبا أمام الدعاية الإسرائيلية " .
في هامش ٣٠ من كتاب أبو منة ، في الفصل الخاص بحبيبي ( ص ١٩٤ من الترجمة العربية ) تبدو عدم دقة المؤلف في فهم فقرة من الفقرات ترد في الرواية في رسالة ( الدرس الأول في اللغة العبرية ) . يقول المؤلف فيها :
" ترى إشارة إلى قمع وكبت فلسطينيي ال ٤٨ في تلاعب إميل حبيبي باسم عمة سعيد في بداية الرواية ؛ فاسم عمته هو محصية ، لكن الجنود اليهود يلفظون اسمها مخصية ، فبعد تشريد سنة ١٩٤٨ وضمن جهود الدولة الإسرائيلية لمنع عودة اللاجئين ، قامت إسرائيل بإحصاء للسكان الفلسطينيين ، وكأن حبيبي يلمح إلى أن من تم إحصاؤه تم إخصاؤه . " وليس لسعيد عمة اسمها محصية ولا مخصية . سعيد هنا يزور أم سعد التي كانت تعمل في الكنيسة فلم تعرفه وظنت أنه من المخابرات الإسرائيلية يظنها متسللة ، فأرادت أن تثبت له أنها ليست كذلك وأنها محصية ولديها شهادة بذلك ، وكان هو يخاطبها بلفظ " يا خالة " .
مرة كتبت عما فعله الكاتب سلمان ناطور حين ترجم مقالة عن العبرية ورد فيها فقرة من " المتشائل " ولم يعد المترجم إلى الرواية لينقل منها النص بلغته الأصلية . لقد ترجم المترجم . لقد قرأت ترجمة لا تمت للمتشائل لغة وأسلوبا بصلة . إنها ترجمة الترجمة وفيها يغدو النص عالما آخر مختلفا وقد شغلني هذا غير مرة .
لكي نفهم " المتشائل " لا بد من أن نقرأ ما ورد في الشعر العربي :
" ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي "
وما قاله المعري :
" ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا
تجاهلت حتى قيل إني جاهل
فواعجبا كم يدعي الفضل ناقص
وواعجبا كم يظهر النقص فاضل " .
كان أبو الفضل الاسكندري في المقامات يتعامى وما هو بأعمى ويتظاهر بالحمق وما هو بأحمق، ولا أتردد لحظة في القول إن سعيد المتشائل خرج من معطف التراث .
الثلاثاء
١٧ أيار ٢٠٢٢ .
=====================
1- أميل حبيبي: التأثُّر والتأثير
2- إميل حبيبي و(ثيودور هرتسل)
3- كما في حياته هو في مماته يشعل النار فينا وينام ملء جفونه
4- «شارع فرعي في رام الله» و«اخطية»
5- تعريب الجزائر وعبرنة فلسطين "المـوت فـي وهـران" و"إخطية"
6- أميل حبيبي وحضوره في الرواية العربية أولاد الغيتو: اسمي آدم نموذجاً
7- أثر ترجمة عادل زعيتر لرواية (فولتير) - (كنديد) في الأدب الفلسطيني
8- هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
9 - قراءة في قصة إميل حبيبي (حين سعد مسعود بابن عمه )
10- إميل حبيبي... الجلوس على الخازوق
11- إميل حبيبي... ثالثة ورابعة : إشكالية الفهم ... إشكالية الترجمة
هذا الصيف أنا مشغول بأميل حبيبي، ولا أدري لماذا مرّت ذكرى وفاته في أيار دون أن أقرأ مقالاً عنه، بل ودون أن أقرأ خبراً عن ندوة أقيمت هنا أو هناك، في هذه المدينة أوتلك. هل ما كتبه أميل حبيبي يقلّ أهمية وقيمة عما كتبه غسان كنفاني أم أن السبب يعود إلى ماضي كل منهما السياسي، وإلى موقع كل منهما وموقفه من الكيان الإسرائيلي؟ وهل لتسلم أميل جائزة الدولة الإسرائيلية صلة بالأمر؟
وأنا أُمعِن النظر في واقعنا الثقافي وفي احتفالاتنا برموزنا تساءلت إن كنا، في آب، سنحتفل بالشاعر محمود درويش، كما احتفلنا بغسان.
هذا الصيف درست لطلبة الماجستير رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974). سأدرس صلة الرواية بالتراث العربي القديم والحديث، وصلتها بالآداب العالمية، وسأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى أبعد من تاثّر أميل بالآداب العربية والعالمية، إذْ سأتساءل إن كان حبيبي ترك أثراً في غيره من الكتّاب. هل هذا بدعة؟
في الأدب العربي دراسات كثيرة عن الأثر الذي تركته أشعار شاعر ما في غيره من الشعراء. بدأت هذه الدراسات بالتوقف أمام ظاهرة السرقات المحمودة والمذمومة، وهي ضرب من تأثر اللاحق بالسابق، بقصد أو بغير قصد، ولم تنته بتأثير قصيدة البوصيري:
أَمِنْ تذكّر جيران بذي سلمٍ مزجتَ دمعاً جرى من مقلة بدمي
لم تنته بتأثير هذه القصيدة في الشعراء اللاحقين في زمنه، فمن قرأ أحمد شوقي أو استمع إلى أم كلثوم ولا يعرف قصيدة شوقي:
ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعَلَمِ أَحَلَّ سفكَ دمي في الأشهرِ الحُرُمِ
ها نحن في الأشهر الحُرُمْ، في رمضان ـ شهر رمضان، لا رمضان كاتب الكلمات في مناسبات. وها هو الدم السوري يسفك في سورية كلّها.
هذا الصيف أنا مشغول بإميل حبيبي، بتأثره بالأدبين؛ العربي والعالمي، وبتأثيره في غيره من الكتّاب.
عدد الطلاب الذين أُدرِّسهم خمسة. هل كانوا قرأوا شيئاً لإميل، من قبل، غير ما قررته على بعض الطلاب في مرحلة البكالوريوس. أنا أدرس إميل في مرحلة البكالوريوس في ثلاث محاضرات أو في خمس محاضرات على أمل أن يقرأه الطلاب فيما بعد، بعد تخرجهم، ولكنهم لا يقرأون إلاّ المقررات، وبعد أن يحصلوا على الشهادة يكفيهم الله شرّ القراءة، فلا يقرأون إلاّ النحو ـ إن قرأوه. هل أظلم الطلاب بقولي هذا؟ وحين أشدد على طلبة الدراسات العليا فيرسب منهم عدد لا بأسَ به، إنما أفعل ذلك لأنهم يواصلون وعودهم لي بأنهم بعد تخرجهم، سيقرأون، وأنا تعلمت من التجربة أنهم يعدون ولا ينفذون.
هل ترك أميل حبيبي أثراً في الرواية العربية والفلسطينية؟ هناك عشرات الدراسات والكتب التي أنجزت عن حبيبي وحياته. دارسون عرب ودارسون فلسطينيون ودارسون من العالم تناولوا ما كتب هذا الكاتب، بل ومنهم من تناول سيرته، فأجاب عن سؤالي: لماذا اهتم بغسان أكثر من الاهتمام بإميل؛ داخل فلسطين وخارجها؟ هل أُحيل إلى كتاب خضر محجز: "إميل حبيبي بين الوهم والحقيقة"؟
أتت الدراسات على تأثر إميل بالمقامات وبالجاحظ وبالقرآن الكريم وبألف ليلة وليلة وبأدب الرحلات وبالشعر العربي القديم، وبالشعر الفلسطيني الحديث، وعد كاتبو هذه الدارسات إميل حبيبي ملك التناصّ في الرواية العربية المعاصرة، لدرجة أن دارساً مغربياً هو سعيد علوش ألّف كتاباً عن حبيبي عنوانه "عنف المتخيل: دراسة في أدب إميل حبيبي" (1986)، أحصى فيه اقتباسات إميل حبيبي وتضميناته، والأخيرة أكثر من الأولى، بل هي الأصحّ. وكتب آخرون، غير سعيد علوش، عن صلته بالتراث العربي، كتب هؤلاء كتابات كثيرة، لدرجة أن اللاحق، أحياناً، أضاف إضافات قليلة إلى السابق، وما تبقى مما كتب كان من باب التكرار ليس أكثر.
وأنا والكاتب أحمد حرب، وأحمد قبلي، كتبنا عن إميل و"كنديد" لـ (فولتير)، ثم كتبت أنا عن إميل و (يا روسلان هاتشيك) صاحب رواية "الجندي الطيب شفيك" وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، فأنجزت في العام 2009 بحثاً شاركت فيه في جامعة البتراء عنوانه "إميل حبيبي: نقض الفكر الصهيوني/ إميل حبيبي أديباً ومفكراً" قارنت فيه بين "المتشائل" ورواية (ثيودور هرتسل): "أرض قديمة ـ جديدة". هل شططت في هذا؟ وسأعرف، مؤخراً، من الكاتب وليد أبو بكر أنه كان كتب مقالات عن تأثر إميل بـ (دون كيشوت) وبـ (الجندي الطيب شفيك)، وسأسأله عن مقالاته ومكان نشرها فلعلنا نفيد منها، غير أنه لم يعد يذكر أين نشرها ومتى وفي أي الصحف؟!
هل أتى الدّارسون على تأثير إميل حبيبي في غيره من الكتاب اللاحقين له؟ ـ أي هل أثر إميل في الرواية العربية والفلسطينية؟ لهذا أنا مشغول بإميل منذ فترة، ولهذا قررت أن أدرسه، صيف هذا العام، لطلبة الدراسات العليا. بمن تأثر إميل وفيمن ترك أثراً؟ من هم الكتّاب الذين تأثر بهم، ومن هم الكتّاب الذين تأثروا به؟
طلاب الدراسات العليا غالباً ما يكون أكثرهم ـ إن لم يكن كلهم ـ طلاباً بكراً ـ أعني أنهم يأتون بلا تجربة في القراءة، فكيف يمكن أن أدرسهم عن تأثير كاتب في غيره، كاتب معاصر في كتّاب معاصرين، روائي في روائيين، وهم لم يقرأوا من الروايات إلاّ ما كان مقرراً عليهم في مرحلة البكالوريوس ـ أي رواية أو روايتين على أكثر تقدير؟ هنا سأعتمد على نفسي ـ قد أتهم لاحقاً بأنني حاج أشغل الطلاب لصالحي.
أنا قارئ لا بأس به، ولا أُبالغ إذا زعمت بأنني واحد من مائة ممن يقرأون في فلسطين باستمرار. ولهذا، وأنا أقرأ، أعرف الأثر الذي تركه كاتب مثل إميل في الرواية العربية، وتحديداً في الرواية الفلسطينية، وهذا ما قلته لطلابي، صيف هذا العام وفي المحاضرات وطلبت منهم أن يتابعوه ـ إن استطاعوا.
سأقترح على الطلاب أن يقرأوا الروايات التالية في ضوء قراءة "المتشائل": آلام السيد معروف لغائب طعمة فرحات و"حارس المدينة الضائعة" لإبراهيم نصر الله، و"بنات الرياض" لرجاء الصانع. ولن أفاجأ بعد سنوات إن قرأت رسالة دكتوراه في الموضوع.
أنا أُفرّخُ موضوعات لطلبة الدراسات العليا، وهم يتهمونني بأنني حاج. رمضان كريم. هم سيقولون: اللهم إني صائم، وأنا سأقول: اللهم إني مفطر.
عادل الأسطة
2012-07-22
***
2- إميل حبيبي و(ثيودور هرتسل)
هل قرأ إميل حبيبي رواية (ثيودور هرتسل) "أرض قديمة ـ جديدة" (1903) وكانت روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) في جانب منها تدحض ما ورد في رواية (هرتسل)؟ في إحدى المقابلات التي أجريت مع اميل حبيبي قال إنه كتب روايته رداً على مقولات وزير المعارف الإسرائيلي (آيغال ألون) الذي قال بعد حزيران 1967 إنه ليس هناك عرب في فلسطين، ولو كان هناك فلسطينيون وشعب فلسطيني لكان له أدب، وبالتالي فأفضل برهان على عدم وجود شعب فلسطيني هو عدم وجود أدب له.
في روايته "أرض قديمة ـ جديدة" لم ينكر (هرتسل) وجود عرب في فلسطين، فقد كان هؤلاء حاضرين فيها، ممثلين بشخصية رشيد بك الذي رحب باليهود ونشاطهم ورأى فيه إثراء لأهل البلاد، وسيستغرب رشيد بك هذا من تساؤل المسيحي صديق اليهودي ـ أي من تساؤل (كينجز كورت) صديق (فريدريك ليفنبرغ): ألم يتضرر سكان البلاد من المشروع الصهيوني، وسيقول رشيد بك متسائلاً: كيف تعتبر لصاً من يقدم لك يد المساعدة ومن يعطيك؟ لقد أثرانا اليهود. بل وسيذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول إن اليهود سيجلبون الحضارة والخير العميم لسكان فلسطين. بل إن الرواية تحدثت عن وجود الكنيس إلى جانب الكنيسة إلى جانب الجامع، ودعت إلى تعايش الأديان. هل كانت رواية (هرتسل) أكثر صدقاً من مقولات (آلون)؟ ولكن ما صلة هذا بالعنوان؟
نقلت رواية (هرتسل) إلى العربية في العام 1968 ـ الطبعة التي أملك صورة عنها ـ وإن كان غسان كنفاني أشار إلى أنها نقلت في العام 1962، وصدرت في حيفا عن دار هاينس دويتش فيرلاغ.
وهذا يرجح ترجيحاً كبيراً أن يكون إميل قرأ الترجمة العربية إن لم يكن قرأ الترجمة العبرية للرواية التي كتبت أصلاً بالألمانية.
حفلت الترجمة العربية الصادرة في العام 1968 عن المجلس الأعلى للآداب والفنون التابع لوزارة المعارف والثقافة/ تل أبيب (دار النشر العربي)، وقد ترجمها (منير حداد)، حفلت بصور لفلسطين ولـ (هرتسل) وأفراد عائلته، صور تعود إلى ما قبل بدء المشروع الصهيوني وأخرى إلى ما بعد إقامة دولة إسرائيل، وغالباً ما كانت الصور توضع جنباً إلى جنب ليظهر المترجم والجهة الداعمة الفرق بين ما كانت عليه فلسطين قبل تأسيس دولة إسرائيل، وما غدت عليه بعد تأسيسها، والمترجم والجهة الداعمة يريدان أن يعززا ما ورد في الرواية. فماذا ورد في الرواية؟
يزور اليهودي (فريدريك ليفنبرغ) وصديقه المسيحي (كنجز كورت) فلسطين في بدايات ق19، ويريانها أرضاً جرداء تكثر فيها المستنقعات والملاريا، ويريان مدنها: يافا وحيفا والقدس مدناً بائسة مثل الشرق البائس المتخلف. فأين هذه البلاد ومدنها من سويسرا والريفيرا الفرنسية؟ وأين سكان هذه البلاد الوحوش من الرجل الأوروبي المتحضر؟ ويتخيل (فريدريك ليفنبرغ) فلسطين بعد عشرين عاماً من سيطرة الحركة الصهيونية عليها، يتخيلها وقد غدت قطعة من أوروبا، بل قطعة من الجنة، الشوارع عبدت وسفلتت، والمستنقعات جففت وتحولت إلى أراض زراعية مونعة ومثمرة، والقطارات الكهربائية أخذت تصل بيروت ودمشق وشرق الأردن، وغور الأردن وقد غدا أرضاً خضراء. ويمتاز أفراد الشعب القادم من أوروبا ـ أي الإسرائيليين الأوائل / الرواد / البيونير ـ يمتازون بروح المبادرة، حتى إن القطارات الكهربائية في فلسطين لتغدو أحدث من تلك الموجودة في أوروبا، ولا تختلف المصانع في الأرض القديمة ـ الجديدة عن المصانع في برلين، فأي تغيير أحدثه اليهود؟ وأية عجائب شهدتها البلاد؟ وأية معجزة تحققت؟ ويقرأ المرء في رواية (هرتسل) عشرات العبارات التي تشيد بمجهودات أبناء الشعب اليهودي والصفوة فيه، فهل راق هذا لاميل حبيبي؟
في العام 1948 أقيمت دولة إسرائيل، وتشرد ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني وأكثر، ولم يبق من الفلسطينيين في قراهم ومدنهم سوى 150,000 مواطن (شرد 650,000 مواطن). واضطر الباقون أن يعملوا في المزارع والمصانع وفي البناء، وبعد هزيمة 1967 انضم إلى هؤلاء عشرات الألوف من عمال الضفة الغربية وقطاع غزة، وازدهر البناء وازدهرت التجارة والزراعة في الدولة الناشئة، فمن الذي بنى الدولة؟ الأيدي العاملة العبرية أم الأيدي العاملة العربية؟ ومن الذي حقق المعجزة التي يتحدث عنها الإسرائيليون؟
في الروايات الصهيونية التي خرجت من معطف "أرض قديمة ـ جديدة" مثل رواية (آرثر كوستلر) "لصوص في الليل" و(ليون أوريس) (أكسودس) يصور العرب على أنهم عجزة كسالى لا يجيدون سوى البكاء، وإذا ما قارن المرء بين المناطق التي غدت تشكل دولة إسرائيل، والمناطق الفلسطينية التي حكمتها مصر والاردن، لاحظ الفرق شاسعاً وردد مقولة عجز العرب وكسلهم ـ كما تذهب الروايات الصهيونية، وكما يخدع المرء للوهلة الأولى ـ ، فماذا رأى اميل حبيبي في روايته "المتشائل"؟
في أكثر من موطن من مواطن روايته يأتي اميل على هذا الجانب، لا ليقر به، بل ليدحضه، وهكذا يحضر في روايته الخطاب الصهيوني كما يحضر نقيضه، أيضاً، فالرواية تحفل بشخصيات إسرائيلية يهودية صهيونية وبشخصيات عربية. حتى الشخصيات العربية التي تخدم الدولة العبرية وتتعاون معها، مثل شخصية سعيد بطل الرواية، لا يروق لها الخطاب الصهيوني، بل إنها تسخر منه وتتهكم على أصحابه، لأن لها رأياً آخر يقول عكس ما تقوله الرواية الصهيونية.
في الرسالة الرابعة من الكتاب الثاني "باقية" من "المتشائل" يتساءل سعيد: "فمن شيد المباني الشاهقة في هذه البلاد، وشق طرقها العريضة، وزفتها وأحكم الاستحكامات، وحفر الملاجئ، ومن زرع القطن، ثم جناه، ثم حلجه.." و"من شيد المباني وشق الطرقات وحرث الأرض وزرعها، في إسرائيل، غير العرب الباقية في إسرائيل؟ فالعرب الباقية، صبرا، فيما احتلته دولتنا من أرضٍ لهم لم يجد لها أحمد الشقيري متسعاً في ملفات خطبه الرنانة... إلخ.
وفي الرسالة الثالثة من الكتاب الثالث "يعاد الثانية" يزعم رجل المخابرات الصهيوني أن من كبار اليهود في دولة إسرائيل من يعتقد أن الدولة تعامل العرب داخل السجون معاملة أفضل منها خارج السجون وأن هؤلاء الكبار "موقنون أننا بذلك نشجعهم على الاستمرار في مقاومة رسالتنا الحضارية في المناطق الجديدة....".
وسيفخر الرجل الإسرائيلي بما أنجزه الإسرائيليون: "الخضرة، الخضرة على يمينك وعلى يسارك وفي كل مكان، أحيينا الموات وأمتنا الحيات (وكان يعني الأفاعي)، ولذلك أطلقنا على حدود إسرائيل القديمة اسم "الخط الأخضر" مما بعدها جبال جرداء وسهول صحراء وأرض قفراء تنادينا أن أقبلي يا جرارات المدينة".
وسيكتشف سعيد زيف ادعاءات الرجل الإسرائيلي حين يقيم في قرية عربية يعمل سكانها في أحد الكيبوتسات، فما إن تحاصر القرية وما إن يمنع سكانها من الخروج للعمل، حتى يتوسط أهل الكيبوتس لهم ليفك عنهم الطوق فالأراضي "تتوق إلى أيادينا الماهرة، فيتوسطون لفك الطوق، فنعود إلى العمل في حقولهم.." وهنا يعقب سعيد : "فالخضرة نبت سواعدكم، إذن، لا كما ادّعى الرجل الكبير، كأن اميل بهذا ينقض الرواية الصهيونية من أساسها. حقاً هل كانت رواية (هرتسل) من قراءات إميل حبيبي؟.
عادل الأسطة
2013-08-04
***
3- كما في حياته هو في مماته يشعل النار فينا وينام ملء جفونه
أثارت الحلقة التي بثتها فضائية "الميادين" عن الكاتب الراحل إميل حبيبي تحت عنوان "في الهوامش" جدلاً عنيفاً بين محبي الرجل المتبنين أفكاره ورؤاه وبين الذين يختلفون معه ومع أطروحاته السياسية الأيديولوجية.
كما لو أن إميل حبيبي قال ما قاله المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها / ويسهر القوم جراها ويختصم
ولقد نام في 1996 نومته الأبدية ملء جفونه وترك الآخرين يختصمون ويتجادلون، كما اختصموا وتجادلوا في حياته وكان يومها لا ينام. كان يصحو ويتدخل في الجدال ويشارك فيه ولم يكن يومها ليأخذ ببيت المتنبي ولم يكن أيضاً يأخذ بمقولة نظرية التلقي التي التفتت إلى القارئ ولم تلتفت إلى المؤلف. غدا أصحاب هذه النظرية يرددون "المعنى في بطن القارئ" خلافاً لمن سبقهم ممن كان يرى أن المعنى في بطن المؤلف. كما لو أنهم أخذوا بمقولة رولان بارت "موت المؤلف“.
مرة تدخّل إميل حبيبي في إبداء رأيه في بعض نصوصه. سئل إن كان قصد معنى ما فأجاب: لم يخطر المعنى ببالي ولكن أظن أنه ممكن، وهنا طلب منه بعض قرائه ألا يفسر نصوصه وأن يترك تأويلها للنقاد.
ليس تسلم إميل حبيبي جائزة الدولة العبرية هو العامل الوحيد الذي ألب عليه كثيرين، وليس ميله إلى جناح غورباتشوف أيضاً العامل الوحيد الذي ألب عليه كثيرين مثل رفيقه في الحزب توفيق زياد الذي هاجم إميل بقصيدة عنيفة عنوانها ”المرتد"، نشرها في ديوانه «أنا من هذي المدينة».
بعد تسلمه الجائزة كتب فيصل دراج في كتابه «بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية»، 1996، مقالاً عن حبيبي عنوانه "إميل حبيبي الوجه الضائع بين الأقنعة المتعددة" تساءل فيه عن تقلبات الرجل واختلاف مواقفه.
وقبل دراج وبعد زياد كتب سميح القاسم عن إميل ما لم يخطر ببال أحد.
اختلف رفيقا الأمس لربع قرن تقريباً وتركا الحزب وسار كل في طريق وأشار سميح إلى ما حدّثه عنه إميل عن سفره إلى براغ لتسهيل صفقة سلاح للدولة الإسرائيلية، وحول هذه الصفقة دار جدل كبير لم يقعد ولم ينته ووصلت الأمور إلى حد الاتهام بالعمالة/الخيانة.
قبل سميح القاسم وتوفيق زياد كان الخلاف الكبير بين إميل حبيبي والشاعر راشد حسين، وقد اعتمد د.خضر محجز في رسالة الدكتوراه «إميل حبيبي بين الوهم والواقع» على كتابات خصوم حبيبي وتتبعها بدقة شبه متناهية ولم تكن صورة إميل في الكتاب الذي صدر في العقد الأول من القرن الحالي إيجابية. إنه كتاب أثار أيضاً ضجة كبيرة بين محبي الرجل المتبنين أفكاره ورؤاه وبين الذين يختلفون معه.
لم يكن التشكيك بإميل حبيبي واتهامه قبل التسعينيات عنيفاً وكبيراً كما غدا بعد انشقاقه عن ”الحزب الشيوعي الإسرائيلي“ وتسلمه جائزة الدولة العبرية. بعد هذين الحدثين اختلفت الأمور كثيراً ولم يعد الحزب وصحافته يدافعان عن إميل، وعلى العكس من ذلك أخذا يهاجمانه هجوماً عنيفاً وتشابه موقفهما مع مواقف من هاجم الرجل من قبل منذ الخمسينيات.
لعل ما مد مهاجمي إميل بمسوّغات أخرى إضافية إقراره في آخر لقاء أجري معه ونشر في مجلته «مشارف» أنه حين كتب روايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» عام 1974، كان يكتب عن نفسه.
قبل الإقرار أشار في المقدمة التي كتبها لكتاب «الرسائل» بين محمود درويش وسميح القاسم أنه كان يكتب الرسائل إلى نفسه. وقوله هذا لم يلفت نظر النقاد إلى إعادة قراءة المتشائل في ضوء هذه العبارة الدالة.
في بداية التسعينيات نشرتُ دراسة في جريدة «نابلس» وازنت فيها بين إميل وبطله سعيد ورأيت أن سعيداً يشبه إميل. لم يعترض الرجل وبلغت به الجرأة أنه وافق على نشر الدراسة في مجلته. حقاً لقد اندهشت مما فعله، وبعد ثلاثة أشهر من نشر الدراسة نُشرت المقابلة التي أقر فيها بأنه حين كتب روايته كان يكتب عن نفسه "أنا في عمر لا يسمح لي بالكذب، حين كتبت المتشائل كنت أكتب عن نفسي“ (ببعض اختلاف).
بطل رواية إميل بطل متعاون قدم خدمات للدولة الإسرائيلية ثم توقف وقرر أن يبيع البطيخ على التعاون وحين هدده رجل المخابرات بأنه سيكشف أمره أمام أبناء شعبه صاح سعيد وقال لرجل المخابرات: أعطني شهادة بتعاوني معكم وسأعلقها على العريشة“.
إشكالية عودة إميل إلى فلسطين بعد قيام الدولة العبرية كانت أيضاً عاملاً من العوامل التي اعتمد عليها أعداؤه للنيل منه وللتشكيك في وطنيته، عدا اختلاف الرؤى والموقع والموقف.
هل عاد إميل بشروط اسرائيلية؟ وما هي هذه الشروط؟
في هذه الأثناء صدر كتاب هلل كوهين «العرب الصالحون» ويبدو المؤلف شيوعياً يتبنى وجهة نظر الشيوعيين أكثر مما يتبنى وجهة نظر معارضيهم. يدافع كوهين في مواطن عديدة عن ”الحزب الشيوعي الإسرائيلي“ وطروحاته أمام طروحات بعض التيارات القومية والزيارات الموالية للحزب الصهيوني الحاكم ما بين 1948 و1967، ويأتي على عودة ما لا يقل عن 20 ألف فلسطيني تسللاً أو بتصاريح -وقد عاد إميل متسللاً وأتى في «المتشائل» على عودته- ويرى كوهين أن كثيرين من هؤلاء العائدين وافقوا على التعاون مع المخابرات الإسرائيلية مقابل السماح لهم بالبقاء.
سعيد أبو النحس المتشائل يقر في الرواية بتعاونه مقابل البقاء. والسؤال هو: هل كل ما كتبه إميل عن سعيد حدث معه أم أن سعيد كان يجمع بين ما حدث مع إميل وما قام به غيره من العائدين تسللا؟ للدكتور عادل منّاع كتاب صدر من عامين أتى فيه على سيرة إميل حبيبي وما أورده لم يكن لصالح إميل. لعل ما كتبه منّاع يستحق وحده مقالة خاصة.
منشورة في:
إميل حبيبي من وحي الأيام
عن موقع رمان
***
4- «شارع فرعي في رام الله» و«اخطية»
تحيل قصة أكرم هنية الجديدة "شارع فرعي في رام الله" قارئ الأدب الفلسطيني إلى نصوص أدباء فلسطينيين منهم إميل حبيبي في روايته "اخطية" 1985 - تماماً كما تحيل قارئ قصص أكرم هنية نفسه إلى قصصه السابقة.
هل يعد الربط بين قصة "شارع فرعي في رام الله" و"اخطية" نوعا من التزيّد والمبالغة والذهاب بعيداً في قراءة النص؟
لا أدري إن كان هذا خطر ببال المؤلف.
لم تعد المقولة النقدية القديمة "المعنى في بطن الشاعر" هي الأكثر شيوعاً كما كان الأمر في قرون وعقود خلت، فلقد شاعت أيضا مقولات نقدية جديدة تهمل المؤلف وتحل القارئ محله.
لقد غدت العلاقة بين النص والقارئ، فالنص مثير والقارئ يتلقاه ويستجيب له بناء على ثقافته، كما يقول (فولفجانج ايزر) أحد أقطاب نظرية التلقي الألمانية التي شاعت في أواخر 70 ق 20، وما زال لها حضور لافت.
باعتباري قارئاً لـ"شارع فرعي في رام الله" فإن العلاقة غدت بيني وبين النص، وعليه سأقدم اجتهاداً ما، قد يروق للمؤلف وقد لا يروق له، وقد يقول إن ما خطر ببالي لم يخطر بباله، وله ذلك.
وأنا أقرأ القصة تذكرت "اخطية" وأخذت أتساءل عن وجه الشبه والاختلاف بين العملين، وأمعنت النظر في هذا.
لم أعد قراءة "اخطية "من جديد فقد اتكأت على ما بقي منها في الذاكرة - وإن تصفحت بعض صفحاتها مجددا.
تقوم "اخطية "على فكرة الكتابة عن حيفا التي كان إميل حبيبي يقيم فيها يوم كتب الرواية ومقارنتها بحيفا في زمن مضى يعود إلى ما قبل العام 1948.
ما بين 1948 و1985 خمسة عقود تقريبا كان إميل شاهدا عليها.
لقد عرف المدينة في زمنين؛ زمن العرب وزمن الدولة العبرية، وأخذ وهو في المدينة زمن الإسرائيليين يحنّ إلى المدينة نفسها زمن العرب، وقد أشار إلى اختلاف الزمن في الرواية، وأشار في التصدير إلى أنه يحنّ إلى حيفا وهو في حيفا.
إنه يشير إلى مرور الزمن منذ الصفحات الأولى للرواية، ويعود ليكتب عن الطفولة المبكرة وحياته في زمن كون المدينة عربية قبل أن تهوّد.
يتحسّر حبيبي على زمن مضى؛ لأنه زمن البراءة والطفولة، ويرثي لزمن آخر جديد فقدت فيه البراءة واستبدلت غزلان المكان ببناجرة وديانات - نسبة إلى بن غوريون ودايان - ويستطيع المرء أن يقتبس فقرات كثيرة يبدو فيها الحنين أوضح ما يكون. (مثلاً ص 70 و71 من طبعة الكرمل 1985):
"كانت الدنيا حلالا، وكان العيش فيها حلالا. ولم نكن نعرف من الحرام ما نتجنبه سوى النميمة. وكنا نتجنبها مهما غلا الثمن........
كانت الجيرة حلالا والجار من أهل البيت، وكان الجار ينتسب إلى جاره. و...و...و...".
يحن إذن إميل إلى المكان وهو فيه، ولكن يجب ألا ننسى أن المكان غير أكثر سكانه وتغيرت أسماء شوارعه، كما حلت لغة أخرى محل العربية وإن ظل العرب الباقون يتكلمون لغتهم العربية التي اختلطت بها لغة أخرى.
كما لو أن إميل حبيبي غير قادر على استيعاب ما جرى وما آل هو وبقية العرب إليه.
الماضي هو الجميل وزمن الطفولة هو الزمن الذهب وأما الحاضر فهو بائس.
هل يختلف الأمر كثيراً في قصة أكرم هنية التي صدرت بعد 32 عاماً من صدور رواية إميل، وإن اختلف فأين تكمن مواطن الاختلاف؟
يكتب هنية قصته عن رام الله، ويرصد التغيرات التي طرأت عليها منذ 50 و 60 ق 20 حتى العام 2016 - التغيرات التي ألمت بالمدينة بعد مجيء السلطة الفلسطينية.
وكما عاش إميل في حيفا في زمنين، فإن هنية عاش في رام الله في زمنين، والكتابة عن المكان في زمنين هي ما يسم عمله من ألفه إلى يائه.
يرصد الكاتب التغيرات التي طرأت على البشر والحجر؛ على العادات والتقاليد واللباس وعلى المباني.
لقد بدت رام الله في العقدين الأخيرين، لمن يعرفها، مدينة مختلفة كليا.
المدينة التي كانت أقرب إلى قرية فيها خدمات مدينة غدت عاصمة وألم بها ما ألم بمدن شهدت تطورات مشابهة، مثل عمان ودبي.
التطورات التي حدثت استساغها قليلون ولم ينسجم معها كثيرون؛ من سكان المدينة نفسها وممن قدم إليها من الريف، والأخيرون يذكرون بالشعراء العرب الذين وفدوا على المدن الكبيرة من الريف، مثل أحمد عبد المعطي حجازي وبدر شاكر السياب. - هنا نتذكر رواية عباد يحيى "جريمة في رام الله" حيث غادر الريفي المدينة وعاد إلى قريته وإن كانت عودته لا تؤيدها المعطيات على أرض الواقع.
هل يحن أكرم هنية إلى رام الله في 50 و60 و70 ق 20، كما حن إميل حبيبي إلى حيفا زمن كون المدينة عربية؟
لا يكتب هنية قصة سيرية - تبدو اخطية في جزء كبير منها أشبه بسيرة ذاتية لإميل - إن الكاتب يختفي وراء المهندس ماجد ويترك له أن يقص عن حياته في رام الله في زمنين مختلفين، وأحيانا، ومن خلال حوارات عديدة، يترك لشخوص آخرين المجال ليعبروا عن وجهات نظرهم في المدينة وفي غيرها من المدن كالقدس عما يجري.
هل بدا هؤلاء كلهم مثل إميل؟
قسم من هؤلاء ينحاز للواقع الجديد ولرام الله الجديدة، بل إن الجيل الجديد الذي لم يعش في المدينة قبل مجيء السلطة يحب رام الله فيما هي عليه ولا يشعر بالغربة التي يشعر بها بعض كبار السن، ولا نجد حنيناً إلى الماضي يشعر بالأسى كما نجده لدى إميل حبيبي نفسه.
وليس أمام المرء إلا أن يثير أسئلة، ولعل أهمها هو: الآن رام الله، خلافا لحيفا، لم تتهوّد؟ ولأن سكانها كانوا عرباً وما زالوا عرباً.
طبعاً هناك مجال لمقاربات أخرى أهمها عنصر اللغة في الرواية والقصة، ولا أعني هنا لغة إميل التراثية ولغة هنية الأقرب إلى الفصيحة المبسطة، وإنما أعني اللغة الثانية التي تحضر في الرواية والقصة؛ العبرية في "اخطية" و"الانجليزية" في "شارع فرعي في رام الله".
عادل الأسطة
2017-07-23
***
5- تعريب الجزائر وعبرنة فلسطين "المـوت فـي وهـران" و"إخطية"
في الشهرين الأخيرين، أنهيت قراءة ثلاث روايات للكاتب الجزائري الحبيب السايح هي «أنا وحاييم» و»تلك المحبة» و»الموت في وهران»، ولم أكن قرأت له من قبل، نظرا لأن أعماله لم تتوفر في مكتبات فلسطين، ونظرا أيضا لأن دور النشر الفلسطينية لم تعتد طباعة أعماله، فقد اقتصرت طباعتها على أعمال الطاهر وطار وأحلام مستغانمي وواسيني الأعرج وفضيلة الفاروق، وربما أيضا نظرا لعدم قراءة مراجعات لرواياته في صحفنا المحلية، ولأنه ليس كاتبا جزائريا كلاسيكيا كتب بالفرنسية وترجمت أعماله إلى العربية مثل كاتب ياسين ومالك حداد ومحمد ديب، والأخيرون عرفناهم من خلال دور نشر عربية ومن خلال تركيز أحلام مستغانمي على تجربتهم في ثلاثيتها «ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير».
أول مراجعة لأحد أعمال الحبيب السايح قرأتها كانت مراجعة واسيني الأعرج لرواية «أنا وحاييم»، فقد خصها بمقال أتى فيه على كتابة السايح عن يهود الجزائر ومدح صنيعه، وكان علي أن أقرأ الرواية لاهتمامي بالموضوع.
وأنا أقرأ «الموت في وهران» تذكرت الروايات والقصص الجزائرية التي أتت على حرب التحرير من ١٩٥٤ إلى ١٩٦٢، ومنها «الطعنات» و»الشهداء يعودون هذا الأسبوع» و»اللاز» و»الزلزال» لوطار، و»الدار الكبيرة» و»الحريق» و»النول» لمحمد ديب. إن «الموت في وهران» تستحضر أيضا أجواء حرب التحرير. غير أن ما تذكرته أيضا هو رواية إميل حبيبي «إخطية».
لا تأتي «إخطية» على تفاصيل حرب ١٩٤٨، ولكنها تأتي على تذكر كاتبها مدينة حيفا في زمن العرب وترصد التغيرات التي طرأت على المكان وتهويده من خلال تغيير أسماء شوارع حيفا وتبدل عوالمها؛ ما كانت عليه وما صارت إليه، وهذا نلحظه أيضا في رواية الحبيب السايح، فهو غالبا ما يذكر أسماء الأماكن في زمن الاستقلال ويشير إلى ما كانت عليه في زمن الاستعمار الفرنسي ويأتي على ذكر مواطنين فرنسيين عاشوا في المدينة أيام استعمارها.
عندما كتبت ملاحظة عابرة حول هذا الموضوع عدها الحبيب السايح ملاحظة ظريفة ونبيهة، وأعتقد أنا أنها قد تشكل مدخلا لكتابة رسالة ماجستير أو دكتوراه في باب التوازي بين التجربتين الجزائرية والفلسطينية والأدبين الجزائري والفلسطيني، وقد كان هذا موضوعا محببا للفلسطينيين في المناطق المحتلة بعد العام ١٩٦٧، وأذكر أنه في العام ١٩٧٧ عقدت في مكتبة بلدية رام الله ندوة لمناقشة رواية «اللاز» ومقارنة التجربة الفلسطينية بالتجربة الجزائرية اتكاء على الرواية، بل إنني شخصيا أشرفت على رسالة ماجستير عن تأثير الرواية الجزائرية على الرواية الفلسطينية.
ما الذي ذكرني برواية حبيبي المذكورة؟
في «الموت في وهران» غالبا ما يذكر السايح أسماء أمكنة؛ شوارع وأحياء، في الزمنين؛ زمن الاستعمار وزمن الاستقلال، وغالبا ما يضعها بين قوسين، ويبدو الأمر لافتا للنظر منذ الصفحات الأولى:
- كان هو الذي أوصلني أول مرة إلى مدرستي في حي اللوز (ليزامندبي، سابقا) ...
- أقمنا في غرفتين منها مطبخ وحمام في الطابق السفلي، واقعة في حي سيدي الحسني (صناناس، سابقا).
- وغالبا ما كنت كسرت الشارع إلى الأسفل نحو رصيف سوق (ميشلي، سابقا ).. الخ.
ويبدو الأمر جليا واضحا في رواية حبيبي «إخطية» أيضا منذ الصفحات الأولى:
- انتهجت، إذا، طريق «حيفا الفوقا». وذلك بعد أن عبرنا «جسر شل» الذي أصبح «جسر باز» (والبترول واحد)، من تحته. فشارع «هجيبوريم» - يعني الأبطال الذين «طردوا» عرب روشيميا من بيوتهم وأكواخهم، فجسر روشيميا (من فوقه). ثم شارع «هحالوتس».
- سموا هذا الشارع باسم «هحالوتس» ومعناه «الطليعي». فلا يجوز لنا، تاريخيا، ترجمته إلى اللغة العربية كما فعل إخواننا اليهود بالعديد من الأسماء العربية العريقة في هذه المدينة، أو بدلوها تبديلا، حتى أصبح شارع الناصرة شارع «إسرائيل بار يهودا»... والأمثلة كثيرة.
ثمة إشارة أخيرة يمكن ملاحظتها في أثناء قراءة الروايتين تكمن في أن حبيبي لم يلجأ إلى العامية الفلسطينية والتراث الشعبي الفلسطيني إلا نادرا، بخلاف الحبيب السايح الذي وظف الموروث الشعبي الجزائري ما كان أحيانا حائلا دون فهم القارئ غير الجزائري بعض مقاطع من الرواية. هل أقول إن السايح عرب الأماكن ولكن «جزأر» بعض أجزاء من الرواية؟
الأمر يستحق التفكير والمساءلة والتعمق.
عادل الأسطة
2021-06-27
***
6- أميل حبيبي وحضوره في الرواية العربية أولاد الغيتو: اسمي آدم نموذجاً
توقف الدارسون، وهم يدرسون أميل حبيبي، أمام تأثره بالأدبين؛ العالمي والعربي، ولم يدرسوا تأثيره في الأدب العربي، علماً بأن المنهج الاجتماعي الماركسي يركز على دراسة تأثير الأديب وأدبه في مجتمعه وفي غير مجتمعه. وكنت، من قبل، أشرت إلى تأثير الروائي في الرواية العربية والفلسطينية: غالب طعمة فرمان وأحمد حرب ورجاء الصانع وإبراهيم نصر الله وصاحب رواية "مقدسية أنا".
يبدو تأثير أميل حبيبي أوضح ما يكون في رواية إلياس خوري، وإلياس لا يخفي تأثره برواية "المتشائل" وبصاحبها، بل إن بطله آدم يأتي مراراً على ذكر رواية أميل، ولا يأتي على أية رواية أخرى لحبيبي، ما يعني أن "المتشائل" هي رواية أميل الأكثر تأثيراً وحضوراً بين نتاجه.
ولقد حاولت أن أحصي الصفحات التي ورد ذكر أميل فيها مباشرة أو بشكل غير مباشر فوجدتها لا تقل عن عشر صفحات هي: 116، 153، 154، 239، 264، 273، 279، 303، 362، 383. ويقر آدم/ إلياس بأستاذية أميل.
"لا أريد أن أناقش الآن مسألة تلاعبي بهُويّتي، فهذا التلاعب هو قصة حياتي، وليس قصة أكتبها كي تصير أمثولة أو رمزاً، كما فعل أستاذنا أميل حبيبي مع تشاؤل بطله سعيد" (ص302).
وتبدو أستاذية حبيبي في الكتابة، وتأثر إلياس به، في طريقة قص أميل، الطريقة التي تعتمد على الذاكرة، وهو ما يقوم به آدم، إذ يؤلّف حكايته/ روايته، لا من ذاكرته هو، كما فعل أميل، بل من ذاكرات الآخرين: "هذا هو جوهر حكاية أميل حبيبي كلها، فالرجل لم يكتب سوى ذاكرته، بعدما قام بتقطيعها إلى فلذات صغيرة، استخدمها كما يستخدم الميكانيكي قطع غيار قديمة من أجل إصلاح محرك سيارة معطّل".(ص154).
ويقرّ آدم بأنه فكّر أن يكتب رواية، لكنه في بداية حياته ما كان قادراً، لأنه لم يكن ينظر إلى نفسه على أنه روائي، وإن كان مثقفاً وكاتب مقال في صحيفة عن الموسيقى وأم كلثوم، وقصته هو، حيث عثر عليه تحت شجرة زيتون أراد أن يكتبها رواية تروي حكاية المأساة الرهيبة التي عاشها سكان اللد، من خلاله. لكنه لم يستطع. قال إنه ناقد وليس روائياً، و"هذه القصة تحتاج إلى روائي مثل غسان كنفاني أو أميل حبيبي" (116). ولتتذكر أن إلياس بدأ حياته الأدبية ناقداً، وحين كتب الرواية كتب رواية متواضعة، إذ لم تضعه رواياته الأولى، خلافاً للأخيرة، في مرتبة متقدمة بين الروائيين العرب.
ويقارن آدم بين شخصية وشخصية (دوف) في رواية كنفاني، وشخصية سعيد في "متشائل" حبيبي، ويرى نفسه أقر إلى سعيد منه إلى دوف، على الرغم من اختلافه عنه.
أراد آدم أن يصير يهودياً ليتفهم معاناة اليهود، وتخيل نفسه نجا من الهولوكست في معسكرات النازية، ليشبه دوف الذي صار يهودياً، وسعيد الذي تعاون مع الإسرائيليين، ولكنه وجد نفسه مختلفاً عن هذين: دوف وسعيد "فشخصية سعيد جرى تركيبها على النمط الكانديدي كي تنقل تجربة المقاومة عبر التعامل، أو التعامل عبر المقاومة، وتقدم شخصية رمزية تختزل معاناة الفلسطيني في دولة إسرائيل، أما أنا فلم أتعاون ولم أقاوم، ولست مركباً من أي نموذج، وحكايتي لا تختزل سوى حكايتي، ولا أريد أن أكون رمزاً." (ص273).
ما لفت نظري حقيقة هو رؤية آدم لأميل الذي انتهى به الأمر بأن صدق أدبه وكذب حياته، مثل (غوغول) الكاتب الروسي، ومثل غسان كنفاني أيضاً. (ص239). هنا يأتي إلياس، من خلال بطله، على فكرة الكتابة وصلة الكاتب بها فالفنان "لا يضع أعمالاً أو يكتب نصوصاً، الفنان هو مجرد وسيط لا حول له، لذا ينتهي الأمر بالكاتب أن ينكتب لا أن يكتب". وهي فكرة طريفة تذكرنا بمقولة موت المؤلف لدى البنيوي (رولان بارت)، وهي مقولة غير خافية على إلياس، بل إنه يوردها في روايته، فليس المهم الكاتب، وإنما المهم نصه، لأن الكاتب يموت ويبقى النص. ولا أريد أن أناقش هذه القضية، فما يهمني هو قول آدم: "ألم ينته الأمر بأميل حبيبي إلى تصديق أدبه وتكذيب حياته؟" (ص239).
وسيتساءل قراء كثيرون عن مغزى هذه العبارة ومدلولها. هل أقر أميل حبيبي بأن أدبه أصدق من حياته؟ وأين؟
لا تخلو الإجابة من خطورة ومجازفة، وقد تلحق الأذى بأميل. في عدد 9 من مجلة مشارف (حزيران 1996) حوار أجراه، مع أميل، أحمد رفيق عوض وآخرون، وحين سئل أميل إن كان هناك أصل داخلي لشخصية بطله سعيد أجاب: "كنت أكذب وأقول في الماضي إن شخصية سعيد.. هي عكس شخصيتي، ولكنني الآن في عمر لم أعد فيه بحاجة إلى الكذب. لقد كنت أتحدث في "المتشائل" إلى حد كبير عن نفسي".
وكلام أميل هذا كلام خطير جداً، بل وجريء جداً، بخاصة إذا ما قرئ في ضوء القراءات النقدية لشخصية سعيد، وهي قراءات اعتبرت سعيد شخصاً متعاوناً مع الاحتلال. هل ما كتبه إلياس دفاع عن أميل حبيبي؟؟؟!!!
عادل الأسطة
2016-06-26
***
7- أثر ترجمة عادل زعيتر لرواية (فولتير)
(كنديد) في الأدب الفلسطيني
وأنا أقرأ رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) راودني السؤال التالي: لو لم يقرأ إميل حبيبي رواية (فولتير) التي ترجمها عادل زعيتر إلى العربية، وهي رواية (كنديد)، هل كان سيكتب المتشائل؟ وإذا كان كتبها، وقد كتبها، هل كان سيكتبها على الشكل الذي كتبها عليه؟
إن تساؤلي هذا، كما لاحظت، قد خطر ببال كثيرين قرأوا الرواية، حين نشر إميل جزأها الأول، قبل أن يتمها، في مجلة الجديد الحيفاوية، في العام 1972، وجزأها الثاني في آخر العام 1972، وقد التفت إميل إلى هذه التساؤلات وهو يكتب بقية الرواية التي صدرت كاملة في العام 1974.
وأشير، ابتداءا، إلى أن إميل كان يجيد الإنجليزية ويقرأ من خلالها كلاسيكيات الأدب العالمي، وبالتالي، فإنه قادر على قراءة (كنديد) بالإنجليزية- حيث نقلت إليها- لو لم ينقلها عادل زعيتر إلى العربية، ما يعني أن إميل يمكن أن ينجز المتشائل كما أنجزها لو لم ينقلها زعيتر إلى العربية. هذا افتراض وارد، ولكن ما يجعلنا مطمئنين إلى أن ترجمة زعيتر هي التي تركت أثرا في إميل، وجعلته، حين شرع يكتب روايته، يكتبها محاكيا "كنديد"، مستفيدا من الترجمة، إنه هو نفسه أشار في روايته، حين نقل فقرات من كنديد، في الفصل الذي كان عنوانه: "الشبه الفريد بين سعيد وكنديد" أشار إلى أنّ الفقرات مأخوذة من ترجمة عادل زعيتر، لا من لغة أخرى، ما يعني أن حبيبي اطلع على الترجمة العربية وقرأها، وربما لولاها لما قرأها "كنديد"
هكذا إذن نكون نحن مدينين لعادل زعيتر وترجمته، فلولاهما معا: المترجم والنص المُترجَم، لربما ما حظي الأدب الفلسطيني بنص أدبي يُعد الآن من كلاسيكيات الأدب الفلسطيني، بل ومن كلاسيكيات الرواية العربية، نص ترك أثره في الرواية العربية بشكل ملحوظ، نص يعد من أجمل نصوص الرواية الفلسطينية، إن لم يكن أجملها على الإطلاق.
ولا ادري إن كانت هناك دراسات تناول فيها أصحابها تأثير "المتشائل" في الرواية العربية، وإن كنت أعرف دراسات أتى أصحابها فيها على تأثر حبيبي فيها بالآداب العربية والعالمية، وهي كثيرة:
أنا شخصيا، ومن خلال متابعتي لروايات عربية وفلسطينية وقصص قصيرة، لاحظت تأثر أصحابها بإميل حبيبي في جوانب معينة، ويمكن أن أذكر هنا رواية غائب طعمة فرمان "آلام السيد معروف"، ورواية إبراهيم نصر الله "حارس المدينة الضائعة"، وسأذكر أيضا بعض قصص كاتب فلسطيني من الداخل – أي من المناطق المحتلة في العام 1948- هو علاء حليحل، ومنها قصة كان نشرها في جريدة الأيام (رام الله) عنوانها: "المذقون" (6/3/2004). وربما هنا أفشي سرا شخصيا: في نهاية سبعينيات القرن العشرين، وكنت قرأت المتشائل غير مرة، أخذت أكتب نصوصا نثرية باسم مستعار هو عادل الراوي، أفدت فيها من أسلوب الرسائل في رواية المتشائل. أنا أيضا كنت واقعا تحت تأثير هذه الرواية التي دفعتني، في حينه، إلى قراءة "كنديد"، لأن إميل أشار إلى تأثره بها.
ذكرت أنني أعرف دراسات أتى أصحابها فيها على تأثر إميل بكنديد. وقد عدت إلى هذه وأبرزها دراسة د. أحمد حرب التي ألقاها في العام 1980 في مهرجان الأدب الوطني الفلسطيني الأول، وقد صدرت في كتاب. لكن أحمد حرب لم يعتمد على الترجمة العربية، أعني على ترجمة عادل زعيتر، وإنما اعتمد على الترجمة الإنجليزية، وأظن أنها احتوت على الجزء الأول، لا على الجزأين الأول والثاني معا، وترجمة زعيتر تضم الاثنين، وقد أتى على الإشكالات التي أثيرت حول الجزء الثاني من الرواية، الجزء الذي شكك بعض الدارسين في أن يكون من وضع (فولتير).
ما كتبه أحمد حرب في دراسته عن أوجه الشبه بين متشائل إميل حبيبي وكنديد (فولتير)، أشار إليه إميل في روايته، وكما ذكرت فقد التفت إليه قراء الجزء الأول من رواية المتشائل، حين نُشِر على صفحات الجديد. هنا سأعتمد على ما أورده إميل في نصه حول صلة روايته بكنديد، تاركا المجال لمن يريد أن يدرس أوجه الشبه بين الروايتين أن يعود إلى دراسة د. أحمد حرب. وسأقتبس ابتداء فقرات دالة من المتشائل وأتوقف أمامها.
الفقرة الأولى تتمثل في العنوان الفرعي: "الشبه الفريد بين سعيد وكنديد". طبعا هذه العبارة توضح بما لا يدعو مجالا للشك أن إميل يدرك أن هناك تشابها بين بطله سعيد، وبطل رواية (فولتير) كنديد. وأن هذا الشبه فريد، كما يقول العنوان الذي هو من وضع المؤلف الضمني.
وأما الفقرة الثانية المهمة فهي:
"فينتبه صاحبي الفضائي على أزيز طائرات نفاثة تروح وتغدو فوق البحر، شمالا إلى رأس الناقورة، ثم تغدو فتختفي وراء الجبل فأحسب أن سمكة مذعورة شدت في خيطه، فأشد في خيطي شدا خفيفا، فيهديء من روعي.
ويقول: تذكرت ما أتاني من تقول أصحاب صاحبك على ما نشره من رسالتك الأولى إليه وقولهم: احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مئتي عام!"
ويوضح الكاتب في الهامش أن كنديد أو التفاؤل هي قصة (فولتير) الشهيرة التي نشرها عام 1759.
وهنا أتوقف أمام دلالات العبارة السابقة، وهي دلالات أشرت إلى بعضها من قبل.
هناك ثلاث عبارات دالة هي:
* تَقَوُّل أصحاب صاحبك.
* على ما نشره من رسالتك الأولى إليه.
* وقولهم: احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مئتي عام.
أما الأولى: تَقَوُّل أقوال صاحبك فتعني أن قراء الجزء الأول من المتشائل، فسروها وأولوها، وأشاروا إلى تأثر إميل بكنديد.
وأما الثانية فهي إشارة إلى نشر إميل أجزاء من المتشائل قبل أن تصدر في كتاب.
وأما الثالثة فيظهر فيها رأيهم في المتشائل أسلوبا. هل جدد إميل في الرواية، هو الذي بدأ يكتب وهو في الخمسين؟ وحين حاول [احتفز الأستاذ ليشب] فماذا أنتج؟ ورأيهم أنه أنتج نصا يعود إلى مئتي عام خلت- أي إلى العام الذي صدرت فيه رواية "كنديد" وهذا يعني أن إميل تأثر في أسلوب روايته بأسلوب (فولتير).
وأما الفقرة الثالثة فهي:
" فأقول:
ما شأنه وهو رسول؟ فما على الرسول إلا البلاغ!
فيقول:
كنديد متفائل أما أنت فمتشائل.
فأقول:
هذه نعمة خص بها قومي دون بقية الأقوام.
فيقول:
إن في الأمر لمحاكاة.
فأقول:
لا تلمني، بل لُمْ هذه الحياة التي لم تتبدل، منذ ذلك الحين، سوى أن "الدورادو" قد ظهرت فعلا على هذا الكوكب.
فيقول:
أفصح".
واللافت هو قول الآخر/ صاحبه له: إن في الأمر لمحاكاة، مع أن أنا المتكلم/ المؤلف الضمني يشير إلى فرق بين كنديد، وبينه، فكنديد متفائل أما هو فمتشائل. والسبب يعود، كما نعلم من أنا المتكلم، إلى الاختلاف بين الأقوام، فسمة التشاؤل نعمة خص بها قومه.
واللافت أيضا هو رؤية أنا المتكلم للحياة، فهي لم تتبدل منذ مئتي عام إلا جزئيا. تتكرر التجارب، ويتكرر التشرد، ويتكرر القتل، وتتكرر الرحلات، وببساطة يتكرر كل شيء. وربما نتذكر هنا ما قاله الشاعر العربي القديم: ما أرانا نقول إلا معادا مكرورا.
وإذا كان هناك من اختلاف بين ما كانت عليه الحياة قبل مئتي عام، وما غدت عليه زمن إميل حبيبي- أي بعد مئتي عام من حياة كنديد (فولتير)، فهو أن ما كان خياليا غدا واقعيا. اعني أن الدورادو التي كتب عنها (فولتير) في روايته كانت ضربا من الخيال، أما زمن إميل حبيبي فقد غدت واقعا. وقد يثير المرء حول (الدورادو) التي يعنيها إميل تساؤلا مهما: أين هي؟
ومن ثم يبدأ أنا المتكلم يقارن بين الشبه الفريد بين سعيد وكنديد، ويتمثل، كما أفصح عنها، بالتالي:
يأتي سعيد على تعزية (بنغلوس)، وهو صديق (كنديد)، نساء الآبار على ما فعله بهن عسكر البلغار، من اغتصاب ومن بقر بطون ومن قطع رؤوس ومن هدم قصور، بقوله:
"غير أنه انتقم لنا، فقد أصاب الآبار بمثل ذلك السوء بارونية مجاورة يملكها سنيور بلغاري".
ويعقب عليها قائلا: "فبمثل هذه التعزية تعزينا نحن، بعد مئتي عام". وهنا نتذكر ما سلف من أن إميل يدرك أنه يحاكي كنديد، لأن الأحداث تتكرر.
ويرى سعيد/ إميل أن إسرائيل انتقمت من الفلسطينيين بقتل نسائهم وأطفالهم، بعد أن قتل الفلسطينيون، في العام 1972، رياضيين إسرائيليين في مدينة ميونيخ في ألمانيا. وبعد أن حققت إسرائيل انتقامها اجتمع الوزير (بنغلوس) الإسرائيلي- إشارة إلى وزير المعارف والثقافة في حينه- بأرامل الرياضيين الإسرائيليين المغدورين وعزاهن.
ويقتبس سعيد/ إميل من "كنديد" الفقرة التالية:
و"كنديد" يعن له، في يوم من أيام الربيع، أن يتنزه وأن يمضي قدما معتقدا أن استخدام الإنسان لساقيه، كما يروقه، هو امتياز للنوع البشري، كما هو امتياز للنوع الحيواني، ولم يكد يسير فرسخين حتى أدركه أربعة أبطال طول الواحد منهم ست أقدام، فأوثقوه، وأتوا به إلى سجن مظلم".
ويأتي سعيد/ إميل على ما ألم ببضعة أولاد من قرية الطيبة مضوا إلى مدينة ناتانيا ليروا البحر، فألقي القبض عليهم واقتيدوا إلى محكمة عسكرية أوقع بهم حاكمها عقوبة الغرامة، فمن عجز عنها أودع السجن.
ويورد إميل من رواية كنديد ما كان يفعله القرصان، حين استولى على سفينة في عرض البحر، بالنساء، وينقل ما روته امرأة عجوز عما نزل بها من تفتيش، إذ قالت:
"ويعرون من فورهم كالقرود.... ومن الأمور التي تثير العجب سرعة تعرية هؤلاء السادة للناس. ولكن أكثر ما أدهشني هو إدخالهم إصبعا إلى مكان فينا جميعا لم نكن، نحن النساء، لندع شيئا يدس فيه غير أنابيب المحقنة....".
ويذكر سعيد/ إميل ما تفعله السلطات الإسرائيلية بالمواطنين العرب جوا وبحرا وبرا- في مطار اللد، وفي ميناء حيفا، وفوق الجسور المفتوحة.
وبعد أن ينتهي سعيد من قص هذه الحكايات على صاحبه الفضائي يقول الأخير مستريحا:
فهل تَقَوُّل أصحاب صاحبك عليه، بانه قلّد كنديد، يعود إلى أنهم حين كانوا يعرونهم، كانوا يدخلون أصابعهم هناك؟".
مرة أخرى يعود سعيد/ إميل إلى قضية التقليد والمحاكاة، إلى قضية تأثره في متشائله بفولتير في كنديده. وعلى الرغم من التشابه الذي لوحظ في الأمثلة الثلاثة، وعلى الرغم من التشابه بين الروايتين، وهذا ما توقف أمامه أحمد حرب بإيجاز يمكن أن يتوسع فيه أكثر وأكثر، ثمة ما هو مختلف بين سعيد وكنديد. ومن هنا نجد أنا المتكلم/ سعيد/ إميل يجيب صاحبه الفضائي قائلا:
" إن الأمر، يا سيدي، مختلف جدا، فبنغلوس كان يعزي نساء شعبه المبقورات البطون بأن عسكر شعبه قد فعل مثل هذه الفعلة بنساء الأعداء. أما عرب إسرائيل فهم ضحية العسكرين، عسكر الآبار وعسكر البلغار".
وحين يطلب صاحبه منه أن يأتي بمثل على هذا، يورد له ما ألم بقرية برطعة التي سطا فريق من اللصوص فيها على قطيع بقر أردني، فعانى سكان القرية معاناة مرة من الطرفين الأردني والإسرائيلي. دخل الجنود الأردنيون إلى القرية وعاقبوا سكانها وضربوهم ضربا مبرحا، ولما غادرها الجنود الأردنيون دخل إليها الجنود الإسرائيليون، فضربوا من وجدوا سليما- أي من لم يضربه الجنود الأردنيون، وهكذا دفعوا ثمنا باهظا، ولم يجدوا من ينتقم لهم، وبالتالي لم يجدوا من يعزيهم بأن عسكر شعبهم انتقموا لهم.
وينهي سعيد/ إميل هذه المقارنة العجيبة بين عرب إسرائيل وبين كنديد فيقول:
"كنديد، يا سيدي، كان يقول: "كل شيء في هذا العالم حسن لا ريب فيه. وذلك مع الاعتراف بإمكان الأنين قليلا مما يحدث في عالمنا روحا وبدناً". أما أنا فحتى الأنين لم يكن متيسراً لي".
فيقول صاحبي الفضائي: أفصح!
فأفصح وأقول:"
ولعل وقت المحاضرة لا يتسع لمزيد من المقارنة، ولعلني أعود ثانية إلى الروايتين وأجري مزيدا من المقارنات، لعلني أو لعل طالبا آخر يدرس الفرنسية ينجز ذلك، وشكرا.
***
8- هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
توقف دارسو غسان كنفاني أمام تأثره بأدباء عالميين مثل (وليم فولكنر) و(برتولد بريخت) وأدباء صهيونيين مثل (ليون أوريس) و (آرثر كوستلر)، و (ثيودور هرتزل). فعلى سبيل المثال، لاالحصر، قارنت رضوى عاشور بين "ما تبقى لكم" و "الصخب والعنف"، وكان كنفاني نفسه قد أقر بإعجابه برواية (فولكنر)، وقارن محمد صديق في كتابه: "الإنسان قضية" (بالانكليزية) بين "عائد إلى حيفا" و "دائرة الطباشير القوقازية" (لبرتولد بريخت)، ومثله فعل الناقد السويسري (هارتموت فيندرش) الذي نقل أكثر أعمال كنفاني إلى الألمانية. وربما أكون أول من التفت إلى تأثر كنفاني بالأدب الصهيوني، لا إعجاباً به وإنما نقضاً له، وذلك في كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و 7891" وكتابي "الأدب الفلسطيني والأدب الصهيوني".
ولا أعرف، في حدود ما قرأته من دراسات تناول أصحابها فيها نتاج كنفاني، إن كان هناك دارس أتى على تأثر كنفاني بالأدب العربي قديمه وحديثه، وبأدباء بعينهم مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، على سبيل المثال. وإن كنت قرأت دراسة طريفة، بالألمانية، لدارس ألماني، اهتمامه بالأدب العربي الحديث اهتماماً ضئيلاً على أية حال، هو (فولفديتسرش فيشر: Wolfdie trich Fischer)، إذ قارن هذا بين روايتي "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، و"رجال في الشمس" لغسان كنفاني، دون أن يكون قصده إظهار تأثر الثاني بالأول، فقد رمى إلى دراسة الأسلوب والرمز والسارد وتأثير الكاتبين في الأدب العربي.
قبل خمسة أعوام تقريباً، وربما أكثر بقليل، أثار كاتب أردني هو محمد سناجلة زوبعة في فنجان، حين زعم أن كنفاني سرق (فولكنر)، وقد رد عليه، يومها، غير دارس ذاهبين إلى أن كنفاني تأثر بـ (فولكنر) ولم يسرقه، لأنه أقر بإعجابه به، ولم يخف هذا، ولم يزعم أنه لم يقرأ "الصخب والعنف"، والتأثر غير السرقة، فما من كاتب لاحق إلا وتأثر بهذه الدرجة أو تلك بالأدباء الذين قرأ لهم. وقد أخذ أدباء كثيرون يقرون بهذا، ربما اعتماداً على مقولات (ميخائيل باختين) الذي رأى أن كل كلام، عدا كلام آدم عليه السلام، هو كلام يعتمد على كلام السابقين. وسنجد دارسين وباحثين يميزون بين التناص والتلاص، وسنجد شعراء كباراً مثل محمود درويش يقولون بتواضع كبير إن قصائدهم ليست سوى فسيفساء من نصوص الآخرين، وانها إنما تحمل (تحمل) اسمهم فقط.
هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
لم أقرأ، من قبل، كتابة تأتي على هذا السؤال الذي لم يثر في حدود ما أعرف قبل الآن، وربما لم يلتفت دارس الى هذا، لأسباب عديدة أبرزها أن غسان أصدر عشرات الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات قبل أن يغدو إميل حبيبي كاتباً أدبياً ذا شأن، ففي الوقت الذي بدأ اميل فيه يكتب "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" في العام 2791، وهي العمل الأدبي الأبرز له الذي ترك أثراً كبيراً على الرواية العربية، كان كنفاني استشهد مخلفاً آثاراً أدبية تركت آثارها في جيل من الكتاب العرب.
بناءً على ما سبق ربما يعتقد البعض أن السؤال مغلوط ومعكوس، فما دام كنفاني أنجز أكثر كتاباته حين بدأ اميل يتحول الى كاتب أدبي، وقد عرف كاتباً سياسياً بالدرجة الأولى، فالأصح أن يكون السؤال: هل تأثر اميل حبيبي كاتباً أدبياً بغسان كنفاني؟.
ما تجدر الإشارة إليه أن إميل الذي كتب المقالة السياسية منذ الأربعينيات من القرن 02، وواصل كتابتها وتألق في ذلك منذ الخمسينيات حتى التسعينيات من القرن العشرين، كتب قصصاً قصيرة قليلة جداً قبل 1948 وما بين 1948 و 7691، اتبعها بعمله "سداسية الأيام الستة" )1968( الذي اطلع عليه كنفاني، وأورد نموذجاً منه في كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم في فلسطين ما بين 48 و 6691"، هل تركت "السداسية" إذن أثرها على كنفاني؟ هذه السداسية التي كانت من قراءاته قبل أن يكتب "عائد إلى حيفا"، و "أم سعد" وأعمالاً أخرى لم يتمكن من انجازها لاغتياله من الموساد، أعمالاً أدرجت في أعماله الكاملة، مع أنها غير كاملة، وهي "العاشق" و"الأعمى والأطرش" و"برقوق نيسان"؟.
ما بين العامين 1948 و 1967 كتب اميل حبيبي قصتين قصيرتين لا غير ظهرتا، فيما بعد، مع "سداسية الأيام الستة"، هما "بوابة مندلبوم" و "النورية"، ونصاً آخر عنوانه "قدر الدنيا" وتمثيلية "قدر الدنيا"، وربما لم يلتفت إلى هذه الكتابات إلا بعد أن غدا إميل، بعد العام 7691، اسماً لامعاً في الحياة الأدبية الفلسطينية.
سوف أقرأ في بداية العام 2006 قصة "بوابة مندلبوم" وهي قصة كنت قرأتها منذ عقود ولم التفت إلى ما التفت إليه مؤخراً، وهو ما أدرجته في العنوان الذي يشير الى تأثر كنفاني بإميل. هنا سوف أتذكر ثانية مقولة أصحاب نظرية التلقي الألمانية (هانز روبرت يادس) و (فولفجانغ ايزر): "إن قراءة نص أدبي واحد في زمنين مختلفين "تؤدي الى قراءتين مختلفتين"، وهو ما حدث معي. إن قراءتي الثانية لقصة اميل قالت لي ما لم تقله لي القراءة الأولى. لقد قالت لي القراءة الثانية إن غسان متأثر بإميل.
والسؤال هو: ما هو وجه التأثر وأين؟ وسأبدأ بالجزء الثاني من السؤال لأنه لا يحتاج الى شرح، خلافاً للجزء الأول وهو الأهم.
إن من يقرأ "بوابة مندلبوم" و "عائد إلى حيفا" يلحظ تأثر كاتب الثانية بكاتب الأولى ـ أي تأثر كنفاني بإميل. أما ما هو وجه التأثر، فإن الاجابة عنه ربما تتطلب اقتباساً من القصة والرواية.
في العام 1993 كنت أنجزت بحثاً عنوانه "الوطن في شعر ابراهيم طوقان" (مجلة النجاح للأبحاث، 6991)، وكنت أتيت فيه على تعريف الشعراء والأدباء الفلسطينيين للوطن معتمداً لا على أقوالهم في المقابلات التي تجرى معهم، وانما على ما ورد في نصوصهم النثرية والشعرية التي ظهر فيها تعريف لكلمة الوطن. وتعود هذه النصوص الى سميح القاسم "الصورة الأخيرة في الألبوم" )1979( ومحمود درويش "أنا من هناك" )1986( وقبلهما غسان كفاني، في روايته المعروفة "عائد الى حيفا" )1969( وغابت "بوابة مندلبوم" عن ذهني، وربما أكون هنا مثل (امبرتو ايكو) صاحب رواية "اسم الوردة". في كتابه "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية" )2000( يأتي على قضية مهمة تشبه هذه التي أكتب عنها. يقول (ايكو) إنه وهو يحاضر سأله قارئ عن روايته "اسم الوردة" وإن كان تأثر في أثناء كتابتها، برواية معينة. وكان جوابه انها قد تكون أثرت فيه وانها من بين الكتب التي قرأها. (انظر ص 96 وما بعدها من ترجمة سعيد بنكراد الصادرة عن المركز الثقافي العربي، 0002). ولو كان كنفاني على قيد الحياة لسألناه إن كان تأثر، وهو يكتب "عائد الى حيفا" )1969( بـ بوابة مندلبوم". ما هو وجه التأثر إذن؟.
ربما أكون أتيت عليه وهنا أوضح أكثر. في "بوابة مندلبوم" يسرد أنا المتكلم الذي يقيم في فلسطين المحتلة العام 1948 قصة أمه البالغة الخامسة والسبعين، هذه التي تنوي السفر الى القدس غير المحتلة لتقيم فيها، وتظن أنها ستموت فيها ولن تعود الى الناصرة، وحين يودعها أهلها ومعارفها تقول: "لقد عشت حتى رأيت المعزين بأم عيني"، وينتابها، وهي تغادر وطنها، شعور غامض يقبض على حبة الكبد فيفتتها، شعور يخلف فراغاً روحياً وانقباضاً في الصدر، كتأنيب الضمير، شعور الحنين الى الوطن. وهنا يخوض أنا المتكلم في معنى هذه الكلمة:
"ولو سئلت عن معنى هذه الكلمة، "الوطن"، لاختلط الأمر عليها كما اختلطت أحرف هذه الكلمة عليها حين التقتها في كتاب الصلاة: أهو البيت، اناء الغسيل وجرن الكبة الذي ورثته عن أمها (لقد ضحكوا عليها حينما أرادت أن تحمل معها في سفرها اناء الغسيل العتيق هذا، وأما جرن الكبة فلم تتجرأ على التفكير بحمله معها!)، أو هو نداء بائعة اللبن في الصباح، على لبنها، أو رنين جرس بائع الكاز، أو سعال الزوج المصدور، وليالي زفاف أولادها الذين خرجوا من هذه العتبة الى بيت الزوجية واحداً وراء الآخر وتركوها لوحدها!" "... ... ولو قيل لها إن هذا كله هو "الوطن" لما زيدت فهماً".
إن الكتابة عن دال الوطن وتعريفه على هذه الشاكلة سيكون له حضور واضح في "عائد الى حيفا". حقاً إن كلمة وطن تكررت مراراً في أشعار ابراهيم طوقان، وحاول تعريفها، إلا أن ما كتبه عنها كان عابراً:
تلك البلاد إذا قلت اسمها وطن
لا يفهمون، ودون الفهم أطماع.
غسان كنفاني، على لسان الشخصية المحورية في الرواية: سعيد. س، يأتي على تعريف مفردة الوطن، وربما كان "تعريفها، ابتداءً، لا يختلف عما ورد في قصة "بوابة مندلبوم"، وإن كان أضاف اليها معاني أخرى لم ترد في القصة.
يرد في "عائد الى حيفا" المقطع التالي:
"سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل. ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة، ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ النبوة؟ ما هو الوطن؟..".
ويكتشف سعيد. س ان الوطن هو ألا يحدث ما حدث، وأن فلسطين الحقيقية هي أكثر من ذاكرة وريشة طاووس وولد وخرابيش قلم رصاص على جدار السلم...
"لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق..".
إن الأسطر الأخيرة في ما أضافه كنفاني الى ما ورد في قصة بوابة مندلبوم، فهل كان كنفاني، وهو يكتب روايته بعد سنوات طويلة على كتابة قصة اميل حبيبي وبعد هزيمة نكراء للجيوش العربية، هل كان يضع قصة حبيبي وما ورد فيها أمامه ليقدم تعريفاً آخر لمفردة الوطن؟! ربما!، غير أني أعتقد أن اميل حبيبي ترك أثراً واضحاً على غسان، وعلى غيره من الكتاب العرب، ولعل الموضوع بحاجة الى كتابة أخرى!!.
***
9 - قراءة في قصة إميل حبيبي (حين سعد مسعود بابن عمه )
"حين سعد مسعود بابن عمه" واحدة من قصص ستة كتبها إميل حبيبي ما بين نيسان 1968 وتشرين الأول من العام نفسه، ونشرها ابتداءً في مجلة "الجديد" التي أصدرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي، لتنشر، فيما بعد، في مجلة "الطريق" التي يصدرها الحزب الشيوعي اللبناني أولا، وفي كتاب في روايات الهلال في مصر، في مطلع العام 1969، مع رواية (فيركور): "صمت البحر"، وهي رواية من الأدب المقاوم، لاقت ذيوعاً وانتشارا واسعين في العالم العربي، وتناولها بالدرس د. طه حسين وآخرون، وتركت بصماتها في أدبنا العربي.
ولم يكن إميل حبيبي، حين كتب السداسية، يحترف الأدب، فلم يكن كتب ما بين العام 1948 والعام 1967، سوى قصص قصيرة قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بالإضافة إلى تمثيلية قصيرة. كتب إميل "لا حيدة عن جهنم"، وكتب "بوابة مندلباوم" و"النورية" و"قدر الدنيا". ولم يلتفت إليه أديبا. وحين قدم لكتاب "سداسية الأيام الستة" يوم صدرت في حيفا، بعد أن ذاع صيته في العالم العربي، بسبب السداسية، أشار إلى أنه يحترف السياسة ويتذوق الأدب، فيسند بذلك الواحد بالآخر، وأشار إلى انه يكتب القصة في أوقات متباعدة، يكتبها حين يضيق صدره عن آهة لا يقوى صدره على حبسها.
والتفت إميل في المقدمة إلى ما كان يشغله دائما: الفرقة وتخيلات اللقاء، "وهما في الواقع موضوع جميع القصص التي جمعتها في هذا الكتاب". وإذا كانت "بوابة مندلباوم" التي كتبها في آذار من العام 1954 تأتي على الفراق، حيث تترك المرأة مدينة الناصرة التي كانت تقيم فيها، لتقيم في القدس العربية، مفترقة بذلك عن عائلتها، فإن قصة "حين سعد مسعود بابن عمه" تأتي على اللقاء بين أبناء العائلة الواحدة، ولكن إثر هزيمة العام 1967.
وربما ما يجدر الإشارة إليه، قبل تناول القصة، الالتفات إلى نهايات إميل حبيبي السياسية والأدبية. لقد عرف إميل كاتبا سياسيا، وسياسيا بالدرجة الأولى، ولم يكن يعرف أديبا، وقد أقر هو بهذا، وهذا ما لاحظناه قبل أسطر، حين اقتبسنا عبارته التي صدر بها السداسية، ولكنه انتهي أديبا، وإن ظل يكتب المقالة السياسية، غير أنه ظل يكتبها دون أن يكون يعبر عن وجهة نظر حزب، بخاصة بعد أن ترك الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وفي هذه الأثناء- أي بعد تركه الحزب- أخذ يقول غير ما كان يقوله، وهو في الحزب، عن العلاقة بين الأدب والسياسة. كان، وهو في الحزب، يجمع بين بطيختين في يد واحدة، وحين مال إلى الأدب قال: إنه غير قادر على حمل بطيختين في يد واحدة، بطيخة الأدب وبطيخة السياسة، فاحتفظ بالأولى، وترك الثانية. ولا أدري إن كان يعبر بذلك عما قاله في مقدمة السداسية: ويعود الأدب يسند السياسة الصحيحة.
وربما يتساءل المرء: هل حقق الأدب لإميل حبيبي من الشهرة أكثر مما حققته له السياسة؟ بخاصة في العالم العربي والعالم، لا في فلسطين المحتلة في العام 1948، ففيها كان إميل معروفا جيدا، حتى قبل أن يغدو أديبا، بل إنه عرف أديبا في فلسطين، بعد أن اعترف به أديبا في العالم العربي، بعد هزيمة حزيران، فهو حين نشر السداسية في الجديد، وحين نشر قبلها بعض قصصه في الجديد أيضا، لم يلتفت إليه النقاد في فلسطين، ولم يعترفوا به أديبا إلا بعد أن اعترف به في العالم العربي، يكتب إميل:
" فأخذ عدد من دور الإذاعة العربية، ومنها القاهرة، في اقتباس قصص "السداسية" تمثيليات إذاعية أثارت اهتمام الناس هنا في إسرائيل، الذين كان كثيرون منهم قد مروا عليها في "الجديد" دون انتباه. هذه هي الطبيعة الإنسانية، عموما، فكيف لا نفهمها في فرع يحن إلى جذعه!".
ولقد أعاد العالم العربي نشر أعماله الأدبية مرارا، وأنجزت عنها دراسات ورسائل ماجستير ودكتوراة، لم يكن إميل ليحظى بها لو ظل سياسيا، دون أن يكتب الأدب، وترجمت اعماله إلى العديد من اللغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والعبرية أيضا، واحتفل بها وبه، احتفالا كبيرا. ترى ألهذا حمل إميل، في النهاية، بطيخة الأدب؟ ربما يستحق الأمر دراسة مفصلة، فثمة أسباب أخرى أيضا، لا شك في ذلك.
العنوان والتصدير:
يقول لنا العنوان إن مسعودا سعد بابن عمه، وهذه السعادة لم تكن عادية، ذلك أنها جاءت بعد شعور مسعود بغربة داخل وطنه، سببتها نكبة العام 1948، وقد لاحظنا ونحن نقرأ قصة نجوى قعوار فرح "أمر الخيارين" وقصة توفيق فياض "الحارس" المأساة التي ترتبت على الحرب: تشرد العائلة الفلسطينية وتشتتها، وحين تم اللقاء، في قصة قعوار، انتهت القصة بالموت، موت أبي إبراهيم، لأنه التقى بأبنائه، ولكنه فارق وطنه وأشجار زيتونه ومنزله.
وأما الحارس في قصة فياض فما عاد يلتقي بابنته وحفيدته، ولا ندري إن كان التقى بهما، بعد هزيمة 1967، هذا إذا ظل على قيد الحياة.
لقد ظل مسعود، في الناصرة، تسعة عشر عاما كأنه مقطوع من شجرة، فلا أقارب له، لا أعمام ولا أبناء عمومة، فهؤلاء كلهم في جنين أو في المنفى، ولا إمكانية للقاء. صحيح أنه بين أهله الفلسطينيين في الناصرة، ولكن أهله هؤلاء ليسوا أقاربه، وإذا كان المثل قال: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، فمن سيقف إلى جانب مسعود حين يختلف مع رفاقه الأطفال، وهكذا سيظل مسعود مقطوع الأصل والفصل، يكنى بكنى غريبة، مع أنه يحبها إلا أنه يحب أن يكون له، كغيره، أعمام وأخوال.
ولهذا، ما إن يزور سامح وأهله مسعوداً وأهله، حتى تختلف مشاعر مسعود، بل وحتى تختلف معاملة أصدقائه له، "فلأول مرة سمع الأولاد يقولون له، دون سبب معقول: مرحبا، وظلوا يمرحبونه من عتبة البيت حتى دكان أبي إبراهيم..."
وهكذا اختلفت معاملة الآخرين له. حين سعد مسعود بابن عمه، اختلف سلوكه، واختلفت تصرفاته، بل واختلف سلوك الآخرين وتصرفاتهم نحوه، بل إن معاملة أمه له أيضا اختلفت فقد وجدها لأول مرة تفهمه ولا تعانده:
"قامت مع الفجر وفتحت صندوق الثياب وألبسته بزة العيد ببنطلونها الطويل. ولأول مرة لم يعاند والدته، فغسل وجهه دون جر ودون لكمات. وتظاهر بالأدب في حضرة ابن عمه، سامح، الذي في مثل سنه، والذي يلفظ القاف قافا ويفخمها. ولأول مرة أفطر دون أن يشرشر على قميصه. ولأول مرة وجد أخاه الكبير، مسعدا، يدس في جيبه، وفي جيب سامح، قروشاً".
هذا، وغيره، ما حدث حين سعد مسعود بابن عمه. حين التقى به بعد أن كان الآخرون يظنون أنه مقطوع الأصل والفصل. ولقد تبين له أنه ليس كذلك، وأنه ليس غريبا في هذه الدنيا. كأن لسان حال مسعود، قبل أن يلتقي بابن عمه لسان حال فيروز وهي تغني:
لماذا نحن يا أبت
لماذا نحن أغراب
أليس لنا بهذا الكون
أصحاب وأحباب؟؟
وسيزول هذا الشعور، وهذا التساؤل، حين يلتقي مسعود بابن عمه، ولن يحيا، طالما ظل سامح بصحبة مسعود، بمشاعر مثل هذه، ولن يتساءل مثل هذا التساؤل. ولكن النهار يوشك أن يغرب، ولا بد من أن يعود سامح إلى المكان الذي جاء منه، وهذا ما سيقلق مسعودا، ولذلك نجده في نهاية القصة لا يجرؤ على أن يسأل أخته الفيلسوفة، السؤال التالي، خوفا من لطمة كف:
"هل، حين ينسحبون، سأعود كما كنت... بدون ابن عم؟"
وحين ينام ينام وهو يحلم بسامح وبأخيه الذي في الكويت، الذي زار القاهرة، وحضر غناء عبد الحليم حافظ بشخصه.
ونحن، الآن، ونحن نقرأ هذه القصة بعد أربعين عاما من كتابتها، ندرك أنه- أي مسعود- ما عاد بابن عم. لقد غدا بدون ابن عم، بل ولقد غدا بدونه منذ سنوات سابقة تعود إلى الفترة التي غدا الوصول فيها إلى الناصرة وبقية مدن فلسطين غير ممكن إلا بتصريح إسرائيلي يصعب الحصول عليه ،ولقد ازداد الطين بلة منذ العام 2000 ، وتحديداً منذ 28/9/2000 ، بداية تفجر الانتفاضة الثانية .
لقد غدت حسرة مسعود، وحسرتنا، مضاعفة، فإذا كانت الحسرة سببها عدم المعرفة،إن كان لنا أبناء عم،أو إن لم يكن،فقد غدا السبب أننا نعرف أنهم موجودون ،وأننا غير قادرين على الوصول إليهم . لقد عادت الأسرة الفلسطينية تعاني ،من جديد،من التشتت والغربة ،ولقد عادت ،من جديد ،غير قادرة على التواصل إذا ما أرادته ، لا لسبب ذاتي فردي ،بل لسبب يعود إلى الاحتلال ،وهذا ما كان قبل العام 1967 ،وهذا ما أبرزته قصص "بوابة مندلباوم" لإميل حبيبي ، و"عام آخر" لسميرة عزام، و"متسللون" لحنا إبراهيم .
وسيكون موضوع الفرقة فاللقاء فالفرقة حاضراً حضوراً لافتا في رواية إميل حبيبي " الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974). إنه موضوع له حضوره الكبير في أدب الداخل الفلسطيني، وأدب الخارج- أي أدب المنفى، وهذا ما لحظناه أيضا في رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969). ترك سعيد. س ابنه خلدون، وهو رضيع، في المنزل، في غمرة فوضى الحرب في العام 1948، وظل الأب والأم تسعة عشر عاما محرومين من رؤيته، فربي تربية يهودية، وغدا يهوديا بالتربية، وحين زاراه في العام 1967، بعد الهزيمة، تنكر لهما. وهكذا انتهى اللقاء بالافتراق، كما انتهى لقاء مسعود بابن عمه سامح بالافتراق أيضا. ولئن كان الفلسطيني في قصة سميرة عزام "فلسطيني" يشعر بغربة بين إخوته العرب، فإن مسعود يشعر بغربة بين أخوته الفلسطينيين أيضا.
أدب الهزيمة، هزيمة حزيران:
انعكست هزيمة حزيران في نصوص أدبية كثيرة، وتعد هذه واحدة منها. ولقد لفت الأمر أنظار الدارسين فأنجزوا غير دراسة وغير كتاب في هذا الجانب، ولعل أبرز هذه الكتب كتاب: انعكاس هزيمة حزيران في الرواية العربية. ولعل صاحب الكتاب أتى على "سداسية الأيام الستة" ودرسها، كما درسها كثيرون.
في هذه القصة نلحظ انعكاس الهزيمة على المجتمع الفلسطيني، وهو انعكاس يبدو، للوهلة الأولى، إيجابيا، فبعد أن كانت العائلة مشتتة، لا يعرف أفرادها بعضهم بعضا، اجتمعت العائلة وسعد أفرادها، وهكذا ولدت الهزيمة السرور، على الأقل سرور مسعود بابن عمه، ومثله كثيرون. ولكن هذا اللقاء الذي تم بعد افتراق نجم عن الهزيمة نقيضه، فقد افترقت عائلات كثيرة من جديد، ولم تعد ترى بعضها إلا عند الضرورة القصوى. لم يعد كثيرون من الفلسطينيين، من أهل الضفة والقطاع، ممن لهم أقارب في الشام أو في لبنان، قادرين على لقائهم، إلا بعد مشقة، وهكذا افترق الفلسطينيون من جديد، وازداد الأمر تعقيدا. والهزيمة التي وحدت الفلسطينيين، تحت الاحتلال، وجمعت الأسرة، في قصة حبيبي، وفي الواقع أيضا، وإن جزئيا، عادت لتباعد بين أسر أخرى. كان لي عم مقيم في الشام، كان يزورنا قبل العام 1967، وما عاد إخوته، بعد الهزيمة، يرونه، ومات دون أن يحضروا جنازته.
ولئن كان إميل حبيبي في قصته يصور لقاء العائلة، ولا يقص عن تجربة ذاتية، ولا يصور أثر الهزيمة عليه شخصيا، فإن قارئ الأدب العربي، والفلسطيني منه، يلحظ تأثير الهزيمة عليه بوضوح- أي الأدب. وربما تذكر المرء هنا الشاعر نزار قباني والشاعر مظفر النواب والروائي عبد الرحمن منيف، ولربما تذكر أيضا الشعراء محمود درويش وتوفيق زياد وفدوى طوقان.
بدت النزعة المازوخية في أشعار قباني ومظفر وفي رواية منيف "حين تركنا الجسر" أوضح ما تكون. لقد انعكست الهزيمة عليهم سلبا ،وتلذذ الشاعران في تعذيب الذات وشتمها وجلدها ،فيم عد الدارسون ، ومنهم جورج طرابيشي، رواية منيف أبرز رواية عربية عانى بطلها، بسبب الهزيمة، من المازوخية .
وعلى النقيض من الأدباء العرب بدا شعراء المقاومة في الداخل ،رأى زياد في الهزيمة للخلف خطوة من اجل عشر للأمام،ورأى فيها كبوة ،وكم يحدث أن يكبو الهمام ،وازداد ، إصرارا على التحدي والمواجهة،وظل وفيا لأرائه حتى وفاته . وذهب درويش إلى انه في لحم بلاده، وهي فيه ،وانه لا يكتب أشعارا وإنما يقاتل،وان حبه لبلده لم يتفتت بين السلاسل ،وحين زارته فدوى طوقان في حيفا تعلمت منه ومن رفاقه الكثير، وهي إذا كانت قبل الهزيمة تبكي، منطوية على نفسها، معبرة عن تجاربها الذاتية المحبطة،حيث الوحدة والعزلة والغربة، فإنها تعلمت من الهزيمة،ومن رفاقها الشعراء ،ووعدتهم ألا تبكي بعد اليوم،وغدت شاعرة تكتب الشعر القاوم .
لم يكن، إميل حبيبي،وهو يكتب قصصه يعبر عن تجربة ذاتية،ومثله عبد الرحمن منيف الذي صور انعكاس الهزيمة على نفسية المثقفين العرب في الخارج . كانا يكتبان عما فعلته الهزيمة،وعن تأثيرها في الأفراد،لا فيهما . وخلافا لهما كان الشعراء الذي انقسموا مابين جالد للذات ومصر على المقاومة.
أسلوب الحكاية:
راوي الحكاية هو من حارة مسعود،ويرويها بضمير الغائب (الضمير الثالث ) ويبدأها بالتالي: "ما تجعس مسعود كما تجعس في صباح ذلك اليوم التموزي القائظ حين نزل إلى الشارع يعلن بالدليل الحسي القاطع أن له،هو أيضا ,أعماما وأبناء أعمام".
ويفصح لنا الراوي عن كونه واحدا من أبناء حارة مسعود، ويفصح لنا أيضا أن مسعوداً له نشاط سياسي، ومع انه لم يزد عن العاشرة إلا أنه ليس طفلا. ويواصل الراوي القص بالضمير الثالث ،ولكن الانعطافة بالأسلوب تبدو أوضح ما تكون منذ السطر الثالث عشر إذ يفاجئنا بالأسطر الأربعة التالية .
"وهاكم، يا شطار، قصة ذلك الصباح التموزي القائظ،الذي تجعس فيه مسعود،الفجلة،كما لم يتجعس في حياته من قبل .لقد بلغني من فم العصفورة التي كثيرا ما تدهش الأطفال بما تنقله من أسرارهم إلى كبارهم ، فإنهم لا يدركون أن هؤلاء الكبار إنما هم صغار كبروا :،،
وفي الأسطر الأربعة هذه ما يزيل اللبس الذي قد ينشأ حين يقرأ المرء الأسطر الأولى، فيظن للوهلة الأولى أن الراوي من جيل مسعود، وانه يعرفه ؟ أن هذه الأسطر تقول لنا أن الراوي كبير في السن، وان ما بلغه من أخبار عن مسعود وزيارة ابن عمه له،إنما تم من خلال فم العصفورة، وهذا ما يبرز أوضح ما يكون في الحكاية، ويبدو إميل متأثر بأسلوبها. وكتابة القصة القصيرة المتأثر صاحبها بأسلوب الحكاية الشعبية بدا واضحا ليس في القصة الفلسطينية القصيرة، بل وفي القصة القصيرة العربية، بل أن رواد هذه في العالم العربي أفادوا من أسلوب المقامات ،الأسلوب الذي أفاد منه إميل بوضوح، على غير مستوى، في روايته" المتشائل" (1974) .
ولم يبرز تأثر إميل بأسلوب الحكاية على أسلوب قصّه وحسب، بل انعكس على لغتها التي كانت قريبة جدا من لغة الحكاية،مع فارق أنها ليست عامية إلا في بعض المواطن، وهذا ما لفت نظر د.محمود غنايم في كتابه :"المدار الصعب: رحلة القصة الفلسطينية في إسرائيل" "حيث توقف أمام مفردات عامية في القصة أبرزها مفردة تجعس. وما من شك في أن لغة إميل في القصة تختلف عن لغته في المتشائل،وفي الأخيرة تبدو أكثر اقترابا من الفصيحة،بل هي فصيحة لدرجة تذكرنا بلغة الجاحظ وكبار الكتاب العرب الذين كتبوا بالفصيحة :أن لغته في "المتشائل" خارجة من رحم نصوص الكتاب المذكورين،ولغة كتاب المقامات .وليس الأمر كذلك في قصة"حين سعد مسعود بابن عمه".
كلمة أخيرة:
في تقديمه يكتب إميل عن أسلوب الشتم:"ونحن،رجال السياسة،ندرك أن التنهد،مثله مثل الشتيمة،لا يقدم ولا يؤخر،فعلينا أن نصدر عن الواقع،مهما يكون مؤلما، للسير به إلى الأمام،لا إلى خلف، نحو التغيير السوي الممكن ،لا المغامر،غير الممكن ،ولكن على الرغم من كل واقعيتنا، هل نستطيع أن نمنع الإنسان عن التنهد ،والمظلوم عن الشتم؟"ولا تخلو القصة من مظاهر الشتم، الشتم الذي سيكون أوضح ما يكون في أشعار الشاعر العراقي مظفر النواب،الشعر الذي كتبه أيضا إثر الهزيمة 1967 .
***
10- إميل حبيبي... الجلوس على الخازوق
يعتبر إميل حبيبي واحدا من ثلاثة أدباء فلسطينيين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وهم غسان كنفاني ومحمود درويش وإميل حبيبي. ومن هنا يحق للقاريء أن يتساءل: هل يعقل الكتابة عن أدب مرحلة السلام دون الاتيان على ما كتبه.
أشير، ابتداء، الى أن إميل لم يكتب بعد عام 1990 نصوصا قصصية أو روائية، وجل ما أنجزه في باب الأدب، عدا افتتاحيات "مشارف" الثمانية الأولى، نصان أحدهما مسرحي عنوانه "أم الروبابيكا". "هند الباقية في وادي النسناس" (مشارف، أيلول 1995، عدد2)، وثانيهما يدرج تحت باب السيرة الذاتية وهو "ذكريات: سراج الغولة أو لا تطفئوا هذه الشمعة" (مشارف، آيار 1997، عدد 16)، وليس هذان النصان بجديدين كليا. فالأول هو إعادة كتابة، بشكل جديد، لقصتين كتب إميل أولاهما، وهي "النورية"، قبل عام 1967، وكتب الثانية، وهي "أم الروبابيكا" بعد هزيمة حزيران، وأدرجها في مجموعة "سداسية الأيام الستة" القصصية. ويتشكل النص الثاني من مجموعة نصوص كتبها المؤلف في فترات مختلفة، ومن فقرات من أعماله الأدبية العديدة. لقد أنجز إميل عام 1988 نصا باللغة العبرية لينشر في مجلة اسرائيلية هي "بوليتكا"، وهو نص موجه للقاريء العبري أساسا، وعاد اليه في مرحلة السلام، ليوافق على نشره، بعد تعديل اجراه عليه، بالفرنسية، وذلك بناء على طلب دار النشر الفرنسية (آكت سود)، لتصدره مع نص آخر كتبه الكاتب الاسرائيلي (يورام كانيوك) في كتاب يري القاريء الفرنسي وجهتي النظر العربية واليهودية في عملية السلام الشرق أوسطي ومستقبلها. وقد عكف إميل، قبل وفاته، على نقله الى العربية. ويلاحظ أنه يضم اليه افتتاحية العدد السابع من "مشارف" (آذار 1996).
وتبدو دراسة حبيبي، مثل دراسة معظم أدباء المقاومة، وبخاصة البارزون منهم مثل درويش والقاسم، تبدو دراسة مربكة توصل الى نتائج مختلفة. ولعل ذلك يعود الى المنهج الذي يوظفه الدارس في دراسته. فهم اذا ما درسوا اعتمادا على المنهج الماركسي الذي يربط ما بين الموقع والموقف، وهذا ما قام به الناقد الفلسطيني المعروف فيصل دراج في كتابه "بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية" (1996)، - وقد تناول فيه حبيبي ودرويش وآخرين، - بدا هؤلاء الأدباء مخيبين للآمال، وذلك لمغايرة نهاياتهم بداياتهم، ولعدم ثباتهم على موقف واحد. وهم - أي الثلاثة- اذا ما درسوا وفق المنهج الجمالي ثمن نتاجهم، وبخاصة نتاج درويش الذي أضافت كل مجموعة من مجموعاته اللاحقة قصائد تفوق سابقاتها. وسيبدو الأمر، هنا، مختلفا في حالة إميل حبيبي، فاذا ما درس ناقد نصوصه الروائية، بناء على مفاهيم فني الرواية الغربية، غبنه واعتبرها - أي رواياته - روايات مجهضة، وهذا ما رآه الناقد صبحي شحروري الذي درس "خرافية سرايا بنت الغول" (انظر مجلة شمس، باقة الغربية، آذار 1993. ع 3)، واذا ما درسه ناقد روائي يرى أن الرواية العربية لا ينبغي ان تكون صورة طبق الأصل عن الرواية الأوروبية، ومن هذا المنطلق كان حبيبي يكتب، - ثمن نصوص حبيبي تثمينا عاليا.
وسوف يختلف عن الناقدين الماركسي والجمالي الناقد اللغوي الذي يرى في اللغة العربية الكلاسيكية مثاله الأعلى، خلافا للناقد الواقعي، اذ سيعتبر الناقد الكلاسيكي نصوص إميل نصوصا متينة معتبرة، وسوف يثمنها، بناء على ذلك، تثمينا عاليا. ويختلف عنه الناقد الواقعي الذي سينظر اليها، للغتها، على أنها نصوص تغترب عن الواقع وتنتمي الى زمن مضى وانقضى.
وليس هناك من شك في أن نصوص إميل، وبخاصة "المتشائل" نصوص مربكة، وأن النتائج التي يخلص الدارس اليها ليست واحدة. إنها نصوص تصلح لأن تدرس وفق منهج الاثارة والاستجابة، النص والقاريء، أو نظرية الاستقبال، على الرغم من أن كاتبها في سنوات حياته الاخيرة أكثر من الحديث عنها، وأضاء ما خفي على النقاد من مقاصد ومرامي كان يهدف اليها في أثناء الكتابة. ومرامي إميل ومقاصده لم تكن دائما واحدة، وهذا ما يجعل من نظرية قراءة النص قراءة تعتمد على قصد المؤلف نظرية ليست دقيقة، وبخاصة حين يتحدث المؤلف عن نصوصه بعد سنوات طويلة من إصدارها. واذا كانت قراءة النص في زمنين مختلفين تؤدي الى نتيجتين ليستا متقاربتين بالضرورة، وذلك لاختلاف ثقافة الدارس وتطورها، فلماذا لا تختلف رؤية الكاتب لعمله حين ينظر اليه بعد عشرين عاما من كتابته.
لقد سئل إميل أكثر من سؤال عن أعماله، وأشار في أثناء الاجابة الى ما نصحه به النقاد الذين طلبوا منه ألا يقوم بدورهم، لأن ما يكتبه الكاتب والمبدع يصبح واقعا خارجا عن ارادته، وملكا للقاريء. ومع ذلك نجده يفسر أعماله، ويوضح كيف أنه اكتشف، بعد
كتابتها، أشياء لم تخطر له على بال:
"ومع ذلك، وفي هذا الاطار، في هذه الحدود، سمحت لنفسي أن اكتشف هدفين من وراء شخصية سعيد أبي النحس المتشائل. (انظر: مشارف، حزيران 1996، عدد 9، ص 13) و "هنا ايضا" العديد من النقاد طلب مني ألا أجيب على هذا السؤال..لأن هذه مهمة الناقد كما يقولون، ومع ذلك مستفيدا من أجوبتي، فان لي مساهمة في هذا الجواب..." (نفسه، ص 18)
وكما ذكرت ابتداء، فإن قراءة النص اعتمادا على أقوال مؤلفة- ويثمن اصحاب منهج تفسير النصوص تفسيرا علميا هذا لأنهم يرون أن المعنى في بطن الشاعر، كما قال النقاد العرب- لا توصل دائما الى نتائج دقيقة يطمئن المرء اليها. فقد يفسر الكاتب نصوصه في زمن ما تفسيرا آخر غير الذي رمى ابتداء اليه، وهناك عوامل عديدة تؤدي الى ذلك منها تغير مواقف الكاتب السياسية وثراء ثقافته واتساعها...الخ. وهذا ما حدث مع اميل نفسه الذي كثيرا ما عاد، بعد خروجه من الحزب، الى نصوصه ليدعم موقفه الجديد، وليشير الى أنه كان تنبه الى هذا من قبل، ولكنه لم يقو، في حينه، على التعبير عنه مباشرة، فآثر كتابته في نص ادبي. وهذا ما بدا واضحا في افتتاحية العدد السابع من "مشارف" (آذار 1996) التي كتبها تحت عنوان "نحن ناس، أيها الناس"، وقد ادرجها ضمن نصه الأخير "سراج الغولة".
الواقع الأسود فوق الأمنيات:
يذهب إميل في "سراج الغولة" الى الزعم أنه "واحد من أولئك الذين لا يستطيعون أن يروا من القمر الا وجهه المضيء" (مشارف، عدد 16، ص 22). ومن هنا أبرز صورة ايجابية للانسان اليهودي، وكتب عن صديقه القديم (أبراهام بن صور) الذي ساعده عام 1948، ودافع عنه وعن أمه يوم كان اليهود يطردون العرب الباقين من بيوتهم. وقد يكون (أبراهام) هذا هو المعلم يعقوب الذي ذكر في المتشائل، وقد برزت في هذه شخصيات يهودية عديدة (انظر مقالتي في مشارف، آذار 1996. عدد7).
حقا ان المتشائل تحفل بنماذج يهودية عديدة، كما تحفل ايضا باضفاء صفات اجمالية على اليهود الغربيين، الا أن نص "سراج الغولة" يقدم انسانا يهوديا يساعد العرب ولا يلجأ الى اضطهادهم وطردهم، وهذا ما بدا في المتشائل. والسؤال الذي يثيره الدارس هو: هل أبرز إميل هذه الصورة لليهودي، لأنه كتب نصا موجها للقاريء العبري، وكأنه يرمي من وراء ذلك الى نيل رضاه ابتداء، لينال، من ثم، جائزة الدولة العبرية للآداب، أم لأنه، بسبب التجربة والشيخوخة معا، آخذ ينظر الى الانسان في العدو، وهذا ما دعا اليه، بوضوح، في افتتاحية العدد السابع:
"وصرت أعتقد ان المهمة الأساس، أمام مبدعي الأدب والشعر وبقية الفنون هي البحث عن هذه اللؤلؤة- الضعف الانساني- في أعماق البحور الانسانية. وهذا ما نسميه باسم "أنسنة العدو"...(ص 9).
وهنا يتذكر المرء دراسة فيصل دراج "إميل حبيبي: الوجه الضائع بين الاقنعة المتعددة" التي أوردها في كتابه "بؤس الثقافة" ليتساءل إن كان إميل يأخذ بمقولة "لكل مقام مقال" و "لكل قاريء خطاب". حقا إن اميل لا ينكر، في معظم ما كتبه أنه من دعاة التعايش، وأنه يطلب من الأدباء والمبدعين أن يكتبوا بما يعزز هذا الاتجاه، الا ان الواقع الاسود فوق الأمنيات، وهو بذلك يلقي بظلاله على الجميع، ومن ضمنهم إميل نفسه.
كتب إميل افتتاحية العدد الثامن من "مشارف"، وهي آخر ما كتبه، ليعبر عن خيبته من الكاتب الاسرائيلي المعروف (يزهار سميلانسكي) صاحب روايتي "خربة خزعة" و "الأسير" اللتين نقلتا الى العربية، وقد ادان مؤلفهما فيهما المؤسسة العسكرية الاسرائيلية لما قامت هذه به في حروبها مع العرب، وبخاصة فيما يمس سلوكها مع القرويين العرب. وسبب خيبة إميل من (يزهار) أن الاخير كتب مقالين يناقضان تاريخه كله، فقد وصف العرب بأنهم "من آكلة لحوم البشر"، ودعا حكومته، بناء على ذلك، الى وقف التفاوض معهم. يكتب إميل:
"لقد اصبت بخيبة أمل شديدة ذكرتني بخيبة الأمل التي أصابتني في ليلة التاسع والعشرين من تشرين الاول (اكتوبر) العام 1956 حين جاءني أحد معارفي اليهود من نشيطي حركة "مبام" وأبلغني بالفظائع التي ارتكبت في تلك الليلة نفسها أمام مداخل قرية كفر قاسم. حدثني عن الاطفال والنساء الحوامل الذين قتلوا بدم بارد. فلم اصدق ان يقوى آدميون على ارتكاب مذبحة بهذا المدى حتى ولو كانوا في ثياب الجندية وينفذون أوامر عسكرية. لم أكتف بعدم التصديق بل حسبت ان هذا التبليغ هو مجرد استفزاز مقصود به أن نضيع صوابنا.
طردت زائري اليهودي من بيتي وأنا أصرخ: كذاب واستفزازي" (ص 8).
ويبدو ان تجربة إميل مع (أبراهام بن صور) هي التي جعلته لا يصدق ما قاله له الصديق اليهودي، ولو كانت له تجربة اخرى، مثل تجربة اهل دير ياسين، لصدق هذا، وان كان الواقع يعزز ان ما قام به الجنود في كفر قاسم ليس استثناء، فدولة اسرائيل كلها اقيمت على طرد شعب كامل من أرضه، بوسائل عديدة من الارهاب.
أم الروبابيكا: زاروني والا ما زاروني:
وتبقى "أم الروبابيكا" التي نقحها اميل في 25/8/1995، النص الأدبي الوحيد الذي بين أيدينا للكاتب، ويمكن دراسته ضمن ادب مرحلة السلام. و "أم الروبابيكا" مسرحية لممثلة واحدة اقتبسها عن قصتين قصيرتين: كتب واحدة منهما قبل عام 1967، وهي قصة "النورية"، وكتب الثانية اثر هزيمة حزيران 1967، واسمها "أم الروبابيكا"، وقد صدر هذه باغنية فيروزية هي:
"بالايمان.. راجعون
للأوطان.. راجعون
راجعون، راجعون
راجعون".
والنص، كما تغنيه فيروز، يعبر عن إصرار الفلسطينيين على العودة الى ديارهم، ولم يردده الناس تردادا يعبر عن سخرية ليعطي بذلك معنى مغايرا الا في لحظات الاقرار بالهزيمة والشعور بأن العودة غير واردة اطلاقا. واذا كان النص في قصة حبيبي قابل للتفسيرين-، اي الجاد والساخر- فان الكاتب في نصه المسرحي يأخذ بتأويل واحد له، هو السخرية لا أكثر ولا أقل، فبعد ان تغني أم الروبابيكا المقطع تعقب عليه:
"بالايمان... راجعون
عيش يا كديش، تيجيك الحشيش
بكرة بالمشمش " (مشارف، 97)
وهكذا يعبر مردد النص عن يأسه من امكانية الرجوع، وهذا ما يبدو واضحا في نهايته. فأم الروبابيكا التي يتركها زوجها واولادها، وتظل في حيفا وحيدة معزولة حتى من عرب حيفا، تيأس من امكانية زيارة اهلها لها، وتخاطب الجمهور:
"يا حبايبي..
بس سلموا لي عليه
سلموا لي عليه
وقولوا له:
هند الغالية
ترعى عز وتقعد غز
مثل جبالنا العالية
زاروني والا ما زاروني
انا قاعدة
وهاي قاعدة " (مشارف، 122)
وكان اميل قد أدرك منذ عام 1974، يوم انتهى من كتابة المتشائل ان الفلسطينيين جالسون، ارادوا ام لم يريدوا، على خازوق هو كل ما تبقى لهم، واذا ما قورن خازوق اهل الداخل بخازوق الغربة بدا اكثر احتمالا. يرد في المقطع العاشر من الجزء الثالث من المتشائل النص التالي:
"وكانوا يأتونني وحدانا
فأتاني صديقي القديم، يعقوب. وكان حزينا. فصحت به: الخازوق يا صديق
العمر! قال: كلنا نقعد عليه! قلت: ولكنني لا أراكم ! قال: ولا نحن نرى أحدا. كل وخازوقه وحيد. وهذا هو خازوقنا المشترك. ومضى"
ويأتيه الرجل الكبير، ويطلب منه أن يرضى بما هو عليه، ويأتيه الشاب الذي يبيع الجرائد ويطلب منه ان ينزل معه الى الشارع، وتأتيه يعاد وتشده الىالغربة والرحيل، فيرفض...الخ، ولما يأتي الشيوعي بائع الجرائد بفأس ليهوى على قاعدة الخازوق حتى ينقذ المتشائل يصيح هذا به حتى يكف "وتشبثت بخازوقي" (انظر: السداسية والمتشائل، 1985، حيفا، ط7 ص 194 و 195).
ويكرر اميل في نصه الاخير "سراج الغولة" هذا. يقول: "لعلكم تذكرون أنني لم اجد من موئل لسعيد أبي النحس المتشائل، في وطنه، سوى رأس خازوق. ولم يدر في خلدي، في ذلك الزمن السحيق، ان الخازوق هو مكان عال يصلح منه الاشراف على آفاق قرن جديد وألف جديدة من السنين، بل لم يدر في خلدي ان لا يجد شعبي مكانا في وطنه، بعد هذا العمر الطويل، سوى رأس خازوق".
"ولكن حتى ولو كانت هذه هي صورة الواقع الحقيقية، فاننا نفضل رأس خازوق فوق تراب الوطن على رحاب الغربة كلها، فقد وجدناها، كلها، حرابا وفراشها أشبه بفراش فقير هندي: رؤوس مسامير أو خوازيق صغيرة وكبيرة علىقدر المقام". (مشارف، ص 12)
وكان إميل قد أورد هذا الكلام في افتتاحية العدد الاول من مجلة مشارف (1995)، ليعزز نهجه في دعمه لمسيرة السلام.
٢٠٠٨
***
11- إميل حبيبي... ثالثة ورابعة : إشكالية الفهم ... إشكالية الترجمة
مرت في هذا الشهر ذكرى وفاة إميل حبيبي فحضر في ذهني غير مرة ، وأسهمت كتاباتي في الفيس بوك ،وتذكيره لي بها ، في الاستحضار ، ففي أيار من أعوام سابقة كنت خربشت طالبا من المهتمين بالكاتب والملمين بالعبرية أن يعلموني كيف ترجم انطون شماس عبارة إميل في " المتشائل " :" كنت أحسبك حمارا فإذا أنت أحمر " ، ولما لم يجبني أحد كتبت إلى الشاعرة سهام داوود أطلب منها المساعدة فلم تتوان في تقديمها ، وأنفقت وقتا تبحث فيه حتى عثرت على المطلوب وأرسلته إلي .
كان شماس ، حسب فهم سهام مع أنها قالت إن هناك دقة في الكتابة قد تخفى على من عبريته " على قده " ، كان ترجم العبارة كالآتي " كنت أحسبك حمارا فإذا أنت أشد حمرنة " ، وهي تختلف عن الترجمة الإنجليزية " فإذا أنت شيوعي " والترجمة الألمانية التي جمعت بين الترجمتين ؛ ترجمة شماس وترجمة سلمى الخضراءالجيوسي . ( حول ذلك أنظر كتابي " في مرآة الآخر : استقبال الأدب الفلسطيني في ألمانية " : إميل حبيبي ، صعوبة الترجمة ٢٠٠٠ ) .
تتنافى ترجمة انطون ، حسب الفهم السابق ، وروح شخصية بطل الرواية الذي يتغابى ويتظاهر بالجهل ، وتتنافى وقواعد شروط اشتقاق اسم التفضيل في علم الصرف العربي التي منها قابلية الاسم للتفاوت . وهناك فرق بين الغبي والمتغابي والمريض والمتمارض والذكي والمتذاكي والفصيح والمتفاصح والجاهل والمتظاهر بالجهل والأبله والمتباله ، وقد أعادني ذلك إلى سلسلة مقالات أنجزتها في الترجمة يخص جزء منها " المتشائل " والعبارة المذكورة . ولما فضلت أن أعرف من قراء عرب آخرين يعرفون العبرية معنى عبارة " أدوم حمور " التي استخدمها شماس فقد سألت آخرين ، فقال لي قسم مثل المحامي حسن عبادي ، إن المقصود هو " أشد حمرنة " - أي أحمر من حمار ، وقال آخرون ، مثل سهيل كيوان و د . نبيل طنوس و د.فياض هيبي ، إن المقصود هو " أحمر صعب خطير " . وإن كان المعنى الثاني ما فهمه شماس وقصده فلم يخطيء الترجمة ، وزاد الطين بلة أن كلمة " حمور " بالعبرية تعني حمار وتعني خطير وصعب ، حسب وضع النقطة فيها وهو ما شرحه لي د . طنوس . وهكذا لا يختلف القاريء العبري للعبارة عن القاريء العربي . هناك قراءتان ؛ الأولى أحمر من حمار أو أكبر حمار ، والثانية أحمر صعب أو احمر/ شيوعي لئيم ، ولا يلتفت إلى القراءة الثانية إلا قلة متخصصة ، في حين يذهب ذهن الكثرة إلى القراءة الأولى .
كنت مرة توقفت أمام مقال غسان كنفاني في كتاب " فارس فارس " عن المترجمين العرب " القدس بين ٣ مصائب: الاحتلال والتأليف والترجمة " وفيه أتى على مصيبة المترجمين العرب الذين ترجموا " جريكو " إلى " جرش " و " النقب " إلى " النجف " ، وكنت اقتبست من روايات حبيبي نفسه تحديه أن يترجم له شماس بعض العبارات العربية إلى العبرية ، فكتبت تحت عنوان " إميل حبيبي وصعوبة الترجمة " وأوردت تحدي حبيبي لشماس في " خرافية سرايا بنت الغول " :
" أجبته ما عدا إلا هذا الذي بدا . وما لم يبد ما عدا ولن يعود . وأتحدى انطون شماس أن يترجم هذا الطباق والجناس إلى لغة قريبة أو بعيدة وعلى رأسها لغة أكلوني البراغيث التي تغندرت بها لغتنا الصحفية " ( حبيبي ، سرايا ، ص ١٥١ ) .
ليس سبب الكتابة السابقة الرغبة في التكرار أبدا ، ففي العام الماضي قدمت عرضا لكتاب بشير أبو منة الذي ترجمه من الإنجليزية إلى العربية مصعب حتايلي وتوقفت أمام فقرة لم يفهمها المؤلف فهما صحيحا ، فنقلها إلى الإنجليزية بناء على فهمه الخاطيء ، لا حسب المعنى الذي تقوله الرواية . هذا كله ذكرني بعبارة ناقد عن " المتشائل " وصعوبة ترجمتها إلى اللغات الأخرى ، ذيلت بها منشورات صلاح الدين في القدس طبعتها في ١٩٧٤ ونص العبارة :
" إذا ما ترجم هذا الكتاب إلى لغة أخرى ( لو كان من الممكن أن تستوعبه لغة أخرى ) كان تحديا صعبا أمام الدعاية الإسرائيلية " .
في هامش ٣٠ من كتاب أبو منة ، في الفصل الخاص بحبيبي ( ص ١٩٤ من الترجمة العربية ) تبدو عدم دقة المؤلف في فهم فقرة من الفقرات ترد في الرواية في رسالة ( الدرس الأول في اللغة العبرية ) . يقول المؤلف فيها :
" ترى إشارة إلى قمع وكبت فلسطينيي ال ٤٨ في تلاعب إميل حبيبي باسم عمة سعيد في بداية الرواية ؛ فاسم عمته هو محصية ، لكن الجنود اليهود يلفظون اسمها مخصية ، فبعد تشريد سنة ١٩٤٨ وضمن جهود الدولة الإسرائيلية لمنع عودة اللاجئين ، قامت إسرائيل بإحصاء للسكان الفلسطينيين ، وكأن حبيبي يلمح إلى أن من تم إحصاؤه تم إخصاؤه . " وليس لسعيد عمة اسمها محصية ولا مخصية . سعيد هنا يزور أم سعد التي كانت تعمل في الكنيسة فلم تعرفه وظنت أنه من المخابرات الإسرائيلية يظنها متسللة ، فأرادت أن تثبت له أنها ليست كذلك وأنها محصية ولديها شهادة بذلك ، وكان هو يخاطبها بلفظ " يا خالة " .
مرة كتبت عما فعله الكاتب سلمان ناطور حين ترجم مقالة عن العبرية ورد فيها فقرة من " المتشائل " ولم يعد المترجم إلى الرواية لينقل منها النص بلغته الأصلية . لقد ترجم المترجم . لقد قرأت ترجمة لا تمت للمتشائل لغة وأسلوبا بصلة . إنها ترجمة الترجمة وفيها يغدو النص عالما آخر مختلفا وقد شغلني هذا غير مرة .
لكي نفهم " المتشائل " لا بد من أن نقرأ ما ورد في الشعر العربي :
" ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي "
وما قاله المعري :
" ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا
تجاهلت حتى قيل إني جاهل
فواعجبا كم يدعي الفضل ناقص
وواعجبا كم يظهر النقص فاضل " .
كان أبو الفضل الاسكندري في المقامات يتعامى وما هو بأعمى ويتظاهر بالحمق وما هو بأحمق، ولا أتردد لحظة في القول إن سعيد المتشائل خرج من معطف التراث .
الثلاثاء
١٧ أيار ٢٠٢٢ .
=====================
1- أميل حبيبي: التأثُّر والتأثير
2- إميل حبيبي و(ثيودور هرتسل)
3- كما في حياته هو في مماته يشعل النار فينا وينام ملء جفونه
4- «شارع فرعي في رام الله» و«اخطية»
5- تعريب الجزائر وعبرنة فلسطين "المـوت فـي وهـران" و"إخطية"
6- أميل حبيبي وحضوره في الرواية العربية أولاد الغيتو: اسمي آدم نموذجاً
7- أثر ترجمة عادل زعيتر لرواية (فولتير) - (كنديد) في الأدب الفلسطيني
8- هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
9 - قراءة في قصة إميل حبيبي (حين سعد مسعود بابن عمه )
10- إميل حبيبي... الجلوس على الخازوق
11- إميل حبيبي... ثالثة ورابعة : إشكالية الفهم ... إشكالية الترجمة