علي حسين - غواية القراءة.. قائمة أوسكار وايلد لأسوأ مئة كتاب

2

من لا يقرأ يعِش حياة واحدة حتى لو اجتاز السبعين عاماً. أما من يقرأ، فيعيش خمسة آلاف عام. القراءة أبدية أزلية

 أمبرتو إيكو

من بين الكتب التي كنت أقتنيها في سنواتي الأولى، كان هنالك عدد من كتب سلسلة تسمى " أولادنا "، وقد احتوت تلك السلسلة على ملخصات لروايات عالمية مثل رواية جول فيرن من الأرض إلى القمر، وأوليفر تويست لديكنز،، وحصان طروادة، وحي بني يقظان، ورواية ثيربانتس دون كيشوت، وكنت أحرص على اقتناء أعداد السلسلة التي تصل الى المكتبة كل شهر، وكما هي العادة أندمج مع أحداث الرواية وأعيش مع أبطالها أدق التفاصيل. في الغلاف الأخير لكتاب دون كيشوت، وقعت عيناي على عبارة وضعها المترجم عادل غضبان )الفارس الباحث عن العدالة). المرة الأولى التي أسمع بمثل هذه الكلمة )العدالة) ورحت أسأل نفسي : هل العدالة شيء موجود وملوس، يمكن للواحد منا أن يبحث عنه ويحصل عليه؟.
في قراءاتي المتقدمة أكتشفت إن هذا السؤال نفسه حاول فيلسوف عاش عام 427 قبل الميلاد، أسمه إفلاطون أن يناقشه، فقد كان موت أستاذه سقراط بالنسبة له التعبير الأكثر حدة عن التناقض بين القانون والعدالة، فكان أول عمل قام به، أن نشر مرافعة أستاذه عن العدل التي يرد فيها سقراط على أحد تلامذته " تريماخوس " حين كان يقول العدالة ليست سوى براءة سخيفة، وإن القانون مسألة تتعلق بحسن التصرف، إلا أن العدالة بالنسبة الى سقراط ينبغي أن تكون شيئاً من الأشياء التي يجب أن يحبها الإنسان لذاتها، وإن هذه العدالة هي واحدة لاتتجزأ، ونجد افلاطون يقول في كتابه الجمهورية على لسان سقراط :" ألسنا نقول أن ثمة عدالة ملائمة لإنسان بعينه، وأن هناك عدالة آخرى تصلح لمدينة بأسرها، لكنها العدالة أيها السادة تقوم على أداء الإنسان لوظائفه وفقا لتصوره، وهي عدالة مرتبطة بشكل مباشر مع العدالة العامّة ".
ظلت شخصية دون كيشوت تمثل الإنسان الذي تتنازعه الرغبة في تحقيق العدالة والسلام، تلك القيم البسيطة التي كان يرى فيها الاسباني " ميغيل دي ثيربانتس " الحق الطبيعي للإنسان في هذه الحياة، لكنه حق يحتاج الى من يسعى إليه فهو مثل :" النجم البعيد البعيد الذي لا يني الإنسان- الإنسان الحقيقي طبعاً- يحاول الوصول إليه معتبراً إياه حقه الطبيعي ".
يكتب ارنستو ساباتو في كتابه " الكاتب وأشباحه " إن :"القراءة رحلة معرفية ووجدانية في نفس الوقت، ومن واجب الكاتب أن يُعد المسافرين في هذه الرحلة بما يحتاجونه من أدوات، ويعلمهم كيفية قراءة الخرائط وما ينبغي عليهم فعله عندما يضلون الطريق ". كان هدفي من قراءة دون كيشوت هو الإستمتاع، فبالنسبة لي في تلك الايام لم تكن القراءة تعني لي المعرفة، وانما الدهشة من عجائب هذا الفارس النحيل، والمفاجآت التي كان يضعها المؤلف في طريقه، لم أكن أعرف انني أُمسك بكتابٍ عظيم قال عنه ميلان كونديرا إننا بازاء عمل أدبي وضع أسس الأزمنة الحديثة.
وإن فيلسوفا بأهمية كارل ماركس كان مفتونا برواية ثيربانتس هذه وقال لإنجلز ذات يوم :" ربما استطيع أن أحاكي الاسلوب المتميز الذي ابتدعه ثربانتس. نحتاج الى كتب مثل دون كيشوت مليئة بالتناقضات، والفرضيات، والتفسيرات المبهمة، والسخرية غريبة الأطوار، والغرابة النادرة ".
تشير قائمة الكتب التي يَعود ماركس الى قراءتها بين الحين والآخر، الى مؤلفات بلزاك وفرنسيس بيكون، والخطاب لأرسطو وموسوعة تاريخ أوروبا التي وضعها تاسيتُس ودون كيشوت لثيربانتس وكتاب لورانس ستيرن حياة وآراء تريسترام شاندي.
في الخامسة والعشرين من عمري أستطعت أن أرى بوضوح أهمية رواية دون كيشوت، كانت الترجمة التي قرأتها فيما بعد لعبد الرحمن بدوي، وبالطبع مثل معظم القراء، كنت أسرع من صفحة إلى صفحة، وقد استحوذ عليَّ التشويق. لم أكن أشعر بانني أقرأ بدافع المعرفة، كما نقرأ أحياناً العديد من الكتب، بل كنت أقرأ باستمتاع كبير، وكنت أسأل وأنا أتابع أبطال الرواية في مغامراتهم وأحلامهم وحياتهم اليومية : ما معنى العالم؟ الى أي مدى يمكن لنا كافراد أن تمتد أحلامنا. وبينما أتابع الأحداث التي يرويها سيرفانتيس )المغامرات الوهمية، حكايات الحب، البحث عن العدالة، الحلم بحياة آخرى) كنت أشعر أن الاحداث تدور بالقرب مني، وعرفت وأنا التهم صفحات الكتاب معنى الفرح الإنساني، وإرادة الحياة، وقوة الأمل، وحقيقة الحب والعدالة. وكنت أثناء قراءتي الثانية للرواية أفكر بالصبي الذي إلتقط الرواية المصورة ذات يوم بعيد، لكي يضيف كتاباً جديداً الى قائمة قراءاته، وحاولت وأنا أتابع مصائر الأبطال إستعادة ذلك الصبي المتفائل، والذي مايزال يظن أن الكتب تستطيع أن تريه كل شيء.
في كتابها " الهامسون بالكتب " تكشف لنا دونالين ميلر، انه ما من نشاط إنساني آخر أكثر ايجابية على الإنسان ومعرفته بالحياة مثل القراءة، وما من حالة انسانية يعيشها الإنسان أجمل من حالة التعاطف مع مؤلف الكتاب، بعد أن انتهيت من القراءة الثانية لدون كيشوت شعرت بالتعاطف مع ثيربانتس، فقد أثرت بي تفاصيل حياته التي عاشها. واذا ما عدت اليوم بذاكرتي الى الأيام الاولى التي اكتشفت فيها رواية دون كيشوت، أراني أطوف بنظراتي من ورقة الى ورقة آخرى وأنا أقرأ قصة مغامرة دون كيشوت ورفيقه سانشو، وكأني قد أعيش واقعا كان بإمكاني أن ألمحه بمجرد أن أغمض عيني، ولم يهيء لي أي كاتب، باستثناء دستويفسكي هذه المتعة الهائلة في الأدب.
يتأمل اندي ميلر في كتابه الممتع " سنة القراءة الخطيرة " كيف غيّرت القراءة حياته، وكيف أن اسماء هذه الكتب تحولت الى لافتات وضعت في طريق حياته. لافتات كل واحدة منها ترمز الى الشخصية التي كان عليها أثناء قراءة الكتاب.
***

إن ما ينتصر اليوم هو الكسل على السعي، والبطالة على العمل، والرذيلة على الفضيلة، والغرور على الشجاعة

 دون كيشوت

في مقدمة رواية دون كيشوت يكتب المؤلف ميجيل دي ثيربانتس :" أيها القارئ الخالي البال، صدقني، إذا قلت لك إنني وددت أن يكون هذا الكتاب بلين ثمار الفكر أجمل وأبرع كتاب ".
منذ أكثر من أربعمئة عام قرر رجل يعيش في قرية من قرى إقليم لامنشا في اسبانيا. لم يتزوج، نحيف طويل يبلغ من العمر خمسين عاماً اسمه الفونسو كيخادا، أن يكون فارسا واتخذ لنفسه اسما " دون كيشوت دو لامانش"، وبعد أن قرأ الكثير من كتب الفروسية فكر أن يعيد سيرة هؤلاء الفرسان، ومن أجل ان يستعد للمهمة استخرج من ركن خفي في البيت سلاحاً قديما متآكلاً، وأتخذ من قطعة جلد عتيقة درعاً له، واختلس من حلاق القرية طبقا نحاسياً ليصنع منه خوذة، ولكي تكتمل الصورة لا بد أن تكون له امرأة تعشقه، فإتخذ من الفلاحة دولسينا عشيقة في الخيال، هو عاشق لأن :" الفرسان مرغمون على أن يكونوا كذلك "، ثم تذكر إنه لكي يصبح فارساً جولاً ينبغي أن يتخذ له تابعاً، فاستطاع أن يغوي فلاحاً ساذجاً هو سانشو بانثا لكي يكون تابعاً وحاملاً لشعاره، شأن أتباع الفرسان في قصص الفروسية، ويعده أن يجعله حاكماً على إحدى الجزر. يخرج الفارس وتابعه إلى الدنيا العريضة، وأثناء خروجهما تصادفهما أحداث عادية، إلا أن خيال الفارس يحولها الى مغامرات، فالمعركة مع طواحين الهواء تَوهمها حرب ضروس مع الشياطين، والمرأة المسافرة مع أفراد حمايتها، يزين له خياله إنها مخطوفة والواجب يحتم عليه تخليصها، وقطيع الأغنام يتحول الى جيش عظيم، وبعد حوادث عديدة يتعرض لها دون كيشوت لايريد أن يُدرك الحقيقة، إن زمن الفروسية انتهى، فهو يعتقد أن خصومه من السحرة قد أرادوا حرمانه من نصر مؤكد، فقد مسخوا بسحرهم العمالقة الشياطين الى طواحين هواء، والفرسان المحاربين الى أغنام! ومع تكرار المآسي لايريد الفارس أن يتعظ ولا يستمع الى تحذيرات تابعه، ولا إلى نصائح قسيس القرية، ولا لنداءات الحلاق لتستمر حياته على هذا الشكل، ويسقط يوما صريع المرض، ليعلن الطبيب أن لاشفاء له، وتملأ الكآبة نفوس أصدقائه، ويقرر تابعه سانشو أن لايفارق فراش سيده المريض، وفي لحظة من لحظات الصحو يعترف دون كيشوت إن الغشاوة رفعت عن عينيه، وشفي من الجنون الذي أصابه، فهو الآن ليس الفارس الجوال دون كيشوت وإنما عاد الى حقيقته الأولى الونسو كيخاتا، الرجل الطيب كما عرفه أهل قريته، ونراه يقول لصديقه الحلاق :" أيها السيد الحلاق، كم هو أعمى من لايرى من خلال نسيج الغربال "، بعدها يصاب بحالة غيبوبة ليفارق الحياة، لينتهي المؤلف من كتابه عام 1615 وليموت ثيربانتس أيضاً بعد شهور.
على سرير مرضه كان الروائي مارسيل بروست يضع رواية دون كيشوت بالقرب من رأسه يعيد قراءتها بين الحين والآخر يكتب في دفتر يومياته :" لاتوجد في رواية ثيربانتس أي واقعة ليست خيالية.. توجد رواية بلا إلتباس، لم يكتبها ليتكلم عن حياته، بل من أجل أن يوضح لعيون القراء حياتهم هم ".
تخبرنا سيرة المؤلف " ميغيل دي ثيربانتس " انه ولد عام 1547، لم تتح له ظروف عائلته المادية أن يكمل دراسته فالتحق بالجيش يحارب الأتراك، وأن يده اليسرى عطلت عن العمل، وإنه أسر من قبل المغاربة وبقى في السجن خمس سنوات، بعدها يعود الى اسبانيا يعاني من الفقر والاهمال، كتب قصصاً قصيرة ومسرحيات لم تحظ بالاهتمام، بدأ بنشر الجزء الاول من رواية دون كيشوت عام 1908 بعد أن أمضى ثماني سنوات في كتابتها، ثم ظهر الجزء الثاني عام 1615، وفي السنة التالية لنشر الكتاب توفي ثيربانتس في دير للراهبات في مدريد.
في كتابه " الكرامة الانسانية " يكتب ميجل أونامونو إن رواية دون كيشوت :" بمثابة الأنجيل الأسباني الحقيقي، وإن سيدنا دون كيشوت هوالمسيح الحقيقي ".
إن قراءة دون كيشوت متعة لاتنتهي، وإنها مثلما يؤكد الناقد الانكليزي " هارولد بلوم " ستظل أفضل رواية وأول الروايات جميعاً ".
بعد أن أنهيت القراءة الثانية لدون كيشوت أيقنت أن هناك جوانب في نفس كل قارئ لن يعرفها معرفة كاملة إلا حين يتعرف بشكل حقيقي على دون كيشوت وسانشو.
في عام 1937، وقبل سنة من وفاته، كان هوسرل يلقي محاضرة حول ديكارت حين سأله أحد الحضور : كيف يرى جذور الأزمة التي تمر بها أوروبا الآن؟ صمت الفيلسوف الالماني قليلاً، ثم قال لمحدثه : أنصحك أن تقرأ ثيربانتس، ربما تجد الإجابة في ثنايا حوارات دون كيشوت. كان هوسرل قد تحاور من قبل مع تلميذه هيدجر حول الفلسفة والأدب، وكان التلميذ يعتقد إن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الانسان، وإن هذه الكينونة انما تم الكشف عنها وإضاءتها بواسطة أربعة قرون من الرواية الأوروبية، منذ أن قرر ثيربانتس أن يخوض المغامرة البشرية.
كيف نحكم على رواية ثيربانتس إذن؟ لنستمع الى دون كيشوت يقول لتابعه :" أصغ يا سانشو، هناك ضربان من الجمال أحدهما يخص الروح والآخر الجسد.أما جمال الروح فيفوق الجسد في معرفة الحشمة، والسلوك، والتربية الصالحة، وسماحة العقل، وكل هذه الفضائل يمكن أن تتجمع في إنسان قبيح ".
***
العام 1886 سألت احدى السيدات الكاتب الأنكليزي أوسكار وايلد وكان يعمل رئيسا لتحرير مجلة " عالم المرأة" عن الكتب التي ينصحها كامرأة بقراءتها فكانت إجابته مقال نشره في المجلة بعنوان " مقدمة في الفن " والطريف إن المقال الشهير الذي وضع فيه وايلد نظريته في الفن والأدب ترجمه الى العربية أحد أشهر أطباء علم النفس في العراق الدكتور علي كمال ونشرته مجلة الرسالة المصرية عام 1942، ومن وصاياه التي تضمنها المقال :" ليس هناك كتاب أخلاقي أوغير اخلاقي.الكتب أما أن تكون كتابة جيدة أو رديئة، وهذا كل شيء.
لا أحد منا يسأل نفسه لماذا يقرأ، فالبعض ربما يقرأ من أجل قضاء الوقت، والبعض يسعى نحو المعرفة، والبعض يفتش في الكتب عن نفسه فيما كثيرون يدفعهم الفضول، وإحدى فوائد القراءة كما يخبرنا جميع الكتاب هي أن نعد أنفسنا للتغيير.. بالنسبة لي لا أعرف لماذا بدأت حكايتي مع الكتب بقراءة الروايات، وخصوصا المليئة منها بالرسوم، مؤكد إنني كنت أبحث عن الحكاية وسحرها، وعرفت من خلالها متعة اقتناء الكتب والتعرف على أصحاب المكتبات وكان واحدا منهم "العم كمر" الذي بدأ حياته يفترش الكتب بجوارجامع الاورفه لي ثم افتتح مكتبة صغيرة اسماها السعدون
في " بسطية " العم كمر عثرت على رواية لم أسمع باسم كاتبها من قبل وانما الفضول تملكني وأنا أشاهد غلافاً ملوناً لكتاب بعنوان " شبح كانترفيل " ترجمة لويس عوض، وكان الكتاب مطبوع في 1968 وعلى صفحة غلافه الأخير قرأت : " هذه الرواية لكاتب انكليزي " أوسكار وايلد " صاحب الرواية الشهيرة صورة دوريان جراي والتي أثارت زوبعة كبيرة أدت الى القاء القبض على مؤلفها وايداعه السجن ".من هو أوسكار وايلد؟ ومن هو لويس عوض وما حكاية دوريان جراي التي ذهبت بصاحبها الى الحبس، سألت صاحب البسطية عن الرواية فقال لي انها غير متوفرة عنده الآن وسيجلبها لي الأسبوع المقبل، أخذت شبح كانترفيل ووضعتها مع كتبي المدرسية على أمل أن ألتقي بصورة دوريان جراي الأسبوع المقبل.
لم تستهويني شبح كانترفيل كانت قصة عن الأشباح ونساء غريبات الأطوار وقصر مسكون بالسحر ومؤامرات لم استطع أن أفهم منها شيئا آنذاك، كنت في شوق لاعرف لماذا سجن أوسكار وايلد وهل للاشباح والسحرة الذين قابلتهم في روايته " شبح كانترفيل " دور في ذلك، لم أفهم أن الكاتب يعد واحداً من ابرز كتاب المسرح الانكليزي، وإنه قدم نظرية خاصة عن الفن، وإن لويس عوض كرس أكثر من عشر سنوات لترجمة عدداً من أعماله الى العربية.لم تكن الأشياء واضحة في ذهني.ولكن ظل سؤال لماذا سجن يطاردني.
***
في ظهيرة يوم ممطر من شهر تشرين الثاني عام 1895، وقف أوسكار وايلد بانتظار القطار الذي ينقله الى السجن، كان قد حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة عامين بتهمة الأفعال الفاضحة، شاهد المارة الكاتب الشهير مكبل اليدين، في السجن تمت مراعاة مكانته فكلف بمهمة مساعد أمين المكتبة، مما أتاح له فرصة نادرة للحديث مع السجناء عن موضوع محبب الى نفسه، وهو القراءة. في الوقت نفسه أخذ يقدم نصائح ممتازة عن الكتب لمن يريد أن يقرأ من السجناء.
التقارير التي كانت تقدم عن وايلد في السجن تقول انه كان منهمكاً في إعادة قراءة الكلاسيكيات المحببة الى نفسه، فقد طلب أن يحصل على سبع كتب أبرزها الكوميديا الالهية لدانتي، ويكتب في رسالة الى شقيق زوجته إن : "الحرمان من الكتب فظيع مثله مثل الحرمان الجسدي في حياة السجن الحديثة، هذا الحرمان الجسدي لا يُقارَن بالحرمان التام من الأدب بالنسبة لشخص كان الأدب له أهم شيء في الحياة، الشيء الذي يمكن من خلاله إدراك الكمال، ومن خلاله وحده يمكن للعقل أن يشعر بأنه حي".
وفي عريضة قدمها الى وزير الداخلية شرح وايلد معاناته من نقص الكتب التي هي اساسية لكي يحافظ الانسان على توازنه العقلي. وقد سمحت له ادارة السجن بقراءة كتابين في الأسبوع، ولكن مكتبة السجن صغيرة جدا، فتم السماح له بادخال كتب جديدة، فطلب روايات غوستاف فلوبير وكتب ارنست رينان، وبعض مؤلفات شكسبير ورواية ثيربانتس " دون كيشوت "، وكتب سبينسر واشعار كيتس ومؤلفات افلاطون ونسخة من الانجيل، ومجلد يضم أعمال من المسرح الاغريقي، ونسخة من ألياذة هوميروس، ويكتب في احدى رسائله إن :" "الكوميديا الإلهية" لدانتي فوق كل الكتب ساعدته على فهم العالم البشع للسجن، لقد قرأت دانتي من قبل كل صفحة فيه، لا المطهر ولا الفردوس كانا يعنياني... ولكن الجحيم! ما الذي يمكنني فعله سوى أن أعجب به؟ الجحيم، ألم نكن ساكنين فيه؟ الجحيم: كان هو السجن".
بعدما قضى العام الأول من مدته، وضع وايلد مقترحات بشأن أفضل الكتب التي على السجناء الاطلاع عليها، وقد قسم قائمته الى ثلاثة اصناف من الكتب.
يضم القسم الاول الكتب الواجب قراءتها ويضع وايلد الكوميديا الالهية والياذة هوميروس ودون كيشوت في المقدمة بعدها رسائل شيشرون وكتاب رحلات مارك بولو ومذكرات سان سيمون ورواية مدام بوفاري وصومعة بارما لستندال.
أما القسم الثاني فيضم الكتب التي تستحق أن تُقرأ مثل مؤلفات افلاطون ودواوين كيتس وكتاب دليل المرأة الذكية لبرنادشو.
الى جانب هذين القسمين يضيف وايلد قسماً ثالثاً وهو يخص الكتب التي يجب ان لاتُقرأ، وهو يقول :" مثل هذه القائمة بالكتب السيئة ضرورة مهمة، خصوصا اننا نعيش عصر يقرأ كثيرا الى حد إنه لم يعد له الوقت ليتعجب ويفكر، ويطالب كل قارئ كتب أن يضع قائمة بأسوأ مئة كتاب ليجنب الشباب فوضى القراءة غير النافعة ".
ساهم أوسكار وايلد الذي عاش حياة قلقة في تجديد شكل الأدب والفن، وكان من أبرز نقاد الفنون، أهتم بالتجربة الفنية وركز على أهمية الفن في مواجهة الإنحطاط الذي يحيط بالعالم المتصل وعلى الزمن المنفصل لحظات والمتصل سنيناً وقروناً.
في روايته صورة دوريان جراي التي نشرها عام 1891. والتي اعتبرت درسا في الفن أكثر من كونها عملاً أدبياً، يروي لنا اوسكار وايلد حكاية الشاب الثري والجميل دوريان جراي، الذي قرر أن يكرس حياته للذة والجمال. وذات يوم، يهديه صديقه الرسام بازيل، لوحة رسمها له، وقد عبّرت بشكل كبير عن جمال شكله وفتنة شبابه. وأمام هذه اللوحة، يحسّ دوريان بغصة وبألم، إذ واتته أفكار عن الزمن الذي يمضي بالإنسان سريعا ويعجل بالشيخوخة، ويتمنى أن يحفظ له الزمن شبابه الدائم وشكله الجميل دون أن تؤثر فيهما عوامل الشيخوخة، وأن تتحول علامات الزمن على اللوحة ليرى كيف سيغير الزمن ملامحه. وتتحقّق له أمنيته، بمعجزة ما، إذ أن اللوحة التي يخبئها دوريان جراي في مكان سري، تحمل عنه كل الرذائل التي يمارسها وتعب السنين وتنعكس على ملامحها أثار الزمن، أما هو فيبقى محافظا على شبابه وجمال شكله. وهكذا يتمكن دوريان جراي أن يعيش حياته كما يريد ينصرف الى ممارسة جميع أنواع الملذات مع صديقه هنري ووتون، الذي يصاب بالدهشة لأن دوريان جراي لايشيخ بينما الزمن والسهر يؤثران على حيوية وصحة ووتون. ودوريان لفرط انصرافه الى حياته يتجاهل النظر الى اللوحة لكنه يتذكرها بعد ان تنتحر خطيبته سيبيل فيجد أن صورته تظهر عليها أول ملامح القسوة، بعد ذلك تبدأ ملامح اللوحة تتغير بتغير سلوكيات دوريان جراي الذي يقرر أن يقتل الرسام بازيل، وتبدأ اللوحة تذكره بالخدعة التي يعيش فيها، وبأنه يعيش حياتين، وتضع له اللوحة أمام ناظريه وجهه الحقيقي، البشع والعجوز والذي لا يعرف عنه الآخرون شيئاً. وإذ تتصاعد مشاعر القلق والرعب والجنون داخل دوريان كلما نظر الى اللوحة أكثر وأكثر، يشعر بأن هذه اللوحة هي حقيقته وليس وجهه الشاب الذي لايشيخ، وينتهي به الأمر الى طعن اللوحة بالسكين راغباً في التخلّص منها، فإذا به يسقط ميتاً وكأنه وجّه الطعنة الى نفسه لينهي حالة الإنفصام التي عاشها.


* منقول عن جريدة المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...