في كتابه " مدخل إلى الأدب العجائبي " يقتبس ( تزفتين تودوروف ) القول الآتي ل ( بيتر بنزولدت):
"بالنسبة لكثير من الكتاب لم يكن فوق - الطببعي سوى ذريعة لوصف أشياء ما كان لهم أبدا أن يجرؤوا على رسمها بكلمات واقعية " .
هذه المقولة أعادتني إلى الفترة التي عملت فيها محررا في جريدة " الشعب " المقدسية في نهاية سبعينيات القرن العشرين وبداية ثمانينياته .
في تلك الفترة توقف بعض الكتاب عن الكتابة ، لأن ما يكتبونه لا يجد طريقه إلى النشر ، فالرقيب العسكري الإسرائيلي الذي تعرض عليه كتاباتهم لإجازتها غالبا ما كان يعترض على نصوصهم التي يشتم فيها رائحة الدعوة إلى مقاومة الاحتلال ، وكان أكثر الكتاب يؤمنون بأن كتابتهم لا قيمة لها إذا بقيت حبيسة مكاتبهم ولا يقرؤها جمهور القراء ، فالكتاب في ذلك الوقت كانوا يؤمنون بفاعلية الكتابة ودورها وأهميتها في النضال ضد الاحتلال .
شخصيا وجدتني أقدم للكتاب اقتراحا عمليا ، لتجاوز الرقيب والاحتيال عليه ، يتمثل في اللجوء إلى الخيال ، متمثلا في التاريخ ، والكتابة عن فترات تاربخية مشابهة للفترة التاريخية التي نمر بها ، أو تمثل حالات مشابهة للحالة التي نعيشها ، فنكتب عن الفترات التاربخية البعيدة أو الحالات المشابهة ، ونعبر من خلالها عن وضعنا ، فلا نيأس ولا نستسلم ولا ننزوي في الظلال .
من المؤكد أن الفقرة المقتبسة من ( بيتر بنزولدت ) ليست السبب الوحيد لكتابة الأدب العجائبي ، فهناك أسباب أخرى لم تخف على ( تزيفتن تودوروف ) الذي رأى أن للأدب قيمتين ؛ أدبية واجتماعية . لقد ميز ( تودوروف ) بين وظيفة أدبية ووظيفة اجتماعية لفوق - الطبيعي " ، والوظيفة الأدبية غالبا ما تتمثل في الميل إلى التجديد وتحقيق المتعة والدهشة لدى قاريء الأدب . وهو ما تنجزه عموما نصوص أدبية عالمية قديمة وحديثة مثل " ألف ليلة وليلة " ورواية أمريكا الجنوبية التي أدرج كثير من نصوصها تحت مسمى " الواقعية السحرية " ، ولا أغفل هنا عن التذكير بأدب الخيال العلمي ، باعتباره أيضا جنسا أدبيا ... إلخ .
فوق ما سبق فإن المرء حين يفكر في أمر العلاقة بين الخيالي والواقعي - وقد شغل هذا الأدباء وغير الأدباء - يلحظ أن كثيرا مما كان واقعيا صار في باب الخيال ، وأن كثيرا مما عد خيالا صار واقعا ملموسا ، ولا ننسى أن المعتقدات الدينية والكتب السماوية تحفل بالأحداث الواقعية والخيالية جنبا إلى جنب .
لا أريد أن آتي بأمثلة تبرهن على ما سبق فهي كثيرة ، ويكفي الإشارة إلى قصة علي بابا والأربعين حرامي وعبارة " افتح يا سمسم " وقصة الملكين اللذين يعيشان مع الإنسان يحصيان عليه أفعاله . نحن الآن في طريقنا إلى تحقيق ذلك من خلال ااشريحة التي ستزرع في أجسادنا ، ولقد كتبت ، وأنا أكتب يوميات الكورونا ، إن ( بيل غيتس ) حل محل الذات الإلهية بفكرته الشيطانية وبتحقيقها إن نجح في ذلك ، سيحيي ويميت ويشفي ويقتل ويشل ويذل و ... و ... .
في " جدارية " محمود درويش نقرأ السطر الآتي :
" الواقعي هو الخيالي الأكيد "
وهو بناء على ما سبق سطر يمكن عكسه ، فالخيالي صار واقعيا .
لا أريد أن استطرد في التنظير ، فأنا أرغب في التحدث عن العجائبي في قصتنا القصيرة الفلسطينية من خلال نموذج محدد هو قصص القاص أكرم هنية .
ولد هنية في مدينة رام الله في العام ١٩٥٣ ودرس الأدب الانجليزي في جامعة مصرية ما بين ١٩٧١ و ١٩٧٥ وعاد إلى الأردن ، فعمل في صحافتها عامين تقريبا ثم استقر في رام الله ، فعمل في جامعة بير زيت ثم في صحيفة " الشعب " وأبعدته سلطات الاحتلال الإسرائيلي في العام ١٩٨٦ . خلال الأعوام ١٩٧٨ و ١٩٨٦ أصدر أربع مجموعات قصصية صدرت معا في ١٩٨٦ تحت عنوان واحد هو " طقوس ليوم آخر " ، وقد لجأ في بعض هذه القصص إلى كتابة الواقعي من خلال اللاواقعي " فوق - الطبيعي " / العجائبي .
هل يعود السبب فقط إلى التحايل على الرقيب العسكري أم أن ثمة أسبابا أخرى دفعته إلى ذلك ؛ أسباب أدبية ؟
لم ينشر هنية أيا من قصصه في الصحف ، وبالتالي لم يتعرض إلى مضايقات الرقيب الإسرائيلي ، عدا أنه كتب ، بأسلوب واقعي ومباشر ، قصصا كثيرة تقارب الواقع .
ما السبب إذن الذي حدا به إلى اللجوء إلى الغرائبي والعجائبي وفوق الطبيعي ؟ أهو رغبته في التجديد أم تأثره بالآداب العربية ؛ قديمها وحديثها ، وبالأدب العالمي الذي أشار في قصصه إلى بعض عناوينه وأسمائه ؟
هل رغب أيضا أن تعيش قصصه في ذهن قارئه لفترة طويلة ، فالغريب والعجيب ، لا العادي ولا المألوف ، هو ما يثبت في الذاكرة ؟
سوف أتوقف هنا أمام أربع قصص قصيرة من قصصه قارب فيها اليومي والمألوف بأسلوب يعتمد على العجائبي والغرائبي وفوق - الطبيعي ، والقصص هي :
- بعد الحصار ... قبل الشمس بقليل .
- تلك القرية ... ذلك الصباح .
- مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداء هاما .
- عندما أضيء ليل القدس .
القصة الأولى : " بعد الحصار ... قبل الشمس بقليل " .
نشرت هذه القصة في المجموعة القصصية الأولى للقاص التي صدرت بعنوان " السفينة الأخيرة ... الميناء الأخير " في العام ١٩٧٩ .
في العام ١٩٧٩ كان مر على احتلال القدس اثنا عشر عاما تعرضت المدينة منذ اليوم الأول للاحتلال إلى التهويد ، فقد هدمت بيوت مثل بيوت حي المغاربة ، وعبدت مساحات مثل بوابة مندلباوم التي كتب عنها في قصص سميرة عزام واميل حبيبي ، وبديء بإنشاء أحياء يهودية في القدس المحتلة حديثا ، وتعرض المسجد الأقصى في العام ١٩٦٨ إلى إشعال النار فيه من مستوطن .
أكرم هنية الذي أخذ يعمل في الصحافة العربية في القدس شاهد الكثير من هذا بحكم ذهابه اليومي إلى المدينة ، ولعله توقع أن يأتي يوم ، أمام الممارسات المذكورة ، يصحو فيه أهل البلدة القديمة فلا يجدون الصخرة والأقصى .
توقعاته هذه ، وقد صاغها وعبر عنها عبر حدث متخيل ، تتحقق رويدا رويدا منذ عقود ، فالإسرائيليون يحفرون تحت الصخرة والأقصى بحثا عن هيكل مزعوم يقولون إنه يعود إليهم ، وهم عدا ذلك يريدون اقتسام المكان مع المسلمين المقادسة ، وإن استمرت محاولات الحفر فقد يأتي يوم ينهار فيه المكانان ويصحو أهل القدس فلا يجدانهما .
لم يعبر هنية عما جال بخاطره وتوقعه بأسلوب واقعي مباشر . لقد لجأ إلى الأسلوب الغرائبي ، وأعتقد أنه كان ذا تأثير أكثر على المتلقي . هل أزعم أن لجوءه إلى الخيالي للتعبير عن الواقعي هو ما جعل القصة تركن في ذهني طويلا أم أن أمر ديمومتها يعود إلى كثرة كتابتي عنها ؟
إن صحوة أهل مكان على مكانهم ، وقد اختفى ، فكرة تطرق إليها في الأدبيات المقدسة وغير المقدسة ، والقدس نفسها مدينة من المدن التي دمرت في التاريخ ثماني عشرة مرة ، ومثلها عاد و " إرم " ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وسد مأرب ، ومدن عالمية صحا أهلها وقد دمرها زلزال ما أو ( تسونامي ) ما .ولكن مثل هذا لم يحدث في القدس في سبعينيات القرن العشرين ، فالصخرة والأقصى لم يختفيا أصلا وما زالا قائمين .
ثالثة الثانية : قصة " تلك القرية ... ذلك الصباح "
أيضا ظهرت هذه القصة في مجموعة " السفينة الأخيرة .. الميناء الأخير " .
لم يقتصر الاستيطان اليهودي على مدينة القدس وحدها ، فقد أقيمت مستوطنات عديدة على أراضي فلسطينية أخرى في غزة والضفة الغربية ، وصادرت إسرائيل لإقامتها آلاف الدونمات . أقيمت هذه المستوطنات بالقرب من المدن الفلسطينية وعلى أراضي قريبة من عشرات ، إن لم يكن مئات ، القرى . وجرفت إسرائيل الأراضي وسوت أماكن عديدة بالأرض وسفلتت الطرق بعد شقها ، ما دفع الفلسطينيين إلى المقاومة بأشكال مختلفة . وقد عبر الشاعر راشد حسين عن إصرار الفلسطيني على المقاومة لدرجة شملت تمرد الشيخ والعكاز والححر :
" ولو قضيتم على الثوار كلهم
تمرد الشيخ والعكاز والححر " .
وذهب أكرم هنية إلى ما هو أكثر من ذلك ، فجعل الأموات تنهض من قبورها لتتمرد وترفض الاستيطان .
هل سينهض الأموات من قبورهم ليقاوموا الاستيطان ؟
مر على موت أبو محمود القاسمي عشرون عاما ، ولم يعكر عليه موته إلا أصوات جرافات الاحتلال تحفر في أرض المقبرة التي دفن فيها .
ينهض أبو محمود من قبره على أصوات الجرافات ويرى بشرا غريبي الملابس وجرافة تجرف القبور ، فيسأل عما يجري ، ويعرف أن اليهود يريدون إقامة مستوطنة ، ومن خلال الحوار ينصب له رجال المخابرات فخا ، فيسألونه عن ماضيه ومقاومته الانتداب وبندقيته ، ويعرفون أن ابنه كمال سار على خطاه فقاوم المحتلين ، وهنا يقرر الجنود إبعاده إلى الأردن ، فيرفض ويلقي بجسده في النهر .
يظهر لجوء القاص إلى الخيال واللامعقول / العجيب / الغريب / فوق الطبيعي في بناء قصته على شخصية متوفاة منذ عشرين عاما تصحو من موتها وتحاور الجنود وترفض الامتثال لأوامرهم . إن قصة قيام موتى وبعثهم قصة لها شبيهها في التراث ووردت في بعض الكتب المقدسة وكانت مثارا للإعجاز وبرهانا للإقناع بقدرة الخالق ، وهي قصة عرفتها الآداب العالمية . نام أهل الكهف ثلاثمائة عام ثم نهضوا من موتهم ، وبعث العازر من موته وبعض المؤمنين ينتظرون عودة المسيح والمهدي المنتظر و ... و ... .
وكما كتبت عن القصة الأولى ، فإن الحدث المتخيل هنا يعمر في الذاكرة لفترة أطول ، ويعزز فكرة المقاومة واتساعها لتشمل من ذكرهم راشد حسين في بيته .
القصة الثالثة :" مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداء هاما "
هذه القصة ظهرت في مجموعة " هزيمة الشاطر حسن " الصادرة في العام ١٩٨٠ .
بعد حرب ١٩٧٣ شهدت الضفة الغربية وقطاع غزة موجة هجرة شباب كبيرة إلى دول الخليج وأمريكا بحثا عن فرص عمل . لقد هاجر شباب كثيرون تاركين زوجاتهم وأولادهم باحثين عن فرص عمل ، وقد يعودون وقد لا يعودون ، وقد ينسون أبناءهم في أثناء غربتهم ويتزوجون بنساء أخريات . لقد ترك هؤلاء أرضهم بورا ليصادرها الإسرائيليون ، ونساءهم بلا حرث وأولادهم بلا آباء .
يبني القاص قصته على حدث عجائبي ، والعجائبي ، كما يقول ( تودوروف ) نقلا عن ( كاستكس ) يتميز " بتدخل عنيف للسر الخفي في إطار الواقعية " وهو كما يكتب ( لويس فاكس ) يحب " ان يقدم لنا بشرا مثلنا ، فيما يقطنون العالم الذي توجد فيه ، إذا بهم فجأة يوضعون في حضرة المستغلق عن التفسير " / سر خفي / مستغلق عن التفسير / اللامقبول .
الحدث اللامعقول العصي على التفسير المستغلق في القصة هو تشبث الأجنة برحم الأمهات ورفض الخروج منها إلى الحياة إلا بعودة الحياة .
تخفق القابلتان أم اسماعيل وأم محمد في توليد أربع نسوة ، ويخفق أطباء المشفى في توليد اثنتين من النسوة الأربعة ، ولم يسبق أن حدث شيء مثل هذا ، فما هو السر وما الأمر المستغلق اللامقبول ؟ إن القابلتين والأطباء لم يعرفوا حالات مثل هذه ، وهنا يبدأ البحث عن السر لفك المستغلق .
يجتمع رجال القرية ويتدارسون الأمر وينظرون في الشأن الأسري للأجنة الأربعة ، ويكتشفون السر . الآباء في الغربة والأجنة لا يريدون القدوم إلى عالم بلا آباء .
القصة الرابعة :" عندما أضيء ليل القدس "
كتبت هذه القصة في منتصف ٨٠ ق ٢٠ وتأتي على مدينة القدس في شهر رمضان ، حيث أخذ المقدسيون يقضون ليالي رمضان خارج بيوتهم محتفلين بالحياة .
في أثناء فرحهم واحتفالهم بالحياة يظهر في المدينة " الرجل الضوء " فيلتفت إليه المواطنون ويرى فيه كل واحد منهم من يفتقده وما يفتقده . إنه الشخص الذي يبحثون عنه والأمل المنشود لكل مقدسي :
" وصرخت امرأة كان يحيط بها أطفالها : إنه ابني الذي استشهد في لبنان .
وهتف رجل مأخوذ بغرابة ما يجري : إنه المهدي المنتظر .
وقالت امرأة عجوز : إنه ابني التائه في المنفى.
وقال شاب بسرعة حاسمة : إنه شقيقي المعتقل في السجن .
وقال آخر : إنه ولي من أولياء الله في هذه الليلة المباركة.
وتقدم طفل للأمام وسط الجموع : إنه أبي الغائب في السجن .
وقالت امرأة وهي ترسم علامة الصليب : يا عذراء . إنه يسوع . يسوع يا مخلصي .
وارتعش جسد فتاة لم تحاول مقاومة دموعها وهي تهمس : إنه حبيبي . أعرفه . إنه فارسي .. انتظرته طويلا . ها قد أتى . ها قد أتى . " .
ولنلاحظ هتاف الرجل . لقد هتف مأخوذا بغرابة . ثم إن عيون المحتشدين كانت " مشدودة لما يحدث " ورجل الضوء الذي نصغي في القصة إلى صوته " لست ملاكا ولست شيطانا . أنا أنتم . وانبعثت عندما كنتم تصنعون مهرجان الألوان في هذا الليل الطويل . لذلك عرفني الجميع . أنا من ذكرتم ولكن ليس بالضبط . أنا مزيج لقائكم ، ولدت عندما رأيتموني أضيء القدس . لكنها لم تكن حياتي الأولى . عشت قبلها حيوات كثيرة في عصور أخرى . " .
و
" ولدت مرات عديدة ، ومت مرات عديدة ، وقتلت مرات عديدة على يد الأعداء والأشقاء . لي قبر يضمني في عمان ، وآخر في الشام ، وآخر في بيروت ، وقبر آخر في الجنوب و ... . " .
والرجل الضوء في النهاية هو الفلسطيني الكنعاني وهو الحلم الفلسطيني المنشود لأبناء الشعب الفلسطيني . إنه العلم الفلسطيني يرفرف عاليا فوق أسوار القدس فلا يروق للإسرائيليين فيطلقون النار عليه .
لقد وظف أكرم هنية في بناء قصته اللامعقول / الخيالي / الغرائبي / العجائبي / فوق الطبيعي ليقول من خلاله الواقعي .
والسؤال هو :
هل كان هنية استثناء في هذا الجانب ؟
في جانب القصة القصيرة كانت كتابته لافتة ، ولكن علينا ألا ننسى توظيف الغرائبي في رواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " ١٩٧٤ ، ومن المؤكد أنه سيحضر لاحقا في أعمال أدبية كثيرة.
ا . د. عادل الاسطة
نابلس / فلسطين .
الثلاثاء
١ حزيران ٢٠٢١
* ( نص الورقة التي شارك بها أ. د. عادل الاسطة في العام ٢٠٢١ في مؤتمر الأدب العجائبي في معهد القاسمي / باقة ، وقد نشرت في كتاب المؤتمر )
*
"بالنسبة لكثير من الكتاب لم يكن فوق - الطببعي سوى ذريعة لوصف أشياء ما كان لهم أبدا أن يجرؤوا على رسمها بكلمات واقعية " .
هذه المقولة أعادتني إلى الفترة التي عملت فيها محررا في جريدة " الشعب " المقدسية في نهاية سبعينيات القرن العشرين وبداية ثمانينياته .
في تلك الفترة توقف بعض الكتاب عن الكتابة ، لأن ما يكتبونه لا يجد طريقه إلى النشر ، فالرقيب العسكري الإسرائيلي الذي تعرض عليه كتاباتهم لإجازتها غالبا ما كان يعترض على نصوصهم التي يشتم فيها رائحة الدعوة إلى مقاومة الاحتلال ، وكان أكثر الكتاب يؤمنون بأن كتابتهم لا قيمة لها إذا بقيت حبيسة مكاتبهم ولا يقرؤها جمهور القراء ، فالكتاب في ذلك الوقت كانوا يؤمنون بفاعلية الكتابة ودورها وأهميتها في النضال ضد الاحتلال .
شخصيا وجدتني أقدم للكتاب اقتراحا عمليا ، لتجاوز الرقيب والاحتيال عليه ، يتمثل في اللجوء إلى الخيال ، متمثلا في التاريخ ، والكتابة عن فترات تاربخية مشابهة للفترة التاريخية التي نمر بها ، أو تمثل حالات مشابهة للحالة التي نعيشها ، فنكتب عن الفترات التاربخية البعيدة أو الحالات المشابهة ، ونعبر من خلالها عن وضعنا ، فلا نيأس ولا نستسلم ولا ننزوي في الظلال .
من المؤكد أن الفقرة المقتبسة من ( بيتر بنزولدت ) ليست السبب الوحيد لكتابة الأدب العجائبي ، فهناك أسباب أخرى لم تخف على ( تزيفتن تودوروف ) الذي رأى أن للأدب قيمتين ؛ أدبية واجتماعية . لقد ميز ( تودوروف ) بين وظيفة أدبية ووظيفة اجتماعية لفوق - الطبيعي " ، والوظيفة الأدبية غالبا ما تتمثل في الميل إلى التجديد وتحقيق المتعة والدهشة لدى قاريء الأدب . وهو ما تنجزه عموما نصوص أدبية عالمية قديمة وحديثة مثل " ألف ليلة وليلة " ورواية أمريكا الجنوبية التي أدرج كثير من نصوصها تحت مسمى " الواقعية السحرية " ، ولا أغفل هنا عن التذكير بأدب الخيال العلمي ، باعتباره أيضا جنسا أدبيا ... إلخ .
فوق ما سبق فإن المرء حين يفكر في أمر العلاقة بين الخيالي والواقعي - وقد شغل هذا الأدباء وغير الأدباء - يلحظ أن كثيرا مما كان واقعيا صار في باب الخيال ، وأن كثيرا مما عد خيالا صار واقعا ملموسا ، ولا ننسى أن المعتقدات الدينية والكتب السماوية تحفل بالأحداث الواقعية والخيالية جنبا إلى جنب .
لا أريد أن آتي بأمثلة تبرهن على ما سبق فهي كثيرة ، ويكفي الإشارة إلى قصة علي بابا والأربعين حرامي وعبارة " افتح يا سمسم " وقصة الملكين اللذين يعيشان مع الإنسان يحصيان عليه أفعاله . نحن الآن في طريقنا إلى تحقيق ذلك من خلال ااشريحة التي ستزرع في أجسادنا ، ولقد كتبت ، وأنا أكتب يوميات الكورونا ، إن ( بيل غيتس ) حل محل الذات الإلهية بفكرته الشيطانية وبتحقيقها إن نجح في ذلك ، سيحيي ويميت ويشفي ويقتل ويشل ويذل و ... و ... .
في " جدارية " محمود درويش نقرأ السطر الآتي :
" الواقعي هو الخيالي الأكيد "
وهو بناء على ما سبق سطر يمكن عكسه ، فالخيالي صار واقعيا .
لا أريد أن استطرد في التنظير ، فأنا أرغب في التحدث عن العجائبي في قصتنا القصيرة الفلسطينية من خلال نموذج محدد هو قصص القاص أكرم هنية .
ولد هنية في مدينة رام الله في العام ١٩٥٣ ودرس الأدب الانجليزي في جامعة مصرية ما بين ١٩٧١ و ١٩٧٥ وعاد إلى الأردن ، فعمل في صحافتها عامين تقريبا ثم استقر في رام الله ، فعمل في جامعة بير زيت ثم في صحيفة " الشعب " وأبعدته سلطات الاحتلال الإسرائيلي في العام ١٩٨٦ . خلال الأعوام ١٩٧٨ و ١٩٨٦ أصدر أربع مجموعات قصصية صدرت معا في ١٩٨٦ تحت عنوان واحد هو " طقوس ليوم آخر " ، وقد لجأ في بعض هذه القصص إلى كتابة الواقعي من خلال اللاواقعي " فوق - الطبيعي " / العجائبي .
هل يعود السبب فقط إلى التحايل على الرقيب العسكري أم أن ثمة أسبابا أخرى دفعته إلى ذلك ؛ أسباب أدبية ؟
لم ينشر هنية أيا من قصصه في الصحف ، وبالتالي لم يتعرض إلى مضايقات الرقيب الإسرائيلي ، عدا أنه كتب ، بأسلوب واقعي ومباشر ، قصصا كثيرة تقارب الواقع .
ما السبب إذن الذي حدا به إلى اللجوء إلى الغرائبي والعجائبي وفوق الطبيعي ؟ أهو رغبته في التجديد أم تأثره بالآداب العربية ؛ قديمها وحديثها ، وبالأدب العالمي الذي أشار في قصصه إلى بعض عناوينه وأسمائه ؟
هل رغب أيضا أن تعيش قصصه في ذهن قارئه لفترة طويلة ، فالغريب والعجيب ، لا العادي ولا المألوف ، هو ما يثبت في الذاكرة ؟
سوف أتوقف هنا أمام أربع قصص قصيرة من قصصه قارب فيها اليومي والمألوف بأسلوب يعتمد على العجائبي والغرائبي وفوق - الطبيعي ، والقصص هي :
- بعد الحصار ... قبل الشمس بقليل .
- تلك القرية ... ذلك الصباح .
- مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداء هاما .
- عندما أضيء ليل القدس .
القصة الأولى : " بعد الحصار ... قبل الشمس بقليل " .
نشرت هذه القصة في المجموعة القصصية الأولى للقاص التي صدرت بعنوان " السفينة الأخيرة ... الميناء الأخير " في العام ١٩٧٩ .
في العام ١٩٧٩ كان مر على احتلال القدس اثنا عشر عاما تعرضت المدينة منذ اليوم الأول للاحتلال إلى التهويد ، فقد هدمت بيوت مثل بيوت حي المغاربة ، وعبدت مساحات مثل بوابة مندلباوم التي كتب عنها في قصص سميرة عزام واميل حبيبي ، وبديء بإنشاء أحياء يهودية في القدس المحتلة حديثا ، وتعرض المسجد الأقصى في العام ١٩٦٨ إلى إشعال النار فيه من مستوطن .
أكرم هنية الذي أخذ يعمل في الصحافة العربية في القدس شاهد الكثير من هذا بحكم ذهابه اليومي إلى المدينة ، ولعله توقع أن يأتي يوم ، أمام الممارسات المذكورة ، يصحو فيه أهل البلدة القديمة فلا يجدون الصخرة والأقصى .
توقعاته هذه ، وقد صاغها وعبر عنها عبر حدث متخيل ، تتحقق رويدا رويدا منذ عقود ، فالإسرائيليون يحفرون تحت الصخرة والأقصى بحثا عن هيكل مزعوم يقولون إنه يعود إليهم ، وهم عدا ذلك يريدون اقتسام المكان مع المسلمين المقادسة ، وإن استمرت محاولات الحفر فقد يأتي يوم ينهار فيه المكانان ويصحو أهل القدس فلا يجدانهما .
لم يعبر هنية عما جال بخاطره وتوقعه بأسلوب واقعي مباشر . لقد لجأ إلى الأسلوب الغرائبي ، وأعتقد أنه كان ذا تأثير أكثر على المتلقي . هل أزعم أن لجوءه إلى الخيالي للتعبير عن الواقعي هو ما جعل القصة تركن في ذهني طويلا أم أن أمر ديمومتها يعود إلى كثرة كتابتي عنها ؟
إن صحوة أهل مكان على مكانهم ، وقد اختفى ، فكرة تطرق إليها في الأدبيات المقدسة وغير المقدسة ، والقدس نفسها مدينة من المدن التي دمرت في التاريخ ثماني عشرة مرة ، ومثلها عاد و " إرم " ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وسد مأرب ، ومدن عالمية صحا أهلها وقد دمرها زلزال ما أو ( تسونامي ) ما .ولكن مثل هذا لم يحدث في القدس في سبعينيات القرن العشرين ، فالصخرة والأقصى لم يختفيا أصلا وما زالا قائمين .
ثالثة الثانية : قصة " تلك القرية ... ذلك الصباح "
أيضا ظهرت هذه القصة في مجموعة " السفينة الأخيرة .. الميناء الأخير " .
لم يقتصر الاستيطان اليهودي على مدينة القدس وحدها ، فقد أقيمت مستوطنات عديدة على أراضي فلسطينية أخرى في غزة والضفة الغربية ، وصادرت إسرائيل لإقامتها آلاف الدونمات . أقيمت هذه المستوطنات بالقرب من المدن الفلسطينية وعلى أراضي قريبة من عشرات ، إن لم يكن مئات ، القرى . وجرفت إسرائيل الأراضي وسوت أماكن عديدة بالأرض وسفلتت الطرق بعد شقها ، ما دفع الفلسطينيين إلى المقاومة بأشكال مختلفة . وقد عبر الشاعر راشد حسين عن إصرار الفلسطيني على المقاومة لدرجة شملت تمرد الشيخ والعكاز والححر :
" ولو قضيتم على الثوار كلهم
تمرد الشيخ والعكاز والححر " .
وذهب أكرم هنية إلى ما هو أكثر من ذلك ، فجعل الأموات تنهض من قبورها لتتمرد وترفض الاستيطان .
هل سينهض الأموات من قبورهم ليقاوموا الاستيطان ؟
مر على موت أبو محمود القاسمي عشرون عاما ، ولم يعكر عليه موته إلا أصوات جرافات الاحتلال تحفر في أرض المقبرة التي دفن فيها .
ينهض أبو محمود من قبره على أصوات الجرافات ويرى بشرا غريبي الملابس وجرافة تجرف القبور ، فيسأل عما يجري ، ويعرف أن اليهود يريدون إقامة مستوطنة ، ومن خلال الحوار ينصب له رجال المخابرات فخا ، فيسألونه عن ماضيه ومقاومته الانتداب وبندقيته ، ويعرفون أن ابنه كمال سار على خطاه فقاوم المحتلين ، وهنا يقرر الجنود إبعاده إلى الأردن ، فيرفض ويلقي بجسده في النهر .
يظهر لجوء القاص إلى الخيال واللامعقول / العجيب / الغريب / فوق الطبيعي في بناء قصته على شخصية متوفاة منذ عشرين عاما تصحو من موتها وتحاور الجنود وترفض الامتثال لأوامرهم . إن قصة قيام موتى وبعثهم قصة لها شبيهها في التراث ووردت في بعض الكتب المقدسة وكانت مثارا للإعجاز وبرهانا للإقناع بقدرة الخالق ، وهي قصة عرفتها الآداب العالمية . نام أهل الكهف ثلاثمائة عام ثم نهضوا من موتهم ، وبعث العازر من موته وبعض المؤمنين ينتظرون عودة المسيح والمهدي المنتظر و ... و ... .
وكما كتبت عن القصة الأولى ، فإن الحدث المتخيل هنا يعمر في الذاكرة لفترة أطول ، ويعزز فكرة المقاومة واتساعها لتشمل من ذكرهم راشد حسين في بيته .
القصة الثالثة :" مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداء هاما "
هذه القصة ظهرت في مجموعة " هزيمة الشاطر حسن " الصادرة في العام ١٩٨٠ .
بعد حرب ١٩٧٣ شهدت الضفة الغربية وقطاع غزة موجة هجرة شباب كبيرة إلى دول الخليج وأمريكا بحثا عن فرص عمل . لقد هاجر شباب كثيرون تاركين زوجاتهم وأولادهم باحثين عن فرص عمل ، وقد يعودون وقد لا يعودون ، وقد ينسون أبناءهم في أثناء غربتهم ويتزوجون بنساء أخريات . لقد ترك هؤلاء أرضهم بورا ليصادرها الإسرائيليون ، ونساءهم بلا حرث وأولادهم بلا آباء .
يبني القاص قصته على حدث عجائبي ، والعجائبي ، كما يقول ( تودوروف ) نقلا عن ( كاستكس ) يتميز " بتدخل عنيف للسر الخفي في إطار الواقعية " وهو كما يكتب ( لويس فاكس ) يحب " ان يقدم لنا بشرا مثلنا ، فيما يقطنون العالم الذي توجد فيه ، إذا بهم فجأة يوضعون في حضرة المستغلق عن التفسير " / سر خفي / مستغلق عن التفسير / اللامقبول .
الحدث اللامعقول العصي على التفسير المستغلق في القصة هو تشبث الأجنة برحم الأمهات ورفض الخروج منها إلى الحياة إلا بعودة الحياة .
تخفق القابلتان أم اسماعيل وأم محمد في توليد أربع نسوة ، ويخفق أطباء المشفى في توليد اثنتين من النسوة الأربعة ، ولم يسبق أن حدث شيء مثل هذا ، فما هو السر وما الأمر المستغلق اللامقبول ؟ إن القابلتين والأطباء لم يعرفوا حالات مثل هذه ، وهنا يبدأ البحث عن السر لفك المستغلق .
يجتمع رجال القرية ويتدارسون الأمر وينظرون في الشأن الأسري للأجنة الأربعة ، ويكتشفون السر . الآباء في الغربة والأجنة لا يريدون القدوم إلى عالم بلا آباء .
القصة الرابعة :" عندما أضيء ليل القدس "
كتبت هذه القصة في منتصف ٨٠ ق ٢٠ وتأتي على مدينة القدس في شهر رمضان ، حيث أخذ المقدسيون يقضون ليالي رمضان خارج بيوتهم محتفلين بالحياة .
في أثناء فرحهم واحتفالهم بالحياة يظهر في المدينة " الرجل الضوء " فيلتفت إليه المواطنون ويرى فيه كل واحد منهم من يفتقده وما يفتقده . إنه الشخص الذي يبحثون عنه والأمل المنشود لكل مقدسي :
" وصرخت امرأة كان يحيط بها أطفالها : إنه ابني الذي استشهد في لبنان .
وهتف رجل مأخوذ بغرابة ما يجري : إنه المهدي المنتظر .
وقالت امرأة عجوز : إنه ابني التائه في المنفى.
وقال شاب بسرعة حاسمة : إنه شقيقي المعتقل في السجن .
وقال آخر : إنه ولي من أولياء الله في هذه الليلة المباركة.
وتقدم طفل للأمام وسط الجموع : إنه أبي الغائب في السجن .
وقالت امرأة وهي ترسم علامة الصليب : يا عذراء . إنه يسوع . يسوع يا مخلصي .
وارتعش جسد فتاة لم تحاول مقاومة دموعها وهي تهمس : إنه حبيبي . أعرفه . إنه فارسي .. انتظرته طويلا . ها قد أتى . ها قد أتى . " .
ولنلاحظ هتاف الرجل . لقد هتف مأخوذا بغرابة . ثم إن عيون المحتشدين كانت " مشدودة لما يحدث " ورجل الضوء الذي نصغي في القصة إلى صوته " لست ملاكا ولست شيطانا . أنا أنتم . وانبعثت عندما كنتم تصنعون مهرجان الألوان في هذا الليل الطويل . لذلك عرفني الجميع . أنا من ذكرتم ولكن ليس بالضبط . أنا مزيج لقائكم ، ولدت عندما رأيتموني أضيء القدس . لكنها لم تكن حياتي الأولى . عشت قبلها حيوات كثيرة في عصور أخرى . " .
و
" ولدت مرات عديدة ، ومت مرات عديدة ، وقتلت مرات عديدة على يد الأعداء والأشقاء . لي قبر يضمني في عمان ، وآخر في الشام ، وآخر في بيروت ، وقبر آخر في الجنوب و ... . " .
والرجل الضوء في النهاية هو الفلسطيني الكنعاني وهو الحلم الفلسطيني المنشود لأبناء الشعب الفلسطيني . إنه العلم الفلسطيني يرفرف عاليا فوق أسوار القدس فلا يروق للإسرائيليين فيطلقون النار عليه .
لقد وظف أكرم هنية في بناء قصته اللامعقول / الخيالي / الغرائبي / العجائبي / فوق الطبيعي ليقول من خلاله الواقعي .
والسؤال هو :
هل كان هنية استثناء في هذا الجانب ؟
في جانب القصة القصيرة كانت كتابته لافتة ، ولكن علينا ألا ننسى توظيف الغرائبي في رواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " ١٩٧٤ ، ومن المؤكد أنه سيحضر لاحقا في أعمال أدبية كثيرة.
ا . د. عادل الاسطة
نابلس / فلسطين .
الثلاثاء
١ حزيران ٢٠٢١
* ( نص الورقة التي شارك بها أ. د. عادل الاسطة في العام ٢٠٢١ في مؤتمر الأدب العجائبي في معهد القاسمي / باقة ، وقد نشرت في كتاب المؤتمر )
*