-1-
ما معنى أن يحنّ المثقف الجزائري الراهن- بعض المثقف طبعا-، بعد ستين سنة من الاستقلال، وبعد معارك ثقافية وتنموية كالحة من أجل بناء صورة واقعية وحقيقية للجزائر المتحررة نهائيا من الهيمنة ومن رموزها، إلى المدينة الحديثة، وإلى الشارع المنظم، وإلى الشاطئ الجميل، وإلى المقهى الحميميّ، وإلى البريد الخدوم، وإلى المدرسة المتنورة، و إلى الجامعة المفتوحة المعرفة؟ ما معنى أن يحرص المثقف على استدعاء الصورة الكولونيالية بوصفها بطاقة بريدية (Carte postale) محيّنة لحالة حنينية موغلة في التأسف على ماض يكاد يحلم المثقفون به -بعضهم طبعا-كحالة مرضية تشبه حالة الإيمان الخرافي بإمكانية 'العودة إلى لمستقبل'؟ وهل يمكن اعتبار ذلك نوعا من الاستدعاء الخائب للتصوّر النقيض بوصفه مشروعا تنمويا فاشلا على أرض الواقع ولم يُنتِج مثقفوه، وقد عاشوا في خِضمّه وشاركوا في صياغته، غير أليوم الصورة القسرية لعشوائيات التفكير الموجه الذي يؤدي بالكثير منهم اليوم إلى السقوط الحنينيّ العاشق في تقليب صفحات الألبوم الكولونيالي؟
لا يتوقف الألبوم الكولونيالي عند بعض البطاقات البريدية التي وُجِدت في خزانة بيت الجدّ الموروثة من عائلة أوربية عادت إلى وطنها بعد مكوث طويل و هي تطالب اليوم باستعادة ما تعتقد أنه ممتلكاتها، أو في ما وجده مهاجر جزائري شغوف في الأسواق الشعبية لضواحي باريس أو ليون أو مرسيليا المصدرة للكولون المستقبليين في جزائر القرن التاسع عشر الخالية من أمّتِها تماما كما لا يزال يراها إلى اليوم مخرجٌ فرنسيٌّ مهووسٌ بالتصوير من علٍ. كما لا يتوقف هذا الألبوم عند ما أصبحت تتيحه الثورة الرقمية الراهنة من ولوج افتراضي إلى الأرشيف الفيلمي، المسموح به فقط، لمشاهدة جزائر بدايات القرن التاسع عشر، حيث تعمل حركة الوافدين الجدد و هم يحثّون الخطى ويعملون على قدم وساق على تثوير آلية المخيال في ذهن المثقف الجزائري الذي تعمد إعطاء ظهره للتاريخ الوطني، لأجل النهل من نوستالجيا العلامات الفارقة بينهم وبين الأنديجان، مثلما لا يتوقف هذا الألبوم عن إتاحته مشاهدة مقاطع (يُشوّك لها اللَّحمُ) من الشوارع البيضاء لجزائر بدايات القرن العشرين المزهوة ظاهرا بمواطنيها البيض وواجهاتها النقية و'ترَامْوايها' الحديث، مما يمكن أن يفخر به زوار أروقة 'المعرض العالمي' نظرا للنجاح المبهر الذي حققه شذّاذ الآفاق و هم يطردون الإنسان الجزائري من أرضه و يحققون فيها، بإمكانات التحديث المتاحة لهم، ما لم يستطع تحقيقه بذراعه طيلة قرون سالفة.
لا يتوقف الألبوم الكولونيالي عند كلّ هذا أو عند غيره من الصور و الأفلام و الوثائق و الكتب فحسب وهي تقفز إلى واقع المثقف الجزائري بفضل وسائل التواصل الحديثة لتثير فيه شجنا و حنينا عارمين و هو يكتشف عالما آخر لجزائر لا يراها في واقعه اليومي، و إنما يتمثل هذا الألبوم كذلك- و هذا أعمق تأثيرا لأنه الأكثر حضورا في الوعي الجمعي لأجيال كاملة من مثقفي الاستقلال- في ما تتركه صورة المثقف الكولونيالي القادم من بعيد أو المولود على عجالة في مدينة جزائرية، بكل ما يحمله من تصورات وقناعات وأفكار، من أثر لا يُمْحى في البنية التكوينية العميقة للمثقف الجزائري الراهن- ليس كل المثقف طبعا- وهو ينسج عوالم تخييلية ضاربة في الحنين إلى ما كتبه كامو عن وهران لأجل استدعاء وهران الماضي، وإلى ما كتبه بيير بورديو عن القبائل لأجل استدعاء قبائل الماضي، وإلى ما رسمه إتيان دينه عن بوسعادة لأجل استدعاء بوسعادة الماضي، وإلى ما توجسه ماركس وهو يتصور في شوارع العاصمة لأجل استدعاء عاصمة الماضي، وإلى ما كتبته إيزابيل إبرهادرت عن الوادي والعين الصفراء لأجل استدعاء صورتهما الماضية، وإلى ما رسمه أوجين دو لا كروا عن نساء الجزائر و هنّ في بيتهن لأجل إعادة تشكيل البيت الكولونيالي في متحف الحنين الطافح بالتوجسات الثقافية الراهنة التي تتصارع فيها ثنائيات الاستعمار والتحرر، والتنمية والتخلف، الحرية والتأصيل، الحضور والديمقراطية، والوطن والغربة.
-2-
تعج العديد من أدبيات الأجيال المثقفة الجديدة – ليس كلّها طبعا- بفائض الحنين المتخفي في اللغة وفي الموضوعة وفي المخيال وفي الرؤى وفي التصورات المضمرة و المعلنة، محيلةً، في ما أنتجته و تنتجه من خطابات فكرية و إبداعية، إلى ما يمكن أن يصبح صورةً مشابهةً، حتى لا نقول طبق الأصل، لحالة التحديث التي وصلت إليها الهيمنة الكولونيالية قبيل انتشار الوعي التحرري و تمت محاولة تقويض بعدها الاستلائي من طرف المدّ الثوري، وكذلك إلى ما لعبته من دور فاعل باعتبارها درعا واقيا للوجود الكولونيالي و جدارا فاصلا ، يكاد يكون عنصريا في العديد من حالاته، بين الذات المثقفة المُستعمَرة الثائرة التي كانت تطمح إلى تحرير الوعي من العلامات الكولونيالية المهيمنة، وبين الذات المثقفة المتحررة الراهنة التي تعجز عن إنتاج علامات و رموز مشابهة أو علامات و رموز مناوئة، أو علامات و رموز مخالفة للعلامات و الرموز الكولونيالية.
إنه الألبوم الكامل لحالة كولونيالية بما يمكن أن يوقظه في ذهن المثقف/المتلقي الراهن من حسٍّ ظاهرٍ تجاه ما تنتجه هذه العلامات و الرموز من جمالياتِ انسجام أو تناقض، وبما يمكن أن تنتجه كذلك من ممكنات تحريك لآلية النقد الواعي وفق مستجدات الهيمنة الثقافية والإيديولوجية الجديدة، أو من ممكنات تحريك لآليةٍ حنينية ضاربة في عمق التصوّر الراهن لمشكلة الحرية والتحديث والمشروع المجتمعي. وهي الحالة التي لا تزال تعبث بالوعي النقدي للعديد من المثقفين الجزائريين- ليس كل المثقفين طبعا-، وتكشف عن حالة تعلّق غير متحررة تماما، رغم الفارق الزمني الذي يفصل الأجيال الجديدة عن الاستعمار، من عوالق الكولونيالية بوصفها نسقا متنقلا عبر الهيمنة التي تمارسها اللغة الأخرى، لغة المستعمِر، على المخيال الجمعي من خلال ما تنتجه من فيض 'نوستالجيا' مضمر يتجلى في العديد من الخطابات الفكرية والإبداعية، وينمّ، في بعض مكنوناته، عن حالة تبعية فكرية تعمل على استبعاد جميع العلامات و الرموز الفاصلة التي بُنِيتْ عليها نضالات الأمة الجزائرية في معاركها المصيرية مع المستعمر الفرنسي(اللغة، الدين، التاريخ، الهوية، الأرض، المصير)، والإصرار على استبدالها بحالة شغور وجودية تستنجد بالعلامات و الرموز الكولونيالية عن طريق استدعاء فائض الحنينيّة التي تضمن هيمنة الحضور الكولونيالي داخل النسق الثقافي الشاغر نظرا لقوّة ما يقترحه من مشروع تحديث بإنتاجية مستديمة قادرة على فرض واقعها داخل هذه الخطابات عبر اللغة بوصفها أداة إبهار للمخيال ومنهجَ تقنين لطرائق التفكير، و وكرَ تخزينٍ و تعشيشٍ و تفقيصٍ للمحمولات الفكرية و الثقافية لهذه العلامات والرموز .
هل كان الكولون الوافد يشعر بالغربة و هو يحاول أن يرسخ هذه العلامات في أرض ليست له؟ و كيف لمثقف جزائري - ليس الكلّ طبعا- أن يشعر بالحنين إلى هذه العلامات التي أراد الكولون أن يقطع بها علاقته الجغرافية مع وطنه الأصلي من خلال سعيه إلى تثبيتٍ قصريّ لتصور ثقافيّ ناجز طالما دعا له بكل ثقة و إيمان مثقفو (لالجيريانيزم) على حساب المحو المنهجي للثقاقة الجزائرية الأصلية؟
إن أقصى ما يمكن أن يفرح له المستعمِر السابق بنشوة لا نظير لها، هو أن يرى المثقف المابعد كولونيالي في البلاد المستعمرة سابقا يحن حنين النوق إلى وضعية ما قبل الدولة الوطنية، من خلال ممارسته عبر الكتابة لعادة الاستحضار الشّبقي للعلامات الكبرى التي أسست للقناعة الأنديحينية، بحكم نموذج التحديث المفروض على ما صار يسمى آنئذٍ بــ'السُكَّان المحليين'، و ذلك بممارسة سطوة الحضور الوجودي للوافدين الجدد، من خلال التعالي بالصورة وباللباس وبالبشرة وباللغة وبالحديث وباللكنة وباللون وبالذوق و بالحاسة وبالأكل وبالشرب وبغيرها، والتي تنسج مجتمعةً هالة الحضور التي تحيل، في ذهن المثقف المابعد كولونيالي، إلى صورة 'التحضّر'التي تستدعي نقيضها في الواقع الأنديجيني المُستعاد في الراهن بسبب الفشل الذريع لمشاريع الدولة الوطنية، وتؤصل في نفسيته لتراتبيّة القيم من منظور سُفلي يتحرى فيه المثقف الراهن نمط الحياة والوجود والموت في حركات وسكنات الوافد الجديد الذي بإمكانه أن يغادر الأرض عنوةً، و لكنه لا يغادر المخيال بالسهولة التي كان يتصورها المثقفون الثوريون من خلال استلائهم البطولي على سلاح المستعمِر من أجل محاربة المستعمِر و تحرير الأرض ثم اعتباره 'غنيمة حرب' بعد الانتهاء من معركة التحرير !
هكذا يتحوّل الوعي الاستكشافي للمثقف الراهن و هو يُقلّب الألبوم الكولونيالي إلى وعي تبريريّ، بما يواجهه من مفارقة سببها استمرار طغيان هالة الآخر الحاضر بعلاماته المهيمنة نظرا لحداثتها، والتي تنتهي به إلى الحلم بالذات بوصفها آخر، أو الحلم بها عن طريق الآخر، ناهيك عن محاولته تحقيقها به أو عن طريقه. ولعلها المفارقة التي ستترسّخ في الأنساق الإيديولوجية والثقافية للمثقف المابعد كولونيالي، والذي يسعى إلى تثبيت بُعْدَ الحنينيّة في مضمرات ما سيُنْتِجُه من خطابات غير قادرة على تحمّل ثقل الفارق الوجودي والزمني بين التحديث بوصفه نمط تفكير غربيٍّ مُتَسارعٍ وغير مستعدّ لانتظار أحد، و التحديث بوصفه حلما تراجيديا متوقفا في الغياب، يشاهده المثقف الراهن أمامه في واقع الآخر وعن طريقه، ولكن لا يستطيع أن يعيشه، مما تؤدي به إلى 'فرمطة' المقاربات التي يحملها عن هذا النمط، وتتويجه صورةً ثابتة في اللاوعي الجمعي لمثقفي المجتمع المستعمَر سابقا.
إنه النمط الذي بإمكانه أن يستيقظ في أيّ لحظة، بعد بياتٍ شتويٍّ طويل لظروف سيعتبرها قسرية، ليستدعي هذه العلامات التي لا تزال حيَّة في اللاوعي، تنتظر أول فرصة للنطّ في مرآة الراهن والتجمهر الرمزي داخل كل أنواع الخطابات الفكرية والإبداعية كأيقونات قابلة لاستدعاء ما يتخفّى خلفها من حنين إلى حالة التحديث التي عايش جزءا منها، أو ورث بعضها عن عائلته، أو اطلع عليها في كتب التاريخ، أو شاهدها على الشاشات، على الرغم ممّا طالها من تخريبٍ في واقع الدولة المستقلة، نظرا لأسباب تاريخية و سياسية وإيديولوجية لعبت دورا حاسما في استغلال عفوية البعد الثوري للمجتمعات التائقة إلى التحرّر، للانتقام من واقعية كولونيالية تحوّلت مع الوقت إلى رصيد حنينيّ من جهة، و للتخلص، من جهة أخرى، من خيبة حلم ثوريّ أصبح كابوسا مزعجا نظرا لتحويله إلى أداة انتقام من الحاضر بوصفه صورةً سلبيةً لتاريخ صنعه بنفسه ليتحرّر من سطوة الشرط الكولونيالي المهمين الذِي زرعه المستعمر السابق في طريقه، وتعمّد برمجةَ إيقاظهِ، كلما دعت الضرورة، باستعمال سلاح العلامات والرموز المدسوسة في الباحة الخلفية للتاريخ الوطني لأجل توظيفها في تقويض كل محاولة تحديث حقيقية باستعمال العلامات والرموز التي مكّنت المثقف الثوري من التحرّر من الإيديولوجية الكولونيالية في معركته الفاصلة مع الاستعمار.
-4-
لقد لعبت اللغة دورا حاسما في توجيه معركة سدّ كلّ الآفاق الحقيقية التي بإمكانها أن تحرر المثقف المابعد كولونيالي من سطوة الحنينية، بسبب قدرتها على توجيه الأطر الفكرية و الإيديولوجية من داخل التصورات الثقافية الوطنية، وذلك بالعمل على ترسيخ محمولين لغويين أو أكثر بدل محمول واحد داخل المخيال الإبداعي الواحد وفي واقع الممارسة الثقافية للفضاء الوجودي الواحد، وذلك للتأكيد على أهمية ترسيخ محتوى الحنينية داخل الخطابات الثقافية والبرامج التعليمية والمقررات التوجيهية بوصفها ميدانا خصبا لتفتّق سطوة الماضي الكولونيالي في هشاشة الحاضر المتحرر. و يتمّ ذلك كلّه في إطار ما تمليه إكراهات التأقلم مع اللحظة العولمية الراهنة بوصفها لحظة خاضعة لتصورات كانت ولا تزال أفقا منتظرا قريب التحقق في معركة الكولونيالية مع كلّ فكر مضاد لتصوراتها، والذي لن يكون في نظرها غير نموذج لفكر ثوري خبرته جيدا في معركة التحرير، ويجب عليها تقويضه من خلال تحيين فعالية أيقونات الماضي المهيمن، بفعل اكتساب آليات التحديث و تقنياته، داخل ما أضحت تقدمه الصورة المضخّمة و المعمّمَة للعولمة، بحكم ما تفرزه الثورة الرقمية من تداعيات، للمدّ التوسعي الغربي الذي تحقق هو الآخر بحكم ما أفرزته الثورة الصناعية من تداعيات و تمت بلورة مفهومه في ما صار يسمى بالكولونيالية.
لقد استثمر المستعْمِر القديم في التركة الكولونيالية بوصفها نسقا توسعيا حيا أو يجب إحياؤه، وفي تحيين أيقوناته الدالة باستعمال فخ التحديث لتحويله إلى إجراء عمليّ سهل التطبيق، نظرا للحاجة الملحة التي يبديها المخيال الأنديجيني الراهن في المستعمرات القديمة إلى الحنين إلى الماضي فيما أضحت تبديه الطبقات المثقفة الجديدة من تعلق بالعلامات و الرموز نظرا لدورها النفسي في إيقاظ حلم التحديث بوصفه 'عودة إلى المستقبل' نظرا لفشلها في صياغة تصورات واقعية للتحديث بوصفه راهنا اجتماعيا و شرطا تاريخيا نظرا لانفصالها التدريجي، بسبب اللغة وعن طريقها خاصة، عن واقع مجتمعاتها البائس، و كذلك نظرا لفشل الأنظمة السياسية المابعد ثورية في تحقيق تصورات التحديث التي حاولت تطبيقها في واقع مجتمعات لم تتهيأ لها فرصة الخروج العقلاني السليم من وضعية التبعية القسرية للعلامات الكولونيالية المسلطة عليها، إلى وضعية استحداث علامات تعادلها أو تتفوّق عليها في القيمة و تختلف معها في الجوهر.[/HEADING]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النوسطالجيا الكولونيالية والصدمة المزدوجة
قلولي بن ساعد
الدكتور عبد القادررابحي :
سعدت حقا بقراءة مقالكم القيم ( الألبوم الكولونيالي والحنينية الجديدة ) في كراس الثقافة لجريدة النصر 29/ 09/2020 ولا أنكر أنك وضعت يدك على مكمن الجرح كما يقال الجرج الكولونيالي بالمعنى الذي نعثر عليه لدى مفكر هو دومينيك لاكابرا عندما يميز بين الجرح البنيوي والجرح التاريخي على مايرى ناقد مغربي هو الدكتور إدريس الخضراوي فأما الجرح البنيوي فيعني به " إحساسا بالألم يتميز بتجليه بأشكال مختلفة في كل المجتمعات بسبب ما يحدث أثناء الولادة من تمزق وإنفصال عن رحم الأم وكذلك الألم بسبب الوجود في العالم " .
التمييز الذي قاد إدريس الخضراوي إلى إستخلاص مفاده " إذكان من غير الممكن الخلاص من الجرح البنيوي فإنه بالإمكان مواجهة الجرح التاريخي ذلك لإن تذكره عبر توسط السرد والحكي لا يلبي فقط حاجة للمعرفة وإنما يمثل كذلك مدخلا للنسيان "
ومع ذلك لم ينسى المثقف الجزائري بعضهم فقط هذا الجرج فأصبح يحن إلى الألبوم الكولونيالي إلى المدينة الكولونيالية والجامعة النموذجية بالمقياس الغربي والعمارة الكولونيالية والشاطئ الكولونيالي والمسرح الكولونيالي حدث ذلك عندما وجد نفسه في مواجهة صدمتين :
الصدمة الأولى هي صدمة حالة ما بعد الكولونيالية وإستعادة السيادة الوطنية حيث أفاق على موت " السرديات الكبرى " بتعبير فرانسوا ليوتار سرديات اليوتوبيا الثورية التي راهنت على ميلاد الإنسان الجديد وعلى عودة غودو الذي لم يأت ولم يجد في أثر ذلك سوى بعض الخطابات الفضفاضة والشعارات البراقة التي لم يتحقق منها شئ على أرض الواقع إلى حد الوقوع تحت طائلة ما سماه إدوارد سعيد " اللاشعور الكولونيالي " بالنظر لكل ما حدث ويحدث من تراجعات لدى أغلب البلدان العربية التي تحررت من الإستعمار القديم لكنها لم تتحرر بعد من آثاره الباقية وعجزت كل مشاريع التنمية البشرية في أبعادها الثقافية والتربوية والإنسانية عن بناء الإنسان الجديد الذي بشرت به وبالمثل واليوتوبيا المفقودة كل أدبيات المقاومة والنضال العربي المحموم ضد كافة آليات السيطرة والهيمنة الغربية على مقدرات الشعوب الضعيفة الشعوب التي لا زالت تعيش عند عتبة الفقر فيترسخ لديها نوع من " اللاشعور الكولونيالي " .
فيما الصدمة الثانية :
فهي صدمة المدينة الصدمة التي خصص لها الناقد الهندي ما بعد الكولونيالي هومي بابا فصلا كاملا من كتابه ( موقع الثقافة ) الكتاب الذي كرسه كواحد من نقاد ما بعد الكولونيالية في مرحلة حساسة من تاريخ الهند بعد تخلصه من السيطرة البريطانية واصفا إياها ( بالمدنية الماكرة ) سواء تعلق الأمر بالمدن الكولونيالية المروثة عن الحقبة الإستعمارية أم بالمدن الحديثة النشأة الخالية من فاعلية "الرأسمال الرمزي" لها وإعطائها البعد الثقافي الأقصى الكفيل بإستدماج الفرد والمجتمع في قلب الحداثة والمعاصرة للفرار من إرادة الخطاب السياسي الرسمي المولع بلغة الأرقام الرسمية ويتلميع و" مكيجة "واجهة مدينية تخفي داخلها الكثير من الفجوات والنقائص المستفحلة وهي كثيرة بلا شك .
وهذا لايعني بالطبع أن ينصرف القول إلى البحث عن " المدينة الفاضلة " كما حلم بها الفارابي أو المدينة الأليوتية كما تصورها الشاعر الأنجليزي أليوت أو " مدينة الشمس كما تتجلى في منظور الفيلسوف الإيطالي توماسو كامبانيلا بوصفها حلما هو أشبه بما سمته الدكتورة خالدة سعيد " يوتوبيا المدينة المثقفة " بقدر ما يعني أن إستفحال هذه النوسطالجيا الكولونيالية نابع في تصورنا من الغياب الفادح لمشروع مجتمع يعني بالبناء الثقافي والحضاري للأمة الذي لا ينفصل عن البناء العمراني بل يتكاملان كمقدمة ضرورية للبناء السياسي المأمول .
وبالطبع المهمة ليست سهلة ولا هينة بالنظرلعمق الفداحات القائمة في صلب المجتمع والثقافة والتربية والسياسة الناشئة عن سحر الخطاب الأحادي و"العنف الرمزي" بتعبير السوسيولوجي بيار بورديو والإستبداد السياسي والأبوي الذي هيمن طويلا على لاوعي الإنسان العربي منذ أن كان فردا في قبيلة الإنسان الحامل لجملة من المفاهيم والقيم المتوارثة للحياة والوجود والذود عن النظام الأبوي الرمزي المتمأسس مع أسئلة الكفاح والسلطة والتملك ولذلك تراكمات تاريخية وسوسيو ثقافية ليس من السهل إختراقها أو القفز عليها في الوقت الراهن مهما حاولنا التحرر منها ومن متعالياتها الضمنية منها أو المعلنة وهو أمر دونه صعوبات جمة ليس هنا مجال الحديث ولا يسمح المقام في التوسع فيها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مفاتيح المستعمر القديم:
عبد القادر رابحي
- مرحبا سي قلولي بن ساعد ،خالص التحية و التقدير..
سعدت كثيرا بقراءة مقالكم النبيه و العميق الذي تطرقت فيه لما حملته من بعض الأفكار في مقالي "الألبوم الكولونيالي و الحنينية الجديدة".
- لا يخفى عنك، أستاذ قلولي، ما تقدمه الممارسات الثقافية في المجتمع الجزائري خاصة من مناجم لا تزال في حالتها الخام لم يسبق التطرق إليها بالدراسة و التحليل إلا نادرا.
- لقد أصبحت هذه الممارسات دليلا صريحا على ما تحمله من إشارات ضمنية و أخرى صريحة تحيل كلها إلى حالة من الضياع الوجودي و التمزق النفسي للكثير من المثقفين- ليسوا كلهم طبعا- بالنظر إلى حالة الصراع التي يعانونها و يقتاتون منها في الوقت نفسه، و هو صراع قد وصفته بصورة دقيقة من خلال عرضك القيم لحالات مشابهة في العالم تعرض لها مثقفون و مفكرون كبار ذكرت أسماءهم لدعم الفكرة الأساسية.
- ربما تختلف حالة الهند عن الحالة الجزائرية كثيرا نظرا لأننا لا يمكن أن نعتبر الهند دولة متخلفة بالمعنى الذي نعيشه. و هنا وجه الإشكال الذي يطرحته هومي بابا في حالة الهند و ينطبق جزء منه على الحالة العرببة و الجزائرية خاصة، مضافا إليها بعد آخر هو ما تعانيه المجتمعات المتخلفة من وضعيات معقدة جدا بالنظر إلى ربط مثقفيها كل إمكانية للخروج من التخلف بالحنينية كشرط للتحديث الذي يملك مفاتيحه المستعمر القديم، أو ما سميته أنت بالنوستالجيا لصاحب التحديث الذي لن يكون ، في نظر العديد من المثقفين الجزائرين غير ما يطرحه المستعمر القديم من تصور فكري و تنموي للخروج من التخلف.
- من هنا يبدأ الجرح الذي تحدثت عنه لدى المثقف المابعد كولونيالي الذي لا يستطيع أن يرى نفسه داخل مرآة الذات نظرا لنفوره منها، و لا يستطيع أن يرى نفسه داخل مرآة الآخر نظرا لعدم قدرته على الانعكاس في فضائها بسبب رفضها له من جهة، و لعدم تحرره من عوالق ما يعتقد أنها عوائق تحول دون فوزه بمكانه داخل المرآة كما رسمها لاكان في كتاباته. إنها مشكلة الآخر المستعمر التي لم نشف منه بتعبير الصديق سليم بوفنداسة و نحن نتحدث عن الموضوع..
- لا يدعي هذا المقال الإلمام بكل عناصر الحالة، لكن ثمة طموحا لتعميقه و إضافة بعض العناصر التي تتفرع عنه و تصب فيه.
- سعيد جدا لأن المقال أثار فيك هذا الفضول المعرفي الرصين و لعلها فرصة للعودة إلى الأساسات الحقيقية المغيبة التي تؤرق باطن الخطاب الثقافي الجزائري..
شكرا جزيلا لك..
لاشك أنك تعلم أني لا أبرر هذه النوسطالجيا ولا يمكن لعاقل أن يفعل ذلك وكل غرضي أن أدعوك للبحث معا في أسباب وسياقات هذا الولع الكولونيالي للحيلولة دون الوقوع تحت سيطرته وقد أسديت لنا جميلا كبيرا عندما أثرت نقاشا مهما ووجعا ثقافيا ووطنيا وجدت نفسي معنيا بالخوض فيه فشكرا لك .
[HEADING=3] Abdelkader R[/HEADING]
ما معنى أن يحنّ المثقف الجزائري الراهن- بعض المثقف طبعا-، بعد ستين سنة من الاستقلال، وبعد معارك ثقافية وتنموية كالحة من أجل بناء صورة واقعية وحقيقية للجزائر المتحررة نهائيا من الهيمنة ومن رموزها، إلى المدينة الحديثة، وإلى الشارع المنظم، وإلى الشاطئ الجميل، وإلى المقهى الحميميّ، وإلى البريد الخدوم، وإلى المدرسة المتنورة، و إلى الجامعة المفتوحة المعرفة؟ ما معنى أن يحرص المثقف على استدعاء الصورة الكولونيالية بوصفها بطاقة بريدية (Carte postale) محيّنة لحالة حنينية موغلة في التأسف على ماض يكاد يحلم المثقفون به -بعضهم طبعا-كحالة مرضية تشبه حالة الإيمان الخرافي بإمكانية 'العودة إلى لمستقبل'؟ وهل يمكن اعتبار ذلك نوعا من الاستدعاء الخائب للتصوّر النقيض بوصفه مشروعا تنمويا فاشلا على أرض الواقع ولم يُنتِج مثقفوه، وقد عاشوا في خِضمّه وشاركوا في صياغته، غير أليوم الصورة القسرية لعشوائيات التفكير الموجه الذي يؤدي بالكثير منهم اليوم إلى السقوط الحنينيّ العاشق في تقليب صفحات الألبوم الكولونيالي؟
لا يتوقف الألبوم الكولونيالي عند بعض البطاقات البريدية التي وُجِدت في خزانة بيت الجدّ الموروثة من عائلة أوربية عادت إلى وطنها بعد مكوث طويل و هي تطالب اليوم باستعادة ما تعتقد أنه ممتلكاتها، أو في ما وجده مهاجر جزائري شغوف في الأسواق الشعبية لضواحي باريس أو ليون أو مرسيليا المصدرة للكولون المستقبليين في جزائر القرن التاسع عشر الخالية من أمّتِها تماما كما لا يزال يراها إلى اليوم مخرجٌ فرنسيٌّ مهووسٌ بالتصوير من علٍ. كما لا يتوقف هذا الألبوم عند ما أصبحت تتيحه الثورة الرقمية الراهنة من ولوج افتراضي إلى الأرشيف الفيلمي، المسموح به فقط، لمشاهدة جزائر بدايات القرن التاسع عشر، حيث تعمل حركة الوافدين الجدد و هم يحثّون الخطى ويعملون على قدم وساق على تثوير آلية المخيال في ذهن المثقف الجزائري الذي تعمد إعطاء ظهره للتاريخ الوطني، لأجل النهل من نوستالجيا العلامات الفارقة بينهم وبين الأنديجان، مثلما لا يتوقف هذا الألبوم عن إتاحته مشاهدة مقاطع (يُشوّك لها اللَّحمُ) من الشوارع البيضاء لجزائر بدايات القرن العشرين المزهوة ظاهرا بمواطنيها البيض وواجهاتها النقية و'ترَامْوايها' الحديث، مما يمكن أن يفخر به زوار أروقة 'المعرض العالمي' نظرا للنجاح المبهر الذي حققه شذّاذ الآفاق و هم يطردون الإنسان الجزائري من أرضه و يحققون فيها، بإمكانات التحديث المتاحة لهم، ما لم يستطع تحقيقه بذراعه طيلة قرون سالفة.
لا يتوقف الألبوم الكولونيالي عند كلّ هذا أو عند غيره من الصور و الأفلام و الوثائق و الكتب فحسب وهي تقفز إلى واقع المثقف الجزائري بفضل وسائل التواصل الحديثة لتثير فيه شجنا و حنينا عارمين و هو يكتشف عالما آخر لجزائر لا يراها في واقعه اليومي، و إنما يتمثل هذا الألبوم كذلك- و هذا أعمق تأثيرا لأنه الأكثر حضورا في الوعي الجمعي لأجيال كاملة من مثقفي الاستقلال- في ما تتركه صورة المثقف الكولونيالي القادم من بعيد أو المولود على عجالة في مدينة جزائرية، بكل ما يحمله من تصورات وقناعات وأفكار، من أثر لا يُمْحى في البنية التكوينية العميقة للمثقف الجزائري الراهن- ليس كل المثقف طبعا- وهو ينسج عوالم تخييلية ضاربة في الحنين إلى ما كتبه كامو عن وهران لأجل استدعاء وهران الماضي، وإلى ما كتبه بيير بورديو عن القبائل لأجل استدعاء قبائل الماضي، وإلى ما رسمه إتيان دينه عن بوسعادة لأجل استدعاء بوسعادة الماضي، وإلى ما توجسه ماركس وهو يتصور في شوارع العاصمة لأجل استدعاء عاصمة الماضي، وإلى ما كتبته إيزابيل إبرهادرت عن الوادي والعين الصفراء لأجل استدعاء صورتهما الماضية، وإلى ما رسمه أوجين دو لا كروا عن نساء الجزائر و هنّ في بيتهن لأجل إعادة تشكيل البيت الكولونيالي في متحف الحنين الطافح بالتوجسات الثقافية الراهنة التي تتصارع فيها ثنائيات الاستعمار والتحرر، والتنمية والتخلف، الحرية والتأصيل، الحضور والديمقراطية، والوطن والغربة.
-2-
تعج العديد من أدبيات الأجيال المثقفة الجديدة – ليس كلّها طبعا- بفائض الحنين المتخفي في اللغة وفي الموضوعة وفي المخيال وفي الرؤى وفي التصورات المضمرة و المعلنة، محيلةً، في ما أنتجته و تنتجه من خطابات فكرية و إبداعية، إلى ما يمكن أن يصبح صورةً مشابهةً، حتى لا نقول طبق الأصل، لحالة التحديث التي وصلت إليها الهيمنة الكولونيالية قبيل انتشار الوعي التحرري و تمت محاولة تقويض بعدها الاستلائي من طرف المدّ الثوري، وكذلك إلى ما لعبته من دور فاعل باعتبارها درعا واقيا للوجود الكولونيالي و جدارا فاصلا ، يكاد يكون عنصريا في العديد من حالاته، بين الذات المثقفة المُستعمَرة الثائرة التي كانت تطمح إلى تحرير الوعي من العلامات الكولونيالية المهيمنة، وبين الذات المثقفة المتحررة الراهنة التي تعجز عن إنتاج علامات و رموز مشابهة أو علامات و رموز مناوئة، أو علامات و رموز مخالفة للعلامات و الرموز الكولونيالية.
إنه الألبوم الكامل لحالة كولونيالية بما يمكن أن يوقظه في ذهن المثقف/المتلقي الراهن من حسٍّ ظاهرٍ تجاه ما تنتجه هذه العلامات و الرموز من جمالياتِ انسجام أو تناقض، وبما يمكن أن تنتجه كذلك من ممكنات تحريك لآلية النقد الواعي وفق مستجدات الهيمنة الثقافية والإيديولوجية الجديدة، أو من ممكنات تحريك لآليةٍ حنينية ضاربة في عمق التصوّر الراهن لمشكلة الحرية والتحديث والمشروع المجتمعي. وهي الحالة التي لا تزال تعبث بالوعي النقدي للعديد من المثقفين الجزائريين- ليس كل المثقفين طبعا-، وتكشف عن حالة تعلّق غير متحررة تماما، رغم الفارق الزمني الذي يفصل الأجيال الجديدة عن الاستعمار، من عوالق الكولونيالية بوصفها نسقا متنقلا عبر الهيمنة التي تمارسها اللغة الأخرى، لغة المستعمِر، على المخيال الجمعي من خلال ما تنتجه من فيض 'نوستالجيا' مضمر يتجلى في العديد من الخطابات الفكرية والإبداعية، وينمّ، في بعض مكنوناته، عن حالة تبعية فكرية تعمل على استبعاد جميع العلامات و الرموز الفاصلة التي بُنِيتْ عليها نضالات الأمة الجزائرية في معاركها المصيرية مع المستعمر الفرنسي(اللغة، الدين، التاريخ، الهوية، الأرض، المصير)، والإصرار على استبدالها بحالة شغور وجودية تستنجد بالعلامات و الرموز الكولونيالية عن طريق استدعاء فائض الحنينيّة التي تضمن هيمنة الحضور الكولونيالي داخل النسق الثقافي الشاغر نظرا لقوّة ما يقترحه من مشروع تحديث بإنتاجية مستديمة قادرة على فرض واقعها داخل هذه الخطابات عبر اللغة بوصفها أداة إبهار للمخيال ومنهجَ تقنين لطرائق التفكير، و وكرَ تخزينٍ و تعشيشٍ و تفقيصٍ للمحمولات الفكرية و الثقافية لهذه العلامات والرموز .
هل كان الكولون الوافد يشعر بالغربة و هو يحاول أن يرسخ هذه العلامات في أرض ليست له؟ و كيف لمثقف جزائري - ليس الكلّ طبعا- أن يشعر بالحنين إلى هذه العلامات التي أراد الكولون أن يقطع بها علاقته الجغرافية مع وطنه الأصلي من خلال سعيه إلى تثبيتٍ قصريّ لتصور ثقافيّ ناجز طالما دعا له بكل ثقة و إيمان مثقفو (لالجيريانيزم) على حساب المحو المنهجي للثقاقة الجزائرية الأصلية؟
إن أقصى ما يمكن أن يفرح له المستعمِر السابق بنشوة لا نظير لها، هو أن يرى المثقف المابعد كولونيالي في البلاد المستعمرة سابقا يحن حنين النوق إلى وضعية ما قبل الدولة الوطنية، من خلال ممارسته عبر الكتابة لعادة الاستحضار الشّبقي للعلامات الكبرى التي أسست للقناعة الأنديحينية، بحكم نموذج التحديث المفروض على ما صار يسمى آنئذٍ بــ'السُكَّان المحليين'، و ذلك بممارسة سطوة الحضور الوجودي للوافدين الجدد، من خلال التعالي بالصورة وباللباس وبالبشرة وباللغة وبالحديث وباللكنة وباللون وبالذوق و بالحاسة وبالأكل وبالشرب وبغيرها، والتي تنسج مجتمعةً هالة الحضور التي تحيل، في ذهن المثقف المابعد كولونيالي، إلى صورة 'التحضّر'التي تستدعي نقيضها في الواقع الأنديجيني المُستعاد في الراهن بسبب الفشل الذريع لمشاريع الدولة الوطنية، وتؤصل في نفسيته لتراتبيّة القيم من منظور سُفلي يتحرى فيه المثقف الراهن نمط الحياة والوجود والموت في حركات وسكنات الوافد الجديد الذي بإمكانه أن يغادر الأرض عنوةً، و لكنه لا يغادر المخيال بالسهولة التي كان يتصورها المثقفون الثوريون من خلال استلائهم البطولي على سلاح المستعمِر من أجل محاربة المستعمِر و تحرير الأرض ثم اعتباره 'غنيمة حرب' بعد الانتهاء من معركة التحرير !
هكذا يتحوّل الوعي الاستكشافي للمثقف الراهن و هو يُقلّب الألبوم الكولونيالي إلى وعي تبريريّ، بما يواجهه من مفارقة سببها استمرار طغيان هالة الآخر الحاضر بعلاماته المهيمنة نظرا لحداثتها، والتي تنتهي به إلى الحلم بالذات بوصفها آخر، أو الحلم بها عن طريق الآخر، ناهيك عن محاولته تحقيقها به أو عن طريقه. ولعلها المفارقة التي ستترسّخ في الأنساق الإيديولوجية والثقافية للمثقف المابعد كولونيالي، والذي يسعى إلى تثبيت بُعْدَ الحنينيّة في مضمرات ما سيُنْتِجُه من خطابات غير قادرة على تحمّل ثقل الفارق الوجودي والزمني بين التحديث بوصفه نمط تفكير غربيٍّ مُتَسارعٍ وغير مستعدّ لانتظار أحد، و التحديث بوصفه حلما تراجيديا متوقفا في الغياب، يشاهده المثقف الراهن أمامه في واقع الآخر وعن طريقه، ولكن لا يستطيع أن يعيشه، مما تؤدي به إلى 'فرمطة' المقاربات التي يحملها عن هذا النمط، وتتويجه صورةً ثابتة في اللاوعي الجمعي لمثقفي المجتمع المستعمَر سابقا.
إنه النمط الذي بإمكانه أن يستيقظ في أيّ لحظة، بعد بياتٍ شتويٍّ طويل لظروف سيعتبرها قسرية، ليستدعي هذه العلامات التي لا تزال حيَّة في اللاوعي، تنتظر أول فرصة للنطّ في مرآة الراهن والتجمهر الرمزي داخل كل أنواع الخطابات الفكرية والإبداعية كأيقونات قابلة لاستدعاء ما يتخفّى خلفها من حنين إلى حالة التحديث التي عايش جزءا منها، أو ورث بعضها عن عائلته، أو اطلع عليها في كتب التاريخ، أو شاهدها على الشاشات، على الرغم ممّا طالها من تخريبٍ في واقع الدولة المستقلة، نظرا لأسباب تاريخية و سياسية وإيديولوجية لعبت دورا حاسما في استغلال عفوية البعد الثوري للمجتمعات التائقة إلى التحرّر، للانتقام من واقعية كولونيالية تحوّلت مع الوقت إلى رصيد حنينيّ من جهة، و للتخلص، من جهة أخرى، من خيبة حلم ثوريّ أصبح كابوسا مزعجا نظرا لتحويله إلى أداة انتقام من الحاضر بوصفه صورةً سلبيةً لتاريخ صنعه بنفسه ليتحرّر من سطوة الشرط الكولونيالي المهمين الذِي زرعه المستعمر السابق في طريقه، وتعمّد برمجةَ إيقاظهِ، كلما دعت الضرورة، باستعمال سلاح العلامات والرموز المدسوسة في الباحة الخلفية للتاريخ الوطني لأجل توظيفها في تقويض كل محاولة تحديث حقيقية باستعمال العلامات والرموز التي مكّنت المثقف الثوري من التحرّر من الإيديولوجية الكولونيالية في معركته الفاصلة مع الاستعمار.
-4-
لقد لعبت اللغة دورا حاسما في توجيه معركة سدّ كلّ الآفاق الحقيقية التي بإمكانها أن تحرر المثقف المابعد كولونيالي من سطوة الحنينية، بسبب قدرتها على توجيه الأطر الفكرية و الإيديولوجية من داخل التصورات الثقافية الوطنية، وذلك بالعمل على ترسيخ محمولين لغويين أو أكثر بدل محمول واحد داخل المخيال الإبداعي الواحد وفي واقع الممارسة الثقافية للفضاء الوجودي الواحد، وذلك للتأكيد على أهمية ترسيخ محتوى الحنينية داخل الخطابات الثقافية والبرامج التعليمية والمقررات التوجيهية بوصفها ميدانا خصبا لتفتّق سطوة الماضي الكولونيالي في هشاشة الحاضر المتحرر. و يتمّ ذلك كلّه في إطار ما تمليه إكراهات التأقلم مع اللحظة العولمية الراهنة بوصفها لحظة خاضعة لتصورات كانت ولا تزال أفقا منتظرا قريب التحقق في معركة الكولونيالية مع كلّ فكر مضاد لتصوراتها، والذي لن يكون في نظرها غير نموذج لفكر ثوري خبرته جيدا في معركة التحرير، ويجب عليها تقويضه من خلال تحيين فعالية أيقونات الماضي المهيمن، بفعل اكتساب آليات التحديث و تقنياته، داخل ما أضحت تقدمه الصورة المضخّمة و المعمّمَة للعولمة، بحكم ما تفرزه الثورة الرقمية من تداعيات، للمدّ التوسعي الغربي الذي تحقق هو الآخر بحكم ما أفرزته الثورة الصناعية من تداعيات و تمت بلورة مفهومه في ما صار يسمى بالكولونيالية.
لقد استثمر المستعْمِر القديم في التركة الكولونيالية بوصفها نسقا توسعيا حيا أو يجب إحياؤه، وفي تحيين أيقوناته الدالة باستعمال فخ التحديث لتحويله إلى إجراء عمليّ سهل التطبيق، نظرا للحاجة الملحة التي يبديها المخيال الأنديجيني الراهن في المستعمرات القديمة إلى الحنين إلى الماضي فيما أضحت تبديه الطبقات المثقفة الجديدة من تعلق بالعلامات و الرموز نظرا لدورها النفسي في إيقاظ حلم التحديث بوصفه 'عودة إلى المستقبل' نظرا لفشلها في صياغة تصورات واقعية للتحديث بوصفه راهنا اجتماعيا و شرطا تاريخيا نظرا لانفصالها التدريجي، بسبب اللغة وعن طريقها خاصة، عن واقع مجتمعاتها البائس، و كذلك نظرا لفشل الأنظمة السياسية المابعد ثورية في تحقيق تصورات التحديث التي حاولت تطبيقها في واقع مجتمعات لم تتهيأ لها فرصة الخروج العقلاني السليم من وضعية التبعية القسرية للعلامات الكولونيالية المسلطة عليها، إلى وضعية استحداث علامات تعادلها أو تتفوّق عليها في القيمة و تختلف معها في الجوهر.[/HEADING]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النوسطالجيا الكولونيالية والصدمة المزدوجة
قلولي بن ساعد
الدكتور عبد القادررابحي :
سعدت حقا بقراءة مقالكم القيم ( الألبوم الكولونيالي والحنينية الجديدة ) في كراس الثقافة لجريدة النصر 29/ 09/2020 ولا أنكر أنك وضعت يدك على مكمن الجرح كما يقال الجرج الكولونيالي بالمعنى الذي نعثر عليه لدى مفكر هو دومينيك لاكابرا عندما يميز بين الجرح البنيوي والجرح التاريخي على مايرى ناقد مغربي هو الدكتور إدريس الخضراوي فأما الجرح البنيوي فيعني به " إحساسا بالألم يتميز بتجليه بأشكال مختلفة في كل المجتمعات بسبب ما يحدث أثناء الولادة من تمزق وإنفصال عن رحم الأم وكذلك الألم بسبب الوجود في العالم " .
التمييز الذي قاد إدريس الخضراوي إلى إستخلاص مفاده " إذكان من غير الممكن الخلاص من الجرح البنيوي فإنه بالإمكان مواجهة الجرح التاريخي ذلك لإن تذكره عبر توسط السرد والحكي لا يلبي فقط حاجة للمعرفة وإنما يمثل كذلك مدخلا للنسيان "
ومع ذلك لم ينسى المثقف الجزائري بعضهم فقط هذا الجرج فأصبح يحن إلى الألبوم الكولونيالي إلى المدينة الكولونيالية والجامعة النموذجية بالمقياس الغربي والعمارة الكولونيالية والشاطئ الكولونيالي والمسرح الكولونيالي حدث ذلك عندما وجد نفسه في مواجهة صدمتين :
الصدمة الأولى هي صدمة حالة ما بعد الكولونيالية وإستعادة السيادة الوطنية حيث أفاق على موت " السرديات الكبرى " بتعبير فرانسوا ليوتار سرديات اليوتوبيا الثورية التي راهنت على ميلاد الإنسان الجديد وعلى عودة غودو الذي لم يأت ولم يجد في أثر ذلك سوى بعض الخطابات الفضفاضة والشعارات البراقة التي لم يتحقق منها شئ على أرض الواقع إلى حد الوقوع تحت طائلة ما سماه إدوارد سعيد " اللاشعور الكولونيالي " بالنظر لكل ما حدث ويحدث من تراجعات لدى أغلب البلدان العربية التي تحررت من الإستعمار القديم لكنها لم تتحرر بعد من آثاره الباقية وعجزت كل مشاريع التنمية البشرية في أبعادها الثقافية والتربوية والإنسانية عن بناء الإنسان الجديد الذي بشرت به وبالمثل واليوتوبيا المفقودة كل أدبيات المقاومة والنضال العربي المحموم ضد كافة آليات السيطرة والهيمنة الغربية على مقدرات الشعوب الضعيفة الشعوب التي لا زالت تعيش عند عتبة الفقر فيترسخ لديها نوع من " اللاشعور الكولونيالي " .
فيما الصدمة الثانية :
فهي صدمة المدينة الصدمة التي خصص لها الناقد الهندي ما بعد الكولونيالي هومي بابا فصلا كاملا من كتابه ( موقع الثقافة ) الكتاب الذي كرسه كواحد من نقاد ما بعد الكولونيالية في مرحلة حساسة من تاريخ الهند بعد تخلصه من السيطرة البريطانية واصفا إياها ( بالمدنية الماكرة ) سواء تعلق الأمر بالمدن الكولونيالية المروثة عن الحقبة الإستعمارية أم بالمدن الحديثة النشأة الخالية من فاعلية "الرأسمال الرمزي" لها وإعطائها البعد الثقافي الأقصى الكفيل بإستدماج الفرد والمجتمع في قلب الحداثة والمعاصرة للفرار من إرادة الخطاب السياسي الرسمي المولع بلغة الأرقام الرسمية ويتلميع و" مكيجة "واجهة مدينية تخفي داخلها الكثير من الفجوات والنقائص المستفحلة وهي كثيرة بلا شك .
وهذا لايعني بالطبع أن ينصرف القول إلى البحث عن " المدينة الفاضلة " كما حلم بها الفارابي أو المدينة الأليوتية كما تصورها الشاعر الأنجليزي أليوت أو " مدينة الشمس كما تتجلى في منظور الفيلسوف الإيطالي توماسو كامبانيلا بوصفها حلما هو أشبه بما سمته الدكتورة خالدة سعيد " يوتوبيا المدينة المثقفة " بقدر ما يعني أن إستفحال هذه النوسطالجيا الكولونيالية نابع في تصورنا من الغياب الفادح لمشروع مجتمع يعني بالبناء الثقافي والحضاري للأمة الذي لا ينفصل عن البناء العمراني بل يتكاملان كمقدمة ضرورية للبناء السياسي المأمول .
وبالطبع المهمة ليست سهلة ولا هينة بالنظرلعمق الفداحات القائمة في صلب المجتمع والثقافة والتربية والسياسة الناشئة عن سحر الخطاب الأحادي و"العنف الرمزي" بتعبير السوسيولوجي بيار بورديو والإستبداد السياسي والأبوي الذي هيمن طويلا على لاوعي الإنسان العربي منذ أن كان فردا في قبيلة الإنسان الحامل لجملة من المفاهيم والقيم المتوارثة للحياة والوجود والذود عن النظام الأبوي الرمزي المتمأسس مع أسئلة الكفاح والسلطة والتملك ولذلك تراكمات تاريخية وسوسيو ثقافية ليس من السهل إختراقها أو القفز عليها في الوقت الراهن مهما حاولنا التحرر منها ومن متعالياتها الضمنية منها أو المعلنة وهو أمر دونه صعوبات جمة ليس هنا مجال الحديث ولا يسمح المقام في التوسع فيها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مفاتيح المستعمر القديم:
عبد القادر رابحي
- مرحبا سي قلولي بن ساعد ،خالص التحية و التقدير..
سعدت كثيرا بقراءة مقالكم النبيه و العميق الذي تطرقت فيه لما حملته من بعض الأفكار في مقالي "الألبوم الكولونيالي و الحنينية الجديدة".
- لا يخفى عنك، أستاذ قلولي، ما تقدمه الممارسات الثقافية في المجتمع الجزائري خاصة من مناجم لا تزال في حالتها الخام لم يسبق التطرق إليها بالدراسة و التحليل إلا نادرا.
- لقد أصبحت هذه الممارسات دليلا صريحا على ما تحمله من إشارات ضمنية و أخرى صريحة تحيل كلها إلى حالة من الضياع الوجودي و التمزق النفسي للكثير من المثقفين- ليسوا كلهم طبعا- بالنظر إلى حالة الصراع التي يعانونها و يقتاتون منها في الوقت نفسه، و هو صراع قد وصفته بصورة دقيقة من خلال عرضك القيم لحالات مشابهة في العالم تعرض لها مثقفون و مفكرون كبار ذكرت أسماءهم لدعم الفكرة الأساسية.
- ربما تختلف حالة الهند عن الحالة الجزائرية كثيرا نظرا لأننا لا يمكن أن نعتبر الهند دولة متخلفة بالمعنى الذي نعيشه. و هنا وجه الإشكال الذي يطرحته هومي بابا في حالة الهند و ينطبق جزء منه على الحالة العرببة و الجزائرية خاصة، مضافا إليها بعد آخر هو ما تعانيه المجتمعات المتخلفة من وضعيات معقدة جدا بالنظر إلى ربط مثقفيها كل إمكانية للخروج من التخلف بالحنينية كشرط للتحديث الذي يملك مفاتيحه المستعمر القديم، أو ما سميته أنت بالنوستالجيا لصاحب التحديث الذي لن يكون ، في نظر العديد من المثقفين الجزائرين غير ما يطرحه المستعمر القديم من تصور فكري و تنموي للخروج من التخلف.
- من هنا يبدأ الجرح الذي تحدثت عنه لدى المثقف المابعد كولونيالي الذي لا يستطيع أن يرى نفسه داخل مرآة الذات نظرا لنفوره منها، و لا يستطيع أن يرى نفسه داخل مرآة الآخر نظرا لعدم قدرته على الانعكاس في فضائها بسبب رفضها له من جهة، و لعدم تحرره من عوالق ما يعتقد أنها عوائق تحول دون فوزه بمكانه داخل المرآة كما رسمها لاكان في كتاباته. إنها مشكلة الآخر المستعمر التي لم نشف منه بتعبير الصديق سليم بوفنداسة و نحن نتحدث عن الموضوع..
- لا يدعي هذا المقال الإلمام بكل عناصر الحالة، لكن ثمة طموحا لتعميقه و إضافة بعض العناصر التي تتفرع عنه و تصب فيه.
- سعيد جدا لأن المقال أثار فيك هذا الفضول المعرفي الرصين و لعلها فرصة للعودة إلى الأساسات الحقيقية المغيبة التي تؤرق باطن الخطاب الثقافي الجزائري..
شكرا جزيلا لك..
لاشك أنك تعلم أني لا أبرر هذه النوسطالجيا ولا يمكن لعاقل أن يفعل ذلك وكل غرضي أن أدعوك للبحث معا في أسباب وسياقات هذا الولع الكولونيالي للحيلولة دون الوقوع تحت سيطرته وقد أسديت لنا جميلا كبيرا عندما أثرت نقاشا مهما ووجعا ثقافيا ووطنيا وجدت نفسي معنيا بالخوض فيه فشكرا لك .
[HEADING=3] Abdelkader R[/HEADING]