لم تحرر قصيدة بلداً محتلاً في يوم من الأيام، ولكن دائماً، كان بمقدور الشعر الإبقاء على حب الأوطان طازجاً في الوجدان. وحين سماها «زهرة المدائن» إنما أراد سعيد عقل توطين «القدس» في الذاكرة، وتعزيز مناعة المدينة العتيقة ضد التهويد، بما هي جامع النص، الذي يختزن القداسة الروحية، والسحنة الجغرافية، والعبق التاريخي، بكل ما تنوء به مرجعيات ذلك النص من مشاعر التوق والإباء والحلم بالعودة التي حاول بها - قبل نكوصه - صد ملامح الخيبة واليأس والهزيمة، كما استطاعت فيروز بصوتها الهادر تعميق ذلك الإحساس الولائي الغامض لمدينة كانت وما زالت منغرسة بعمق في الضمير الإنساني، حيث صارت «القدس» تعويذة الشعراء بامتياز، بل مبرر الحنين وتأكيد شاعرية الوجود في نصوصهم، كما يفسر تميم البرغوثي سرّها كنبع شعري يستحيل تفادي أثره السحري بقوله «في القدس لو صافحتَ شيخاً أو لمستَ بنايةً...لَوَجَدْتَ منقوشاً على كَفَّيكَ نَصَّ قصيدَةٍ».
هكذا اتخذت «القدس »سمة الحمّام النفسي الذي ينغسل به الشعراء من آثار الهزيمة والخيبة، بل صارت مزاراً شعرياً يتقدس بكثرة الزيارات، والإصرار على تكرار تنصيصها حد تلفيظها، لدرجة أن يوسف العظم أعلن تبتله لها كقبلة شعرية، كما تنم عباراته الولائية «وعلى القدس قد قصرت حديثي...وقوافي شعري وبيت قصيدي» حتى أنه قال - ذات قصيدة - كلاماً حماسياً مزلزلاً كتعبير أمين عن تلك اللحظة الخطابية التي استحوذت على الخطاب الشعري العربي «حجارة القدس نيران وسجيل...وفتية القدس أطيار أبابيل». ذلك أن مخاطبة مدينة يتم تعاطيها كقيمة روحية عليا يحتّم استخدام لغة إطلاقية في ألفاظها ومعانيها، فهي محل على درجة من القداسة والرمزية، ولا يراد لها أن تُرى إلا من خلال مخيال الشعراء وعباراتهم، حيث لا يتوفر في الذاكرة العربية ما يشي بوجودها كمادة أو قيمة مسرودة، ليس بسبب تعذّر التماس معها كفضاء معاش وحسب، ولكن خوفاً من تحولّها إلى موضوع ربما، وإفقادها بعض قداستها، لولا استثناءات نادرة أبرزها رواية «صورة وأيقونة وعهد قديم» لسحر خليفة، على عكس «المخيم» الذي يعادل القيمة الأرضية اليومية المعاشة والمساءلة بكثافة في السرديات الفلسطينية.
ولهذا السبب الإيحائي أيضاً صارت بمثابة الصورة الرومانسية للهوية الفلسطينية، بل المعادل الشعري للإنسان العربي، الموصوم بكونه مجرد ظاهرة صوتية، يحيث يبكي شاعر على أطلالها، ويرثي ضياعها كفردوس مفقود، فيما يعلن آخر حنينه إليها، معتذراً عن عجزه المزمن عن تحريرها، ويلوّح لها ثالث من بعيد بحتمية العودة القريبة إلى ربوعها وهكذا تتوالى الأمنيات والخيبات منصّصة في قصائد، حيث تصعّدت من كونها مدينة من حجر وبشر لتتحول إلى قيمة إلهامية فائضة بالمعاني، بما أسبغه عليها الشعراء من نعوت ودلالات روحية ونضالية لا حصر لها، إذ تم توصيف هذه المدينة العتيقة، بهية المساكن، باستيهامات كلامية من خارجها وفق إملاءات الذاكرة الإنسانية، وسرديات الكتب السماوية، وأيضاً ما يتجسد على الشاشات من ملاحم أهلها البطولية، أي كرمز لأرض الأنبياء، ومدينة الصلاة، ومهد السلام، ومهبط الوحي، لتستحق في نهاية المطاف لقب حلم الشعراء الذين لا يعرفون سر نبضها الروحي والتاريخي، بقدر ما يستهيمون بها كهبة ربانية، خصوصاً أولئك الذين يرفض وعيهم الشعري التهابط بها إلى الأرض كقيمة يومية معاشة بسبب كون قصائدهم محمولة في الغالب على شحنة عاطفية، وافتقارها إلى المعرفة الحسّية بالمكان.
منذ أن كانت «يبوس» و «إيلياء» وهي عاصمة من عواصم الضمير الإنساني، بما تحتشد به من أدلة جمالية وتاريخية وتضاريسية ودينية. وبمجرد أن تم اغتصابها صارت عاصمة للحزن العربي، فهي بالنسبة لمظفر النوّاب مادة أرضية في أقصى تجلياتها، أو هكذا أراد استظهارها بما هي قيمة أخلاقية كبرى تم التفريط بها، بل هي المعادل للشرف العربي، وهي عروسه المخذولة بالخيانات وتقصير الساسة، التي تركها الثوار الكتبّة وحكومات الكسبّة في العراء ليستفرد بها المغتصبون، حسب القاموس الشعري العربي الحديث الذي تجرأ وخلع عنها تحت وطأة عار الهزيمة قدسية بُعدها السماوي ليضفي عليها السمة الأرضية، فهي إمرأة ممرّغة في عار الهزيمة، كما عبّر عن تلك الحقيقة الموجعة بصرخته المدوية «القدس عروس عروبتكم...فلماذا أدخلتم كل...الليل إلى حجرتها؟؟...ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها...وسحبتم كل خناجركم...وتنافختم شرفاً...وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض...فما أشرفكم ».
نزار قباني كذلك، تجاوز قطريته ليستنسب لعوالمها الروحية والمادية «يا بلدي يا بلد السلام والزيتون» . ويباهي بانتمائه لها، كما يتبين من دفق عباراته الرخيمة تحت ظلها الوارف «ياقدس، يامدينتي..ياقدس ياحبيبتي». فيما يبدو تموضعاً هذيانياً على حافة خلائط شعورية يراوح فيها الكائن المهزوم بين التمني والإحباط، لتوليد سيناريوهات استيهامية تبشر بفرح السنابل، وعودة الأطفال، ورجوع الحمائم، وإزهار الليمون، نتيجة إحساسه المرّ بفقدانها، وخزي التخلي عنها، فهي بالنسبة له «مدينة الأحزان» و «لؤلؤة الأديان». وهي في خاتمة نشيده المتحشرج ليست سوى « دمعة كبيرة تجول في الأجفان». ليعود إليها مرة أخرى ويغنيها بما يشبه القداس الجنائزي لمدينة مروحنة «بكيت حتى جفت الدموع...صليت حتى ذابت الشموع...ركعت حتى ملّني الركوع...سألت عن محمد فيك، وعن يسوع...يا قدس يا مدينة تفوح أنبياء...يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء ».
محمود درويش أيضاً الذي تعامل مع القدس كمدينة معاشة، وكأسطورة متخيّلة، وكذاكرة مستباحة، وأيضاً كقضية مضيّعة، وقف تحت شبابيكها العتيقة، ليرسم لها صورة من الداخل، بعد أن قرر الانحياد بها إلى وجدان الإنسان العربي «وهذا نشيدي...وهذا صعود الفتى العربي إلى الحلم، القدس ». لكن مرارة الخيبة جعلته هو الآخر يفقد توازنه الشعوري ويهوي بها إلى منطق أرضيتها، ليُدرجها في قائمة مدن الهزائم «وما القدس والمدن الضائعة...سوى ناقة تمتطيها البداوة...إلى السلطة الجائعة...وما القدس والمدن الضائعة...سوى منبر للخطابة...ومستودع للكآبة... وما القدس إلا... ». إلى أن يستدرك بعبارة حنونة «ولكنها وطني. » وكما يتمنى أغلب الشعراء دخل في نوبة من الاستيهامات والأماني المؤجلة بعبارات تدور في نفس المدار الأسطوري منشداً ومؤلّباً «ونغني القدس...يا أطفال بابل...يا مواليد السلاسل...ستعودون إلى القدس قريبا...وقريباً تكبرون...وقريباً تحصدون القمح من ذاكرة الماضي...وقريباً يصبح الدمع سنابل...آه يا أطفال بابل...ستعودون الى القدس قريباً…هللويا». تحت وطأة اليأس أحال الشعراء هذه المدينة العابرة للثقافات والأزمنة، إلى رمز للسقوط والهزيمة وفقدان الكرامة، وفي الآن نفسه أرادوها أن تكون منطلقاً للمقاومة ورمزاً للصمود، واستصراخ الضمير السياسي والاجتماعي والديني العربي، ولكن الوعي الشعري العربي لم يتخلّ عن إحساسه بها كأرض للأنبياء، أو كممر للسماوات، أو كمضخة للقيم الربانية العليا، الأمر الذي يعكس تشوش الرؤية الجمالية، وانفصام الوعي الشعري قبالتها حتى قبل أن تغتصب كما عبّر عن هذا الهاجس الاستباقي الشاعر عبدالرحيم محمود بقولته الشهيرة في حضرة الأمير سعود بن عبدالعزيز «المسجد الأقصى، أجئت تزوره؟...أم جئت من قبل الضياع تودعُهْ؟». وهكذا كان يتأكد هذا المنحى الرثائي إثر كل نكبة أو نكسة أو هزيمة، حيث يختصر إيليا أبو ماضي في مطلع قصيدته عن القدس الإحساس المرّ بسقوط مدينة السلام والتسامح تحت نير الإحتلال «مهبط الوحي مطلع الأنبياء...كيف أمسيت مهبط الأرزاء».
إنها «سبيّة» كما يتمثّلها وعي حميد سعيد الشعري في توقعاته حول المدن المهزومة. كذلك في نقوشه على جدران المسجد الأقصى، يتجرع صبري عبدالدايم وقوعها في زمن الاحتلال الحامض بخطفة شعرية موجعة «يا قدس طير البغي فيك يُحلّقَ». تماماً كما تماهي هالة صبحي إسماعيل بين انجراحها ووجع المدينة المستباحة، الموطوءة بالمحتلين «أنا القدس...وجرحي...غارق في الملح...من منكم...يداويني؟». فيما يستصرخ عمر أبو ريشة ضمير الحاكم العربي «رب وامعتصماه انطلقت...ملء أفواه البنات اليتّم...لامست أسماعهم لكنها...لم تلامس نخوة المعتصم». أما فاروق جويدة فيحلم في الذكرى الخمسين لاغتصاب تراب فلسطين بأن «يساقط الأمل الوليد على ربوع القدس». وإذا كان الشاعر العربي مهجوساً بإعلاء «القدس»كقيمة كونية كليانية الأبعاد، تلهب حماس المناضلين، وتبّشر بعودة اللاجئين، وطرد المهوّدين، فإن الشاعر الفلسطيني، بقدر ما أمعن في أسطرتها، والإعلاء من شأن غابة المآذن وأجراس الكنائس المرفوعة إلى السماء، أصر على توطينها في الوجدان العربي كقيمة يومية معاشة، عصية على التهويد، فهي أرض البشر العاديين اليوميين بقدر ما هي مهبط الأنبياء وممرهم إلى السماء، وهنا مكمن سر صمودها، أي في عتاقة حسها اليومي وأصلانية ناسها العاديين، وليس في التجنيحات الروحانية العليا وحسب، كما حاول بعض الشعراء رسم صورة لإيقاعها اليومي من الداخل، فهذا سميح القاسم، «ملك القدس...نجْل يبوسَ...وريثُ سلالة كنعانَ...خليفةُ روح النبيّ، القديم الجديد، محمدْ »الذي طرد بخطفاته الشعرية المحتل القديم «ريتشارد» يقيم حوارية رشيقة مع فيروز، على إيقاع نبرة رمادية حزينة، ليريها ما لم تتمكن من رؤيته في «شوارع القدس العتيقة ». ففي زنابقه التي ينضدها في مزهريتها يقول «من أين يا صديقة...حملتِ المزهرية...والنظرة الشقية؟...من القدس العتيقة... ومن ترى رأيت...في عتمة القناطر...من شعبنا المهاجر...ومن ترى سمعتِ؟...رأيتُ بنتَ عمّكْ...في طاقة حزينهْ...تبوح للمدينهْ...بهمها وهمّكْ...رأيت في المداخنْ...عصفورة جريحهْ...وطفلة كسيحهْ...تبكي على المآذنْ».
أما تميم البرغوثي فيتمثل دور الرائي اليومي في «القدس الشريف»متسائلاً ومجاوباً في آن عن معنى سحرية المزاوجة الغامضة ما بين اليومي والكوني في جنباتها «فماذا تَرَى في القدسِ حينَ تَزُورُها...تَرَى كُلَّ ما لا تستطيعُ احتِمالَهُ...إذا ما بَدَتْ من جَانِبِ الدَّرْبِ دورُها...في القدس أبنيةٌ حجارتُها اقتباساتٌ من الإنجيلِ والقرآنْ». وبعبارات واثقة وفائضة بالتحدي يصد الاحتلال بواقع وحتمية عروبة قدسه التي تعرف نفسها، ليؤكد عمق انغراس الإنسان الفلسطيني في ترابها وأصالة وجوده «يا كاتبَ التاريخِ مَهْلاً، فالمدينةُ دهرُها دهرانِ...دهر أجنبي مطمئنٌ لا يغيرُ خطوَه وكأنَّه يمشي خلالَ النومْ...وهناك دهرٌ، كامنٌ متلثمٌ يمشي بلا صوتٍ حِذار القومْ... لا تبكِ عينُكَ أيها المنسيُّ من متنِ الكتابْ...لا تبكِ عينُكَ أيها العَرَبِيُّ واعلمْ أنَّهُ...في القدسِ من في القدسِ لكنْ...لا أَرَى في القدسِ إلا أَنْت.»
هذا هو الفلسطيني، عاشق الموت، النيكروفيلي، بتعبير غالب هلسا، الذي لا يموت رغم التقتيل اليومي، بل ينبعث كطائر الفينيق ليحلق في سماء القدس بإباء وكبرياء، كما يعبر عن ذلك الخلود المدهش محمود درويش بإصراره على عدم الاعتذار عن فعلة تمسكه بالقدس مقابل المحتل الطارئ «صاحت فجأة جندية : هو أنت ثانية ؟ألم أقتلك؟...قلت: قتلتني...ونسيتُ، مثلك، أن أموت». وبهذا الاستمساك بالحياة يؤكد أن ليس في داخله سوى رغبة واحدة، وهي أن ينفي وجود المحتل من القدس، بما هي مسرح الحياة، وأن يطرده منها حتى ولو بمجاز الشعر، ولا يعبأ به مهما بلغ جبروته، أي أن يتسكع في القدس مغتسلاً بروحانية ضوء السماوات المندلق على الأرض المسكونة بالناس العاديين « في القدس...أعني داخل السور القديم...أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى تصوبني...فإن الأنبياء هناك يقتسمون تاريخ المقدّس...يصعدون إلى السماء ويرجعون أقل إحباطا و حزنا...فالمحبة و السلام مقدسان وقادمان إلى المدينة...كنت أمشي فوق منحدر وأهجس: كيف يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟...أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟...أسير في نومي.أحملق في منامي...لا أرى أحداً ورائي.لا أرى أحدا أمامي ...كل هذا الضوء لي... ».
_ من المداخلة المقدمة في عكاظية الشعر بالجزائر بمناسبة القدس عاصمة ثقافية من 19 إلى 23 مايو 2009
هكذا اتخذت «القدس »سمة الحمّام النفسي الذي ينغسل به الشعراء من آثار الهزيمة والخيبة، بل صارت مزاراً شعرياً يتقدس بكثرة الزيارات، والإصرار على تكرار تنصيصها حد تلفيظها، لدرجة أن يوسف العظم أعلن تبتله لها كقبلة شعرية، كما تنم عباراته الولائية «وعلى القدس قد قصرت حديثي...وقوافي شعري وبيت قصيدي» حتى أنه قال - ذات قصيدة - كلاماً حماسياً مزلزلاً كتعبير أمين عن تلك اللحظة الخطابية التي استحوذت على الخطاب الشعري العربي «حجارة القدس نيران وسجيل...وفتية القدس أطيار أبابيل». ذلك أن مخاطبة مدينة يتم تعاطيها كقيمة روحية عليا يحتّم استخدام لغة إطلاقية في ألفاظها ومعانيها، فهي محل على درجة من القداسة والرمزية، ولا يراد لها أن تُرى إلا من خلال مخيال الشعراء وعباراتهم، حيث لا يتوفر في الذاكرة العربية ما يشي بوجودها كمادة أو قيمة مسرودة، ليس بسبب تعذّر التماس معها كفضاء معاش وحسب، ولكن خوفاً من تحولّها إلى موضوع ربما، وإفقادها بعض قداستها، لولا استثناءات نادرة أبرزها رواية «صورة وأيقونة وعهد قديم» لسحر خليفة، على عكس «المخيم» الذي يعادل القيمة الأرضية اليومية المعاشة والمساءلة بكثافة في السرديات الفلسطينية.
ولهذا السبب الإيحائي أيضاً صارت بمثابة الصورة الرومانسية للهوية الفلسطينية، بل المعادل الشعري للإنسان العربي، الموصوم بكونه مجرد ظاهرة صوتية، يحيث يبكي شاعر على أطلالها، ويرثي ضياعها كفردوس مفقود، فيما يعلن آخر حنينه إليها، معتذراً عن عجزه المزمن عن تحريرها، ويلوّح لها ثالث من بعيد بحتمية العودة القريبة إلى ربوعها وهكذا تتوالى الأمنيات والخيبات منصّصة في قصائد، حيث تصعّدت من كونها مدينة من حجر وبشر لتتحول إلى قيمة إلهامية فائضة بالمعاني، بما أسبغه عليها الشعراء من نعوت ودلالات روحية ونضالية لا حصر لها، إذ تم توصيف هذه المدينة العتيقة، بهية المساكن، باستيهامات كلامية من خارجها وفق إملاءات الذاكرة الإنسانية، وسرديات الكتب السماوية، وأيضاً ما يتجسد على الشاشات من ملاحم أهلها البطولية، أي كرمز لأرض الأنبياء، ومدينة الصلاة، ومهد السلام، ومهبط الوحي، لتستحق في نهاية المطاف لقب حلم الشعراء الذين لا يعرفون سر نبضها الروحي والتاريخي، بقدر ما يستهيمون بها كهبة ربانية، خصوصاً أولئك الذين يرفض وعيهم الشعري التهابط بها إلى الأرض كقيمة يومية معاشة بسبب كون قصائدهم محمولة في الغالب على شحنة عاطفية، وافتقارها إلى المعرفة الحسّية بالمكان.
منذ أن كانت «يبوس» و «إيلياء» وهي عاصمة من عواصم الضمير الإنساني، بما تحتشد به من أدلة جمالية وتاريخية وتضاريسية ودينية. وبمجرد أن تم اغتصابها صارت عاصمة للحزن العربي، فهي بالنسبة لمظفر النوّاب مادة أرضية في أقصى تجلياتها، أو هكذا أراد استظهارها بما هي قيمة أخلاقية كبرى تم التفريط بها، بل هي المعادل للشرف العربي، وهي عروسه المخذولة بالخيانات وتقصير الساسة، التي تركها الثوار الكتبّة وحكومات الكسبّة في العراء ليستفرد بها المغتصبون، حسب القاموس الشعري العربي الحديث الذي تجرأ وخلع عنها تحت وطأة عار الهزيمة قدسية بُعدها السماوي ليضفي عليها السمة الأرضية، فهي إمرأة ممرّغة في عار الهزيمة، كما عبّر عن تلك الحقيقة الموجعة بصرخته المدوية «القدس عروس عروبتكم...فلماذا أدخلتم كل...الليل إلى حجرتها؟؟...ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها...وسحبتم كل خناجركم...وتنافختم شرفاً...وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض...فما أشرفكم ».
نزار قباني كذلك، تجاوز قطريته ليستنسب لعوالمها الروحية والمادية «يا بلدي يا بلد السلام والزيتون» . ويباهي بانتمائه لها، كما يتبين من دفق عباراته الرخيمة تحت ظلها الوارف «ياقدس، يامدينتي..ياقدس ياحبيبتي». فيما يبدو تموضعاً هذيانياً على حافة خلائط شعورية يراوح فيها الكائن المهزوم بين التمني والإحباط، لتوليد سيناريوهات استيهامية تبشر بفرح السنابل، وعودة الأطفال، ورجوع الحمائم، وإزهار الليمون، نتيجة إحساسه المرّ بفقدانها، وخزي التخلي عنها، فهي بالنسبة له «مدينة الأحزان» و «لؤلؤة الأديان». وهي في خاتمة نشيده المتحشرج ليست سوى « دمعة كبيرة تجول في الأجفان». ليعود إليها مرة أخرى ويغنيها بما يشبه القداس الجنائزي لمدينة مروحنة «بكيت حتى جفت الدموع...صليت حتى ذابت الشموع...ركعت حتى ملّني الركوع...سألت عن محمد فيك، وعن يسوع...يا قدس يا مدينة تفوح أنبياء...يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء ».
محمود درويش أيضاً الذي تعامل مع القدس كمدينة معاشة، وكأسطورة متخيّلة، وكذاكرة مستباحة، وأيضاً كقضية مضيّعة، وقف تحت شبابيكها العتيقة، ليرسم لها صورة من الداخل، بعد أن قرر الانحياد بها إلى وجدان الإنسان العربي «وهذا نشيدي...وهذا صعود الفتى العربي إلى الحلم، القدس ». لكن مرارة الخيبة جعلته هو الآخر يفقد توازنه الشعوري ويهوي بها إلى منطق أرضيتها، ليُدرجها في قائمة مدن الهزائم «وما القدس والمدن الضائعة...سوى ناقة تمتطيها البداوة...إلى السلطة الجائعة...وما القدس والمدن الضائعة...سوى منبر للخطابة...ومستودع للكآبة... وما القدس إلا... ». إلى أن يستدرك بعبارة حنونة «ولكنها وطني. » وكما يتمنى أغلب الشعراء دخل في نوبة من الاستيهامات والأماني المؤجلة بعبارات تدور في نفس المدار الأسطوري منشداً ومؤلّباً «ونغني القدس...يا أطفال بابل...يا مواليد السلاسل...ستعودون إلى القدس قريبا...وقريباً تكبرون...وقريباً تحصدون القمح من ذاكرة الماضي...وقريباً يصبح الدمع سنابل...آه يا أطفال بابل...ستعودون الى القدس قريباً…هللويا». تحت وطأة اليأس أحال الشعراء هذه المدينة العابرة للثقافات والأزمنة، إلى رمز للسقوط والهزيمة وفقدان الكرامة، وفي الآن نفسه أرادوها أن تكون منطلقاً للمقاومة ورمزاً للصمود، واستصراخ الضمير السياسي والاجتماعي والديني العربي، ولكن الوعي الشعري العربي لم يتخلّ عن إحساسه بها كأرض للأنبياء، أو كممر للسماوات، أو كمضخة للقيم الربانية العليا، الأمر الذي يعكس تشوش الرؤية الجمالية، وانفصام الوعي الشعري قبالتها حتى قبل أن تغتصب كما عبّر عن هذا الهاجس الاستباقي الشاعر عبدالرحيم محمود بقولته الشهيرة في حضرة الأمير سعود بن عبدالعزيز «المسجد الأقصى، أجئت تزوره؟...أم جئت من قبل الضياع تودعُهْ؟». وهكذا كان يتأكد هذا المنحى الرثائي إثر كل نكبة أو نكسة أو هزيمة، حيث يختصر إيليا أبو ماضي في مطلع قصيدته عن القدس الإحساس المرّ بسقوط مدينة السلام والتسامح تحت نير الإحتلال «مهبط الوحي مطلع الأنبياء...كيف أمسيت مهبط الأرزاء».
إنها «سبيّة» كما يتمثّلها وعي حميد سعيد الشعري في توقعاته حول المدن المهزومة. كذلك في نقوشه على جدران المسجد الأقصى، يتجرع صبري عبدالدايم وقوعها في زمن الاحتلال الحامض بخطفة شعرية موجعة «يا قدس طير البغي فيك يُحلّقَ». تماماً كما تماهي هالة صبحي إسماعيل بين انجراحها ووجع المدينة المستباحة، الموطوءة بالمحتلين «أنا القدس...وجرحي...غارق في الملح...من منكم...يداويني؟». فيما يستصرخ عمر أبو ريشة ضمير الحاكم العربي «رب وامعتصماه انطلقت...ملء أفواه البنات اليتّم...لامست أسماعهم لكنها...لم تلامس نخوة المعتصم». أما فاروق جويدة فيحلم في الذكرى الخمسين لاغتصاب تراب فلسطين بأن «يساقط الأمل الوليد على ربوع القدس». وإذا كان الشاعر العربي مهجوساً بإعلاء «القدس»كقيمة كونية كليانية الأبعاد، تلهب حماس المناضلين، وتبّشر بعودة اللاجئين، وطرد المهوّدين، فإن الشاعر الفلسطيني، بقدر ما أمعن في أسطرتها، والإعلاء من شأن غابة المآذن وأجراس الكنائس المرفوعة إلى السماء، أصر على توطينها في الوجدان العربي كقيمة يومية معاشة، عصية على التهويد، فهي أرض البشر العاديين اليوميين بقدر ما هي مهبط الأنبياء وممرهم إلى السماء، وهنا مكمن سر صمودها، أي في عتاقة حسها اليومي وأصلانية ناسها العاديين، وليس في التجنيحات الروحانية العليا وحسب، كما حاول بعض الشعراء رسم صورة لإيقاعها اليومي من الداخل، فهذا سميح القاسم، «ملك القدس...نجْل يبوسَ...وريثُ سلالة كنعانَ...خليفةُ روح النبيّ، القديم الجديد، محمدْ »الذي طرد بخطفاته الشعرية المحتل القديم «ريتشارد» يقيم حوارية رشيقة مع فيروز، على إيقاع نبرة رمادية حزينة، ليريها ما لم تتمكن من رؤيته في «شوارع القدس العتيقة ». ففي زنابقه التي ينضدها في مزهريتها يقول «من أين يا صديقة...حملتِ المزهرية...والنظرة الشقية؟...من القدس العتيقة... ومن ترى رأيت...في عتمة القناطر...من شعبنا المهاجر...ومن ترى سمعتِ؟...رأيتُ بنتَ عمّكْ...في طاقة حزينهْ...تبوح للمدينهْ...بهمها وهمّكْ...رأيت في المداخنْ...عصفورة جريحهْ...وطفلة كسيحهْ...تبكي على المآذنْ».
أما تميم البرغوثي فيتمثل دور الرائي اليومي في «القدس الشريف»متسائلاً ومجاوباً في آن عن معنى سحرية المزاوجة الغامضة ما بين اليومي والكوني في جنباتها «فماذا تَرَى في القدسِ حينَ تَزُورُها...تَرَى كُلَّ ما لا تستطيعُ احتِمالَهُ...إذا ما بَدَتْ من جَانِبِ الدَّرْبِ دورُها...في القدس أبنيةٌ حجارتُها اقتباساتٌ من الإنجيلِ والقرآنْ». وبعبارات واثقة وفائضة بالتحدي يصد الاحتلال بواقع وحتمية عروبة قدسه التي تعرف نفسها، ليؤكد عمق انغراس الإنسان الفلسطيني في ترابها وأصالة وجوده «يا كاتبَ التاريخِ مَهْلاً، فالمدينةُ دهرُها دهرانِ...دهر أجنبي مطمئنٌ لا يغيرُ خطوَه وكأنَّه يمشي خلالَ النومْ...وهناك دهرٌ، كامنٌ متلثمٌ يمشي بلا صوتٍ حِذار القومْ... لا تبكِ عينُكَ أيها المنسيُّ من متنِ الكتابْ...لا تبكِ عينُكَ أيها العَرَبِيُّ واعلمْ أنَّهُ...في القدسِ من في القدسِ لكنْ...لا أَرَى في القدسِ إلا أَنْت.»
هذا هو الفلسطيني، عاشق الموت، النيكروفيلي، بتعبير غالب هلسا، الذي لا يموت رغم التقتيل اليومي، بل ينبعث كطائر الفينيق ليحلق في سماء القدس بإباء وكبرياء، كما يعبر عن ذلك الخلود المدهش محمود درويش بإصراره على عدم الاعتذار عن فعلة تمسكه بالقدس مقابل المحتل الطارئ «صاحت فجأة جندية : هو أنت ثانية ؟ألم أقتلك؟...قلت: قتلتني...ونسيتُ، مثلك، أن أموت». وبهذا الاستمساك بالحياة يؤكد أن ليس في داخله سوى رغبة واحدة، وهي أن ينفي وجود المحتل من القدس، بما هي مسرح الحياة، وأن يطرده منها حتى ولو بمجاز الشعر، ولا يعبأ به مهما بلغ جبروته، أي أن يتسكع في القدس مغتسلاً بروحانية ضوء السماوات المندلق على الأرض المسكونة بالناس العاديين « في القدس...أعني داخل السور القديم...أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى تصوبني...فإن الأنبياء هناك يقتسمون تاريخ المقدّس...يصعدون إلى السماء ويرجعون أقل إحباطا و حزنا...فالمحبة و السلام مقدسان وقادمان إلى المدينة...كنت أمشي فوق منحدر وأهجس: كيف يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟...أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟...أسير في نومي.أحملق في منامي...لا أرى أحداً ورائي.لا أرى أحدا أمامي ...كل هذا الضوء لي... ».
_ من المداخلة المقدمة في عكاظية الشعر بالجزائر بمناسبة القدس عاصمة ثقافية من 19 إلى 23 مايو 2009