الدوالي اللعين يقف ضد الثورة يشتغل مع الثورة المضادة ، قالت لنفسها وهي تجرجر قدميها بالعافية وتسير خلف المتظاهرين بعد وقوفها معهم قرابة ساعة أمام جامع عمر مكرم بالتحرير، لكنهم الآن تحركوا ودخلوا شارع القصر العيني، ومنه إلى مقر مجلس الوزراء ذي المبنى الفخيم الموجود منذ زمن الملكية القديم، ولكن الدنيا ما دامت لأحد، لا ملوك ولا رؤساء كما قال لها مدرس التاريخ الجالس إلى جوارها يتأمل المبنى بعد وصول المظاهرة إلى مقصدها ومنتهاها.
كانت قد اكتشفت الأفريز الحجري لسور مجلس الشعب الحديدي والمواجه لمقر مجلس الوزراء، فحطت جسدها عليه بسرعة، وتمنت لو كان أمامها كرسي مرتفع لتمد ساقيها عليه. الراجل المدرس الجالس إلى جوارها والذي لا تعرف أكان مصاباً بداء الدوالي مثلها أم لا، أضاف لها بعد أن جلست إلى جواره وتلقت منه معلومة مبنى مجلس الوزراء:
- لازم رئيس الوزراء، يطلع ويكلم الناس، عيب والله عدم خروجه ومقابلة المتظاهرين، هو أصبح رئيس وزراء بسبب ميدان التحرير وعمايل الناس فيه.
ظلت الهتافات تتعالى
- يا الله... يا الله.... المصاب حبيب الله
راحت تركز بصرها على الشاب النحيل بخديه المطبقين وكأنه لم يذق طعاماً منذ أسبوع، وهو محمول إلى أعلى على كتفي شاب آخر، كان يهتف بصوت مبحوح منفعل، فتردد حناجر تحته ما يقوله بحماس، لذلك لم تلحظ التي جاءت وجلست بجانبها إلا عندما قالت لها:
- حضرتك فاكرة، تقابلنا عند التمثال يوم 28 يناير.
ثم إنها نادت:
- رُبيَّ.. رُبيَّ.. تعالي سلمي على طنط الصحفية.
عدلت من جلستها مستديرة إليها لتحدق فيها قليلاً وتتأكد:
- حضرتك صحفية تقريبا...
- آه صحفية
لم تكن صحفية يوماً، إنها شاعرة وبلا عمل منذ أن تخرجت قبل أربع سنوات من قسم اللغة الفارسية بالجامعة، مجرد شاعرة معروفة في محيط قطره لا يزيد عن كيلو متر واحد بوسط البلد، لكن الناس يطلقون على كل الذين يكتبون عموماً صحافيين... ربما لأنهم لا يشاهدون في وسائل الإعلام غير الصحافيين.
لم ترد عندما سألتها إن كانت تتذكرها، بل تساءلت بداخلها مندهشة "كيف تتصور أنني أتذكرها، بينما هي مغلفة بكل هذا القماش الأسود السميك؟ لا توجد إشارة واحدة تجعلني أتذكرها".
لكنها وبمجرد أن رأتها تخرج شطيرة العجوة المعمول لها ديكور خارجي من السمسم المحمص، وتقدمها لها تذكرت:
- آه افتكرت، فطيرة عجوة وعلبة عصير. هاهاها، كان من أغرب الأيام، ريقي نشف وصار حطبة، وأنت ورُبيَّ على بعد متر مني، وجرينا كلنا بعد أن رموا البلطجية علينا الطوب في الميدان، وتدارينا كلنا في مدخل العمارة الموجود فيها شركة السياحة اللبنانية.
يا أهلا ... يا أهلا.
كانت تستعيد المشاهد داخلها وهي تتكلم... تذكرت كم كانت هذه المرأة ذات الغلاف الأسود لطيفة وخفيفة الظل وهي تنكت على وجبة كنتاكي التي توزع على المعتصمين بالميدان كما أشاع إعلام الحكومة وفلول النظام.
جاءت رُبيَّ البيضاء البضة تنط، والتي كانت آخر مرة رأتها فيها عند تمثال طلعت حرب يوم التنحي وهي ترقص وقد رسمت على خديها علم البلاد بألوانه السوداء والحمراء والبيضاء، ولكن ها هي تراها الآن في المظاهرة المطالبة برعاية مصابي الثورة..
عادت ذات النقاب للكلام مجدّداً
- رُبيَّ رجعت من المدرسة الساعة عشرة لأن المدرسين كلهم غابوا وغيرت مريلتها ونزلنا طوالي، ركبنا توك توك لحد أول الشارع العمومي وبعدها الميكروباص طار بنا لغاية ميدان رمسيس، ومن هناك كعابي لعند عمر مكرم... خلاص أصبحت عادة وكل مظاهرة رُبيَّ تصر على أنها تكون معي..
تأملت عينيها القويتين مرة أخرى وتذكرت ما حكته لها يوم 28 يناير، فهي تسكن بحي عشوائي يبعد كثيراً عن قلب المدينة، لكن التوك توك والميكروباص قرَّبا البعيد مثلما قالت. مات زوجها العامل بمصنع الطوب الرملي، بعد أن سقط عليه حمل طوب كبير.. مات ولم تحصل على أي تعويض أو فلوس سوى فلوس كفنه وخرجته، فأخرجت ابنها الكبير من المدرسة رغم وصوله لثالثة إعدادي وشغلته في سوبر ماركت يوصل الطلبات للزبائن دليفري بالدراجة، أما هي فاشتغلت بمحل فراخ، لكنه قفل مع شوطة أنفلونزا الطيور، ولما سألتها: قالت إنها ترتدي النقاب منعاً للقيل والقال ولتخرس ألسنة كادت أن تطولها، فهي أرملة شابة ومطمع لذوي العيون الفارغة من الرجال، ثم إنها كانت في ميدان التحرير بالصدفة يوم 26 يناير وشافت الثورة وأعجبتها، وشعرت أنها عاوزة تقول كلام كتير مخزون جواها، فراحت تهتف وسط الناس ومن يومها وهي تخرج في المظاهرات وتعتصم وتهتف وتقول...
كانت نساء كثيرات في المظاهرة بعضهن بجلاليب وطرح وشباشب، البعض الآخر منتقبات، أخريات ببناطيل بلو جينز ومكياج ينتمين إلى طبقات لا تظهر نساؤها إلا بمسلسلات التلفزيون.
فكرت التي لم تكن صحفية بل مجرد شاعرة معروفة في كيلو متر مربع بوسط البلد، وساءلت روحها:
- هل كل هاتيك النساء كن مثلها ومثل رُبيَّ بداخلهن كلام كثير كل واحدة عاوزة أنه يخرد وتقوله، فيهتفن... ويهتفن.
كانت قد اكتشفت الأفريز الحجري لسور مجلس الشعب الحديدي والمواجه لمقر مجلس الوزراء، فحطت جسدها عليه بسرعة، وتمنت لو كان أمامها كرسي مرتفع لتمد ساقيها عليه. الراجل المدرس الجالس إلى جوارها والذي لا تعرف أكان مصاباً بداء الدوالي مثلها أم لا، أضاف لها بعد أن جلست إلى جواره وتلقت منه معلومة مبنى مجلس الوزراء:
- لازم رئيس الوزراء، يطلع ويكلم الناس، عيب والله عدم خروجه ومقابلة المتظاهرين، هو أصبح رئيس وزراء بسبب ميدان التحرير وعمايل الناس فيه.
ظلت الهتافات تتعالى
- يا الله... يا الله.... المصاب حبيب الله
راحت تركز بصرها على الشاب النحيل بخديه المطبقين وكأنه لم يذق طعاماً منذ أسبوع، وهو محمول إلى أعلى على كتفي شاب آخر، كان يهتف بصوت مبحوح منفعل، فتردد حناجر تحته ما يقوله بحماس، لذلك لم تلحظ التي جاءت وجلست بجانبها إلا عندما قالت لها:
- حضرتك فاكرة، تقابلنا عند التمثال يوم 28 يناير.
ثم إنها نادت:
- رُبيَّ.. رُبيَّ.. تعالي سلمي على طنط الصحفية.
عدلت من جلستها مستديرة إليها لتحدق فيها قليلاً وتتأكد:
- حضرتك صحفية تقريبا...
- آه صحفية
لم تكن صحفية يوماً، إنها شاعرة وبلا عمل منذ أن تخرجت قبل أربع سنوات من قسم اللغة الفارسية بالجامعة، مجرد شاعرة معروفة في محيط قطره لا يزيد عن كيلو متر واحد بوسط البلد، لكن الناس يطلقون على كل الذين يكتبون عموماً صحافيين... ربما لأنهم لا يشاهدون في وسائل الإعلام غير الصحافيين.
لم ترد عندما سألتها إن كانت تتذكرها، بل تساءلت بداخلها مندهشة "كيف تتصور أنني أتذكرها، بينما هي مغلفة بكل هذا القماش الأسود السميك؟ لا توجد إشارة واحدة تجعلني أتذكرها".
لكنها وبمجرد أن رأتها تخرج شطيرة العجوة المعمول لها ديكور خارجي من السمسم المحمص، وتقدمها لها تذكرت:
- آه افتكرت، فطيرة عجوة وعلبة عصير. هاهاها، كان من أغرب الأيام، ريقي نشف وصار حطبة، وأنت ورُبيَّ على بعد متر مني، وجرينا كلنا بعد أن رموا البلطجية علينا الطوب في الميدان، وتدارينا كلنا في مدخل العمارة الموجود فيها شركة السياحة اللبنانية.
يا أهلا ... يا أهلا.
كانت تستعيد المشاهد داخلها وهي تتكلم... تذكرت كم كانت هذه المرأة ذات الغلاف الأسود لطيفة وخفيفة الظل وهي تنكت على وجبة كنتاكي التي توزع على المعتصمين بالميدان كما أشاع إعلام الحكومة وفلول النظام.
جاءت رُبيَّ البيضاء البضة تنط، والتي كانت آخر مرة رأتها فيها عند تمثال طلعت حرب يوم التنحي وهي ترقص وقد رسمت على خديها علم البلاد بألوانه السوداء والحمراء والبيضاء، ولكن ها هي تراها الآن في المظاهرة المطالبة برعاية مصابي الثورة..
عادت ذات النقاب للكلام مجدّداً
- رُبيَّ رجعت من المدرسة الساعة عشرة لأن المدرسين كلهم غابوا وغيرت مريلتها ونزلنا طوالي، ركبنا توك توك لحد أول الشارع العمومي وبعدها الميكروباص طار بنا لغاية ميدان رمسيس، ومن هناك كعابي لعند عمر مكرم... خلاص أصبحت عادة وكل مظاهرة رُبيَّ تصر على أنها تكون معي..
تأملت عينيها القويتين مرة أخرى وتذكرت ما حكته لها يوم 28 يناير، فهي تسكن بحي عشوائي يبعد كثيراً عن قلب المدينة، لكن التوك توك والميكروباص قرَّبا البعيد مثلما قالت. مات زوجها العامل بمصنع الطوب الرملي، بعد أن سقط عليه حمل طوب كبير.. مات ولم تحصل على أي تعويض أو فلوس سوى فلوس كفنه وخرجته، فأخرجت ابنها الكبير من المدرسة رغم وصوله لثالثة إعدادي وشغلته في سوبر ماركت يوصل الطلبات للزبائن دليفري بالدراجة، أما هي فاشتغلت بمحل فراخ، لكنه قفل مع شوطة أنفلونزا الطيور، ولما سألتها: قالت إنها ترتدي النقاب منعاً للقيل والقال ولتخرس ألسنة كادت أن تطولها، فهي أرملة شابة ومطمع لذوي العيون الفارغة من الرجال، ثم إنها كانت في ميدان التحرير بالصدفة يوم 26 يناير وشافت الثورة وأعجبتها، وشعرت أنها عاوزة تقول كلام كتير مخزون جواها، فراحت تهتف وسط الناس ومن يومها وهي تخرج في المظاهرات وتعتصم وتهتف وتقول...
كانت نساء كثيرات في المظاهرة بعضهن بجلاليب وطرح وشباشب، البعض الآخر منتقبات، أخريات ببناطيل بلو جينز ومكياج ينتمين إلى طبقات لا تظهر نساؤها إلا بمسلسلات التلفزيون.
فكرت التي لم تكن صحفية بل مجرد شاعرة معروفة في كيلو متر مربع بوسط البلد، وساءلت روحها:
- هل كل هاتيك النساء كن مثلها ومثل رُبيَّ بداخلهن كلام كثير كل واحدة عاوزة أنه يخرد وتقوله، فيهتفن... ويهتفن.