الإمام الباقلاني - إعجاز القرءان.. معلقة امرؤ القيس

باب
سمعت أفضل من رأيت من أهل العلم بالأدب والحذق بهذه الصناعة مع تقدمه في الكلام يقول
إن الكلام المنثور يتأتي فيه من الفصاحة والبلاغة ما لا يتأتي في الشعر لأن الشعر يضيق نطاق الكلام ويمنع القول من انتهائه ويصده عن تصرفه على سننه
وحضره من يتقدم في صنعة الكلام فراجعه في ذلك وذكر أنه لا يمتنع أن يكون الشعر أبلغ إذا صادف شروط الفصاحة وأبدع إذا تضمن أسباب البلاغة
ويشهد عندي للقول الأخير أن معظم براعة كلام العرب في الشعر ولا نجد في منثور قولهم ما نجد في منظومه وإن كان قد أحدثت البراعة في الرسائل على حد لم يعهد في سالف أيام العرب ولم ينقل في دواوينهم وأخبارهم
وهو وإن ضيق نطاق القول فهو يجمع حواشيه ويضم أطرافه ونواحيه فهو إذا تهذب في بابه ووفي له جميع أسبابه لم يقاربه من كلام الآدميين كلام ولم يعارضه من خطابهم خطاب
وقد حكي عن المتنبي انه كان ينظر في المصحف فدخل إليه بعض أصحابه فأنكر نظره فيه لما كان رآه عليه من سوء اعتقاده فقال له هذا المكي على فصاحته كان مفحما
فإن صحت هذه الحكاية عنه في الحادة عرف بها أنه كان يعتقد أن الفصاحة في قول الشعر أمكن وأبلغ
(وإذا كانت الفصاحة في قول الشعر أو لم تكن وبينا أن نظم القرآن يزيد في فصاحته على كل نظم ويتقدم في بلاغته على كل قول بما يتضح به الأمر اتضاح الشمس ويتبين به بيان الصبح وقفت على جلية هذا الشأن فانظر فيما نعرضه عليك وتصور بفهمك ما نصوره ليقع لك موقع عظيم شأن القرآن وتأمل ما نرتبه ينكشف لك الحق
إذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها وصحة نظمها وجودة بلاغتها ورشاقة معانيها وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة والمعروفين بالحذق في البراعة فنقفك على مواضع خللها وعلى تفاوت نظمها وعلى اختلاف فصولها وعلى كثرة فضولها وعلى شدة تعسفها وبعض تكلفها وما تجمع من كلام رفيع يقرن بينه وبين كلام وضيع وبين لفظ سوقي يقرن بلفظ ملوكي وغير لك من الوجوه التي يجئ تفصيلها ونبين ترتيبها وتنزيلها
فأما كلام مسيلمة الكذاب وما زعم أنه قرآن فهو أخس من أن نشتغل به وأسخف من أن نفكر فيه
وإنما نقلنا منه طرفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر فإنه على سخافته قد أضل وعلى ركاكته قد أزل وميدان الجهل واسع ومن نظر فيما نقلناه عنه وفهم موضع جهله كان جديرا أن يحمد الله على ما رزقه من فهم وآتاه من علم
فما كان يزعم أنه نزل عليه من السماء والليل الأطخم والذئب الأدلم والجذع الأزلم ما انتهكت أسيد من محرم وذلك قد ذكر في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه
وقال أيضا والليل الدامس والذئب الهامس ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس
وكان يقول والشاء وألوانها وأعجبها السود وألبانها والشاة السوداء واللبن الأبيض إنه لعجب محض وقد حرم المذق فما لكم لا تجتمعون
وكان يقول ضفدع بنت نقي ما تنقين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يعتدون
وكان يقول والمبديات زرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا والطاحنات طحنا والخابزات خبزا والثاردات ثردا واللاقمات لقما إهالة وسمنا لقد فضلتم على أهل الوبر وما سبقكم أهل المدر ريفكم فامنعوه والمعتر فآووه والباغي فناوئوه
وقالت سجاح بنت الحارث بن عقبان وكانت تتنبأ فاجتمع مسيلمة معها فقالت له ما أوحي إليك
فقال ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى ما بين صفاق وحشا
وقالت فما بعد ذلك
قال أوحي إلى إن الله خلق النساء أفواجا وجعل الرجال لهن أزواجا فنولج فيهن قعسا إيلاجا ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا فينتجن لنا سخالا نتاجا فقالت أشهد أنك نبي
ولم ننقل كل ما ذكر من سخفه كراهية التثقيل
وروي أنه سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقواما قدموا عليه من بني حنيفة عن هذه الألفاظ فحكوا بعض ما نقلناه فقال أبو بكر سبحان الله ويحكم إن هذا الكلام لم يخرج عن إل فأين كان يهذب بكم
ومعنى قوله لم يخرج عن إل أي عن ربوبية
ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام
فنرجع الآن إلى ما ضمناه من الكلام على الأشعار المتفق على جودتها وتقدم أصحابها في صناعتهم ليتبين لك تفاوت أنواع الخطاب وتباعد مواقع أنواع البلاغة وتستدل على مواضع البراعة
وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس ولا ترتاب في براعته ولا تتوقف في فصاحته وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها من ذكر الديار والوقوف عليها إلى ما يصل بذلك من البديع الذي أبدعه والتشبيه الذي أحدثه والمليح الذي تجد في شعره / والتصرف الكثير الذي تصادفه في قوله والوجوه التي ينقسم إليها كلامه من صناعة وطبع وسلاسة وعفو ومتانة ورقة وأسباب تحمد وأمور تؤثر وتمدح وقد ترى الأدباء أولا يوازنون بشعره فلانا وفلانا ويضمون أشعارهم إلى شعره حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة وربما فضلوهم عليه أو سووا بينهم وبينه أو قربوا موضع تقدمه عليهم وبرزوه بين أيديهم ولما اختاروا قصيدته في السبعيات أضافوا إليها أمثالها وقرنوا بها نظائرها ثم تراهم يقولون لفلان لامية مثلها ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته وتساويه في طريقته وربما غبرت في وجهه في أشياء كثيرة وتقدمت عليه في أسباب عجيبة
وإذا جاءوا إلى تعداد محاسن شعره كان أمرا محصورا وشيئا معروفا أنت تجد من ذلك البديع أو أحسن منه في شعر غيره وتشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه وتنظر إلى المحدثين كيف توغلوا إلى حيازة المحاسن منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته ومتانته إلى عذوبته والإصابة في معناه إلى تحسين بهجته حتى إن منهم من قصر عنه في بعض تقدم عليه في بعض وإن وقف دونه في حال سبقه في أحوال وإن تشبه به في أمر ساواه في أمور لأن الجنس الذي يرمون إليه والغرض الذي يتواردون عليه هو مما للآدمي فيه مجال وللبشري فيه مثال فكل يضرب فيه بسهم ويفوز فيه بقدح ثم قد تتفاوت السهام تفاوتا وتتباين تباينا وقد تتقارب تقاربا على حسب مشاركتهم في الصنائع ومساهمتهم في الحرف
ونظم القرآن جنس متميز وأسلوب متخصص وقبيل عن النظير متخلص فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامريء القيس في أجود أشعاره وما نبين لك من عواره على التفصيل وذلك قوله
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
الذين يتعصبون له ويدعون محاسن الشعر ويقولون هذا من البديع لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر العهد والمنزل والحبيب وتوجع واستوجع كله في بيت ونحو ذلك
وإنما بينا هذا لئلا يقع لك ذهابنا عن مواضع المحاسن - إن كانت - ولا غفلتنا عن مواضع الصناعة إن وجدت
تأمل - أرشدك الله - وانظر - هداك الله أنت تعلم انه ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعرا ولا تقدم به صانعا وفي لفظه ومعناه خلل
فأول ذلك انه استوقف من يبكي لذكر الحبيب وذكراه لا تقتضي بكاء الخلى وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة برحائه فأما أن يبكي على حبيب صديقه وعشيق رفيقه فأمر محال
فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضا عاشقا صح الكلام من وجه وفسد المعنى من وجه آخر لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه وان يدعو غيره إلى التغازل عليه والتواجد معه فيه
ثم في البيتين ما لا يفيد من ذكر هذه المواضع وتسمية هذه الأماكن من الدخول وحومل وتوضح والمقراة وسقط اللوى وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا وهذا التطويل إذا لم يفد كان ضربا من العي
ثم إن قوله لم يعف رسمها ذكر الأصمعي من محاسنه انه باق فنحن نحزن على مشاهدته فلو عفا لاسترحنا
وهذا بأن يكون من مساويه أولى لأنه إن كان صادق الود فلا يزيده عفاء الرسوم إلا جدة عهد وشدة وجد وإنما فزع الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة خشية أن يعاب عليه فيقال أي فائدة لأن يعرفنا انه لم يعف رسم منازل حبيبه وأي معنى لهذا الحشو فذكر ما يمكن أن يذكر ولكن لم يخلصه - بانتصاره له - من الخلل
ثم في هذه الكلمة خلل آخر لأنه عقب البيت بان قال
فهل عند رسم دارس من معول ...
فذكر أبو عبيدة انه رجع فأكذب نفسه كما قال زهير
قف بالديار التي لم يعفها القدم ... نعم وغيرها الأرواح والديم
وقال غيره أراد بالبيت الأول انه لم ينطمس أثره كله وبالثاني انه ذهب بعضه حتى لا يتناقض الكلامان
وليس في هذا انتصار لان معنى عفا ودرس واحد فإذا قال لم يعف رسمها ثم قال قد عفا فهو تناقض لا محالة
واعتذار أبي عبيدة أقرب لو صح ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك كما قاله زهير فهو إلى الخلل أقرب
وقوله لما نسجتها كان ينبغي أن يقول لما نسجها ولكنه تعسف فجعل ما في تأويل تأنيث لأنها في معنى الريح والأولى التذكير دون التأنيث وضرورة الشعر قد قادته إلى هذا التعسف
وقوله لم يعف رسمها كان الأولى أن يقول لم يعف رسمه لأنه ذكر المنزل فإن كان رد ذلك إلى هذه البقاع والأماكن التي المنزل واقع بينها فذلك خلل لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيب بعفائه أو بأنه لم يعف دون ما جاوره
وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنث فذلك أيضا خلل
ولو سلم من هذا كله ومما نكره ذكره كراهية التطويل - لم نشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين بل يزيد عليهما ويفضلهما
ثم قال
وقوفا بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتحمل
وإن شفائي عبرة مهراقة ... فهل عند رسم دارس من معول
وليس في البيتين أيضا معنى بديع ولا لفظ حسن كالأولين
والبيت الأول منهما متعلق بقوله قفا نبك فكأنه قال قفا وقوف صحبي بها على مطيهم أو قفا حال وقوف صحبي وقوله بها متأخر في المعنى وإن تقدم في اللفظ ففي ذلك تكلف وخروج عن اعتدال الكلام
والبيت الثاني مختل من جهة انه قد جعل الدمع في اعتقاده شافيا كافيا فما حاجته بعد ذلك إلى طلب حيلة أخرى وتحمل ومعول عند الرسوم
ولو أراد أن يحسن الكلام لوجب أن يدل على أن الدمع لا يشفيه لشدة ما به من الحزن ثم يسائل هل عند الربع من حيلة أخرى
وقوله
كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل
إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
أنت لا تشك في أن البيت الأول قليل الفائدة ليس له مع ذلك بهجة فقد يكون الكلام مصنوع اللفظ وإن كان منزوع المعنى وأما البيت الثاني فوجه التكلف فيه قوله
إذا قامتا تضوع المسك منهما ...
ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيبا على كل حال فأما في حال القيام فقط فذلك تقصير
ثم فيه خلل آخر لأنه بعد أن شبه عرفها بالمسك شبه ذلك بنسيم القرنفل وذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص
وقوله نسيم الصبا في تقدير المنقطع عن المصراع الأول لم يصله به وصل مثله
وقوله
ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر حتى بل دمعي محملي
ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جلجل
قوله ففاضت دموع العين ثم استعانته بقوله مني استعانة ضعيفة عند المتأخرين في الصنعة وهو حشو غير مليح ولا بديع
وقوله على النحر حشو آخر لان قوله بل دمعي محملي يغني عنه ويدل عليه وليس بحشو حسن ثم قوله حتى بل محملي إعادة ذكره الدمع حشو آخر وكان يكفيه أن يقول حتى بلت محملي فاحتاج لإقامة الوزن إلى هذا كله
ثم تقديره انه قد أفرط في إفاضة الدمع حتى بل محمله تفريط منه وتقصير ولو كان أبدع لكان يقول حتى بل دمعي مغانيهم وعراصهم ويشبه أن يكون غرضه إقامة الوزن والقافية لان الدمع يبعد أن يبل المحمل وإنما يقطر من الواقف والقاعد على الأرض أو على الذيل وإن بله فلقلته وأنه لا يقطر
وأنت تجد في شعر الخبزرزي ما هو أحسن من هذا البيت وأمتن وأعجب منه
والبيت الثاني خال من المحاسن والبديع خاو من المعنى وليس له لفظ يروق ولا معنى يروع من طباع السوقة فلا يرعك تهويله باسم موضع غريب
وقال
ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من رحلها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
تقديره اذكر يوم عقرت مطيتي أو يرده على قوله يوم بدارة جلجل وليس في المصراع الأول من هذا البيت إلا سفاهته
قال بعض الأدباء قوله يا عجبا يعجبهم من سفهه في شبابه من نحره لهن وإنما أراد أن لا يكون الكلام من هذا المصراع منقطعا عن الأول وأراد أن يكون الكلام ملائما له
وهذا الذي ذكره بعيد وهو منقطع عن الأول وظاهره انه يتعجب من تحمل العذارى رحله وليس في هذا تعجب كبير ولا في نحر الناقة لهن تعجب
وإن كان يعني به أنهن حملن رحله وأن بعضهن حمله فعبر عن نفسه برحله فهذا قليلا يشبه أن يكون عجبا لكن الكلام لا يدل عليه ويتجافى عنه
ولو سلم البيت من العيب لم يكن فيه شيء غريب ولا معنى بديع أكثر من سفاهته مع قلة معناه وتقارب أمره ومشاكلته طبع المتأخرين من أهل زماننا
والى هذا الموضع لم يمر له بيت رائع وكلام رائق
وأما البيت الثاني فيعدونه حسنا ويعدون التشبيه مليحا واقعا وفيه شيء وذلك انه عرف اللحم ونكر الشحم فلا يعلم انه وصف شحمها وذكر تشبيه أحدهما بشيء واقع للعامة ويجري على ألسنتهم وعجز عن تشبيه القسمة الأولى فمرت مرسلة وهذا نقص في الصنعة وعجز عن إعطاء الكلام حقه
وفيه شيء آخر من جهة المعنى وهو انه وصف طعامه الذي أطعم من أضاف بالجودة وهذا قد يعاب وقد يقال إن العرب تفتخر بذلك ولا يرونه عيبا وإنما الفرس هم الذين يرون هذا عيبا شنيعا
وأما تشبيه الشحم بالدمقس فشيء يقع للعامة ويجري على ألسنتهم فليس بشيء قد سبق إليه وإنما زاد المفتل للقافية وهذا مفيد ومع ذلك فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة ولم يعد أهل الصنعة ذلك من البديع ورأوه قريبا وفيه شيء آخر من جهة المعنى وهو أن تبجحه بما أطعم للأحباب مذموم وإن سوغ التبجح بما أطعم للأضياف إلا أن يورد الكلام مورد المجون وعلى طريق أبي نواس في المزاح والمداعبة
وقوله
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرئ القيس فانزل
وقوله دخلت الخدر خدر عنيزة ذكره تكريرا لإقامة الوزن لا فائدة فيه غيره ولا ملاحة له ولا رونق
وقوله في المصراع الأخير من هذا البيت فقالت لك الويلات إنك مرجلي كلام مؤنث من كلام النساء نقله من جهته إلى شعره وليس فيه غير هذا
وتكريره بعد ذلك تقول وقد مال الغبيط يعني قتب الهودج بعد
قوله فقالت لك الويلات إنك مرجلي لا فائدة فيه غير تقدير الوزن وإلا فحكاية قولها الأول كاف وهو في النظم قبيح لأنه ذكر مرة فقالت ومرة تقول في معنى واحد وفصل خفيف
وفي مصراع الثاني أيضا تأنيث من كلامهن
وذكر أبو عبيدة أنه قال عقرت بعيرى ولم يقل ناقتي لأنهم يحملون النساء على ذكور الإبل لأنها أقوى
وفي ذلك نظر لأن الأظهر أن البعير اسم للذكر والأنثى واحتاج إلى ذكر البعير لإقامة الوزن
وقوله
فقلت لها سيرى وأرخي زمامه ... ولا تبعديني من جناك المعلل
فمثلك حبلي قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول
البيت الأول قريب النسج ليس له معنى بديع ولا لفظ شريف كأنه من عبارات المنحطين في الصنعة
وقوله فمثلك حبلى قد طرقت عابة عليه أهل العربية ومعناه عندهم حتى يستقيم الكلام فرب مثلك حبلى قد طرقت وتقديره أنه زير نساء وأنه يفسدهن ويلهيهن عن حبلهن ورضاعهن لأن الحبلى والمرضعة أبعد من الغزل وطلب الرجال
والبيت الثاني في الاعتذار والاستهتار والتهيام وغير منتظم مع المعنى الذي قدمه في البيت الأول لأن تقديره لا تبعديني عن نفسك فإني أغلب النساء وأخدعهن عن رأيهن وأفسدهن بالتغازل وكونه مفسدة لهن لا يوجب له وصلهن وترك إبعادهن إياه بل يوجب هجرة والاستخفاف به لسخفه ودخوله كل مدخل فاحش وركوبه كل مركب فاسد
وفيه من الفحش والتفحش ما يستنكف الكريم من مثله ويأنف من ذكره
وقوله
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحول
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت ... على وآلت حلفة لم تحلل
فالبيت الأول غاية في الفحش ونهاية في السخف وأي فائدة لذكره لعشيقته كيف كان يركب هذه القبائح ويذهب هذه المذاهب ويرد هذه الموارد إن هذا ليبغضه إلى كل من سمع كلامه ويوجب له المقت وهو لو صدق لكان قبيحا فكيف ويجوز أن يكون كاذبا
ثم ليس في البيت لفظ بديع ولا معنى حسن
وهذا البيت متصل بالبيت الذي قبله من ذكر المرضع التي لها ولد محول
فأما البيت الثاني وهو قوله ويوما يتعجب منه بأنها تشددت وتعسرت عليه وحلفت عليه فهو كلام رديء النسج لا فائدة لذكره لنا أن حبيبته تمنعت عليه يوما بموضع يسميه ويصفه
وأنت تجد في شعر المحدثين من هذا الجنس في التغزل ما يذوب معه اللب وتطرب عليه النفس وهذا مما تستنكره النفس ويشمئز منه القلب وليس فيه شيء من الإحسان والحسن
وقوله
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
فالبيت الأول فيه ركاكة جدا وتأنيث ورقة ولكن فيها تخنيث
ولعل قائلا أن يقول إن كلام النساء بما يلائمهن من الطبع أوقع وأغزل
وليس كذلك لأنك تجد الشعراء في الشعر المؤنث لم يعدلوا عن رصانة قولهم
والمصراع الثاني منقطع عن الأول لا يلائمه ولا يوافقه وهذا يبين لك إذا عرضت معه البيت الذي تقدمه
وكيف ينكر عليها تدللها والمتغزل يطرب على دلال الحبيب وتدلله
والبيت الثاني قد عيب عليه لأنه قد أخبر أن من سبيلها أن لا تغتر بما يريها من أن حبها يقتله وأنها تملك قلبه فما أمرته فعله والمحب إذا أخبر عن مثل هذا صدق وإن كان المعنى غير هذا الذي عيب عليه وإنما ذهب ذهبا آخر وهو أنه أراد أن يظهر التجلد فهذا خلاف ما أظهر من نفسه فيما تقدم من الأبيات من الحب والبكاء على الأحبة فقد دخل في وجه آخر من المناقضة والإحاطة ف الكلام
ثم قوله تأمري القلب يفعل معناه تأمريني والقلب لا يؤمر والاستعارة في ذلك غير واقعة ولا حسنة
وقوله
فإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلى ثيابي من ثيابك تنسل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
البيت الأول قد قيل في تأويله إنه ذكر الثوب وأراد البدن مثل قول الله تعالى وثيابك فطهر وقال أبو عبيدة هذا مثل للهجر وتنسل تبين
وهو بيت قليل المعنى ركيكه ووضيعه وكل ما أضاف إلى نفسه ووصف به نفسه سقوط وسفه وسخف يوجب قطعه فلم لم يحكم على نفسه بذلك ولكن يورده مورد أن ليست له خليقة توجب هجرانه والتفصى من وصله وأنه مهذب الأخلاق شريف الشمائل فذلك يوجب أن لا ينفك من وصاله
والاستعارة في المصرع الثاني فيها تواضع وتقارب وإن كانت غريبة
وأما البيت الثاني فمعدود من محاسن القصيدة وبدائعها ومعناه ما بكيت إلا لتجرحي قلبا معشرا - أي مكسرا - من قولهم برمة أعشار إذا كانت قطعا هذا تأويل ذكره الأصمعي وهو أشبه عند أكثرهم
وقال غيره وهذا مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليها ويعني بسهميك المعلي وله سبعة أنصباء والرقيب وله ثلاثة أنصباء فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع
ويعني بقوله مقتل مذلل
وأنت تعلم أنه على ما يعنى به فهو غير موافق للأبيات المتقدمة لما فيها من التناقض الذي بينا
ويشبه أن يكون من قال بالتأويل الثاني فزع إليه لأنه رأي اللفظ مستكرها على المعنى الأول لأن القائل إذا قال ضرب فلان بسهمه في الهدف بمعنى أصابه كان كلاما ساقطا مرذولا وهو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه المجروح فلما بكتا وذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه
ولكن من حمل على التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ ولكنه يفسد المعنى ويختل لأنه إن كان محبا على ما وصف به نفسه من الصبابة فقلبه كله لها فكيف يكون بكاؤها هو الذي يخلص قلبه لها
واعلم بعد هذا أن البيت غير ملائم للبيت الأول ولا متصل به في المعنى وهو منقطع عنه لأنه لم يسبق كلام يقتضي بكاءها ولا سبب يوجب ذلك فتركيبة هذا الكلام على ما قبله فيه اختلال
ثم لو سلم له بيت من عشرين بيتا وكان بديعا ولا عيب فيه فليس بعجيب لأنه لا يدعي على مثله أن كلامه كله متناقض ونظمه كله متباين
وإنما يكفي أن نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت مما لا يمكن أن يقال إنه يتقدم فيه أحدا من المتأخرين فضلا عن المتقدمين
وإنما قدم في شعره لأبيات قد برع فيها وبان حذقه بها
وإنما أنكرنا أن يكون شعره متناسبا في الجودة ومتشابها في صحة المعنى واللفظ وقلنا إنه يتصرف بين وحشي غريب مستنكر وعربية كالمهمل مستكرهة وبين كلام سليم متوسط وبين عامي سوقي في اللفظ والمعنى وبين حكمة حسنة وبين سخف مستشنع ولهذا قال الله عز اسمه ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
فأما قوله
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر ... على حراص لو يسرون مقتلي
فقد قالوا عنى بذلك أنها كبيضة خدر في صفائها ورقتها وهذه كلمة حسنة ولكن لم يسبق إليها بل هي دائرة في أفواه العرب وتشبيه سائر
ويعني بقوله غير معجل أنه ليس ذلك مما يتفق قليلا وأحيانا بل يتكرر له الاستمتاع بها وقد يحمله غيره على أنه رابط الجأش فلا يستعجل إذا دخلها خوف حصانتها ومنعتها
وليس في البيت كبير فائدة لأن الذي حكي في سائر أبياته قد تضمن مطاولته في المغازلة واشتغاله بها فتكريره في هذا البيت مثل ذلك قليل المعنى إلا الزيادة التي ذكر من منعتها وهو مع ذلك بيت سليم اللفظ في المصراع الأول دون الثاني
والبيت الثاني ضعيف
وقوله لو يسرون مقتلي أراد أن يقول لو أسروا فإذا نقله إلى هذا ضعف ووقع في مضمار الضرورة والاختلال على نظمه بين حتى إن المتأخر ليحترز من مثله
وقوله
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل
قد أنكر عليه قوم قوله إذا ما الثريا في السماء تعرضت وقالوا الثريا لا تتعرض حتى قال بعضم سمى الثريا وإنما أراد الجوزاء لأنها تعرض والعرب تفعل ذلك كما قال زهير كأحمر عاد وإنما هو أحمر ثمود
وقال بعضهم في تصحيح قوله إنما تعرض أول ما تطلع وحين
تغرب كما أن الوشاح إذا طرح يلقاك بعرضه وهو ناحيته وهذا كقول الشاعر
تعرضت لي بمجاز خل ... تعرض المهرة في الطول يقول تريك عرضها وهي في الرسن
وقال أبو عمرو يعني إذا أخذت الثريا في وسط السماء كما يأخذ الوشاح وسط المرأة
والأشبه عندنا أن البيت غير معيب من حيث عابوه به وأنه من محاسن هذه القصيدة ولولا أبيات عدة فيه لقابله ما شئت من شعر غيره ولكن لم يأت فيه بما يفوت الشأو ويستولي على الأمد
أنت تعلم أنه ليس للمتقدمين ولا للمتأخرين في وصف شيء من النجوم مثل ما في وصف الثريا وكل قد أبدع فيه وأحسن فإما أن يكون قد عارضه أو زاد عليه
فمن ذلك قول ذي الرمة
وردت اعتسافا والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق
ومن ذلك قول ابن المعتز
وترى الثريا ... في السماء كأنها ... بيضات أدحى يلحن بفدفد
وكقوله
كأن الثريا في أواخر ليلها ... تفتح نور أو لجام مفضض
وقوله أيضا
فناولنيها والثريا كأنها ... جنى نرجس حي الندامى به الساقي
وقول الأشهب بن رميلة
ولاحت لساريها الثريا كأنها ... لدى الأفق الغربي فرط مسلسل
ولا بن المعتز
وقد هوى النجم والجوزاء تتبعه ... كذات قرط أرادته وقد سقطا
أخذه من ابن الرومي في قوله
طيب ريقه إذا ذقت فاه ... والثريا بجانب الغرب قرط
ولابن المعتز
قد سقاني المدام والصبح ... بالليل مؤتزر
والثريا كنور غصن ... على الأرض قد نثر
وقوله
وتروم الثريا في السماء مراما
كانكباب طمر ... كاد يلقي لجاما
ولابن الطثرية
إذا ما الثريا في السماء كأنها ... جمان وهي من سلكه فتبددا
ولو نسخت لك كل ما قالوا من البديع في وصف الثريا لطال عليك الكتاب وخرج عن الغرض وإنما نريد أن نبين لك أن الإبداع في نحو هذا أمر قريب وليس فيه شيء غريب
وفي جملة ما نقلناه ما يزيد على تشبيهه في الحسن أو يساويه أو يقاربه فقد علمت أن ما حلق فيه وقدر المتعصب له أنه بلغ النهاية فيه أمر مشترك وشريعة مورودة وباب واسع وطريق مسلوك وإذا كان هذا بيت القصيدة ودرة القلادة وواسطة العقد وهذا محله فكيف بما تعداه
ثم فيه ضرب من التكلف لأنه قال إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح فقوله تعرضت من الكلام الذي يستغني عنه لأنه يشبه أثناء الوشاح بالثريا سواء كان في وسط السماء أو عند الطلوع والمغيب فالتهويل بالتعرض والتطويل بهذه الألفاظ لا معنى له
وفيه أن الثريا كقطعة من الوشاح المفصل فلا معنى تعرض لقوله أثناء الوشاح وإنما أراد أن يقول تعرض قطعة من أثناء الوشاح فلم يستقم له اللفظ حتى شبه ما هو كالشيء الواحد بالجمع
وقوله
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسه المتفضل
فقالت يمين الله ما لك حيلة ... وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
انظر إلى البيت الثاني الأول والأبيات التي قبله كيف خلط في النظم وفرط في التأليف فذكر التمتع بها وذكر الوقت والحال والحراس ثم ذكر كيف كان صفتها لما دخل عليها ووصل إليها من نزعها ثيابها إلا ثوبا واحدا والمتفضل الذي في ثوب واحد وهو الفضل فما كان من سبيله أن يقدمه إنما ذكره مؤخرا
وقوله لدى الستر حشو وليس بحسن ولا بديع وليس في البيت حسن ولا شيء يفضل لأجله
وأما البيت الثاني ففيه تعليق واختلال ذكر الأصمعي أن معنى قوله ما لك حيلة أي ليست لك جهة تجيء فيها والناس أحوالي
والكلام في المصراع الثاني منقطع عن الأول ونظمه إليه فيه ضرب من التفاوت
وقوله
فقمت بها أمشي تجر وراءنا ... على إثرنا أذيال مرط مرجل
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
البيت الأول يذكر من محاسنه من مساعدتها إياه حتى قامت معه ليخلوا وأنها كانت تجر على الإثر أذيال مرط مرجل والمرجل ضرب من البرود يقال لوشيه الترجيل وفيه تكلف لأنه قال وراءنا على إثرنا ولو قال على إثرنا كان كافيا والذيل إنما يجر وراء الماشي فلا فائدة لذكره وراءنا وتقدير القول فقمت أمشي بها وهذا أيضا ضرب من التكلف
وقوله أذيال مرط كان من سبيله أن يقول ذيل مرط
على أنه لو سلم من ذلك كان قريبا ليس مما يفوت بمثله غيره ولا يتقدم به سواه وقول ابن المعتز أحسن منه
فبت أفرش خدي في الطريق له ... ذلا وأسحب أكمامي على الأثر
وأما البيت الثاني فقوله أجزنا بمعنى قطعنا والخبت بطن من الأرض والحقف رمل منعرج والعقنقل / المنعقد من الرمل الداخل بعضه في بعض
وهذا بيت متفاوت مع الأبيات المتقدمة لأن فيها ما هو سلس قريب يشبه كلام المولدين وكلام البذلة وهذا قد أغرب فيه وأتي بهذه اللفظة الوحشية المتعقدة وليس في ذكرها والتفضيل بإلحاقها بكلامه فائدة
والكلام الغريب واللفظة الشديدة المباينة لنسج النسج الكلام قد تحمد إذا وقعت موقع الحاجة في وصف ما يلائمها كقوله عز و جل في وصف يوم القيامة يوما عبوسا قمطريرا فأما إذا وقعت في غير هذا الموقع فهي مكروهة مذمومة بحسب ما تحمد في موضعها
وروي أن جريرا انشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته
بان الخليط برامتين فودعوا ... أو كلما جدوا لبين تجزع
كيف العزاء ولم أجد مذ بنتم ... قلبا يقر ولا شرابا ينقع
قال وكان يزحف من حسن هذا الشعر حتى بلغ قوله
وتقول بوزع قد دببت على العصا ... هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
فقال أفسدت شعرك بهذا الاسم
وأما قوله
هصرت بغصني دوحة فتمايلت ... على هضيم الكشح ريا المخلخل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... تر ائبها مصقولة كالسجنجل
فمعنى قوله هصرت جذبت وثنيت
وقوله بغصني دوحة تعسف ولم يكن من سبيله أن يجعلها اثنين
والمصراع الثاني أصح وليس فيه شيء إلا ما يتكرر على ألسنة الناس من هاتين الصفتين وأنت تجد ذلك في وصف كل شاعر ولكنه مع تكرره على الألسن صالح
وأما معنى قوله مهفهفة أنها مخففة ليست مثقلة
والمفاضة التي اضطرب طولها
والبيت مع مخالفته في الطبع الأبيات المتقدمة ونزوعه فيه إلى الألفاظ المستكرهة وما فيه من الخلل من تخصيص الترائب بالضوء بعد ذكر جميعها بالبياض فليس بطائل ولكنه قريب متوسط
وقوله
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل
معنى قوله عن أسيل أي بأسيل وإنما يريد خدا ليس بكز
وقوله تتقي يقال اتقاه بحقه أي جعله بينه وبينه
وقوله تصد وتبدي عن أسيل متفاوت لأن الكشف عن الوجه مع الوصل دون الصد
وقوله تتقي بناظرة لفظة مليحة ولكن أضافها إلى ما نظم به كلامه وهو مختل وهو قوله من وحش وجرة وكان يجب أن تكون العبارة بخلاف هذا كان من سبيله أن يضيف إلى عيون الظباء أو المها دون إطلاق الوحش ففيهن ما تستنكر عيونها
وقوله مطفل فسروه على أنها ليست بصبية وأنها قد استحكمت وهذا اعتذار متعسف وقوله مطفل زيادة لا فائدة فيها على هذا التفسير الذي ذكره الأصمعي ولكن قد يحتمل عندي أن يفيد غير هذه الفائدة فيقال إنها إذا كانت مطفلا لحظت أطفالها بعين رقة ففي نظر هذه رقة نظر المودة ويقع الكلام معلقا تعليقا متوسطا
وأما البيت الثاني فمعنى قوله ليس بفاحش أي ليس بفاحش الطول
ومعنى قوله نصته رفعته ومعنى قوله ليس بفاحش في مدح الأعناق كلام فاحش موضوع منه وإذا نظرت في أشعار العرب رأيت في وصف الأعناق ما يشبه السحر فكيف وقع على هذه الكلمة ودفع إلى هذه اللفظة وهلا قال كقول أبي نواس
مثل الظباء سمت إلى ... روض صوادر عن غدير
ولست أطول عليك فتستثقل ولا أكثر القول في ذمه فتستوحش
وأكلك الآن إلى جملة من القول فإن كنت من أهل اواستغنيت
وإن كنت عن الطبقة خارجا وعن الإتقان بهذا الشأن خاليا فلا يكفيك البيان وإن استقرينا جميع شعره وتتبعنا عامة ألفاظه ودللنا على ما في كل حرف منه
اعلم أن هذه القصيدة قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذله وأبيات متوسطة وأبيات ضعيفة مرذولة وأبيات وحشية غامضة مستكرهة وأبيات معدودة بديعة
وقد دللنا على المبتذل منها ولا يشتبه عليك الوحشي المستنكر الذي يروع السمع ويهول القلب ويكد اللسان ويعبس معناه في وجه كل خاطر ويكفهر مطلعه على كل متأمل أو ناظر ولا يقع بمثله التمدح والتفاصح وهو مجانب لما وضع له أصل الإفهام ومخالف لما بني عليه التفاهم بالكلام فيجب أن يسقط عن الغرض المقصود ويلحق باللغز والإشارات المستبهمة
فأما الذي زعموا أنه من بديع هذا الشعر فهو قوله
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
والمصراع الأخير عندهم بديع ومعنى ذلك / أنها مترفة متنعمة لها من يكفيها
ومعنى قوله لم تنتطق عن تفضل يقول لم تنتطق وهي فضل وعن هي بمعنى بعد قال أبو عبيدة لم تنتطق فتعمل ولكنها تتفضل ,
ومما يعدونه من محاسنها
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... على بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطي بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الحزن من كل جانب
تقاعس حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يتلو النجوم بآيب
وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء فقدمت أبيات امرئ القيس واستحسنت استعارتها وقد جعل لليل صدرا يثقل تنحيه ويبطئ تقضيه وجعل له أردافا كثيرة وجعل له صلبا يمتد ويتطاول ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة ورأوا أن الألفاظ جميلة
واعلم أن هذا صالح جميل وليس من الباب الذي يقال إنه متناه عجيب , وفيه إلمام بالتكلف ودخول في التعمل
وقد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود ضخر حطه السيل من عل
وقوله أيضا
له أبطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
فأما قوله قيد الأوابد فهو مليح ومثله في كلام الشعراء وأهل الفصاحة كثير والتعمل بمثله ممكن
وأهل زماننا الآن يصنفون نحو هذا تصنيفا ويؤلفون المحاسن تأليفا يوشحون به كلامهم والذين كانوا من قبل لغزارتهم وتمكنهم لم يكونوا يتصنعون لذلك وإنما كان يتفق لهم اتفاقا ويطرد في كلامهم اطرادا
وأما قوله في وصفه مكر مفر فقد جمع فيه طباقا وتشبيها وفي سرعة جرى الفرس للشعراء ما هو أحسن من هذا وألطف
وكذلك في جمعه بين أربعة وجوه من التشبيه في بيت واحد صنعة ولكن قد عورض فيه وزوحم عليه والتوصل إليه يسير وتطلبه سهل قريب
وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتا بينا في الجودة والرداءة والسلاسة والانعقاد والسلامة والانحلال والتمكن والاستصعاب والتسهل والاسترسال والتوحش والاستكراه وله شركاء في نظائرها ومنازعون في محاسنها ومعارضون في بدائعها ولا سواء كلام ينحت من الصخر تارة ويذوب تارة ويتلون تلون الحرباء ويختلف اختلاف الأهواء ويكثر في تصرفه اضطرابه وتتفاذف به أسبابه وبين قول يجري في سبكه على نظام وفي رصفه على منهاج وفي وضعه على حد وفي صفائه على باب وفي بهجته وزونقه على طريق مختلفة مؤتلف ومؤتلفة متحد ومتباعدة متقارب وشارده مطيع ومطيعه شارد وهو وندل على متصرفاته واحد لا يستصعب في حال ولا يتعقد في شأن
وكنا أردنا أن نتصرف في قصائد مشهودة فنتكلم عليها على معانيها ومحاسنها ونذكر لك من فضائلها ونقائصها ونبسط لك القول في هذا الجنس , ونفتح عليك في هذا النهج
ثم رأينا هذا خارجا عن غرض كتابنا والكلام فيه يتصل بنقد الشعر وعياره ووزنه بميزانه ومعياره ولذلك كتب وإن لم تكن مستوفاة وتصانيف وإن لم تكن مستقصاة
وهذا القدر يكفي في كتابنا ولم نحب أن ننسخ لك ما سطره الأدباء في خطأ امرئ القيس في العروض والنحو والمعاني وما عابوه عليه في أشعاره وتكلموا به على ديوانه لأن ذلك أيضا خارج عن غرض كتابنا ومجانب لمقصوده
وإنما أردنا أن نبين الجملة التي بيناها لتعرف أن طريقة الشعر شريعة مورودة ومنزلة مشهورة يأخذ منها أصحابها على مقادير أسبابهم ويتناول منها ذووها على حسب أحوالهم
وأنت تجد للمتقدم معنى قد طمسه المتأخر بما أبر عليه فيه وتجد للمتأخر معنى قد أغفله المتقدم وتجد معنى قد توافدا عليه وتوافيا إليه فهما فيه شريكا عنان وكأنهما فيه رضيعا لبان والله يؤتي فضله من يشاء

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...