دنانير
تعد دنانير من كبرى المغنيات في العصر العباسي ، والتي عُرفت واشتهرت بهذا الاسم ، وهي من المغنيات من ذوات المقام الرفيع ، وكانت جميلة ذات بهاء وكمال ، ومن أكثر الناس قدرة على الغناء ورواية الشعر.
أخذت دنانير أصول الغناء عن أكابر المغنين في عصرها مثل: إبراهيم الموصلي وإسحق الموصلي وفليح وغيرهم ، كما ألَّفت دنانير كتابًا في الغناء يعدُّه الكثيرون من أهل الاختصاص ، أصلًا من أصول الغناء ، ومرجعًا من مراجعه.
وقد سمعها هارون الرشيد ، فسُحِر بعذوبة صوتها ، وتعلق بها ، فكان يترك قصره ويسير إلى دار مالكها حيث كانت دنانير جارية ، ليسمعها ويتحدث إليها ، حتى ألفها واشتد إعجابه بها ، كما كان هارون الرشيد يفيض عليها من هداياه ونعمه وكرمه ، حتى اعترضت زوجته زبيدة وشكته إلى أهله ، فجاءوا إليه وعاتبوه.
فقال لهم : ليس لي مأرب في هذه المغنية سوى سماعها ، فاسمعوها ، وإن لم يعجبكم صوتها فقولوا ما شئتم.
فذهبوا وسمعوها ، فوجدوا له عذرًا ، وعادوا إلى زبيدة ، وأشاروا عليها بأن لا تلح في أمرها ، فاستجابت لذلك.
تأثرت دنانير بالمغني (الغني عن التعريف) إبراهيم الموصلي ، فكانت تغني غناءه ، وتحاكيه فيه حتى لا يكاد يكون بينهما أيُّ فرق ، ولهذا كان إبراهيم الموصلي يقول دومًا : إذا فُقدتُ ودنانير موجودة فانا موجود.
ويذكر إبراهيم الموصلي أن يحيى بن خالد البرمكي ذكر له يومًا أن دنانير قد عملت صوتًا اختارته ، فقال لها إبراهيم هاتِ ما عندك.
فأخذت عودها وغَنّت تقول :
نفسي أَكنتُ عليك مدعيًا أمْ حين أَزمعُ بينهم خُنتِ
إنْ كنتِ مولعــــــــة بذكرهم فعلى فراقِهـــــــــــــــم ألا مُتِّ
فأعجبه الغناء كل العجب ، حتى طلب منها إعادته مرارًا وتكرارًا ، محاولًا أن يُدخل عليه إصلاحًا فما نجح في ذلك.
فقال لها : أصبت في ذلك ، وأحسنت. فلما انتهى سأله يحيى : كيف رأيت صنعة دنانير. فقال : والله ما يحسن كثير من حذاق المغنين مثل هذه الصنعة ، حتى أنني لم أجد مدخلًا يؤخذ عني ويُنسب إليَّ فلا والله ما وجدته.
وبعد أن حدثت مذبحة البرامكة ، انتقلت دنانير إلى هارون الرشيد ، الذي دعاها للغناء بعد النكبة ، لكنها رفضت وقالت : لقد اعتزلت الغناء ، وعاهدت نفسي ألا أعود إليه أبدًا.
فغضب منها الرشيد وأمر بصفعها ، فصفعت ، وأقيمت واقفة على رجليها وأعطيت العود ، فأخذته وهي تبكي بكاء حارًّا ، وأخذت تغني:
يا دارَ سلمى بنازحِ السند من الثنايا ومسقط اللَّبدِ
لما رأيتُ الديارَ قـد درست أيقنت أنَّ النعيمَ لـم يعُدِ
هنا رقّ لها هارون الرشيد ، وأمر بإطلاقها ، فانصرفت.
وقد خطبها عقيل مولى صالح بن الرشيد ، لكنها صدته ، فطلب مساعدة مولاه صالح لكنها أصرَّت على موقفها بالرفض ، فكتب لها عقيل يقول :
يا دنانير قد تنكر عقلـــــي وتحيرت بين وعد ومطــــــــــــــل
شغفي شافعي إليــــــــــك وإلا فاقتليني إن كنت تهوين قتلي
مَا أُحبُّ الحياة يا أخت إنْ لم يجمع الله عاجلًا بك شمـــــــلي
لكنها لم تستجب له ، وبقيت على حالها حتى وافتها المنية في عام 210ه.