يقول مثل قديم" لا يعيش الإنسان بالخبز وحده".
ينطلق هذا المثل حسب الأنثروبولوجيا الثقافية من أن الإنسان ينقسم إلى قسمين، أحدهما طبيعي بيولوجي، والآخر فكري ثقافي، غير أن هذا المثال يؤسس في حقيقته للدور المهم لهذا الكائن العاقل الناطق؛ حيث تتركز مهمته في كشف جوهر الإختلاف والتميز بينه وبين باقي الكائنات الأخرى، وذلك بالخروج من دائرة المشتركات معها كالمأكل والمشرب بصفة عامة، إلى دائرة تفعيل مراكزه الطاقوية والمتمثلة في التفكير والإبداع والتحرر، لتأخذ أولى هذه الإختلافات أن الإنسان كائن لا يموت (رمزيا)، لأنه أول ما يشتغل به على صناعة نفسه وتاريخه هو الذاكرة، إذ تمثل لديه أولى تلك الخاصيات التي يعمل بها على البقاء والاستمرارية، وتساعده أيضا على التحرر، فإذا كان النسيان طريق آخر للتذكر، فالذاكرة طريق آخر للتحرر، ومن بين الأمثلة التي تبادرت لنا -لا على سبيل الحصر- هنري علاق، الذي ألف كتابا بعنوان "مذكرات جزائرية - ذكريات الكفاح والآمال" والتي أصبح من خلالها صانعا لتاريخه، بل وشاهدا عليه أيضا، إذ يطوف في أعماق ذاكرته، واشتغاله عليها، في إطار يسهم فيه على استمرارية العيش، والخلود، والتحرر ضد ما عاشه مع الشعب الجزائري من صور توحش الإستعماري الفرنسي.
وفي مؤلفه الآخر الذي وسمه بالمسألة أو في ترجمة أخرى بالسؤال، نجده قد وضع التاريخ موضع المساءلة الثقافية عن طريق الذاكرة؛ حيث << نقل مشاهداته عن تعذيب المساجين ورميهم من طابقٍ إلى آخر، قائلاً إنه ظلّ يسمع، طيلة ليالي شهرٍ كامل، صرخات رجالٍ يتعرّضون إلى التعذيب "بقيت راسخةً في ذاكرتي. غير أنّ علّاق لم يروِ تلك الذكريات من موقع شاهد العيان فحسب، إذ كان واحداً من هؤلاء المساجين، وتعرّض إلى ما تعرّضوا إليه "تجرّعتُ الكثير من الآلام والإهانات إلى درجة أنّني كنتُ لا أتجرّأ على استعادة ذكريات التعذيب. لم أكُن لأفعل لولا اعتقادي أنها تُسهم في كشف الحقيقة، وتساعد في التوصُّل إلى وقفٍ لإطلاق النار وبلوغ السلم المنشود>>1. وهناك الكثير من الأمثلة على نحو هنري علاق، كمالك بن نبي وفانون...، ولا نقف على مجال واحد فقط، بل وفي جميع المجالات، لأن الذاكرة هي ذلك الكل الذي لا ينفصل ولا يموت.
-----------------------------
1-محمد علاوة حاجي: هنري علّاق: حقيقة الاستعمار بحبر فرنسي، موقع العربي الجديد، آداب وفنون، 06 أكتوبر 2018.
ينطلق هذا المثل حسب الأنثروبولوجيا الثقافية من أن الإنسان ينقسم إلى قسمين، أحدهما طبيعي بيولوجي، والآخر فكري ثقافي، غير أن هذا المثال يؤسس في حقيقته للدور المهم لهذا الكائن العاقل الناطق؛ حيث تتركز مهمته في كشف جوهر الإختلاف والتميز بينه وبين باقي الكائنات الأخرى، وذلك بالخروج من دائرة المشتركات معها كالمأكل والمشرب بصفة عامة، إلى دائرة تفعيل مراكزه الطاقوية والمتمثلة في التفكير والإبداع والتحرر، لتأخذ أولى هذه الإختلافات أن الإنسان كائن لا يموت (رمزيا)، لأنه أول ما يشتغل به على صناعة نفسه وتاريخه هو الذاكرة، إذ تمثل لديه أولى تلك الخاصيات التي يعمل بها على البقاء والاستمرارية، وتساعده أيضا على التحرر، فإذا كان النسيان طريق آخر للتذكر، فالذاكرة طريق آخر للتحرر، ومن بين الأمثلة التي تبادرت لنا -لا على سبيل الحصر- هنري علاق، الذي ألف كتابا بعنوان "مذكرات جزائرية - ذكريات الكفاح والآمال" والتي أصبح من خلالها صانعا لتاريخه، بل وشاهدا عليه أيضا، إذ يطوف في أعماق ذاكرته، واشتغاله عليها، في إطار يسهم فيه على استمرارية العيش، والخلود، والتحرر ضد ما عاشه مع الشعب الجزائري من صور توحش الإستعماري الفرنسي.
وفي مؤلفه الآخر الذي وسمه بالمسألة أو في ترجمة أخرى بالسؤال، نجده قد وضع التاريخ موضع المساءلة الثقافية عن طريق الذاكرة؛ حيث << نقل مشاهداته عن تعذيب المساجين ورميهم من طابقٍ إلى آخر، قائلاً إنه ظلّ يسمع، طيلة ليالي شهرٍ كامل، صرخات رجالٍ يتعرّضون إلى التعذيب "بقيت راسخةً في ذاكرتي. غير أنّ علّاق لم يروِ تلك الذكريات من موقع شاهد العيان فحسب، إذ كان واحداً من هؤلاء المساجين، وتعرّض إلى ما تعرّضوا إليه "تجرّعتُ الكثير من الآلام والإهانات إلى درجة أنّني كنتُ لا أتجرّأ على استعادة ذكريات التعذيب. لم أكُن لأفعل لولا اعتقادي أنها تُسهم في كشف الحقيقة، وتساعد في التوصُّل إلى وقفٍ لإطلاق النار وبلوغ السلم المنشود>>1. وهناك الكثير من الأمثلة على نحو هنري علاق، كمالك بن نبي وفانون...، ولا نقف على مجال واحد فقط، بل وفي جميع المجالات، لأن الذاكرة هي ذلك الكل الذي لا ينفصل ولا يموت.
-----------------------------
1-محمد علاوة حاجي: هنري علّاق: حقيقة الاستعمار بحبر فرنسي، موقع العربي الجديد، آداب وفنون، 06 أكتوبر 2018.