الثابث إزاء كل رواية هو أنها نظام حضاري قابع في لاوعي المؤلف وعليه تؤسس اللغة السردية. ولفظ الحضارة هنا بمعناه الأنثروبولوجي الشامل الخاص بجماعة واسعة من الناس، يكون الكاتب عضوا فيها بحكم التنشئة ،والحضارة حين تنبسط رواية تغدو مرآة ينعكس فيها وعليها تفاعل كيان الكاتب الاجتماعي، بعيدا عن فردانيته، مع العالم، سواء كآخر مختلف أو من صميم الحضارة نفسها، تفاعلا يمتزج فيه النفسي بالفكري بالديني ،بالآخر المختلف ...، ولايمكن سبر أغوار البنية الفنية والدلالية لرواية "حديث الوجوه المائلة" لهشام ناجح دون رؤيتها انطلاقا من هذه الزاوية "يقولون إن الكلاب لها حقوق في فرنسا أكثر من المروك ( كحل الراس) في هذا الخلاء الموحش "ص43،تشتمل الرواية على عدد لا حصر له من الحكايات يساعدنا استقراء بنيتها الدلالية عبر الانتقال من الخاص إلى العام على فهم أبعادها الإشارية، و ومبتغى مسالكها السردية، " فالغرب يجعل أي حدث كيفما كانت طبيعته دعوة إلى الاحتفالات"، إن رواية "حديث الوجوه المائلة" لا تختلف عن العالم في عيشه وفي حكيه،كما أن العيش والحكي لا يستقيمان إلا من خلال ثنائية الصورة والحركة الممتدة بين الأنطولوجي والنفسي،والجمالي والتاريخي ، والاجتماعي،وقد تنتقل بحرية بين الشفهي والمكتوب حسب ما تقتضيه الضرورة الفنية"أنا راضية عليك ابنيتي قد الزغب لي فراسي "،لقد نجح هشام ناجح في هذا التنويع لغة ودلالة، تنويع لم يخل من براعة أسلوبية ظلت محافظة على منطلقها الإبداعي الذي يروم خللخة وقائع اليومي ، ومساءلة البناء الحضاري"تحس أن لكل شئ جذر يدب على الأرض فتنبهر عيناك بروائح المبخرات المزينة بتشابيك نحاسية ..."ص52،وعرض التثاقف عبر منظار نقدي ،يقدم الخطاب الهوياتي فنيا كحالة افلاس عقيم وعاجز ، وكتشظي واستلاب يحدث ثقوبا سوداء في الذاكرة تقود الكاتب إلى طلي المحكي بمسحة ثائرة ضد الطابوهات ، وضد التحجر القاتل للحرية وبناء الإنسان ككرامة "لم أستطع أن أؤكد أو أنفي فأنا لا أعرف سوي عبد الباسط عبد الصمد وعبد الرحمن بن موسى. يمد الكأس بعد أن بسمل كأنه يذكرني حتى لا يشرب معي إبليس اللعين..."ص 152، هكذا ظلت الرواية معرضا من الصور والمحكيات ، يشتبك داخلها لاوعي الكاتب وعقله وآماله مع هذا العالم المنبسط أمامه بين ضفتين متفارقتينن وبين كيانين متقابلين، يضمهما تاريخ تفور داخله أسراب من القضايا والعلائق العصية على الفهم ، القائمة على تعايش ينكسر فيه الوجود مع كل حكاية"مشكلة المسلمين أنهم اهتموا بالأحكام فقط . وتجاهلوا قيم التسامح والجمال ... " ص155 ، وصيرورة حيوات متنوعة من هنا ترتكس الرواية إلى الحنين البعيد ، وتنغمس في حاضر يفتح أبواب الأسئلة الجريحة المؤدية إلى الكآبة والسخرية ، وأحيانا إلى لاجدوائية المعيش ،ونستطيع أن نتقفى اثر ذلك في فلتات سردية أو في بوح مباشر أو تداعي حر بلا قيود كإعلان قيمة الحرية كقيمة القيم التي يصر الكاتب على تكرارها كلازمة لتكسير هذا التشكيل الغريب الجامع بين ألوان الحضارات والذوات الجمعية، والانشغالات التافهة باليومي،أو التمحيص المعرفي الهادف لفهم العالم بلغات ثقافية متعددة توحدها غاية معرفة هذا المجهول الدائم الذي هو الإنسان، وهذا العالم المؤلم الذي هو تثاقف .الحضارات ، وتشابك العوالم فيما بينها ،سطحيا تدو الرواية ابتسارا لصور المعيش، لكنها كجبل الثلج أو السهل الممتنع ، تمور بقضايا عميقة تلف الإنسان المعاصر ككيان ملتبس شرقا وغربا، حضارة وهوية،بأناه الجمعي والفردي،بلاشعوره وخلجات روحه المنفوثة بلا صدى ضد النسيان والتهميش ضد السأم والمرض،من هنا تحقق رواية هشام ناجح فرادتها كرواية جديدة بما يعنيه التجديد معنى، إنها رواية الأجناس كلها مسرحا وسينما وملحمة وأسطورة ووو..،وقد استطاع الكاتب أن يتفوق في تجديده بامتلاكه لناصية السرد، والتحكم في منعرجاته،فينتقل من عمق المحكي الشفهي إلى مشاكسة قضايا الفن الغربي من موسيقى ونحت وهوس دونجواني"الله يرحمك يا ما ، يومها قلت لي: السخط والرضى إذا تركت الوطن....والله يعطي الفول لمن ليس له اضراس "ص 161،ومن التراث الإسلامي إلى نتشوية محلقة في فضاء بلا حدود،تلك إذن هي خاصية المبنى السردي لرواية "حديث الوجوه المائلة " لهشام ناجح، رواية تفضح كينونتنا المفارقة ،والتباسنا الحضاري، وعجزنا وعقمنا إزاء اقتحام مساحة الغموض لنوال إقلاع نحو آفاق إنسانية جديدة قادرة على تمتيعنا بوجود سليم ينخرط في معيشه دون مركبات نقص ولا سوء فهم ، ولا مثبطات تحد من الإبداعية والتحرر والعقلانية ، محاور تدور حولها الرواية مفجرة ذلك الأنا الأعلى الساكن في كيان كل منا، كمنبع لآلامنا ، وكتراكم تربوي نحياه دون التفكير فيه ولا مساءلته ليقودنا نحو تجاوز وضعنا المتسم بالفوضى والمفارقة واللايقين، واللاطمئنان، كل محكيات الرواية وإن بدت سطحا مجرد وقائع ومشاهد مختلفة الفضاء والأحداث والأشكال واللهجات فهي من صميم لاوعي جمعي قابع في ذهن المؤلف وأناه الأعلي كبناء حضاري عام مقابل واقع مهزوم وآخر مختلف يقدم أفقا مغايرا للتفكير وزاوية النظر، ويطرح إطارا جديدا للقيمة التي تأسس عليها الهويات. تتخلل الرواية انعراجات كثيرة نحو الحنين، والحنين ليس سوى هذا النزوع الدائم للتخلص من ألم الحاضرـ البحث المفقود عن زمن هانئ وهادئ بعيدا عن شلالات مهاجمة لذات منجرفة باستمرار في دوامة سؤال الثقافة والعيش، يتدفق شعور الحنين بقوة كلما تضخم حجم الفقد وتكوم الوجود في كآبة مقرفة إزاء حيوات تبدو أنها بلا جدوى ولا تقدم للروح أحذية كما يقول محمود درويش حين نحكي عن الشموس القاسية مسرفين في الذكريات الحارة نتلذذ بالمعاشرة الروحية المبهمة..."ص 169، تسعفنا رواية هشام ناجح في تفكيك الوجود الهوياتي والفردي لكائن يحيا التخلف والحضارة داخله ويمارس التثاقف من موقع الضعف المؤدي للاستلاب ، فتنبجس مفارقة الوجود عصية عن الادراك ومسببة لهلوسات ونزوع دائم للفرار النفسي نحو ثقوب سوداء مظلمة في الذاكرة حيث حكايات الجدات، واصوات الهامش الشفهية المثقلة بمسكوكات وخرافات كأقراص مخدرة تحدث النشوة ، ولا تعالج اصل الداء، نهج هشام ناجح في روايته تعددية الأجناس والأصوات فشكلت الحوارية عمودا أساسيا في بناء المحكي ، كما أنه استطاع بعبقرية سردية السباحة في رحاب الثقافات والحضارات بملكة معرفية وفنية مكنته من منح روايته فرادة كبيرة جدا من حيث الاسلبة والسرد.