ما أقسى تَصاريف الأيّام ، ها أنا ذا انصرِف عن طريقي الذي سَلكتهُ خمسة أعوامٍ ، تَتردّد في صدري مشاعرَ الكُره، اجدني بمفازةٍ من العذابِ في وجهةٍ اطويها ، اُطالِع مطلع كُلّ صباحٍ طريقي ؛ من عينينِ تجولُ بهما أطياف الدَّمع ، لا يَعرِفُ ما أُكَابِدُ غيرَ حقيبة كتبي ، التي اُتخِمت بحملِ بعيرٍ، كتب وكراسات احملها طوعا وكرها ، وصُحبة طريقٍ لا أجدُ في رفقتهم إلّا التَّشَاكس والتَّراشق بالمعَايبِ، ومعاركَ لا نهاية لها ، وصياد مجهول انشقّت عنه الأرض ، يَستوطنُ الطريق بياض النّهار وطرفا من الليلِ ، يقف في شموخِ المارد المهيب، يَذرع الطّريقَ جِيئة وذهابا، لا يسلم منه سالِك، " جلال " هكذا ينادونه ، ما أقسى مرآه في أسمالهِ البالية، وسحنتهِ المُكفَهرة ، وأقدامه الحافية الخَشنة ، يُلوِّحُ بعصاه الغليظة في طيشٍ مُريع؛ يملأ تَصايحه المُخيف زِمام الفَضاء ، ليرتطم بقلوبِ المارة ، فترى وجوههم مصفرة ، ترهقهم ذِلة ، قد زَاغت الأبصار ، وبلغت القلوبُ الحَنَاجِر ، يَودّ أحدهم لو يفتدي من هَولِ سَاعتئذٍ ببنيهِ وصَاحِبتهِ وأخيه ، وفصيلته التي تُؤويهِ، صغيرا شُغلِتُ بأمرِ قاطع الطَّريق هذا ، تواردت القصص عن شَمسِ فتوته وشبابه المنصرم ، لازالت كلمات الريس " مزارع " الخشنة تستفز أذني :" خرجت عليه جنية وهو راجعٌ من العسكريةِ ، بعدما سَلكَ طريق المقابر وسط أكداس الظَّلام ، احتالت عليهِ حتّى مسّ يدها ، فسلبته عقله وطاش لبّه"، أصبحَ مجرد التَّفكير فيهِ يطردُ عني أيّ مظهرٍ من مَظاهرِ البَهجة ، اجدني وقد انفلتَ زِمام عقلي مُتنَقلا بين متاعب لا حدَّ لها ، انسلخ عن أماني الصَّبيان من حولي ، ممّن تبَاروا في تِعدادِ المَشاهي والمُتَع، فمن قائلٍ:" لا فِكَاك من شراءِ العسلية ، ومن متردّدٍ حائر بين لذةِ القصب وأقماع الجَلاّب "، أمّا أنا ففي يأسٍ مُقيم ، وزهدٍ مطبق ، حتّى إذا ما قطعنا نصف المسافةِ، وتلوثت أجسادنا بترابِ الجِسر الخانق ؛ إلّا وتشكلت أمامي هيئة " جلال " بلحيتهِ المغبرة ، وابتسامته الميتة التي تقطر شرا ، عندها تَتلجلج مفاصلي ، وتتوانى خطواتي ، يُخامرني شعور القهر والضّياع، في استحياءٍ تنَسابُ مدامعي حارة ، أعاجلها بكمي، مُتلهيا عنها قليلا بتفاهاتِ رِفَاقي ، الذين استسلموا لوطأةِ ذَاكَ الكابوس ، ولسان حالهم يقول في استماتةٍ:" العمر واحد والرَّب واحد "، في تلك الدقائق يَتبادر إلى ذهني كلام شيخ الغفر" محفوظ " مُتناصِحا في فزلكةِ فطاحلة رجال القانون :" جلال لو ضرب العمدة ذات نفسه وموته مش هياخد فيه ساعة سجن ، دا مخبول رسمي ومعاه شهادة بكدا"، اسقط ساعتها مُتحَسِّرا على نفسي ، اتذكّر ما تناثرَ حَولَ سورِ المدرسةِ من ملاهي، الترمس ، الجيلاتي، الحمصية، وطعمية الحاجة " موزة" التي تفوق الكباب مذاقا ، كم تمنيتُ مِرارا ؛ لو كنتُ نسيا منسيا ، أو دابة من دواب الطّريق تجهل حقيقة " جلال" فلا تخشاهُ، ارميه من طَرفٍ خفي مُقبلا في عُجالةٍ ، يُبرطمُ شاتما، يسبُّ ويلعن ، اقسِمُ بأغلظِ الأيمان بأن الدِّماء تهرب من عروقي ، لا املكَ غير الدّعاءِ ، يراودُ خاطري أمل عزيز؛ أن يرزقني الله تعالى منجاة تغشيه عني فلا يبصرني .
لا اُنكِرُ رحمة العناية الإلهية ولطفها بي، تنشق الأرض عمن يُبدِّد مخاوفي أمنا ، عابر سبيل يجرُّ بقرته، أو سائق عربة " كارو" ألوذُ بهِ مُتحننا ، متناسيا لدغات " كرباجه" ، لم يكن " جلال " شرّ كله ، بل كانَ في مراتٍ نجدة من السّماءِ، اهتاج " ناظر " المدرسة يوما ، مُستنكِرا أفعاله ، وكيفَ أصَبحَ ذاكَ المعتوه عقبةً كؤود ، في طريقِ التلاميذ ، وآن الأوان من تدخل الجهاتِ المعنية للحدّ من أفعالهِ، وتلك لعمرك فاتحة خير ، سهلت على أمثالي التعلّل، فالتأخر عن الطَّابورِ مباح ولا حرج .
جلستُ إلى عمي يقصُّ عليّ من سيرِ الغابرين ، وإذ بيدٍ ثقيلة تحطُّ فوق كتفي ، وصوت قاسي النَّبرة يندلقُ قائلا:" معاك سجاير "، انفرجت أسارير عمي ، أشّرَ لهُ بالجلوسِ في ترحابٍ ينبيء عن سَابقةِ معرفةٍ ، كانت صدمتي مهولة ، ومصيبتي تفوق الوصف ، وأنا اجلس إلى جوارِ " جلال " ، نعم ! ، إنّه هو بشحمهِ ولحمهِ ، اسودّت الدُّنيا واحمرت في عيني ، اخرجني الذّعر عن طوري ، فجعلت أحبو كالصّغارِ ، عاجزا عن القيام ، كَان عمي من الحكمةِ لأن يفطن لِما يدور ببالي ، انفلت في شدةٍ قائلا :" دا ابن اخويا بيروح المدرسة عندكم ، خلي بالك منه"، هزَّ صاحبنا رأسهُ مُؤمِّنا على كلامهِ، وهو يسحبُ آخر أنفاس سيجارته ، اخبرني عمي أن " جلال" صديق عمره ، أمّا أمر جنونه فكذبةٍ أذاعها ،يتَكسَّب من وراءها ، و تضفي عليه هيبة ووقارا ، عادت الحياة إلى جسدي المهمل، ودبّت الثقة رويدا في قلبي الكسير ، لأجدني وقد هانَ أمر " جلال" ، حتّى آنست بهِ، فقادتني الثقة لأن ألقي إليهِ بتحياتي ، وإن لم يرد سلامي ..
لا اُنكِرُ رحمة العناية الإلهية ولطفها بي، تنشق الأرض عمن يُبدِّد مخاوفي أمنا ، عابر سبيل يجرُّ بقرته، أو سائق عربة " كارو" ألوذُ بهِ مُتحننا ، متناسيا لدغات " كرباجه" ، لم يكن " جلال " شرّ كله ، بل كانَ في مراتٍ نجدة من السّماءِ، اهتاج " ناظر " المدرسة يوما ، مُستنكِرا أفعاله ، وكيفَ أصَبحَ ذاكَ المعتوه عقبةً كؤود ، في طريقِ التلاميذ ، وآن الأوان من تدخل الجهاتِ المعنية للحدّ من أفعالهِ، وتلك لعمرك فاتحة خير ، سهلت على أمثالي التعلّل، فالتأخر عن الطَّابورِ مباح ولا حرج .
جلستُ إلى عمي يقصُّ عليّ من سيرِ الغابرين ، وإذ بيدٍ ثقيلة تحطُّ فوق كتفي ، وصوت قاسي النَّبرة يندلقُ قائلا:" معاك سجاير "، انفرجت أسارير عمي ، أشّرَ لهُ بالجلوسِ في ترحابٍ ينبيء عن سَابقةِ معرفةٍ ، كانت صدمتي مهولة ، ومصيبتي تفوق الوصف ، وأنا اجلس إلى جوارِ " جلال " ، نعم ! ، إنّه هو بشحمهِ ولحمهِ ، اسودّت الدُّنيا واحمرت في عيني ، اخرجني الذّعر عن طوري ، فجعلت أحبو كالصّغارِ ، عاجزا عن القيام ، كَان عمي من الحكمةِ لأن يفطن لِما يدور ببالي ، انفلت في شدةٍ قائلا :" دا ابن اخويا بيروح المدرسة عندكم ، خلي بالك منه"، هزَّ صاحبنا رأسهُ مُؤمِّنا على كلامهِ، وهو يسحبُ آخر أنفاس سيجارته ، اخبرني عمي أن " جلال" صديق عمره ، أمّا أمر جنونه فكذبةٍ أذاعها ،يتَكسَّب من وراءها ، و تضفي عليه هيبة ووقارا ، عادت الحياة إلى جسدي المهمل، ودبّت الثقة رويدا في قلبي الكسير ، لأجدني وقد هانَ أمر " جلال" ، حتّى آنست بهِ، فقادتني الثقة لأن ألقي إليهِ بتحياتي ، وإن لم يرد سلامي ..