سعى”الإنسان” كونيا- منذ القدم ومازال، في صيرورة التاريخ وسيرورة التداول الحضاري، وفي دينامية ماكرومعرفية- إلى التركيب التثاقفي بمراكمة الخبرات والاكتشافات، غاياته القصوى .. وذلك بحثا عن امتلاك توازن ثقافي بناء، حتى ولو من خلال التفكيك لإعادة إنتاجه بخصوصيات متبلورة، من أجل تركيب لاحق ومجدد، في تنافسية متحدية لتأكيد الذات، توجسا من هيمنة غازية..وهذا حراك يكاد يكون طبيعي وفطري، إن لم نقل كذلك، بنزوع طموح نحو “الزعامة” التاريخية لكل عصر، فكانت في هذا المجال، فتوحات الإنسان الكبرى في الوجود والمعرفة نتائج مركبة..
واستمر ما يستلم من حقبة إلى حقبة يتنشأ ويتراكم..فالثقافة إذن هي الصعود نحو التحضر المنفتح انطلاقا من التحضر المؤسس، وهي في حركيتها تمثل لحضارة أرقى المجتمعات، في راهنيتها وحقبتها، قصد تأسيس مجتمعات الحضارة المقبلة في زمانها.. وبهذا تعبر أصلا وأساسا، في وعيها الجمعي المتواتر، عن ذلك التحقق التواصلي بين الأجيال حتى لا تضيع أجيال التواصل.. فهوية الإنسان كعنصر خلقي، تتجسد فيما فضل به وما كلف به، دون سائر المخلوقات، من ثقافة صغرى وكبرى، سواء كان فردا أو في كينونة مشتركة كوجود .. ودون هذا الوعي، فلا يمكن “للشخص” إلا أن يكون “أميا” جاهلا لوجوده أو متجاهلا له..ولهذا فالأمية الأكثر فداحة هي أمية “الثقافة” بدلالتها الإبداعية المسؤولة.. كما أن كل اغترار بأحادية توجهها، انطلاقا من عقدة التفوق أو المنظور الاستخفافي، يجعل منه، أي هذا الاغترار، عامل تدمير وتقهقر لها، يتبعه انحلال ثم انهيار…
وذلك نتيجة تمزيق التواصل وإعاقة التلاقح بين الأطراف في جسد المجتمع الواحد خاصة، أو بين عناصر المجتمع الإنساني عامة..ولهذا ففي كل مجتمعاتنا، نحن بني الإنسان أفرادا وجماعات، لا نحس في نسيجها إلا بالثقافة.. فلا معنى للوجود دونها، لان بذور تفتقها هي أكثر عمقا وتجذرا في الحياة والهوية والتاريخ والحضارة الخاصة لكل منا.. وبدون حدود، فهي تملأ كل حيز وتغطي كل مجال وتتزامن وتتساكن مع/ وفي لحظات الحياة وحيثياتها.. ومن هنا، فنحن الأفراد لا يمكن أن نتماسك دون نسيج ثقافي، نتلمس ذاتنا ونستشعرها ونتوق إلى إشعاعها، ونعيش كيونتنا في غمرتها، نتباين و نتبنين، ونتحمل مسؤولية عصرنا في أوطاننا .. نتسلم بجدارة ما ورثناه من السابقين ونسلمه باستحقاق إبداعا متجددا للاحقين..لكن،وباعتبارنا كذلك، فالتخوف يكمن في حالة ما إذا تموقعنا في خانة “مثقفين” وتفاقمت فيما بيننا ظاهرة “الانتلجانسيا” إلى حد التعالي العلماوي، أفرادا وفئات، فننفصل عن جوهر ثقافتنا الذاتية ونتحول نتيجة ذلك، إلى مجرد أقلام ومكاتب ولغات وعروض وأوراق وأصوات وصور وسلط وديماغوجيات، ثم نطفو فوق السطح الذي يتفوقع بأشكالنا وألواننا وسطورنا وخطاباتنا، وبدغمائية مريضة بفخفختها واغترارها، دون الغوص في عمق يستلزمه كل موقف..إن الثقافة ليست فحسب كراسات ومعلومات وفلسفة وفن وآداب، بل هي فعل وحياة وفكر ووجدان وذوق وتربية.. ليست خطابات بل فحوى.. ليست أدوات بل أداء.. ومن لا تربيه وتؤهله عطاءاته الإبداعية والفكرية، فلا قيمة لذاته الثقافية…
– فما الذي يمكن أن يعوق ثقافة وطن عريق في التحضر كوطننا على سبيل المثال، عريق في التواصل بين أطرافه إلى درجة أن تواترت، في عمقه التاريخي والثقافي، الأحداث منسابة ومنسكبة في بعضها كانسياب وانسكاب تموجات متلاحقة تؤول كلها إلى الاستدماج.. فإذا افترضنا عدة احتمالات وتطلعنا إلى الإجابة عنها، فإن ما يهم طرحه قبلا و بعدا هي التساؤالات التالية: كيف سيكون عليه حال ثقافتنا التي نحن منها وإليها، كما هي أيضا منها وإلينا ؟
-لو أننا كنا مجرد خطابيين، لا نحسن الإصغاء، ولا نهتم بقيم الحوار…
– لو أننا نركب الاحتكار، فننصب أنفسنا حكماء، ونحاول فرض ذواتنا بدل تحقيقها، غايتنا أن نجعل لأنفسنا “موقعا” نفعيا هو المبتغى في نهاية المطاف..؟
– لو أننا كنا لا نعمل سوى على خلق عوامل الخلاف بقطائعه بدل الاختلاف بخصوبته، فنعجز عن حل معادلة صنعناها وأزمناها، ثم نتنازل عنها كليا بعد فشلنا..؟
– لو أننا كنا متطرفين حسب قاعدة “إما أو إما”..إما أن نهب أنفسنا كليا أو نمنعها كليا، فنتأرج بين ثقافة الإباحة و ثقافة التابوهات..؟
– لو أننا كنا نفكر و نقتنع فنحسم، ثم نوصد علينا أبواب قلعتنا منعزلين، فتنشطر ثقافتنا إلى ثقافات تنافرية، كل له وجهته المغلقة..؟
– لو أننا كنا نغلب ثقافة الغير على ثقافتنا إلى حد الإشعاع، و نجعل ما لدينا مغمورا يواريه النسيان إلى حد الخفوت، فتكون النتيجة أننا نمر ونعبر بأنفسنا انطلاقا من مشروع الآخر و منظوره..؟
– لو أننا كنا نقوم بالانتقاد بدل النقد، فننتقد للهجوم فقط أو للدفاع فقط، في صراع حول”النفوذ الثقافي” أوغيره، و ليس لتقويم ما يعوقنا في أنفسنا كمخاطبين أو يعوق الآخرين كمتلقين..؟ وهذا ما يفسر أننا نمتطي الخطاب من أجل الاستقطاب، و ننزع إلى المدح والاستمداح ، ولما دوننا القدح والإقصاء…
– لو أننا كنا نعدم روح البحث والاستكشاف، فنتقاعس عن التطور، ثم نلغي أنفسنا و نقصيها من حلبة السباق الحضاري، فتكون النتيجة انحصار رصيدنا وجموده..؟ وبذلك نعطي للغير فرصة دراستنا و قراءتنا قراءة انتروبولوجية، في خانة التخلف…
– و لو أننا…و لو أننا… فمتى يتحقق التواصل بكل ألواننا؟ و نحن نرى الأزمات الثقافية متتالية، يتزايد تأزيمها بتقزيمنا بين الأجيال والمراحل والمجتمعات، و نرى تراثنا انحسر و أصبح متحفيا، وخطاباتنا تنزل على أرضية حقل لا توافقها تربته، و نرى إبداعنا يغامر ويخاطر في خضم أشكال القطائع المطلقة… فلا يسعنا سوى أن نصيح: “أيها المثقفون حققوا التواصل”.. فنحن في حاجة إلى الالتحام حتى لا نتنافر، و إلى المناعة حتى لا نخترق، و إلى الثقة حتى لا يكتسحنا الإحباط..
الأحد 4 أكتوبر 2015
واستمر ما يستلم من حقبة إلى حقبة يتنشأ ويتراكم..فالثقافة إذن هي الصعود نحو التحضر المنفتح انطلاقا من التحضر المؤسس، وهي في حركيتها تمثل لحضارة أرقى المجتمعات، في راهنيتها وحقبتها، قصد تأسيس مجتمعات الحضارة المقبلة في زمانها.. وبهذا تعبر أصلا وأساسا، في وعيها الجمعي المتواتر، عن ذلك التحقق التواصلي بين الأجيال حتى لا تضيع أجيال التواصل.. فهوية الإنسان كعنصر خلقي، تتجسد فيما فضل به وما كلف به، دون سائر المخلوقات، من ثقافة صغرى وكبرى، سواء كان فردا أو في كينونة مشتركة كوجود .. ودون هذا الوعي، فلا يمكن “للشخص” إلا أن يكون “أميا” جاهلا لوجوده أو متجاهلا له..ولهذا فالأمية الأكثر فداحة هي أمية “الثقافة” بدلالتها الإبداعية المسؤولة.. كما أن كل اغترار بأحادية توجهها، انطلاقا من عقدة التفوق أو المنظور الاستخفافي، يجعل منه، أي هذا الاغترار، عامل تدمير وتقهقر لها، يتبعه انحلال ثم انهيار…
وذلك نتيجة تمزيق التواصل وإعاقة التلاقح بين الأطراف في جسد المجتمع الواحد خاصة، أو بين عناصر المجتمع الإنساني عامة..ولهذا ففي كل مجتمعاتنا، نحن بني الإنسان أفرادا وجماعات، لا نحس في نسيجها إلا بالثقافة.. فلا معنى للوجود دونها، لان بذور تفتقها هي أكثر عمقا وتجذرا في الحياة والهوية والتاريخ والحضارة الخاصة لكل منا.. وبدون حدود، فهي تملأ كل حيز وتغطي كل مجال وتتزامن وتتساكن مع/ وفي لحظات الحياة وحيثياتها.. ومن هنا، فنحن الأفراد لا يمكن أن نتماسك دون نسيج ثقافي، نتلمس ذاتنا ونستشعرها ونتوق إلى إشعاعها، ونعيش كيونتنا في غمرتها، نتباين و نتبنين، ونتحمل مسؤولية عصرنا في أوطاننا .. نتسلم بجدارة ما ورثناه من السابقين ونسلمه باستحقاق إبداعا متجددا للاحقين..لكن،وباعتبارنا كذلك، فالتخوف يكمن في حالة ما إذا تموقعنا في خانة “مثقفين” وتفاقمت فيما بيننا ظاهرة “الانتلجانسيا” إلى حد التعالي العلماوي، أفرادا وفئات، فننفصل عن جوهر ثقافتنا الذاتية ونتحول نتيجة ذلك، إلى مجرد أقلام ومكاتب ولغات وعروض وأوراق وأصوات وصور وسلط وديماغوجيات، ثم نطفو فوق السطح الذي يتفوقع بأشكالنا وألواننا وسطورنا وخطاباتنا، وبدغمائية مريضة بفخفختها واغترارها، دون الغوص في عمق يستلزمه كل موقف..إن الثقافة ليست فحسب كراسات ومعلومات وفلسفة وفن وآداب، بل هي فعل وحياة وفكر ووجدان وذوق وتربية.. ليست خطابات بل فحوى.. ليست أدوات بل أداء.. ومن لا تربيه وتؤهله عطاءاته الإبداعية والفكرية، فلا قيمة لذاته الثقافية…
– فما الذي يمكن أن يعوق ثقافة وطن عريق في التحضر كوطننا على سبيل المثال، عريق في التواصل بين أطرافه إلى درجة أن تواترت، في عمقه التاريخي والثقافي، الأحداث منسابة ومنسكبة في بعضها كانسياب وانسكاب تموجات متلاحقة تؤول كلها إلى الاستدماج.. فإذا افترضنا عدة احتمالات وتطلعنا إلى الإجابة عنها، فإن ما يهم طرحه قبلا و بعدا هي التساؤالات التالية: كيف سيكون عليه حال ثقافتنا التي نحن منها وإليها، كما هي أيضا منها وإلينا ؟
-لو أننا كنا مجرد خطابيين، لا نحسن الإصغاء، ولا نهتم بقيم الحوار…
– لو أننا نركب الاحتكار، فننصب أنفسنا حكماء، ونحاول فرض ذواتنا بدل تحقيقها، غايتنا أن نجعل لأنفسنا “موقعا” نفعيا هو المبتغى في نهاية المطاف..؟
– لو أننا كنا لا نعمل سوى على خلق عوامل الخلاف بقطائعه بدل الاختلاف بخصوبته، فنعجز عن حل معادلة صنعناها وأزمناها، ثم نتنازل عنها كليا بعد فشلنا..؟
– لو أننا كنا متطرفين حسب قاعدة “إما أو إما”..إما أن نهب أنفسنا كليا أو نمنعها كليا، فنتأرج بين ثقافة الإباحة و ثقافة التابوهات..؟
– لو أننا كنا نفكر و نقتنع فنحسم، ثم نوصد علينا أبواب قلعتنا منعزلين، فتنشطر ثقافتنا إلى ثقافات تنافرية، كل له وجهته المغلقة..؟
– لو أننا كنا نغلب ثقافة الغير على ثقافتنا إلى حد الإشعاع، و نجعل ما لدينا مغمورا يواريه النسيان إلى حد الخفوت، فتكون النتيجة أننا نمر ونعبر بأنفسنا انطلاقا من مشروع الآخر و منظوره..؟
– لو أننا كنا نقوم بالانتقاد بدل النقد، فننتقد للهجوم فقط أو للدفاع فقط، في صراع حول”النفوذ الثقافي” أوغيره، و ليس لتقويم ما يعوقنا في أنفسنا كمخاطبين أو يعوق الآخرين كمتلقين..؟ وهذا ما يفسر أننا نمتطي الخطاب من أجل الاستقطاب، و ننزع إلى المدح والاستمداح ، ولما دوننا القدح والإقصاء…
– لو أننا كنا نعدم روح البحث والاستكشاف، فنتقاعس عن التطور، ثم نلغي أنفسنا و نقصيها من حلبة السباق الحضاري، فتكون النتيجة انحصار رصيدنا وجموده..؟ وبذلك نعطي للغير فرصة دراستنا و قراءتنا قراءة انتروبولوجية، في خانة التخلف…
– و لو أننا…و لو أننا… فمتى يتحقق التواصل بكل ألواننا؟ و نحن نرى الأزمات الثقافية متتالية، يتزايد تأزيمها بتقزيمنا بين الأجيال والمراحل والمجتمعات، و نرى تراثنا انحسر و أصبح متحفيا، وخطاباتنا تنزل على أرضية حقل لا توافقها تربته، و نرى إبداعنا يغامر ويخاطر في خضم أشكال القطائع المطلقة… فلا يسعنا سوى أن نصيح: “أيها المثقفون حققوا التواصل”.. فنحن في حاجة إلى الالتحام حتى لا نتنافر، و إلى المناعة حتى لا نخترق، و إلى الثقة حتى لا يكتسحنا الإحباط..
الأحد 4 أكتوبر 2015