عندما ألمّت هزيمة حزيران ١٩٦٧ بالأمة العربية كان المواطن (ع) في الثالثة عشرة من عمره، وكان له من الهزيمة نصيب أيضاً، فقد اتهم من بعض حملة البنادق، ومنهم أبوه، بأنه «طابور خامس»، ولم يكن يفهم معنى العبارة. حملة البنادق هؤلاء خشي قسم منهم على أنفسهم بعد أن سقطت الضفة الغربية بأيدي القوات الإسرائيلية، فقرر تسليم بندقيته، غير أنه لم يجرؤ شخصياً على الذهاب إلى مبنى البلدية ليسلمها بنفسه، ما دفعه إلى انتداب المواطن (ع) لينوب عنه.
في تلك الأيام كان عدد سكان الوطن العربي حوالى مائة مليون وزعت عليهم الهزيمة، وكان نصيب المواطن (ع) منها ضئيلاً، فلم يشعر بالهزيمة التي بدأت، مع الأيام، تكبر ككرة الثلج فكبر نصيبه منها، علماً أن عدد سكان الوطن العربي تضاعف مرتين، وكان من المفترض أن يصغر نصيبه ليبلغ ثلث ما كان عليه يوم وقعت الهزيمة، وقد شعر هو بهذا الأمر الغريب، ما دفعه في العام ٢٠١٦ لأن يقرأ كتاباً عدّه مؤلفه «شظايا سيرة» عنوانه «حزيران الذي لا ينتهي».
كان المواطن (ع) يواصل حياته ولم يكن يشعر بالهزيمة من الداخل، فغالباً ما كان يكرر سطر الشاعر توفيق زياد في الهزيمة «إنها للخلف خطوة من أجل عشر للأمام»، علماً أنها كانت للخلف عشر خطوات من أجل واحدة للأمام لم تنجز.
واصل المواطن (ع) حياته فعانى ما عاناه، ومر بتجارب عنيفة، وشهد ما شهد، فلم تزلزل هذه كلها أركانه ولم يشعر حقاً بالهزيمة الشخصية، ولعل السبب أنه لم يشعر بخيانة جسده له. ظل يواصل حياته متحدياً الصعاب، يسافر ويقارع ويتغرب ويتعلم اللغات ويكتب وينجز.
قبل عشر سنوات زار المواطن (ع) طبيب أمراض جلدية، فنصحه الأخير بأن يهتم بجسده، فابتسم له، وقال: منذ عقود لم يكن اهتمامي منصباً على الجسد. إنني أشارك في الحياة العامة وهي ما تشغل تفكيري.
منذ ثلاثة أشهر اضطر المواطن (ع) ألا يغادر البيت إلا لعيادة طبيب أو مركز صحي أو الانتقال من شقة إلى أخرى، فأيقن أنه الآن بات مهزوماً، وتذكر ما قاله له طبيب الجلد وأدرك أن هزيمة المرء تبدأ حين يخونه الجسد «يا لخيانات الجسد!»، وأن الزمن سينتصر علينا جميعاً، ولطالما كان يكرر مقطع محمود درويش «لم يبق من الليل ومني شيء نتصارع فيه وعليه، لكن الليل يعود إلى ليلته وأنا أسقط في حفرة هذا الظل».
تذكر المواطن (ع) ثلاث روايات كان قرأها، هي: «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، و»الصبار» لسحر خليفة، و»نهاية رجل شجاع» لحنا مينة، تذكرها فقد ألحّ مصير بعض شخصياتها على ذهنه أو صار يعاني مما عانت منه، ولعله أدرك
الآن حقاً أن هزيمة الإنسان تبدأ من الداخل، من خيانات الجسد.
في رواية منيف يحتمل رجب الشخصية الرئيسة السجن ويصمد وتحثه أمه على الصمود. كانت الأم تعاني وتحتمل الإهانات وتكتم غيظها وتخفي هذا عن ابنها حتى لا يضعف، بل وكانت تطلب منه أن يكون رجلاً كأبيه، فصمد، وماتت الأم لتبدأ أخته أنيسة بزيارته. لفتت أنيسة انتباه رجب إلى جسده وإلى الحياة في الخارج فبدأ ينهار. يتذكر المواطن (ع) هذا، ويتذكر أيضاً مفيد الوحش في «نهاية رجل شجاع» التي أخرجت مسلسلاً تلفازياً تابعه بشغف.
كان مفيد قوياً صلباً احتمل السجن والعذاب وقسوة الحياة، وكان الآخرون في الميناء، حيث مكان عمله، يخشونه، ثم أصيب بالسكري فضعف وبترت ساقه، فتجرأ عليه البطحيش الذي كان يخشاه. نعم يتذكر المواطن (ع) هذا، ويتذكر أكثر. يتذكر مثلاً توزع اهتمامات فلسطينيين نشيطين في «الصبار». ثمة هم وطني يشغلهم يتمثل في مقاومة الاحتلال، وثمة هم شخصي يتمثل في مرض الأب وحاجته إلى الرعاية الصحية، وهذا يشغل تفكير العائلة كلها، خاصة عادل الكرمي سليل العائلة المالكة. يتمتع عادل بوعي وطني يرى في الاحتلال شراً يجب مقاومته، ولكن تفكيره مشتت، فالأرض التي كانت العائلة تعيش من خيراتها بارت وهجرها المزارعون للعمل في المصانع الإسرائيلية، والأب مريض يعاني ويعيش في الماضي وغائب عما يجري في الواقع، وهو نفسه، أي عادل، مضطر للعمل أيضاً في المصانع الإسرائيلية وإهمال مزرعة أبيه، وقريبه أسامة القادم من الخارج يريد منع العمال من مواصلة العمل في مصانع العدو، والأخ الصغير لعادل باسل منغمس كلياً بالهم الوطني يعيش على الشعارات الثورية اليسارية، فلا يروق له ما يجري، ويريد تغيير الواقع كله بشعاراته وأفكاره.
يتذكر المواطن (ع) هذه الروايات ويتذكر حزيران ١٩٦٧ وهزيمة الأمة، ويعيش حزيران ٢٠٢٢ وهو يعيش خيانات جسده، ويشعر لأول مرة أنه الآن غير قادر على مقاومة الهزيمة. هل عبثاً صار يكرر مقطعاً من «لاعب النرد» لمحمود درويش؟
يقول: «من أنا لأقول لكم/ ما أقول لكم؟/ ... أنا مثلكم أو أقل قليلاً ... من أنا لأخيب ظن العدم؟».
حقاً من هو المواطن (ع)؟! من هو ليجعل من هزيمته موازياً لهزيمة حزيران؟!
أ. د. عادل الأسطة
2022-06-05
في تلك الأيام كان عدد سكان الوطن العربي حوالى مائة مليون وزعت عليهم الهزيمة، وكان نصيب المواطن (ع) منها ضئيلاً، فلم يشعر بالهزيمة التي بدأت، مع الأيام، تكبر ككرة الثلج فكبر نصيبه منها، علماً أن عدد سكان الوطن العربي تضاعف مرتين، وكان من المفترض أن يصغر نصيبه ليبلغ ثلث ما كان عليه يوم وقعت الهزيمة، وقد شعر هو بهذا الأمر الغريب، ما دفعه في العام ٢٠١٦ لأن يقرأ كتاباً عدّه مؤلفه «شظايا سيرة» عنوانه «حزيران الذي لا ينتهي».
كان المواطن (ع) يواصل حياته ولم يكن يشعر بالهزيمة من الداخل، فغالباً ما كان يكرر سطر الشاعر توفيق زياد في الهزيمة «إنها للخلف خطوة من أجل عشر للأمام»، علماً أنها كانت للخلف عشر خطوات من أجل واحدة للأمام لم تنجز.
واصل المواطن (ع) حياته فعانى ما عاناه، ومر بتجارب عنيفة، وشهد ما شهد، فلم تزلزل هذه كلها أركانه ولم يشعر حقاً بالهزيمة الشخصية، ولعل السبب أنه لم يشعر بخيانة جسده له. ظل يواصل حياته متحدياً الصعاب، يسافر ويقارع ويتغرب ويتعلم اللغات ويكتب وينجز.
قبل عشر سنوات زار المواطن (ع) طبيب أمراض جلدية، فنصحه الأخير بأن يهتم بجسده، فابتسم له، وقال: منذ عقود لم يكن اهتمامي منصباً على الجسد. إنني أشارك في الحياة العامة وهي ما تشغل تفكيري.
منذ ثلاثة أشهر اضطر المواطن (ع) ألا يغادر البيت إلا لعيادة طبيب أو مركز صحي أو الانتقال من شقة إلى أخرى، فأيقن أنه الآن بات مهزوماً، وتذكر ما قاله له طبيب الجلد وأدرك أن هزيمة المرء تبدأ حين يخونه الجسد «يا لخيانات الجسد!»، وأن الزمن سينتصر علينا جميعاً، ولطالما كان يكرر مقطع محمود درويش «لم يبق من الليل ومني شيء نتصارع فيه وعليه، لكن الليل يعود إلى ليلته وأنا أسقط في حفرة هذا الظل».
تذكر المواطن (ع) ثلاث روايات كان قرأها، هي: «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، و»الصبار» لسحر خليفة، و»نهاية رجل شجاع» لحنا مينة، تذكرها فقد ألحّ مصير بعض شخصياتها على ذهنه أو صار يعاني مما عانت منه، ولعله أدرك
الآن حقاً أن هزيمة الإنسان تبدأ من الداخل، من خيانات الجسد.
في رواية منيف يحتمل رجب الشخصية الرئيسة السجن ويصمد وتحثه أمه على الصمود. كانت الأم تعاني وتحتمل الإهانات وتكتم غيظها وتخفي هذا عن ابنها حتى لا يضعف، بل وكانت تطلب منه أن يكون رجلاً كأبيه، فصمد، وماتت الأم لتبدأ أخته أنيسة بزيارته. لفتت أنيسة انتباه رجب إلى جسده وإلى الحياة في الخارج فبدأ ينهار. يتذكر المواطن (ع) هذا، ويتذكر أيضاً مفيد الوحش في «نهاية رجل شجاع» التي أخرجت مسلسلاً تلفازياً تابعه بشغف.
كان مفيد قوياً صلباً احتمل السجن والعذاب وقسوة الحياة، وكان الآخرون في الميناء، حيث مكان عمله، يخشونه، ثم أصيب بالسكري فضعف وبترت ساقه، فتجرأ عليه البطحيش الذي كان يخشاه. نعم يتذكر المواطن (ع) هذا، ويتذكر أكثر. يتذكر مثلاً توزع اهتمامات فلسطينيين نشيطين في «الصبار». ثمة هم وطني يشغلهم يتمثل في مقاومة الاحتلال، وثمة هم شخصي يتمثل في مرض الأب وحاجته إلى الرعاية الصحية، وهذا يشغل تفكير العائلة كلها، خاصة عادل الكرمي سليل العائلة المالكة. يتمتع عادل بوعي وطني يرى في الاحتلال شراً يجب مقاومته، ولكن تفكيره مشتت، فالأرض التي كانت العائلة تعيش من خيراتها بارت وهجرها المزارعون للعمل في المصانع الإسرائيلية، والأب مريض يعاني ويعيش في الماضي وغائب عما يجري في الواقع، وهو نفسه، أي عادل، مضطر للعمل أيضاً في المصانع الإسرائيلية وإهمال مزرعة أبيه، وقريبه أسامة القادم من الخارج يريد منع العمال من مواصلة العمل في مصانع العدو، والأخ الصغير لعادل باسل منغمس كلياً بالهم الوطني يعيش على الشعارات الثورية اليسارية، فلا يروق له ما يجري، ويريد تغيير الواقع كله بشعاراته وأفكاره.
يتذكر المواطن (ع) هذه الروايات ويتذكر حزيران ١٩٦٧ وهزيمة الأمة، ويعيش حزيران ٢٠٢٢ وهو يعيش خيانات جسده، ويشعر لأول مرة أنه الآن غير قادر على مقاومة الهزيمة. هل عبثاً صار يكرر مقطعاً من «لاعب النرد» لمحمود درويش؟
يقول: «من أنا لأقول لكم/ ما أقول لكم؟/ ... أنا مثلكم أو أقل قليلاً ... من أنا لأخيب ظن العدم؟».
حقاً من هو المواطن (ع)؟! من هو ليجعل من هزيمته موازياً لهزيمة حزيران؟!
أ. د. عادل الأسطة
2022-06-05