( 1 )
الفرحة بميلاد كاتب جديد موهوب لا يعادلها فرحة، وكرستينا مجدي بروايتها الأولى ( جزيرة الشمعوك ) الصادرة عن دار حدوتة مصرية 2021م، تنضم إلى قائمة الموهوبين الذين حباهم الله بمواهب عالية وضخمة، فالكاتبة تمتلك قدرات سردية هائلة، وخيال خصب مُحلق، وتأخذنا إلى عوالم غير مطروقة كثيرا من قبل في أدبنا العربي، وقد اختطت لنفسها أسلوبا مغايرا، ومتقدما في الكتابة، وكأنها أرادت من البداية ألا تكون إلا نفسها، وقد نلمح الأثر الطيب للتعليم الجيد الذي تلقته، فدرست الهندسة وعلوم الحاسبات، والدراسات العلمية على غير ما يعتقد البعض، تساهم في إثراء العمل الأدبي، وخاصة الرواية التي لا تقف عند حدود محاورة الواقع وإثارة الأسئلة، ولا تقف عند حدود السطح، ولكنها تبلغ الطوايا والأعماق، وتمتد من جميع الجهات لتعانق الكون ذاته بكل مخلوقاته، وموجوداته، الظاهر منه والخفي، من محيطات وبحار وأنهار، وسموات وأراضين، من أشجار ونباتات وأزهار، وجبال وصحاري وتلال وهضاب وصخور، وحيوانات، من المخلوقات الطينية ( البشر ) ومن المخلوقات النارية ( الجن ) ومن المخلوقات المائية ( الأسماك ) ومن المخلوقات الهوائية وغيرها.
وإذا كانت المخلوقات النارية حظت بنصيب وافر من تناول الأدباء والشعراء ورجال الدين وغيرهم، فإن المخلوقات المائية ظلت تعاني من قلة التناول من الأدباء والشعراء، وربما كانت الدراسات العلمية أكثر اهتماما بها، وهناك معاهد وكليات متخصصة تعني وتهتم بها.
وتأخذنا كرستينا مجدي إلى تلك المخلوقات المائية، وتقدم لنا رواية فيها الكثير من الغرائبية والعجائبية، وفيها من الفانتازيا والعبث، وفيها من الخيال العلمي، واعتمدت في فصولها الأولى على تقنية رواية الأصوات، وسعت جاهدة لخلق اسطورتها الخاصة، وإقامة حياة على جزيرة نائية في البحر الأحمر، لم تطأها من قبل قدم إنسان.
........................................
تبدأ الرواية بإعلان ( حياة ) انتهاء فترة حدادها على حبيبها ( رامي )، فعلى مدى ثلاث سنوات ومنذ أن اختفى ليلة زفافهما في ظروف غامضة، وهو يزورها في منامها لينغص عيشتها، ويعكر صفو حياتها، ويقلق مضجعها، ويطاردها في أحلامها التي تتحول إلى كوابيس مفزعة ومرعبة، تكاد أن تخنقها وتزهق روحها.
اتخذت ( حياة ) قرارها باستئناف حياتها من جديد مع ( نديم الخولي ) الذي أحبها، فهو من وجهة نظرها شريك مثالي لحياتها :
( إنه رجل طيب القلب، يحبها ويعتني بها، أين تجد شريكا أفضل منه لحياتها؟! فهو لم ينتظر أن تلتئم جروحها فقط، بل أيضا دفن حبها في قلبه لما يزيد عن تسعة أشهر، وعندما علم بمعاناتها من ألم حبها المفقود تفهمها واحترم مشاعرها ودفن حبه في صمت إلى أن أعلنت له قرارها ) ص 5
في تحد صارخ لنفسها ولربما لرامي الفقيد أيضا، تقرر ( حياة ) أن تقيم حفل زفافها هي و ( نديم ) على نفس الشاطئ الذي اختفى عنده ( رامي ) في ظروف غامضة ليلة زفافه، ويأتيها في صحوها ومنامها زائرا لها من عند هذا الشاطئ ليحيل حياتها إلى جحيم لا يُطاق.
واختفاء ( رامي ) ليلة زفافه يمثل أحد الألغاز التي تثير اهتمام القارئ ويشعل خياله، ويظل يطرح هذا اللغز علامات الاستفهام أين؟ ولماذا؟ ولم؟ وكيف؟.حتى تكشف الكاتبه عنه.
ولم تدع الكاتبة القارئ ليهنأ بالبحث عن إجابة، فتفاجئه في ليلة زفاف ( حياة ) على ( نديم ) بحدث صادم، وأكثر إيلاما على النفس من حدث اختفاء ( رامي ) المُلغز.
في حفل صغير على نفس الشاطئ بشرم الشيخ :
( تراقص الحاضرون من الأصدقاء المقربين وأفراد العائلة على نغمات الموسيقى، تشابكت أصوات الضحك والاحتفال مع محفل المحبين إلى أن اقتحم حفلهم ضيوف غير مرغوبين، فانقلبت ضحكاتهم إلى صراخ امتزج مع بكاء الفتيات، وانقلب العرس إلى جنازة ) ص 8
وهؤلاء الزائرون ليسوا من بني البشر، ولكنها أسماك القرش الغضروفية!!
لجأت الكاتبة إلى أسلوب الصدمات، ويبدو أنها تأثرت به من السينما الروسية، فتقنية الصدمات أحد أساليب المدرسة الروسية في الإخراج، حيث يلجأ المخرج بدلا من تقنية المشاهد إلى تقنية الصدمات، فيقدم للمُشاهد صدمة تلو صدمة، وما يكاد يفيق من صدمة حتى يلاحقه بأخرى وثالثة وهكذا يظل المشاهد يتلقى الصدمات حتى نهاية الفيلم، وهذا الأسلوب لجأت إليه الكاتبة مع قارئها، فهو لا يفيق من الصدمات المتوالية والمتتالية والعنيفة، والتي تهزه هزا وترجه رجا، عقليا ووجدانيا ونفسيا، ويظل متمسكا بالرواية حتى آخر سطر، ويعاود استرجاع الصدمات، وتأملها.
سمكة القرش الزرقاء تحاول أن تبتلع الطفلة الصغيرة ( ملاك ) فترتمي عليها خالتها العروس ( حياة ) لإنقاذها، وفي اللحظة التي وجدت فيها سمكة القرش الزرقاء الفرصة سانحة لالتهام العروس وابنة اختها معا، يهيأ القدر لهما سمكة قرش بيضاء أكبر حجما، ومن فصيلة أخرى، لتتعارك معها، وتدور بينهما حربا شرسة ضروس، تنتهي بموت سمكة القرش الزرقاء! لتأتي ( جميلة ) الشقيقية الكبرى للعروس، وتختطف ابنتها، وتجري بها بعيدا وتحث ( حياة ) على النهوض والابتعاد عن هذا المكان الخطر، ولكن حياة تسمرت في جلستها، وعيناها على القرش الأبيض :
( كاد القرش المُنقذ يرحل في سلام قبل أن تتشابك أنظاره بتلك العروس المتسمرة، علقت أنظار الأبيض بالعروس وبثوبها الستان الأبيض، وتسمرت عينا حياة على ذلك القرش في ذهول كما تسمر جسدها رافضا الرحيل )
فهل نظرات القرش المتفحصة للعروس اخترقت قلبها؟!
هذا ما تكشف عنه الأحداث العجيبة للرواية لاحقا، فالقرش بمكر ودهاء أبى أن يرحل دونها، فباغتها من الخلف، وابتلعها، وأسرع في الهرب!.
.............
( 2 )
يلقي القرش الأبيض بحياة على جزيرة صغيرة نائية، أقرب في شحها وفقرها إلى الصحراء الجرداء، لا عُشب يُؤكل ولاماء عذب يُشرب ولا حيوان تصيده، جابت وهي منهكة القوى، خائرة الأوصال الجزيرة، بحثا من مخرج، لاح لها من بعيد وهي كليلة العينين، ضعيفة الإبصار، هيكل ضخم يتحرك في الماء، ظنته سفينه، فأخذت تصرخ وتنادي باعلى صوتها على ربانها كي يخف لنجدتها، ولكن خاب ظنها، واختفى في الماء.
قدرت في ذهنها مساحة الجزيرة، وحددت أبعادها، واكتشفت معالمها، وتعرفت على صخورها، وارتاحت إلى أكبر صخور الجزيرة، ونادتها بالقائدة، بدأت تحس بالجوع، والجزيرة صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، وكان أثمن الكنوز التي اكتشفتها عند الصخرة، أثمن من الذهب واللؤلؤ والياقوت والمرجان، كومة هائلة من الأسماك الصغيرة من النوع البوري الذي تفضله، هل ما تراه حلم أم حقيقة؟ فماذا يفعل الذهب واللؤلؤ والياقوت والمرجان أمام صرخات المعدة؟ هل يُسكت صراخها؟ إن كومة السمك تلك أكثر أهمية وأثمن بكثير من الذهب، فهل تسد المعادن النفيسة رمقها على هذه الجزيرة؟ فكومة السمك تنقذها من الموت المحقق، وما أقسى الموت جوعا!!.
هل السماء تمطر سمكا؟!.
تيقنت حياة الآن أن الهيكل المتحرك الذي رأته كان سفينة، وركابها هم من ألقوا لها بهذه الأسماك حتى لا تموت جوعا، ولكن لماذا لم يبادروا بإنقاذها؟.
ارتاحت إلى هذه الفرضية، وراحت تبحث عن نيران لشي السمك، وكيف تحصل على النيران وسط هذه الجزيرة؟ .. لجأت إلى تجربة فيزيائية بسيطة، باستخدام طرق الحجارة ببعضها لتتولد الحرارة ومن ثم الشرارة فالنار، فمعظم النيران من مستصغر الشرر، ولكنها فشلت في توليد الحرارة والشرارة، فأصابها الهم وأدركها اليأس، وقرص الجوع أحشاءها، ونامت، لتقتحم رائحة السمك أنفها، وتحس بلحمه شهيا لذيذا في فمها، فتظن أنها في حلم، ولكنها تستيقظ لتجد الاسماك مشوية، ومرصوصة بطريقة بديعة، وجمرات النيران لم تخمد بعد، فتأكل وتشبع، وترفع أكف الضراعة إلى السماء، وكأن السماء تمطر أسماكا مشوية!.
وتأخذنا الكاتبة إلى الحياة الأولى، حياة الإنسان الأول، وحاجته الضرورية الأولية، حاجته إلى المأكل والمشرب والملبس والماوى، فكيف تدبر ( حياة ) حياتها على الجزيرة، والجزيرة فقيرة، وراحت تتساءل : إذا كان ركاب السفينة هم من ألقوا لها بالسمك، فمن قام بإشعال النيران، وشيه، ورصه بهذا الشكل البديع؟
وبينما الأسئلة تنخر في رأسها تبحث عن إجابة، تتفاجأ بالقرش الأبيض يلقي عند الصخرة بزرافات من الأسماك الحية الصغيرة ذات الأشكال البراقة الجميلة، ويلقي بكومة من سيقان الأشجار المتيبسة وبعض الأحجار، وبينما استدار عائدا، :
( أسرعت لتمسك بذيله تمسكه عن الرحيل، استدار الأبيض تلبية للمستها لتقع عيناه عليها مرة أخرى، بحلق في الفتاة لكنها أجبرت فمها لإطلاق ابتسامته هذه المرة، تلك الابتسامة التي أشعلت ثورة من البهجة بداخل الأبيض، ليُبادلها البسمة ويتصرف كجنسها من البني آدميين، تكاثرت التساؤلات في عقل الفتاة عن كينونة ذلك القرش وهي تسبح بين جفنيه، بينما بدأ يعود بجسده سريعا، لتتشابك الأنظار ويتشاركا البسمة، ويكون هذا بمثابة إعلان رسمي عن البداية الحقيقية للصداقة بين البشر والقروش.
سرحت الفتاة في عينيه واللون البني المحروق خاصتها مع اتساع القرنية، تساءلت حياة في داخلها وهي مرتكزة العينين :
-رامي!!. ) ص ص : 36 - 37
ماعلاقة رامي حبيبها الذي اختفى ليلة زفافها في ظروف غامضة بهذا القرش الأبيض؟ .. وكيف نجحت الكاتبة في ( أنسنة ) هذا القرش، وأكسبته بعض الصفات والسمات الإنسانية، وإذا كانت قد نجحت في ( أنسنة ) سمك القرش وهي من الأحياء المائية، فإنها قد نجحت أيضا في إقامة حوارية بديعة مع الصخرة ومع الجماد، فالكاتبة تتعامل برهافة شديدة مع كل مفردات الكون، ونجحت في ( أنسنة ) كل شيء، وكأننا أمام رواية كونية، فالمشاهد الكونية التي تفوق الحصر تعج بها الرواية، وقد نتذكر ونحن في معرض الحديث عن ( أنسنة ) الجماد، نتذكر الكاتب " هانز كريستيان أندرسن " أفضل من كتب عن الجماد، ونتذكر قصصه المعروفة عن أدوات المطبخ، وتصرفاتها، وأحاديثها، ورأي الحلة في المغرفة، ورأي المغرفة في الملعقة، وحديث الموقد، واحتجاج صندوق القمامة على تعريض زملائه به، الذي يقرأ قصص هذا الكاتب لايمكن أن يدخل مطبخ بيته إلا ويشعر أن كل شيء فيه قد نبض بالحياة أمامه.
وكرستينا مجدي جعلت كل شيء في الكون في روايتها ينبض بالحياة.
ودل القرش الأبيض ( حياة ) على بئر الماء العذب لترتوي منه، وعاشت معه سبعة أيام، قضتها على الجزيرة، باحت له بمكنونات صدرها، وآنست منه بابتسامة رضى، وطلبت منه في لحظة صفاء نفس وتألق روح وبصفته صديقها، برغبتها في العودة إلى عائلتها وإلى منزلها، زمجر وغضب ورفض في البداية، ولكن سرعان ما هدأت نفسه، وأراد أن يحقق لها رغبتها، فرسم لها خريطة بسيطة، ففهمت منها أنها يجب أن تمتطي صهوته، وفعلت، وراح يمخر بها في الماء عائدا بها إلى أهلها.
........
( حياة ) هي الشخصية المحورية في الرواية، وقدمتها الكاتبة تقديما رائعا، وفي الفصل ( الثاني عشر ) ص ص : 56 - 73 أوقفتنا على علاقتها بالطبيب الشاب ( سليم إياس بنجلون )، شابة جميلة تخرجت لتوها في كلية الإعلام، مثقفة، قارئة جيدة، ومحاورة لبقة، أنيقة، متصالحة مع نفسها، ومع الآخر، مُحبة للحياة، بشوشة، لا تفارق الابتسامة شفتيها، تنحدر من أسرة ميسورة الحال، فوالدها من الرعيل الأول الذي عمل بالسياحة في ( شرم الشيخ )، وبدأ عمله بالفنادق من أدنى درجات السلم، وبجده واجتهاده، كان يقفز درجات السلم قفزا، ووصل إلى أعلى الدرجات التي يحلم بها كل من يعمل بالسياحة، وجعل من فنادق السيد الخولي أكبر الفنادق وأهمها، وتحلم ( حياة ) أن تصبح كاتبة، وأرادت أن تجعل من الطبيب الشاب بطلا لروايتها، فهو دون الثلاثين عاما، وقد ذاع صيته وانتشر كأمهر طبيب لعلاج أمراض الكبد في ( شرم الشيخ )، فتريد أن يكون قدوة للشباب، وبعد لأي تنجح في الوصول إليه، واللقاء به في عيادته، وبعد أخذ ورد بينهما، وشد وجذب، اتفقا على اللقاء يوميا لمدة ساعتين على مدى الشهر، لتنهي فيه ( حياة ) روايتها، ولكن ( كيوبيد ) كان قد جمع بين قلبيهما، فتلاقت الأعين والأرواح، وعاشا قصة حب جميلة.
ما علاقة سليم برامي؟
( أمسك سليم يد الفتاة بعد أن حصلا على اتفاق ودي بين الطرفين، في محاولة لاستعادة غزله بفتاته في أول يوم يجمعهم كأحبة.
تستسلم له حياة وهي سابحة بين عينيه مرة أخرى قائلة :
-رامي ..
-ماذا؟!
-أنت رامي، سيكون هذا اسمك الجديد.
-حقا ولماذا هذا الاسم بالتحديد؟
- لا أعلم، لكني أراك فيه كثيرا، فأنت أول من رمى بسهم حبه داخل قلبي ) ص ص : 72 – 73
وصار رامي جزءا لا يتجزأ من حياتهم الجديدة.
.................................
( 3 )
( جزيرة الشمعوك ) نسجتها الكاتبة من وحي خيالها، لتكون مسرحا لأحداث عجيبة وغريبة، وتصف لنا الجزيرة المتخيلة :
( هي جزيرة مهجورة، مغمورة، صغيرة وغير مرئية اتخذت الشكل الكروي، تقع عند منتصف البحر الأحمر واقتربت لشماله ) ص 29
كيف تكونت الجزيرة؟
( تكونت الجزيرة وشعبها نتاج تضارب الأمواج الشتوية وفائض المياه، لتتجمع صخور زرقاء كزرقة الماء متحدة ببعضعا بعضا حتى تكونت تلك الجزيرة الزرقاء منذ مئات الأعوام، ولا يقدر أحد من بني البشر على تفرقتها من وسط المياه ) ص 30
وتجعل من جزيرتها لغزا لا يقل عن لغز برمودة، فبسببها :
( سقط العديد من السفن غرقا، وجهل الإنسان سبب اختفاء تلك السفن ) ص 30
وظلت الجزيرة مئات السنوات لا يسكنها الكائنات الحية، حتى اكتملت بزيادة منسوب المياه، فتجمعت هذه المياه لخلق أول مخلوق حي، يسكن هذه الجزيرة، وهو بمثابة شيخ القبيلة، الشيخ ( بؤبؤ ).
إذن نحن أمام مخلوقات مائية حية، بدأت تدب على الجزيرة، ماذا تأكل؟ وماذا تشرب؟ وكيف تعيش؟ و.. و .. و .. وعشرات الأسئلة تتوافد على الأذهان.
الكاتبة تقدم لنا عالما جديدا وغرائبيا، فالشيخ ( بؤبؤ ) يكاد يكون بلا ملامح ولا يظهر منه غير هيئة جسده الأزرق كزرقة الجزيرة، وتغطي جسده هاله بيضاء تميزه إذا تحرك!
وعند أداء واكتمال رقصة ( البامبوكيا ) كل عشر سنوات، يتكون على إثرها مخلوقات جديدة.
وصلاتهم هي مزيج من الغناء والرقص، ورقصاتهم قريبة من رقصات الهنود الحمر، ولكن أشكالهم وهيئاتهم تختلف عن الهنود الحمر، فهم كائنات أخرى غير بشرية، وعند اكتمال رقصة ( البامبوكيا ) بعد عشر سنوات تكون على إثرها ثلاثة أشقاء مرة واحدة، وكانوا من الأطفال، فدعاهم ( بؤبؤ ) وفقا لأطولهم تصاعديا :
( هوو، فوو، وكانت أطولهم هي لوو، علم بؤبؤ أنها فتاة من خصلات شعرها المتطايرة ..) ص 30
وحسنا فعلت الكاتبة بأن جعلت الأسماء حرف أو حرفين، وهي أقرب إلى الأصوات منها إلى اللغة، فهذه المجتمعات الأولية والتي في طور التكوين والخليقة، تحتاج إلى مئات السنين حتى تنتج لغة، وتتوالى اكتمال رقصة ( البامبوكيا ) بعد عشر سنوات فتأتيهم سيدة عجوز تكونت بسبب تضارب المياه، فأطلق عليها شيخهم ( بؤبؤ ) اسم ( طشة ).
وبعد عشر سنوات بالتمام من قدوم ( طشة )، أخذت القبيلة في الاستعداد لاستقبال الوافد الجديد بأداء طقوسها، فراحوا يصدرون أصواتهم التي تشبه صوت الرياح التي تتراقص مع الأمواج، وطقوسهم تلك بمثابة الصلوات، ومع أداء آخر حركة في رقصة ( البامبوكيا )، انتشرت موجة ضخمة من المياه على سواحل البحر، والتي كانت من المفترض أن تتجمع لتكون أحدث سكان الجزيرة، ولكن لم يحدث هذه المرة بسبب ( سليم ) الذي أصر بعض أصدقائه على اصطحابه من عروسه ليلة الحناء لتوديع العزوبية، وطيش ورعونة الشباب.
...........
ليلة توديع سليم / رمي للعزوبية :
انطلق سليم / رامي مع أصدقائه لقضاء في ليلة أخيرة من ليالي الطيش، ويسمونها ليلة توديع العزوبية، يغنون، يرقصون، يمرحون، ... ويتسللون في الهزيع الأخير من الليل إلى الشاطئ، وفي غفلة من الحارس، راحوا يسبحون في الماء، وتوغلوا في عمق البحر، وسرعان ما تعالت الرياح وأمواج البحر، فزع الشباب وولوا هاربين، ولكنها تمكنت من ضرب سليم / رامي ضربة قاسية، ليصطدم بصخرة عملاقة، لم يُصب منها بسوء، بل عاد وهو أكثر نضارة وقوة، فتلك الموجة العالية التي ضربته في الصخرة منحته قوة خارقة، ولكن سرعان ما هاجمهم قرش أبيض لينتقي من بينهم ( سليم ) ويفر هاربا.
( لم يدر سليم مدى فاعلية القوة التي أصابته حتى وجد جسده يتخذ هيئة القرش الذي ابتلعه ليصبح سليم على هيئة ذلك القرش دون أن يفقد إدراكه البشري ) ص 32
عرف ( بؤبؤ ) أن الساكن الجديد لن يأتي، وأنه يسكن الآن بداخل الجسد البشري، فأرسل له أكبر القروش البيضاء وأقواها، ليراقبه، حتى لا يبتعد عن الماء، وليفكروا في وسيلة لتخليصه من البشري.
...........
وأصبح سكان الجزيرة يعنون بها، وبتنسيقها، وأضفوا عليها لمسات جمالية رائعة، وأصبحت جزيرة فاتنة بعد أن نجحوا في إظهار جمالها الساحر الخلاب، أماكن الصخور الصغيرة، التي تبدو كالكراسي، الأشجار الطويلة المرصعة بالآلئ، وقد عرف أهلها الملابس والحشمة بعد أن كانوا يمشون ويعيشون عرايا، فكانوا قد أُعجبوا بحياة وبفستانها الستان، وهي تسير به بخفة ورشاقة، فأصرت ( طشة ) بعد أن رأت ( حياة ) بفستانها، أن يرتدي أهل الجزيرة الأقمشة، وراحت تجلب لهم الأقمشة الفضفاضة ذات الألوان المزخرفة المبهجة.
وتتلاحق الأحداث وتتسارع، فالسبعة أيام التي قضتها حياة مع صديقها الأبيض سقطوا من الذاكرة، وبدأت ذاكرتها تعطب، وحالتها النفسية تسوء، ونجحت الكاتبة نجاحا مبهرا في تقديم شخصية حياة وهي على هذه الحالة النفسية السيئة، وقدمت لنا الشخصية وهي تعيش مواقف طريفة، وأظهرت معاناتها، وكيف حار الأطباء ووقف الطب عاجزا أمام حالتها، التي لا يوجد لها أي تفسير علمي، ويكشف لها نديم من طرف خفي عن العهد الذي قطعته مع الشمعوكينين، لتنقذ حبيبها، والثمن الباهظ الذي تدفعه في سبيل انقاذه، فقدان أيام أو سنوات من العمر، فقدان ذكريات، و .. و ..، وتقدم لنا قوانين الشمعوك، وأسهبت الكاتبة في تقديم القوانين والتعهدات التي أبرمتها ( حياة ) مع الشمعوكيين وشرحها والتعقيب عليها، ومن الصعب تلخيص الرواية في هذه العجالة، وتلخبص العمل فد يشوه من جمالياته، ولكننا نشير فقط إلى بعض المواقف، لعل القارئ يسعى إلى الرواية لقرائتها بنفسه.
( 4 )
الصراع :
حفلت الرواية بألوان عديدة من الصراع، وأشير فقط إلى بعضها :
1 – الصراع بين القروش الزرقاء والقروش البيضاء.
2 – الصراع بين القروش وبني الإنسان.
3 – الصراع بين سكان جزيرة الشمعوك وبني البشر.
4 – الصراع بين نديم و سليم / رامي.
ويتطور الصراع، ويصبح صراع الوجود ذاته، فضلا عن الصراعات الداخلية التي تموج داخل النفوس.
( 5 )
الشخصيات :
بشفافية ونُبل، تعاملت الكاتبة مع شخصياتها، وقدمتها للقارئ تقديما رائعا، سبرت غور كل شخصية، واستكنت جوهرها، ورسمت معظم شخصياتها من الخارج، واهتمت بتصرفاتها، وسلوكياتها، وأبعادها النفسية، وطرق وأساليب تفكيرها، وحالاتها المزاجية، وتركت كل شخصية تعبر عن نفسها، وتنقل لنا أحاسيسها، ونبضات قلبها، وهمسات نفسها، وفيوضات روحها.
وباستقراء ودراسة شخصيات الكاتبة نخلص بإيجازإلى الآتي :
1 – تنوع الشخصيات، وثراءها، فقدمت لنا في الرواية شخصيات كونية مثل اسماك القروش ومخلوقات مائية وشخصيات من البشر.
2 – أبعاد الشخصيات واضحة في ذهن الكاتبة، فتكتب عن أشخاص خبرتها ودرستها دراسة وافية، متسلحة بإلمامها العميق بعلوم المنطق وعلم النفس والفلسفة والعلوم العلمية والخبرة الحياتية من خلال معايشتها الكاملة لشخصياتها.
3 – شخصياتها تنبض بالحياة، وتضج بالحركة، وسلوكياتها وتصرفاتها تأتي طبيعية ومنطقية وفقا للأبعاد الثلاثة للشخصية ( المظهر الخارجي – الحالة النفسية والفكرية– الحالة الاجتماعية ).
4 – لم نرصد للكاتبة تدخلات تُذكر في حركة وتصرفات شخصياتها، فتركتها تتحرك وتتصرف بكامل حريتها وفقا لأسلوب تفكيرها وعلى حسب حالتها النفسية والمزاجية.
5 – معظم شخصياتها لا تقدمها دفعة واحدة، بل تقدمها على دفعات، وقد تستمر بعض الشخصيات حتى لو كانت هامشية على مدى وامتداد الرواية.
...............................................
( 6 )
حضور المعلوماتية والثقافة العلمية :
1 – معلومات عن عالم البحار والأحياء المائية وخاصة أسماك القروش.
2 – معلومات عن مرض الزهايمر.
3 – معلومات عن علم الوراثة.
4 – معلومات عن الأدوية والأشعة المقطعية وأشعة الرنين المغناطيسي والإلمام الكبير بالثقافة الطبية والعلاجية.
5 – الوعي بالجغرافيا والطبوغرافيا والمثيولوجيات.
6 – الوعي بالقانون، وكيفية صياغة القاعدة القانونية.
7 - الإلمام والمعرفة الكبيرة بالفلسفة وعلم النفس والإجتماع.
8 – العظات الدينية والأخلاقية.
وكانت هذه الثقافة من أهم أسلحة الكاتبة، بعد موهبتها التي لا تخطئها العين، وهذه الثقافة قد أثرت الرواية ثراء كبيرا.
( 7 )
من الصعب تناول رواية بهذا الثراء الموضوعي والفني على عجالة وفي مساحة محدودة، فأرجو أن نعود إليها لاحقا، لنقف مع القراء على ما أثارته الكاتبة في روايتها من قضايا وأفكار، والحيل الفنية التي لجأت إليها، ولنقدم قراءة أكثر عمقا تليق بالكاتبة وبروايتها الماتعة والبديعة في الرؤية والتشكيل، ونثق أن الكاتبة في المستقبل القريب ستثري فن الرواية العربية، وستكون إبداعاتها إضافة حقيقية إلى المكتبة العربية، وأرجو أن أكون قد نثرت ولو قليل من قطرات الضوء على الرواية الأولى ( جزيرة الشمعوك ) للكاتبة كرستينا مجدي، وأرجو أن أكون عند حُسن الظن وعلى مستوى الثقة ومن الله التوفيق.
.....................
مجدي جعفر
العاشر من رمضان
في 6 / 6 / 2022م