في ممرٍّ ضيق ترَاصّت موائد الطّّبخ ، تهدِرُ فوقها آنيةٍ مُختلفة الأحجام ، بشعة المنظر ، تَهبّ منها روائح نافذة حريفة ، نكهات باردة وحارة ، دسمة وقليلة الدَّسم ، بين آنٍ وآخر تَقتحمُ هدأت المكان " طشّة" عنيفة ، تعبق ما حولها ، ينُبئك أزيزها المكتوم ، أنّ صاحبها من أمهرِ الطُّهاة ، فهذه الجَرأة غير المعهودةِ ، وذَاك الصّدى المتأرجح في مكانٍ كهذا ، لا يصدران إلّا عن صاحبِ حِنكةٍ ودراية بأصولِ الطّبخ ودروب الأطعمة ومشتهياتها.
يهزني الفضول كعهدي مُذ أتيت ، يجذبني لاتتبّع الجَلبة ، اجدني وقد امتدّت يدي ، امسكت مقبض الباب بيدٍ وجلة ، اندفعت على عمايةٍ في الخارجِ ، لا أدري السَّبب ، أهو الفضول؟! لا أظن ، فكثير ما استفزتني أصوات ، واقتحمت خلوتي مناوشات مريبة طرفي النهار وزُلفا من الليلِ دونما استجابةٍ ، فمعارك الهنود والبنغال لا يهدأ أوارها ، تنتظم وتيرتها ، ثم تتلاشى كأن لم تكن ، وقد تستمر ساعاتٍ طوال ، تبدأ عالية النبَّرة حامية محتدمة ، يتخللها رطانة كريهة ، كلمات وجمل تخرج من بينِ شفاه لا تتحرك ، مضعضعة الأحرف ، فيها مسّ عربية خفيف ، لكنّه لا يشبه عربيتنا.
تتثاءب الأبواب عن أهلها في دقائق معدودة ، يتراصّ القومُ في وجومٍ ، يراقبون الحديث المحتدّ ، هزّات رأس عنيفة ، إشارات طائشة ، أياد مشرعة بالشّرِ ، أفواه تقذف بمحتوياتها ، نخامةٍ صفراء مُقزِّزة ، دقائق وتتباطأ الفورة ، تسري في القوم همهمة سريعة ، يقدم مستر " فواز " راعي البيت كعهده ، في خطواتٍ ثابتة لا تخلو من افتعالٍ ، لكنَّها لا تمنع كرشه المُلتف في استدارةٍ عجيبة من أن يهتز ، فوق جسد حنطي نحيف ، يدكّ الأرض بقدمين دقيقتين ، يضرب الأبوابَ بيد بضّة كثيفة الشعر كقردٍ أفريقي ، يهزّ رأسه الأصلع في حنقٍ ، يشيح بوجهٍ فاقع السُّمرة ، في خلسةٍ يُعَافِرُ كي يرغم خصلة شعر طويلة انتصبت في مُؤخرةِ رأسه أن تعود مكانها ، يتقدّم من جهةِ الممر المُظلم ، وقد ورم أنفه ، وصَعدَ الدّم في خديهِ، يتنحى الخصوم في ذُلٍّ وتصاغرٍ ، رويدا تهدأ ثائرة المكان ، يتململ "فواز " في وقفتهِ قليلا ، قبل أن تُطلِق حنجرته وابلها ، على ما يبدو أنّها نوبة توبيخٍ وتقريع ، يشير بيدهِ في زَمجرةِ القط العجوز ، لينفضّ الحشد ، تعود أسراب النمل إلى جحورها ، ولا يُعرف إلى الآن أسباب العراك.
رَاقَ لي أن أجِدَ لنفسي مكانًا قصيا إلى جوار حائط ، مددت قدمي المُتصلِبة في تكاسلٍ ، اُطالِعُ مبهورا خيال " فواز”وقد تَصلّب في جهامةٍ وخُيلاء ، يتَألّق في عينيهِ بريقٌ أخاذ ، مشى نحوي وقد اشرقَ وجهه ببعضِ بشاشةٍ ، قائلا بصوتٍ متحشرجٍ : " مُشكِل..؟! " هزّ يده في الهَواءِ وتَحرَّك رأسهُ حركته المعهودة ، ثم مشى في انتظامٍ جهةِ البابِ الرئيسي ، يَحكّ الأرض نعله الخشن، يقتحم في مروره أبواب الغرف المغلقة مُتنمرا دونما تحفّظٍ ، بعد قليل رنّت في الأجواء ضحكات أنثويةٍ رقيقة ، احتواها السّكون السّخيف ، وكأنه ينفض عنه كآبته وجموده ، أُفرِغ المكان من شحنته المُلتهبة ، تعالى صِياح زوجة جارنا " محمد صادق" البنغالي العجوز ، تلك الأربعينية النّحيفة كعودِ الذُّرة ، على ما يبدو أنَّهما قد مدّا بساط أُنسهما مُبكِّرا ، لم يخرجا مع الخارجين ، تعوّدت المرأة تجهيز طعامها قبلَ الشّروقِ بساعاتٍ ، على فتراتٍ تخرج المرأة عن رزانتها ، فتطلق نعيرها في تَغنجٍ مُقلِق ، ينفتح بابها ، تخرج مُتعثرة في أسمالها ، تضع حلة فوقَ الطبَّاخ ، ثم تَعودُ سريعا ، لتتركه وقد انسابَ وشيشه المُزعِج ، وسط أكداسِ الوسخ ، وفضلات قطتها " موكي" البيضاء ذات الوبر الأشعث، بعدما اتخذت أمام الباب مُستَقرا لها .
طاردتُ الفأر العجوز الذي تسلّل مزهوا من تَحتِ ركامِ الأخشاب المُتراصة على جانبيّ الممر ، غَابَ عن عيني ، ابتلعه جوف الظَّلام الكَثيف ، تلك إذا هي منابع السّذاجة في أبهى صورها ، سَادَ صمتٌ مطبق ، يقطع وحشته أصوات اصطدام المَلاعِق الحَاد بالأطباقِ، ورنات الهاتف الزاعقة ، وكركرة مِزاحٍ سخيفٍ متواصل لا يخلو من فجاجةٍ ، تلفت من حولي فلم أجد من بُدٍّ إلّا أن أعود أدراجي ثانية ، احمد الله على فضلهِ ، مُستعَيذا من وساوسِ النّفس ، ومعارك البنغال.
محمد فيض خالد / مصر
يهزني الفضول كعهدي مُذ أتيت ، يجذبني لاتتبّع الجَلبة ، اجدني وقد امتدّت يدي ، امسكت مقبض الباب بيدٍ وجلة ، اندفعت على عمايةٍ في الخارجِ ، لا أدري السَّبب ، أهو الفضول؟! لا أظن ، فكثير ما استفزتني أصوات ، واقتحمت خلوتي مناوشات مريبة طرفي النهار وزُلفا من الليلِ دونما استجابةٍ ، فمعارك الهنود والبنغال لا يهدأ أوارها ، تنتظم وتيرتها ، ثم تتلاشى كأن لم تكن ، وقد تستمر ساعاتٍ طوال ، تبدأ عالية النبَّرة حامية محتدمة ، يتخللها رطانة كريهة ، كلمات وجمل تخرج من بينِ شفاه لا تتحرك ، مضعضعة الأحرف ، فيها مسّ عربية خفيف ، لكنّه لا يشبه عربيتنا.
تتثاءب الأبواب عن أهلها في دقائق معدودة ، يتراصّ القومُ في وجومٍ ، يراقبون الحديث المحتدّ ، هزّات رأس عنيفة ، إشارات طائشة ، أياد مشرعة بالشّرِ ، أفواه تقذف بمحتوياتها ، نخامةٍ صفراء مُقزِّزة ، دقائق وتتباطأ الفورة ، تسري في القوم همهمة سريعة ، يقدم مستر " فواز " راعي البيت كعهده ، في خطواتٍ ثابتة لا تخلو من افتعالٍ ، لكنَّها لا تمنع كرشه المُلتف في استدارةٍ عجيبة من أن يهتز ، فوق جسد حنطي نحيف ، يدكّ الأرض بقدمين دقيقتين ، يضرب الأبوابَ بيد بضّة كثيفة الشعر كقردٍ أفريقي ، يهزّ رأسه الأصلع في حنقٍ ، يشيح بوجهٍ فاقع السُّمرة ، في خلسةٍ يُعَافِرُ كي يرغم خصلة شعر طويلة انتصبت في مُؤخرةِ رأسه أن تعود مكانها ، يتقدّم من جهةِ الممر المُظلم ، وقد ورم أنفه ، وصَعدَ الدّم في خديهِ، يتنحى الخصوم في ذُلٍّ وتصاغرٍ ، رويدا تهدأ ثائرة المكان ، يتململ "فواز " في وقفتهِ قليلا ، قبل أن تُطلِق حنجرته وابلها ، على ما يبدو أنّها نوبة توبيخٍ وتقريع ، يشير بيدهِ في زَمجرةِ القط العجوز ، لينفضّ الحشد ، تعود أسراب النمل إلى جحورها ، ولا يُعرف إلى الآن أسباب العراك.
رَاقَ لي أن أجِدَ لنفسي مكانًا قصيا إلى جوار حائط ، مددت قدمي المُتصلِبة في تكاسلٍ ، اُطالِعُ مبهورا خيال " فواز”وقد تَصلّب في جهامةٍ وخُيلاء ، يتَألّق في عينيهِ بريقٌ أخاذ ، مشى نحوي وقد اشرقَ وجهه ببعضِ بشاشةٍ ، قائلا بصوتٍ متحشرجٍ : " مُشكِل..؟! " هزّ يده في الهَواءِ وتَحرَّك رأسهُ حركته المعهودة ، ثم مشى في انتظامٍ جهةِ البابِ الرئيسي ، يَحكّ الأرض نعله الخشن، يقتحم في مروره أبواب الغرف المغلقة مُتنمرا دونما تحفّظٍ ، بعد قليل رنّت في الأجواء ضحكات أنثويةٍ رقيقة ، احتواها السّكون السّخيف ، وكأنه ينفض عنه كآبته وجموده ، أُفرِغ المكان من شحنته المُلتهبة ، تعالى صِياح زوجة جارنا " محمد صادق" البنغالي العجوز ، تلك الأربعينية النّحيفة كعودِ الذُّرة ، على ما يبدو أنَّهما قد مدّا بساط أُنسهما مُبكِّرا ، لم يخرجا مع الخارجين ، تعوّدت المرأة تجهيز طعامها قبلَ الشّروقِ بساعاتٍ ، على فتراتٍ تخرج المرأة عن رزانتها ، فتطلق نعيرها في تَغنجٍ مُقلِق ، ينفتح بابها ، تخرج مُتعثرة في أسمالها ، تضع حلة فوقَ الطبَّاخ ، ثم تَعودُ سريعا ، لتتركه وقد انسابَ وشيشه المُزعِج ، وسط أكداسِ الوسخ ، وفضلات قطتها " موكي" البيضاء ذات الوبر الأشعث، بعدما اتخذت أمام الباب مُستَقرا لها .
طاردتُ الفأر العجوز الذي تسلّل مزهوا من تَحتِ ركامِ الأخشاب المُتراصة على جانبيّ الممر ، غَابَ عن عيني ، ابتلعه جوف الظَّلام الكَثيف ، تلك إذا هي منابع السّذاجة في أبهى صورها ، سَادَ صمتٌ مطبق ، يقطع وحشته أصوات اصطدام المَلاعِق الحَاد بالأطباقِ، ورنات الهاتف الزاعقة ، وكركرة مِزاحٍ سخيفٍ متواصل لا يخلو من فجاجةٍ ، تلفت من حولي فلم أجد من بُدٍّ إلّا أن أعود أدراجي ثانية ، احمد الله على فضلهِ ، مُستعَيذا من وساوسِ النّفس ، ومعارك البنغال.
محمد فيض خالد / مصر