عيسى الامين - اغْتِراب من أجْل الهواية. قراءة في رواية " أعْشاب تنمو في أيّ مكان" لـ آدم يوسف "سندو".

الرّحيل..

"غادرتُ مدينتي اْلصّغيرة وأنا مُكره " بهذه الجملة الرائعة تبدأ الرواية ، يغادر بطل الرّواية قريته بحثاً عن حياة جديدة ، وعنْ أرضٍ خصبة للإبداع ، يغترب من أجل هوايته بعد حياة متجانسة عاشَها بين أهله ، أحبائه، وأصدقائه ، يغادرهم بينما الكلّ من حوله يتمنىٰ له البقاء.

التّشرد والتّسكع..

لا أعرف إلى أين أتجه ، وليس لي مكان يمكن أن أقضي فيه يومي، وإنْ عدتّ إلىٰ كوخي الصّغير فصاحب الكوخ ينتظرني من أجل إيجار بيته.
يدخل مسجداً صغيراً لأجل أن يستريح ، لكن من هو مكلف بشؤون المسجد يطلب منه أن لاّ يتأخر أكثرْ من ركعتي المسجد فقد كثر اللصوص. يخرج متذمراً من اللصول الذين حتى اقتحمواْ بيوت الله ، يجلس علىٰ الرّصيف ليقرأ ، وبعد لحظات من جلوسه تنطفئ أنوار أعمدة الشارع ويحل الظلام ، يكاد يبكي من هذا الحظ التعيس ويتساءل هل هو من صنع يديه أم من ربّ العالمين.

بينما هو غارقٌ في سوداويته يفكر في ابنه وينشرح صدره قليلاً وتتفتح في دواخله تلك الخلجات التعيسة وراح يفكّر في مسألة العودة وظل يلعن السياسة والمعارضة . فجأة ينير ضوء القمر الوجود ، ويبصر النور وكأنه في وضح النهار ومضىٰ يقرأ ويترجِم ، وعندما اِرْتَفَعَ صوت المؤذن قد أكمل ترجمة الكتاب كلّه .

البحثُ عن مأوىٰ.

في هذه الأثناء يعاني من أزمة سكن ، ويعيشُ حياة قاسية مؤلمة ، والألم يتردّده أكثر من السعادة ، وتدهورتْ أحواله الصحية تماماً ، بحثاً عن المأوى يذهب إلىٰ رفيقه 'ح' هو أيضا يعيش حياة مثله ، يقترح عليه السكن معه ، ويمنحه غرفة مترهّلة وخالية من أيّ شيء إلاّ الوسادة.
يكتشفُ بعد أيّام أنه في مكان جميل وأنه أرض الإبداع.
لكنّ سؤالاً آخر ظل يطارده ، لمن هذا المبنى ؟!
وظلّ يفكر حتى اكتشف في نهاية الأمر أنه من المواقع التّابعة لأروقة الاستخبارات ، وأنّ رفيقه 'ح' كان يحرس المبنى مقابل أجر زهيد.

في هذه الأثناء بدأ المرض يدبّ في فرائص جسده ، وبدأ العرق يتدفق من مساماته بغزارة ، قد أغلق هاتفه حتى لا يصل أحداً إلىٰ المكان ، وفي أحد الأيام زاره رفاقه ''ع، ي، ف'' عندما رأوه فزعوا كثيراً وحملوه على الفور إلى المستشفى.

ظنّ أنه سحابة صيف وتمر إلاّ أنه لم يخرج من المستشفى إلاّ بعد ثلاثة أشهر ، فقد وجدت كمية ماء في الرئة اليسرى ، وأجريت فحوصات عديدة واتضح أنه مصاب بالدرن ، وبعد فحوصات كثيرة لأمراضٍ عديدة يتضح أن الأمر لم يكن سل أو درن ولا حمى صفراء فقد أشارت الفحوصات أن هناك ورما خبيثاً في الرئة.

سجل المطلوبين..

مرت السنون خارج الوطن وهو يمارس هوايته بهمة عالية لكنه يشعر بالقلق حيال أفعاله وتصرفاته لأنه أصبح محط أنظار لدى السلطات، ففي أحد الأيام جاء رفيقه ''ع'' وطلب منه أن يكلمه على انفراد وقال وهو ينظر إلى لوحة معلقة على الجدار :
''أخبرني أخي بأنه قرأ اسمك في سجل المطلوبين''.
أدرك لحظتها حتى وإن عاد إلىٰ الوطن سيقبض عليه من المطار إلىٰ السجن ، لهذا عدل تماماً عن فكرة العودة إلى الديار.
بينما غارق في صمته يردف صديقه يقول '' إنّ التقارير تقول بأنّك شديد الخطورة علىٰ الأمن القومي.''
يضحك ويقول :
فقيرٌ متشردٌ وجائع ، وفي الواقع ينظر إليّ كأني أمثّل خطورة على الأمن القومي.
يبتسم رفيقه ويسأل من أين وكيف يدير أموره ، حتى الساسة المعارضين لم يحدث فتحتْ لهم ملفات خاصة ، وأنّ لك ملفاً خاص باسمك يا رجل.

العمل بالقبيلة..

بعد تفكيرٍ طويل في أمره وأحلامه وخيالاته وحبّه المفرط لزمن الطفولة والصبا والتفكير في الأشياء بعمق وجدية أكثر من اللازم يتجه إلى عيادة طبيب نفسي ، ويبدأ يبوح كل مافي أعماقه.
أحبّ ممارسة الترجمة وهي ملاذي الوحيد في هذا الكون ، وأصبحت بفضل الله من هواياتي وهي مصدر رزقي ، وهذا أمتع شيء في الحياة أن تكون هوايتك مصدر رزقك.
في الحقيقة أنني عشتُ مجموعة مركبة من التجارب والتناقضات ، ومجموعة أخرىٰ مبسطة من الأحداث ، أهمها جميعاً تلك التي بذلتُ فيها جهداً مستفيضا إنها القبيلة ، أي العمل بالقبيلة.

أفكّر أحياناً بسخرية من البشر أرقى الكائنات الحية ، ولمَ يعاب الإنسان لجنسه ، علماً بأننا جميعاً لم يكن بأيدينا الخيار أن نكون من الفلانيين أو العلانيين ، لا أحد منا استشاره الله عزوجل على اختيار قبيلة معينة أو عشيرة يريد الانتماء.
لم أندم في حياتي كما ندمت علىٰ ضياع وقتي في هذه المسائل ، ياليتني أضعتُ كل هذا الكلل في أشياء ذات نفع وفائدة ، ليتني أضعتُ طاقاتي الشبابية تلك في إحياء اللغات والفلسفة والأدب ، ليتني اجتهدتّ في الدعوة إلى الله أو في تعزيز الوطنية في نفوس الضعاف من أمثالنا.

عشت هذه المرحلة القبلية من جزأين ، الأول حسب ظني في بدايات حياتي ، أحسب فيها أنّني أشرف خلق الله وأفضل البشر ، ولا بدّ من الحفاظ على هذه الخاصية التي وهبني الله وفضلني بها على غيره من العباد، والثاني شعرتُ فيه بأنني مستهدف ، وضعفي هذا من صنع الآخرين وتربّص ابن آدم لي ، وفسرته بأنه حسد على ما وهبني الله ، وبذلك أضعت كل طاقاتي في غير محله وسعيت باجتهادات لا حصر لها وتحولت في النهاية إلى حروبات لا تنتهي ، وانعكست إلى قضايا متجزئة وانتهتْ لتعكس حجم دواخلي وميزان عقلي.

شعورٌ بالإحباط..

بعد ترجمته العديد من الأعمال والأبحاث ، بدأ يشعر بالإحباط والقلق لأنّه لم يتلق اهتماما كبيراً ولم ينل تكريماً أو مكافأة أو أجراً في حياته ، ولم يجد ناقداً يلفت له انتباه ترجماته كتلك الشّارات التي يجدها الكتّاب والأدباء.

وفي أحد الأيام وفي ندوة كبرىٰ يلتقي بمفكر متميز ، يدنو من الرّجل كما يفعل تلاميذ الخلاوي أمام مشايخهم ويقول بكل قلق :
لا أعرف سعادة البروف وكأنّ بي لعنة ، ترجمتُ عدة أعمال وأبحاث ، وكتابات في النقد والرواية والفكر ، لكن أعمالي لم تجد القبول والاهتمام ، ولا أحد يقرأها ويعطيني الرأي السديد ، يقاطع ضاحكاً :
" لا يوجد مبدع سلم مما تقوله ، حتّى الأنبياء فإنّ أفكارهم لم تجد قبولاً في بادئ الأمر ، إنّ جل من حملوا أقلامهم كانت دواخلهم شجرة ، في هذه الشجرة قوة ، وهذه القوة تغذّي فيهم روح التحمل لهذا جاؤونا بأطروحات جديدة.
يا ابني لا تكرر كلامك بهذه الطريقة المستاءة ، ففي عينيك بريق إبداع ولا تلتمس الحظوظ في مشروعك فالحظوظ لا تخلّد ، قلّما تخلّد."
قبل أن يقول شيئا يقدم له ورقة صغيرة فيها عنوانه وينصرف دون أن تغادر الابتسامة شفتيه.

بعد شهور قليلة يأخذ نسخاً من أعماله ويذهب لزيارة الأستاذ 'ش' دون سابق إنذار أو إتصال ، ويكتب على ورقة صغيرة ''تلميذك عند الباب يريد الدخول ''.
يأخذ الحارس الأعمال والورقة الصغيرة إلى الداخل ، بعد لحظاتٍ يخرج له الأستاذ لملاقاته ، يأخذه من كفه إلى صالونه العريض ، المكتظ بالكتب والتماثيل ، يجلس بتأدب يتأمل الصالون ، يشبه مكتبة جامعية ضخمة ويجزم أنّه في هذه الدولة كلها لا توجد مكتبة بهذا الحجم.
ومنذ هذا اللقاء أصبح أستاذ 'ش' أحد أساتذته وأصدقائه المقربين الذين أثقلوا موهبته وشجعوه على المضي قدماً بلا خوف.
ويذكر أول نصيحة أسداها له عدم الإهتمام بالمسابقات والجوائز فإنها تقتل المواهب خاصة في عالمنا الذي لا يضع مقاييس ومعايير واضحة للمنافسات.

وأصبح يسجل زيارتين للأستاذ 'ش' على الدّوام في الأسبوع ، وقد أفاده في تدقيق ومراجعات بعض أعماله وأعانَه في الحصول على العمل مع إحدى المجلات ومع موقع إلكتروني مهتم بالترجمة مقابل أجر في ترجمة الدراسات والأبحاث.

تحسنت أوضاعه مع الأيام وانتظمت بشكل أفضل ، فنشر العديد من الكتابات باسمه والبعض الآخر بأسماء مستعارة كالقصص والشعر، وبعضها تمت كتابتها بأجور لمْ يحلم بها ومهدت له طرقاً أخرىٰ للنشر لدىٰ جهات عريقة.

اْلعودَة ... غنّ لي يا أمّي..

بينما كان مستلقياً في الفندق يدخل عليه صديقه 'ي' يحاول أن يقنعه بالعودة إلىٰ الوطن '' أنتَ لست مقطوعاً حتى تموت وحيداً في لوكاندا أو فندق أنت رجل مسلم يجب أن تموت بين أهلك وفي قريتك ".
لكنه يرفضُ قائلاً لقد أخذتُ عهداً مع نفسي لن أعمل في ظل أنظمة ديكتاتورية ، أنّ ممارسة ذلك يشعرني وكأنني أضع السم في حليب ابني.
ولا أعتقد أنّ هناك شيئا تغيّر في تلك المزرعة ، النظام هو نفسه ، والوجوه نفسها ، والفساد ينخر في جسد البلاد ، والمعسكرات تحاصر البلاد ، كلّ شيء كمان كان ، لي هدف أخي وقد اخترقت من أجله وخلاصته في الحياة سأقولها لك في جملة '' الأقوياء يولدون إمّا حكاماً أو ضحايا '' وأعتقد أنا من الضّحايا.
يواصل صديقه 'ف' حديثه قالت والدتك قل له

يقطع حديثه ويسأل بقلق وارتباك ماذا قالت ؟

قالت "غنّ لي أمي".

يتكئ على الجدار ، وينبش الذاكرة ، ويعود إلى الطفولة ويغرق في أحلام الصبا ، يعود حيث كانت أمه تغني له ، وعندما تصمت تقول 'صوتك فقط يكفيني ، وإذا انقطع عنّي لحظة سأترك كل الدنيا.'

تؤثّر فيه هذه الذكريات ويرقّ قلبه ولكنه لا يستسلم للعودة.
لقد حملتُ السلام وقاتلتُ بالكلاشنكوف ، وأيضا بالقلم ، الكلاشنكوف هو الرمز الوحيد للتعبير عن الرجولة في إفريقيا ، ومن فعلها مرة قادر على أن يفعلها مئات المرّات.

يضيف صديقه 'ف' أرجوك عدْ إلى ابنك وقبّل رأس أمّك.

يرفض فكرة العودة بأنه لاَ يريد أن يضع رأسه في حبل المشنقة.

ولكن بعد تفكير طويل يستسلم للعودة.

وكان لظهور صديقه 'ف' تأثيراً كبير في حياته وغيّرَ الكثير من أفكاره ونظرته تجاه الأشياء والحياة.
يرتب أوراقه ويفاجئ صديقه بقرار العودة 'أحبّ أن أصغي إلىٰ غناء أمي ولابني حقّ عليّ'.

وهكذا يقرّر العودة إلىٰ القرية حيث أمه وابنه الذي تركه قبل عشرين سنة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى