د. عبدالجبار العلمي - كتاب "رأي غير مألوف" للأستاذ إبْراهيم السُّولامي (القسم الأول)

(القسم الأول)

صدر كتاب " رأي غير مألوف" للدكتور إبراهيم السولامي في طبعته الثانية المزيدة سنة 2019 . والكتاب يحتاج إلى دراسة متأنية رصين ، شأن أعمال المؤلف الأخرى في مجال دراسة الشعر العربي الحديث في المشرق والمغرب. ويضم هذا الكتاب كصنوه " في صحبة الأحباب " مجموعة من المقالات والدراسات الأدبية والنقدية. وقد اختار المؤلف عنوان الكتاب من مقال من مقالاته يحمل نفس العنوان ( ص: 83 ). وهو عتبة تثير الكثير من الفضول والتشويق قبل أن يدخل القارئ إلى عالم الكتاب، فهل ثمة رأي أو آراء داخل الكتاب تكتنفها الغرابة، ولا يجدها القارئ مألوفةً ضمن صفحاته ؟ هلِ هو مقبل على الوقوف على أفكار وآراء يعتورها الكثير من المتناقضات والمفارقات غير المقبولة التي كثيراً ما نصادفها في حياتنا بصفة عامة ، وفي حياتنا الثقافية بصفة خاصة؟ أم هي عتبة من عتبات النص التي تثير نزعةَ الإنسان الساعي دائماً إلى معرفة الجديد المجهول غير المألوف عموماً ؟
يخرق الكاتب أفق انتظارنا حين نقرأ المقالة المذكورة، فالذي أثار استغرابه هو رأي غريب "غير مألوف " للكاتب السياسي الحزبي الأستاذ فتحي رضوان ، ومفاده أن جيل الفكر العربي الحديث ورواد الأدب المعاصر أمثال طه حسين والعقاد وسلامة موسى والمازني وهيكل وغيرهم من معاصريه لا يُعدون رواداً في رأيه ، فهم لم يكتبوا إلا مقالات جمعوها في كتب، وأن إنتاجهم كان في الغالب جزئياً غير متكامل، أي لم يكن لديهم مشروع فكري أو أدبي متكامل. ويفند الأستاذ السولامي هذا الرأي بقوله الذي أود أن أنقله هنا حرفيا: « لئن كان الأمر كذلك ، فمن ذا الذي قاوم الاستعمار في أوطانهم ؟ ومن فتح نوافذ الحضارة الحديثة بلغاتها وتقدمها التقني ؟ ومن الذي أخرج للناس أمهات كتبهم محققة مشروحة ؟ ... بل إن جيل العقاد وطه حسين أثر بسلوكه ومواقفه في مساعدة من أتموا دراساتهم بالرأي والتوجيه والبعث إلى الأمم البعيدة قصد الاغتراف من عيون غير مألوفة ؟ »
وسنجد العديد من مظاهر الغرابة وغياب الألفة التي تتضمنها العتبة النصية ( العنوان ) في ثنايا الكتاب الذي مازالت قضاياه تحتفظ بتوهجها وجدتها وراهنيتها.
صدَّرَ الباحثُ كتابَه بتقديم موجز طرح فيه مفهومه للكتابة بالنسبة إليه، حيث يعتبرها « كُنْهَ الحياة، وفَرْمَلة مؤقتةً لتغيير طعمِها الرتيب. وهي ـ في رأيه ـ أنانية بمعنى من المعاني، لأن الكاتب يتوهم أنه سيضيف إلى هذا الرُّكام العظيم من المؤلفات إضافةً ذاتَ شأن يمكن أن تجد مكانها ضِمنَه ». ثم يذكر مراحل تكوينه سواء في المغرب أو في مصر التي هاجر إلى متابعة الدراسة بها ، حيث تلقى العلمَ على أساتذة أفذاذ ، قبل أن ينتقل إلى إتمام دراسته بباريس. وإذا كان يذكر ما حَصَّله من علم ومعرفة خلال سنوات التكوين الطويلة، فهو يؤكد على قناعة مفادها " أن آفة المُتعلم أن يظنَّ يوماً أنه تعلَّم " . لقد قدم الأستاذ إبراهيم السولامي بين دفتي هذا الكتاب آراءَه وأفكارَه في العديد من القضايا الأدبية والاجتماعية وفي بعض الشخصيات التي ربطته بهم روابط متينة أو عابرة .ويمكن أن نقسم الكتاب إلى قسمين :
القسم الأول : يشتمل على تسع عشرةَ مقالةً ودراسةً نقدية ، تتوزع ُبين مواضيع متنوعة : تأبين صديق ـ ملامح شخصيات بارزة تنتمي إلى مجالات متعددة : ثقافية وفنية ووطنية كما عرفها عن كثب في الغالب الأعم ، يذكر منهم: الأستاذ العميد محمد عزيز الحبابي والشاعر أحمد المجاطي ، صديقه وزميله في التدريس بكلية آداب ظهر المهراز بفاس، والأستاذ محمد برادة صديق الدراسة بمصر وزميل العمل بالكلية المذكورة في شبابهما الغض ـ بعض طلبته الذين أصبح لهم صيت ذائع في عالم الكتابة والإبداع ـ شخصيات فنية مرموقة. ومن الشخصيات الوطنية التي يذكرها بمحبة وتقدير : المجاهد عبدالكبير الفاسي الذي ساعد المؤلف ورفيقه « علي أومليل » لكي يلتحقا بدراستهما في المشرق. يتحدث في مقال " عطر الأحباب " حديثاً شجياً عن أستاذته الدكتورة سهير القلماوي بكلية الآداب بالقاهرة، كما يذكر ندوة العقاد الذائعة الصيت التي كان يعقدها في بيته كل صباح جمعة ، وكان الأستاذ إبراهيم السولامي مواظباً على حضورها. وفي مقال بعنوان " الدبلوماسي "، يوجه الباحث نقداً لبعض الملحقين الثقافيين الذين يمثلون بلادنا يتصلُ بعدم كفاءتهم وقدرتهم على القيام بالإشعاع الثقافي المطلوب. ويقارن بين الملحق الثقافي في الماضي والحاضر ، ففي الماضي كان الملحقون الثقافيون الذين يمثلون بلادنا من شخصيات لها وزنها في عالم الثقافة والأدب كان لهم إشعاع ثقافي وأدبي وسياسي مرموق في السفارات التي عملوا فيها. يعالج الكاتب في مقالات ودراسات أخرى من هذا القسم ، مجموعة من القضايا والأحداث الثقافية التي كان يرصدها و يواكبها في حينها، ولا تخلو هذه الكتابات من نقد يتسم في بعض الأحيان بالحدة ، لا سيما حين يتعلق الأمر بدفاعه عن اللغة العربية في مقاله عن " الندوة الدولية حول الأدب والتسامح " التي نظمت بكلية آداب القنيطرة سنة 1994 ، لأنها اقتصرت على كتاب اللغة الفرنسية ، وأقصَتْ أساتذةَ الشُّعب الأخرى ومنها شعبة اللغة العربية، أو الموقف من الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية الذي يرى أنه يُعري عن خفايا مجتمعه وعيوبه ولا يُظهر إلا الجوانب السلبية منه خاصة في البوادي المغربية، وذلك في دراسته القيمة حول رواية " شمس الدياجي " لعبدالحق سرحان التي نال بها الجائزة الفرنسية الأولى للعالم العربي سنة 1993م. والرواية ـ كما قدمها الأستاذ إبراهيم السولامي بكل موضوعية ـ رواية محكمة البناء ، مليئة بالأحداث والشخصيات ، تشد القارئ إلى قراءتها من الدفة إلى الدفة ، إلا أن ما يعيبه عليها أنها تقدم صورة مشوهة عن أبناء جلدته للأخر الغربي ، بينما يغض البصر عن الصورة الإيجابية التي تمثلها القيم النبيلة والتقاليد الأصيلة التي مازال يتشبث بها الإنسان المغربي في البادية . إن رواية عبدالحق سرحان ـ كما يبدو ـ موجهة إلى القارئ الغربي ( هنا : الفرنسي ) لأنه يحب هذا النوع من الأدب الذي يصور بعض المظاهر الفولكلورية في المجتمع ، ويتجاوب مع مخياله الذي مازال متأثراً بعوالم ألف ليلة وليلة والأجواء السحرية لعالم الشرق.. ولا يخفى أن بعض تلك الأعمال الأدبية المكتوبة بالفرنسية ، كانت تستهدف الجوائز التي تُقَدَّمُ لمثل هذا الأدب الفرانكفوني. ولنا في ذلك شواهدُ عديدة من أبرزها رواية « ليلة القدر la nuit sacré « للطاهر بن جلون الذي حصل عنها على جائزة الغونكور الفرنسية GONCONRT سنة 1987م . إنه أدب مكتوب باللغة الفرنسية ، بعيد عن الهوية المغربية العربية الإسلامية في مضمونه ورسالته ، موجهٌ إلى القارئ الفرنسي وإلى اللجان المختصة بمنح الجوائز للأدب المكتوب بهذه اللغة، كما أكد ذلك الأستاذ عبدالسلام البقالي في دراسته للرواية المذكورة. لماذا لا يقدم الكتاب الذين يكتبون باللغة الفرنسية الصورة الأخرى المشرقة الإيجابية للإنسان المغربي سواء في المدينة أو البادية المعروف بدماثة خلقه وكرمه وشهامته وعزة نفسه وكفاحه اليومي المرير من أجل لقمة عيشه بجهد وشرف رغم الفقر والحاجة وسنوات الجفاف التي عرفتها بلادنا في عدة مواسم ؟. و ذهب الكاتب الروائي مبارك ربيع إلى أن هذا الأدب "أدبٌ مغربي مكتوبٌ بالفرنسية، والأوْلى في نظري أن يُقال إنه أدبٌ فرنسي كتبهُ مغاربة ». ( ) وهذا ما أكده المؤرخ الروائي المغربي عبد الله العروي بقوله: « إنّ الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية هو أدب فرنسي بأقلام مغاربة. » ( )
إن موضوعة الكتابة باللغة الفرنسية ، والتهميش الذي تتعرض له العربية من الموضوعات التي شغلَتْ بال الأستاذ إبراهيم السولامي ، سواء في هذا الكتاب، أو في دراساته التي نشرها في منابر أدبية خارج الوطن . ( ) ويوجه الأستاذ السولامي في مقاله الموسوم بــ« بول بولز وأمجد الطرابلسي » نقداً لاذعاً إلى الجهات الثقافية والإعلامية التي تُكَرِّمُ بعضَ الكتاب الغربيين الذين يعيشون بين ظهرانينا ، وتُعلي من شأنهم وشأن أدبهم. ويتعلق الأمر بالكاتب الأمريكي "جول بولز" الذي أقام سنوات طويلة بمدينة طنجة ، في حين أن كتابته تتجه اتجاهاً سلبياً هدفه تدمير هوية المجتمع وقيمه الأصيلة. ( والمعروف أن هذا النوع الأدبي يدخل في إطار الرواية البيريسكية )، يكتبها بالإنجليزية ثم تترجم إلى الفرنسية. يذكر الأستاذ السولامي بمرارة أمثال هؤلاء الأدباء الغربيين الذين يعيشون بيننا ولا يقدمون ما يفيد الوطن وأبناءه ، وذلك ليعقد مقارنة لها دلالتها العميقة بين هؤلاء وبين "أدباء شرفاء منحونا من قلبهم وعقلهم وزرعوا في أرضنا الشمم ، والرجولة والإخلاص ، لكنهم لم يحظوا بما هم جديرون به من تقدير وإكبار " ( ص : 79 ) . ويذكر في مقالته العديد من الأساتذة والأدباء والعلماء أمثال الدكتور نجيب البهبيتي أستاذ الشعر العربي القديم ، والدكتور صالح الأشتر أستاذ الأدب العباسي. ومن بين الأساتذة الذين يذكرهم المؤلف بفخر واعتزاز ومحبة وتقدير أستاذنا الفاضل الدكتور أمجد الطرابلسي الوزير السابق لوزارة التربية والإرشاد القومي في عهد الوحدة بين مصر وسوريا. " قضى في رحاب الجامعة المغربية أكثر من ربع قرن .. فالأستاذ أمجد كان غزير المعرفة ، دمث الخلق ، عفيف اللسان ، حريصاً على مواعيد دروسه ، مخلصاً في أداء الواجب... أشرف على عشرات الرسائل الجامعية ، وناقش عدداً لا يحصى منها " ( انظر: ص : 79 وما بعدها ) ، ويسترسل الأستاذ السولامي في ذكر شيم الأستاذ أمجد رحمه الله ، فهو المربي الأصيل .. ومن الزاهدين في الأضواء . عاش لعمَله العِلمي الرصين ولطلابه الذين أحبوه وقدروه حق قدره ، فَكَرَّمُوهُ في مناسبة علمية باذخة بكلية الآداب بالرباط. والمعروف عن أستاذنا أمجد الطرابلسي حبه للمغرب والمغاربة. يقول الأستاذ السولامي : " وما أشك في أن أستاذنا العزيز لو خير بين أوربا والمغرب لاختار وطنه الثاني العربي" ( ص : 80 ). كان الأستاذ أمجد شاعراً يتميز شعره بشفافية لغته ومعانقته للقضايا القومية الكبرى ، ولتواضعه سمى ديوانه الوحيد بعنوان " كان شاعراً ". ويستشهد الكاتِبُ في مقالته هذه ببعضِ المقاطع من قصائده، لا يتسع المقام هنا لإيراد شواهد منها. ( انظر : ص : 80 وما بعدها )

* عدد يوم السبت 11 يونيو 2022 م. بجريدة الشمال الزاهرة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...