ليلى تباّني - قراءة في ديوان "سوناتا" للشاعرة القديرة ناديا نواصر

يعاب على المرأة أنها ليست دائما على شعر. لكنّني دوما أراك الشاعرة .
و يؤاخذ الشعر بعدم فنائه أمام المرأة . و أنا أراك الملهة ، و هؤلاء لا يدركون أن المرأة في حد ذاتها قصيدة. و أنا أراك الملحمة . فهل تكتب القصيدة قصيدة ........؟
سوناتا نونية ، مقاربة فنية بين الشعر والموسيقى لشاعرة هي أقرب للسمفونية يحرّكها شغف العواطف. وما التناغم الموسيقي العاطفي الذي فيها إلا وليد هذه العواطف النّاجمة عن جموح البوح الفياض من مياه ينبوع " الخواطر" إلى مجرى الأسرار لتحيلها إلى أسطورة... المخيال فيها لا يقاس بحجم الكلمة التي وراءه أو بحجم الجملة. بل بحجم العواطف وحدها. ولذلك فهي تأبى أن تتجرد. من محمولها الموسيقي الحالم المشبع بأوكتاف الشوق . لتحملنا من المَجاز الرفيع إلى خفّة الكلام الآدميّ الذي يقارب الملائكي ، ومن بلاغة الوصف إلى واقعية الحدوث في المعقول واللاّمعقول . تختزن تجربة الشاعرة ناديا نواصر فيضا من التميز، فالقصيدة لديها مضمار ترتع فيه المجازات، وتتبلور الرؤى، وتسري في وديان النفس بالطابع الإيقاعي والرمزي ، وهي في تحققها تولج الجمالي في الرؤيوي (بالحمولات الإنسانية الكبرى: الحرية والحياة والمصير) لذا فكل قراءة تفتق أبعادا كثر ، فديوان "سوناتا نونية" كشف لي راهنية هذا العمل الشعري ،بل وقوة استشرافه للتحولات ولواقع وصراع المرأة الوجودي ونضالها المستميت للظفر بحبها الموعود .
تضيء لنا الشاعرة ناديا نواصر في ديوان " سوناتا نونية " ، الصادر في طبعته الأولى سنة 2023 عن دار سيفار للطباعة والنشر بعنابة ــــ الجزائر ، هو العنوان الذي اختارته شاعرتنا لديوانها الشعري الصادر حديثا . والشاعرة ناديا نواصر معروفة بيننا في حقل الكتابة الشعرية كشاعرة متمرّسة في كشف المعاني العاطفية في طيات النصوص التي عوّدتنا على نسجها بهمّة وصدق وحفاوة موسومة بعمق الكلمة وأنفاسها الزّكية. ولذا لم نتفاجأ بنزول هذا الديوان المقبل إلينا بهيبته الموسومة، بل أننا كنّا نتوقعه وننتظر قدومه بشغف وشوق.
هذا الديوان يتشكل من ست عشرة قصيدة، يميل معظم معمارها الفني إلى الشعر النثري الحر ، الأمر الذي يضفي عليها سمة التحرّر والتجديد معا، و يمنحها شكلا من التنويع. وما يُلفت نظر القارئ أنها تخلو من أي تأريخ يحدد زمن تكوّنها، بينما حضّرت أخرى في أزمنة وفترات قريبة من المعيش الراهن، فقد عَرَفْتُ منها أنّها لا تضع تاريخا لنصوصها بحجّة أن ليس للنبض توقيتا وليس للحبّ شهادة ميلاد وليس للعشق عمرا ، طالما نحن على قيد الشوق والحنين والمحبة .

تتناول في المقطوعة الأولى من الدّيوان، قصيدة " صهيل الخفق" ، وكثيرا ما تتناول شاعرتنا " الصهيل" أيقونة فخامة للدّلالة على قوّة الرّغبة وشغف الاعتراف فنجد الخيل عند شاعرتنا رمزا لرغبته في التأكيد الموغل في المبالغة ، وتدلّ على رغبتها في التمرّد والمشاكسة الجامحة وجاءت من باب المجاز والتشبيه تيمّنا ببركة الخيل وجموح إقبالها وأصالة شمائلها. فنجدها توظّف الكلمة بكل قوّة دلالها :
أيّها الصّاهل في حنايا روحي ...
كأغاني الهنود الحمر......
في ليل بلا خطّ احمر.......
ايها المنتشي بنبضي في اجتراحات الروح .......
كيف ألَمْلِمُني فيك وأسمّيني باسم الحبّ أنثاك......؟

و يوحي بوحها في قصيدتها الثانية " في عينيك حديث رغائبنا" بطلب اللّجوء العاطفي ، فالشعر تأشيرة ناديا للمرور إلى مملكة من تحب فهي امرأة تؤمن أنّ نعومتها و ألقها وأنينها.لا تكون إلاّ في غموضه و عنفوانه و جموحه ، فهو الذي يمنحها حق اللّجوء الى أقاصي الحلم ، حيث تُزْهر أشجانها ويتواتر وجدها.وهي التي تهبه القدرة على استشفاف الفتنة ، حيث تَكمُن شهوات الكلام ، فحضورها فيه كاف لصياغة قصيدة توحي بالأنين و تصرخ راغبة بالوصل الشغوف .و تُجْهش واهنة بالحنين فتقول :
بحنينك وفي عينيك أحاديث رغائبنا
وهي تجتاح الزمن المهجّر إلى عقارب ساعتنا
عند مرافىء اللقاء مواثيق تفرّد قوانينها بقوة الصبابة
التي تهز صلصال الروح لا احتمال للغياب
ونحن توحّدنا فينا وما عاد الشعر يكفينا .....
دعني اطرح وهني واسميك وطني
وملاذي سكناي عند غربة الروح
وحضن الانثى التي عاهدتك على الانصهار فيك
حد التماهي الذي يمقت انشطاره
اني فيك اليقين المرتجى وعلى خدك مواسم الاشتهاء.........

و هاهي تحتفي به عيدا لها وتحتفي بها في عيده وتحتشد بشمائل الذات ، وانبثاقها فتشرق أبجديات أنوثتها . ويهمس سخاء شعرها ، فتقدّم له قلبها قربانا على طبق من الشوق وتكتب على مناديل العمر" كل عام وأنت معي تأخذني بقوة الفرح "
فتستعير من اللّغة إستعارات وفاقية وأخرى عنادية أو مكنية أو تصريحية استبدالية ، معلنة فلسفة صوفية تمعن في التيه بين الأنا وحلوله بالآخر لتستحضر جنونها الخاضع له مؤكدة وككلّ مرة ولاءها للخيل وعنفوانها فتقول :

نحن ما كنا إلا لنكون هذا العشق
في ندرته وعلى ساعديك عمر آخر
يقولني بكل تفاصيل صدقي على كتفي
اسرجت شال المساء المتوج باصابعك السحر
واعتليت ربوة النبض الجارف ممعنة في تيهي
عند بريق النظرة الخفق
جئتك ياسلطاني كي نقصص سويا
ما فاض عن سر معناه واستباح دم القلب
وارّق الليل الجسور وهو يكتب اليك
عند الساعة مابعد الصفر
الساعة الان بتوقيت اليقين
دعنا نسرج خيول عشقنا
وتطلق العنان لاحصنة النعيم انا انت.
.وانت انا ولا ثالث بيننا غير همس القصيد
وهذا الذي لم تجرؤ على شرحه الحكمة .

ولعلّ ما يسم بقية القصائد في الديوان المسحة الصوفية ، وهي تُعَنْوٍن عتبات القصيد بعبارات توحي بالشّوق والحنين والتوحدّ بها ، حيث نلحظ العاطفة الجيّاشة المليئة بمشاعر الاحتراق في الوصال، والوله في المحبوب، وهذا ما يجسّد اتحاد إرادتها الإنسانيّة مع العاطفة في رغبة ملحّة تدفع بها إلى تجاوز عالم الحسّ إلى عالم تصل فيه عن طريق الحبّ إلى محبوبها الّذي تدركه النّفس حدّ الموت (بلا سابق ترتيب كي نجزم اننا توحدنا حتى الموت ). فتعنون قصائدها بكل جرأة فلسفية " نون على سيقان الوله " ، " على شرف اللقاء" ، " رسائل مابعد الساعة الصفر " ، ومن أجمل وأبلغ مشاكساتها النونية الصوفية ما تراقص به مشاعرها على أنغام الروح ، قصائد : " مدار الخفق" " مقام العشق" " مقام التوحد " ، و قصيدة "اني الحبلى بعشقك" . فرابعتنا ترى أن حياتها في موتها فيه ، حيث الوصل مع المحبوب لا يتّم إلّا بذلك ، فتكثر من الرموز الصوفيّة المنفتحة على مدارات الخلاص والفناء وتبصّر الكون، لتستعيرها وتسقطها بما يوحّدها ومحبوبها ليغدوا روحا واحدة حلّت في جسدين انصهرا وتوحّدا ، راسمة عبر متخيّلتها الشّعور العاطفيّ الغارق في شدّة الشّوق، والوصال، والحنين فتقول :
مقام التوحّد

يا شاعري في الخواء الرهيب
حيث أنين غربتنا الشهية
حيث اوجاعنا الأنيقة
حيث زئير الاقنعة
ورماح الوقت ورياح الجهات
واكواب السم في العسل
جئتني مطرزا بحرير دفئك
ببريق الفصول وهي ترفعني إلى منتهى سدرة قلبك
رأيتك وطني ومنفاي اهلي وعشيرتي .....
لك سهوب صدري لم احاور الحكمة
ولكنني حدثت سلطان العشق
واعلنت اليه ولاءاتي يا رجلي الوحيد
ويا انت الواحد الذي لا يتعدد
لك أن تتعدد في مسامات الروح
وأن تعتقل كواكبي ومجراتي ومداراتي
فانا المدينة لك إذ اسكنتني ايسرك وسميتني انثاك
وعرجت بي على فردوسك
المسمى المعلق في حبل الوريد
اني فيك الوطن الذي لا ينام
اقترب حد الذوبان أيها الراسخ في تاريخ عشقي
بلا سابق ترتيب كي نجزم اننا توحدنا حتى الموت .

مقام العشق

أيها الساكن في حرائق الروح
في الركن القصي من الدنيا
لمحتك تهيء لي أرض العشّاق
سرجت خطى الوجدان
وامتطيت خيول اللغة ......
ولبست وشاح المساء المجنون المباغت
تلك فصول النار والمطر
التي تقول توحدنا وانصهارنا في جحيم الوجد
وجنات التوحد جسدان احترقا في مقام العشق .


الخاتمة:
من خلال قراءتنا التّأويليّة لديوان " سوناتا " للشّاعرة " ناديا نواصر " لاحظنا أنّ توظيفها للرّمز أسهم في تشكيل الدّلالات والمعاني المرتبطة بفكرة جوهريّة أساسة تتمثّل في الوصول إلى الحبّ الإنساني المتلبس بالتجلّي الصوفي والفناء فيه. حيث صبـّت جمّ إبداعها و جنون بوحها في قالب موسيقي تناغمي تَطرب له النفس لما للكلمات من انسجام وبديع دلالة . والظّاهر أنّ الشّاعرة قد مالت إلى التّصوير الاستعاريّ، وإضفاء طابع قداسيّ من خلال توظيفاتها المتنوّعة للرّموز المختلفة (الخيل، الصّهيل، الصلصال، المقام ، المدار ....) وأبرزت التّجليّ الصوفي عبرها، مؤكّدة على الوجود والوحدانيّة، فتحوّل الرّموز من جانبها المادّي الحسّيّ إلى الرّمزيّ المتخيّل ، ما جعل القصائد عميقة بليغة تفيض بالشّاعريّة الطّافحة والفناء في الحبّ الأفلاطوني الحلاّجي الرفيع .

ليلى تباني من الجزائر



359523381_272944168706105_605760026267098312_n.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى