أ. د. عادل الأسطة - جوخة الحارثي: "سيدات القمر" الجزء الأول (1 - 21)

1- مان بوكر العالمية للرواية: لجوخة الحارثي "سيدات القمر"

فازت الكاتبة العمانية جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر العالمية للرواية وذلك عن روايتها الصادرة في العام 2012 عن دار الآداب في بيروت، والمترجمة حديثا إلى الانجليزية.
تقع الرواية في 223 صفحة، وترصد الحياة في منطقة العوافي في سلطنة عمان، وتعود من خلال الذاكرة إلى نهاية القرن التاسع عشر، وتتجاوز ثمانينيات القرن العشرين، بل ومن خلال كلمة (ديلت/ Delete) ومراقبة أحمد لهاتف خطيبته لندن نخمن أن زمنها الروائي يمتد إلى ما بعد شيوع الفيس بوك.
ترصد الرواية التطورات التي عاشتها عمان منذ زمن شيوع تجارة العبيد وتجارة السلاح إلى زمن انهيار البورصة وتجارة النفط، وتتكئ أحيانا على أحداث تاريخية نعرف من خلالها أهم المفاصل التاريخية لسلطنة عمان.
راوي الرواية هو عبد الله ابن التاجر سليمان وهو حفيد التاجر هلال، وغالبا ما يروي وهو في الطائرة «أرى من نافذة الطائرة» وما شابه هذه العبارة (ص 14 و27 و43 و61 و90 و208)، إذ يسترجع بعض أحداث حياته وحياة أسرته، ويطلعنا على حياة جيله وجيل أبيه وجيل ابنه.
ونقرأ عن الحياة في سلطنة عمان وما طرأ عليها من تغيرات وتبدلات، ونعرف عن العادات والتقاليد والشرائح الاجتماعية والصلة بينها وما آلت إليه.
وتحفل الرواية بالأمثال الشعبية العمانية وبعض الحكايات والأغاني الفولكلورية، ولا تخلو من نماذج من الشعر العربي القديم لشعراء بارزين هم: المتنبي وامرؤ القيس وأبو العلاء المعري وابن الرومي والبحتري، ولا يحضر من الشعراء المعاصرين إلا الشاعر الفلسطيني محمود درويش وقصيدته «يطير الحمام يحط الحمام»، وثمة شخصية شاعر عماني مفترضة هي شخصية الشاعر البوهيمي أحمد الذي يعقد قرانه على الفتاة لندن ولا يتزوج منها لأنه يبدو (دون جوان) يقيم علاقة مع أكثر من معجبة، ما يدفع بلندن إلى خلعه.
والشاعر أحمد هذا لا يحفظ إلا ثلاث مفردات يظل يكررها باستمرار. إنه شخص متناقض يزعم أنه حداثي ولكنه مغرور متخلف، وتقدم له الرواية من خلال خطيبته لندن وصديقتها حنان صورة كاريكاتيرية «اسمعي يا لندن. أنت خطيبتي وحبيبتي .. لكن لا تحاصريني بالغيرة والأنانية والتملك والاستئثار ..الأنانية قبح، والغيرة تخلف، والتملك من مخلفات عصور الطبقية المقيتة» هذا هو قاموسه كله.
عدا الشعر والشعراء تأتي الرواية على كتب عربية تراثية أهمها بعض كتب الحب في التراث العربي، وليس هذا بالأمر الغريب إذا ما عرف المرء أن الروائية جوخة الحارثي درست الأدب العربي القديم في جامعة بريطانية، وأعتقد أن بعض الآراء التي ترد في الرواية على لسان بعض الشخصيات (نجية القمر وعزان) هي آراء الكاتبة نفسها..
لا يتم سرد أحداث الرواية سردا تقليديا، وبنية الزمن فيها لا تقوم على أساس الزمن الخطي الصاعد من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل.
إن البنية الزمنية تقوم على أساس تكسر الزمن وتداخله، ما يصعب على القارئ متابعة سير الأحداث بسلاسة ويسر، ويزداد الأمر صعوبة في الأجزاء الأولى من الرواية حيث تتداخل الأصوات دون أن تلجأ الكاتبة إلى لعبة فنية تميز بين صوت وآخر، وهنا يتذكر المرء رواية غسان كنفاني «ما تبقى لكم»، ولا يستغرب المرء هنا بعض آراء القراء في الرواية، القراء الذين ذهب قسم منهم إلى أنهم لم يتموا القراءة.
كنت يومي الخميس والجمعة كتبت فقرتين (بوستين) على صفحتي في الفيسبوك adel al-osta أتيت فيهما على الرواية وثقافة الطعام فيها وعلى الجائزة، ولاحظت ردود أفعال القراء عليهما وشكوى بعضهم من الرواية وعدم إتمامها.
شخصيا حين قرأت الخبر في صفحة الأدب المقارن التي يشرف عليها الأستاذ الدكتور السوري Abdo Abboud عقبت بالآتي: «الغريب أنني اشتريت الرواية ولم أقرأها» ثم لما عدت إلى نسختي وجدت أنني قرأتها ودونت عليها ملاحظات أهمها الملاحظة الآتية «البدايات الخاطئة تؤدي إلى نهايات كارثية» (ص 221) واكتشفت أنني كنت قرأت الرواية ولم أكتب عنها. والملاحظة التي دونتها تخص مآل علاقة خولة أخت كل من ميا وأسماء بنات عزان بزواجها من ابن عمها ناصر.
تتزوج خولة من ناصر بعد أن رفضت عرسانا كثرا لأجله هو الذي سافر مبتعثا إلى كندا ليتعلم هناك، ولكنه فشل في دراسته.
يعود ناصر ليتزوج من خولة طمعا في ثروتها ويظل على علاقة بفتاة كندية ويهمل خولة وفي النهاية يعود إلى عمان بعد أن تطرده الكندية، وهنا تطلب خولة منه الطلاق، فقد اكتشفت خداعه لها.
حكاية خولة وناصر ليست الحكاية الأطرف إطلاقا في الرواية. هناك قصص وحكايات أطرف منها بكثير، وقسم منها يستحق فعلا أن يتوقف أمامه، ومن أطرف الحكايات حكاية عزان والد الفتيات الثلاث ونجية القمر معشوقته التي رغبت فيه خليلا وصديقا مع أنه متزوج وله أسرة وأبناء.
نجية امرأة بدوية تعشق عزان وتريده وتترصد حركته ذات ليلة لتأخذه وتغتصبه ولكنه يهرب منها، ومع مرور الأيام تناله وتقوم بينهما علاقة حب وصداقة لا تقوم على التملك، فهي تريد علاقة حرة تظل فيها سيدة نفسها. (ص37 - 42 وصفحات أخرى).
اختارت جوخة الحارثي لروايتها عنوان «سيدات القمر» وكانت نجية هي سيدة من سيدات القمر. فـ «حين مات أبوها تنفست الصعداء وأحكمت سيطرتها على حياتها ومالها وحريتها، ولما تفتحت أنوثتها ووصل خبر عبيرها القاصي والداني لقبها الناس بالقمر، استهزأت بخطابها الكثيرين وتفرغت لأخيها وثروتها، قالت لنفسها إنها حين سترى رجلها ستعرفه وستأخذه، اصطفت الصديقات وتاجرت بمشغولاتها اليدوية المميزة، أصبح بيتها قبلة للضيوف والمحتاجين، وهابها الرجال والنساء»، وكما قلت فإنها تختار عزان المتزوج والأب لتقيم معه علاقة بعيداً عن أي ارتباط، وحين يعرض عليها مرة الارتباط تستاء.
وهناك شخصيات عديدة أخرى لافتة مثل شخصية ظريفة/ ظروف عبدة الشيخ وسريته وحبيبته، وهي التي تربي ابنه عبدالله بعد أن تركته أمه وغادرت لهجر زوجها لها، حين علم بعلاقتها مع رجل آخر.
ولا شك أن الرواية تطلع القارئ على المجتمع العماني، ويبقى السؤال عن مسوغ منحها الجائزة، فهل تستحقها وكيف منحت جائزة مان بوكر العالمية ولم تحظ بجائزة النسخة العربية لجائزة (بوكر) للرواية العربية؟
هل نقول إنها ذائقة لجان التحكيم أم نتذكر نجيب محفوظ وجائزة نوبل للآداب والطاهر بن جلون وجائزة جونكور الفرنسية ؟
يقال إن محفوظ حاز على جائزة نوبل بسبب تصويره للبيئة المصرية، لا لتجديده في الشكل الفني في الرواية العالمية في رواياته التي منح عليها الجائزة، ويقال إن سر فوز بن جلون يعود إلى تقديمه، في روايته «ليلة القدر»، الشرق كما يحب أن يراه الغرب.
أعتقد أن عالم عمان، كما قدم في الرواية التي حضر الانجليز فيها، هو من عوامل فوزها.

2019-05-26

***

2- ثقافة الطعام 1 : جوخة الحارثي و " سيدات القمر " :

كما كتبت من قبل فإن رواية الكاتبة العمانية جوخة الحارثي تفوز بجائزة " بوكر العالمية " التي تمنح في بريطانيا ، وهي أول رواية عربية تفوز بالجائزة .
لفت نظري في الرواية ما كتبته الروائية عن الحديث عن الطعام في بلادها ، فالعمانيون كانوا قبل 1980 تقريبا يخجلون من الحديث عن الطعام ولا يجوز لفرد من أفراد العائلة أن يسأل عما سيأكل قبل موعد الطعام " كان الحديث عن الطعام في بيتنا أمرا معيبا " ولذلك حين تسأل زوجة عم الراوي عما تعشوه ليلا كان يستاء ، وحين كان يسأل هو قبل موعد الطعام عما طبخ وماذا أعد للوجبة ، كانت الخادمة تجيبه :
" تشوفه عند الأكل " .
يقول الراوي معقبا على هذا :
" حتى كبرت وسافرت ، وجدت الناس يتحدثون بالساعات عن الطعام ، وصدمتني الإعلانات التلفزيونية التي تصور الأفواه المفتوحة المتلذذة وهي تلتهم أصناف المأكولات ، والناس من حولي يسألون بعضهم البعض بكل بساطة :" ماذا أكلت ؟ وماذا ستأكل؟ ".
لو قرأنا روايات غسان كنفاني كلها أو روايات إميل حبيبي كلها فما نسبة الكتابة فيها عن الطعام ؟
أول رواية عربية قرأتها تحفل بالكتابة عن الطعام بشكل لافت هي رواية الياس خوري Khoury Elias " سينالكول " وهي تختلف في هذا الجانب عن رواياته كلها ولهذا طبعا أسبابه ، وصدرت الرواية عن دار الآداب في العام نفسه الذي صدرت فيه عنها رواية جوخة الحارثي .
قبل فترة قرأت رواية الكاتبة التركية ( اليف شافاك ) " لقيطة اسطنبول " ولاحظت احتفاءها اللافت جدا بأنواع الأطعمة .
غالبا ما كنت أتساءل وأنا أقرأ الروايات الألمانية مثل روايات ( هاينرش بول ) وألاحظ أن أبطاله يذهبون إلى الطبيب وينفقون وقتا عنده ويجلسون على مائدة الطعام ، غالبا ما كنت أتساءل عن خلو روايتنا العربية - على الأقل التي قرأتها - من الالتفات إلى هذه التفاصيل ، علما بأن كتاب ( فورستر ) الذي ترجم مبكرا إلى العربية تحت عنوان " أركان الرواية " يعد الطعام موضوعا من موضوعات خمسة أساسية يلتفت إليها الروائي .إنه مثل الميلاد والموت جزء أساس يشغل تفكيرنا .
أحيانا نلتفت إلى الأشياء متأخرة . لم يكتب أكرم مسلم عن " الضراط " إلا بعد أن قرأ إحدى روايات ( ميلان كونديرا ) ، وقد نقلت أعمال هذا الكاتب التشيكي إلى العربية .

***

3- مان بوكر العالمية للرواية: لجوخة الحارثي "سيدات القمر " :

فازت الكاتبة العمانية جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر العالمية للرواية وذلك عن روايتها الصادرة في العام 2012 عن دار الآداب في بيروت ، والمترجمة حديثا إلى الانجليزية .
تقع الرواية في 223 صفحة ، وترصد الحياة في منطقة العوافي في سلطنة عمان ، وتعود من خلال الذاكرة إلى نهاية القرن التاسع عشر ، وتتجاوز ثمانينيات القرن العشرين ، بل ومن خلال كلمة ( ديلت/ Delete ) ومراقبة أحمد لهاتف خطيبته لندن نخمن أن زمنها الروائي يمتد إلى ما بعد شيوع الفيس بوك .
ترصد الرواية التطورات التي عاشتها عمان منذ زمن شيوع تجارة العبيد وتجارة السلاح إلى زمن انهيار البورصة وتجارة النفط ، وتتكيء أحيانا على أحداث تاريخية نعرف من خلالها أهم المفاصل التاريخية لسلطنة عمان .
راوي الرواية الرئيس هو عبد الله ابن التاجر سليمان وهو حفيد التاجر هلال ، وغالبا ما يروي وهو في الطائرة " أرى من نافذة الطائرة " وما شابه هذه العبارة ( ص 14و27و43و61و90و208 ) ، إذ يسترجع بعض أحداث حياته وحياة أسرته ، ويطلعنا على حياة جيله وجيل أبيه وجيل ابنه ، وهناك راو آخر غير محدد الملامح .
ونقرأ عن الحياة في سلطنة عمان وما طرأ عليها من تغيرات وتبدلات ، ونعرف عن العادات والتقاليد والشرائح الاجتماعية والصلة بينها وما آلت إليه .
وتحفل الرواية بالأمثال الشعبية العمانية وبعض الحكايات والأغاني الفولكلورية ، ولا تخلو من نماذج من الشعر العربي القديم لشعراء بارزين هم المتنبي وامرؤ القيس وأبو العلاء المعري وابن الرومي والبحتري ، ولا يحضر من الشعراء المعاصرين إلا الشاعر الفلسطيني محمود درويش وقصيدته " يطير الحمام... يحط يطير الحمام يحط الحمام " ، وثمة شخصية شاعر عماني مفترضة هي شخصية الشاعر البوهيمي أحمد الذي يعقد قرانه على الفتاة لندن ولا يتزوج منها لأنه يبدو ( دون جوان ) يقيم علاقة مع أكثر من معجبة ، ما يدفع بلندن إلى خلعه . والشاعر أحمد هذا لا يحفظ إلا ثلاث مفردات يظل يكررها باستمرار . إنه شخص متناقض يزعم أنه حداثي ولكنه مغرور متخلف ، وتقدم له الرواية من خلال خطيبته لندن وصديقتها حنان صورة كاريكاتيرية " اسمعي يا لندن. أنت خطيبتي وحبيبتي ..لكن لا تحاصريني بالغيرة والأنانية والتملك والاستئثار ..الأنانية قبح ، والغيرة تخلف ، والتملك من مخلفات عصور الطبقية المقيتة " هذا هو قاموسه كله .
وهناك شاعر عماني كلاسيكي هو البهلاني .
عدا الشعر والشعراء تأتي الرواية على كتب عربية تراثية أهمها بعض كتب الحب في التراث العربي ، وليس هذا بالأمر الغريب إذا ما عرف المرء أن الروائية جوخة الحارثي درست الأدب العربي القديم في جامعة بريطانية ، وأعتقد أن بعض الأراء التي ترد في الرواية على لسان بعض الشخصيات ( نجية القمر وعزان ) هي آراء الكاتبة نفسها . .
لا يتم سرد أحداث الرواية سردا تقليديا ، وبنية الزمن فيها لا تقوم على أساس الزمن الخطي الصاعد من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل . إن البنية الزمنية تقوم على أساس تكسر الزمن وتداخله ، ما يصعب على القاريء متابعة سير الأحداث بسلاسة ويسر ، ويزداد الأمر صعوبة في الأجزاء الأولى من الرواية حيث تتداخل الأصوات دون أن تلجأ الكاتبة إلى لعبة فنية تميز بين صوت وآخر ، وهنا يتذكر المرء رواية غسان كنفاني "ما تبقى لكم" ، ولا يستغرب المرء هنا بعض آراء القراء في الرواية ، القراء الذين ذهب قسم منهم إلى أنهم لم يتموا القراءة .
كنت يومي الخميس والجمعة كتبت فقرتين ( بوستين ) على صفحتي في الفيسبوك adel al-osta أتيت فيهما على الرواية وثقافة الطعام فيها وعلى الجائزة ، ولاحظت ردود أفعال القراء عليهما وشكوى بعضهم من الرواية وعدم إتمامها .
شخصيا حين قرأت الخبر في صفحة الأدب المقارن التي يشرف عليها الأستاذ الدكتور السوري Abdo Abboud عقبت بالآتي : "الغريب أنني اشتريت الرواية ولم أقرأها " ثم لما عدت إلى نسختي وجدت أنني قرأتها ودونت عليها ملاحظات أهمها الملاحظة الآتية " البدايات الخاطئة تؤدي إلى نهايات كارثية " (ص 221) واكتشفت أنني كنت قرأت الرواية ولم أكتب عنها . والملاحظة التي دونتها تخص مآل علاقة خولة أخت كل من ميا وأسماء بنات عزان بزواجها من ابن عمها ناصر.
تتزوج خولة من ناصر بعد أن رفضت عرسانا كثرا لأجله هو الذي سافر مبتعثا إلى كندا ليتعلم هناك ، ولكنه فشل في دراسته.
يعود ناصر ليتزوج من خولة طمعا في ثروتها ويظل على علاقة بفتاة كندية ويهمل خولة وفي النهاية يعود إلى عمان بعد أن تطرده الكندية ، وهنا تطلب خولة منه الطلاق ، فقد اكتشفت خداعه لها.
حكاية خولة وناصر ليست الحكاية الأطرف إطلاقا في الرواية . هناك قصص وحكايات أطرف منها بكثير ، وقسم منها يستحق فعلا أن يتوقف أمامه ، ومن أطرف الحكايات حكاية عزان والد الفتيات الثلاثة ونجية القمر معشوقته التي رغبت فيه خليلا وصديقا مع أنه متزوج وله أسرة وأبناء .
نجية امرأة بدوية تعشق عزان وتريده وتترصد حركته ذات ليلة لتأخذه وتغتصبه ولكنه يهرب منها ، ومع مرور الأيام تناله وتقوم بينهما علاقة حب وصداقة لا تقوم على التملك ، فهي تريد علاقة حرة تظل فيها سيدة نفسها . (ص37 - 42 وصفحات أخرى ) .
اختارت جوخة الحارثي لروايتها عنوان " سيدات القمر " وكانت نجية هي سيدة من سيدات القمر . ف" حين مات أبوها تنفست الصعداء وأحكمت سيطرتها على حياتها ومالها وحريتها ، ولما تفتحت أنوثتها ووصل خبر عبيرها القاصي والداني لقبها الناس بالقمر ، استهزأت بخطابها الكثيرين وتفرغت لأخيها وثروتها ، قالت لنفسها إنها حين سترى رجلها ستعرفه وستأخذه ، اصطفت الصديقات وتاجرت بمشغولاتها اليدوية المميزة ، أصبح بيتها قبلة للضيوف والمحتاجين ، وهابها الرجال والنساء " ، وكما قلت فإنها تختار عزان المتزوج والأب لتقيم معه علاقة بعيدا عن أي ارتباط ، وحين يعرض عليها مرة الارتباط تستاء .
وهناك شخصيات عديدة أخرى لافتة مثل شخصية ظريفة / ظروف عبدة التاجر سليمان وسريته وحبيبته ، وهي التي تربي ابنه عبدالله بعد أن تركته أمه وغادرت لهجر زوجها لها ، حين علم بعلاقتها مع رجل آخر ، وظل الغموض عموما يحيط بمصيرها .
ولا شك أن الرواية تطلع القاريء على المجتمع العماني ، ويبقى السؤال عن مسوغ منحها الجائزة ، فهل تستحقها وكيف منحت جائزة مان بوكر العالمية ولم تحظ بجائزة النسخة العربية لجائزة ( بوكر ) للرواية العربية؟
هل نقول إنها ذائقة لجان التحكيم أم نتذكر نجيب محفوظ وجائزة نوبل للآداب والطاهر بن جلون وجائزة جونكور الفرنسية ؟
يقال إن محفوظ حاز على جائزة نوبل بسبب تصويره للبيئة المصرية ، لا لتجديده في الشكل الفني في الرواية العالمية في رواياته التي منح عليها الجائزة ، ويقال إن سر فوز بن جلون يعود إلى تقديمه ، في روايته "ليلة القدر " ، الشرق كما يحب أن يراه الغرب .
أعتقد أن عالم عمان ، كما قدم في الرواية التي حضر الانجليز فيها ، هو من عوامل فوزها .
موضوعات الرواية وبنيتها السردية والزمنية هو ما سأخوض فيه بالتفصيل .

***

4- ثقافة الطعام 2 : " التالي للغالي " أم التالي لغير المعتبر :

غالبا ما نكرر في حياتنا ، إن جاءنا عزيز لحظة انتهائنا من الطعام ، العبارة الآتية :
- التالي للغالي أو الفضلة للفضيل .
ويبدو أن العبارتين نوع من الاعتذار وضرب من المجاملة .
مرة زرت معارف من الريف دعوني إلى الطعام ، فوضعوا الأكل كله أمام الضيف.
أكل الذكور كلهم بمن فيهم الأطفال الذكور ثم أكلت النساء الباقي . وحسب ما أعرف فإن الناس في بعض القرى وفي المخيمات لم تكن تطبخ إلا الجمعة وفي المناسبات التي يحضر فيها الضيوف . طبعا بسبب الفقر .
في رواية جوخة الحارثي "سيدات القمر " تأتي الكاتبة على لسان بعض الشخصيات على الطعام في منطقة العوافي في سلطنة عمان وتكتب شيئا من هذا .
" إذا كان هناك ضيوف من قبيلة أخرى ستشم رائحة الشواء والمرق وخبز الرقاق ، ثم ستجتمع مع أولاد عمها وزوجته حول ما تبقى من صحن الضيوف الضخم ، وعادة لا يكون هناك سوى قليل من المرق وعظام الشواء . أولاد عمها يتعاركون على ما تبقى من طعام الضيوف ، وزوجة عمها تصوب النظرات إلى يدها . ... إن لم يكن هناك ضيوف سيدق القاشع ويخلط بالبصل والليمون والماء ويقدم مع التمر للغذاء".
إن وضع الطعام كله أمام الضيف يظهر أيضا في الرواية .
يصطحب التاجر سليمان ابنه عبدالله معه إلى عبري ، وعبري مكان ، بهدف تعريف القبائل بنسله الوحيد ، وحتى يعرف ابنه ، كما سنرى ، عادات العرب ويعده رجلا .
يقدم سليمان لابنه نصائح عليه الالتزام بها حين يوضع الطعام ، ويعلمه أن يأكل بمقدار ، فالطعام الذي يوضع سيأكل منه آخرون غير الضيوف ، وهكذا يفكر عبدالله وهو يأكل بالآخرين الذين ينتظرون طعامهم ويقوم عن المائدة وذهنه منصب على غيره.
كم كان الجوع منتشرا ، والفقر والجوع موضوع لافت في "سيدات القمر " . والرواية في هذا الجانب تنجز بعدا معرفيا ، فقارئها يعرف عن الطعام لدى العمانيين في القرنين التاسع عشر والعشرين ، ولسوف يقرأ عن أطعمة كلمات لم يكن سمع بها من قبل .

***

5- جوخة الحارثي ومحمود درويش :

الليلة، في المنام ، وجدتني أحاور محمود درويش حول أكثر الأدباء الفلسطينيين ثباتا على مواقفهم.
أصغيت إليه ، في جلسة ودية ، وذكرت على مسمعه اسم ناجي العلي مع أنه فنان وليس كاتبا .
قال لي محمود :
- إلا في آخر حياته .
وقلت له :
- أنت أيضا كنت في نظرتك إلى فلسطين التاريخية ، باعتبارها بلادنا ومن حقنا أن نقيم فيها كلها ، تختلف من فترة إلى أخرى ، وحاولت أن أتذكر سطرا شعريا من قصيدة " الأرض " هو :
" خديجة لا تغلقي الباب
سنطردهم من هواء الجليل "
ولكن السطر ، لا عنوان القصيدة ، غاب عن ذهني .
في الصباح تذكرت مقالي اليوم في جريدة " الأيام " الفلسطينية ، وتذكرت أن جوخة الحارثي لم تذكر من الشعراء الحديثين ، في روايتها التي فازت بجائزة مان بوكر العالمية للرواية ، إلى جانب الشعراء العرب القدماء ، إلا محمود درويش ، وكدت أنسى الحلم ثم تذكرته .
أما لماذا محمود درويش دون غيره فهذا ما يحتاج إلى توضيح .

***

6- جوخة الحارثي ومحمود درويش والشعر العماني 2:

كنت أمس أشرت إلى أن رواية جوخة الحارثي تحفل بنصوص شعرية عربية قديمة ، وأن الشاعر العربي الحديث الذي يرد ذكره في الرواية هو محمود درويش وهناك شاعر عماني اسمه أحمد ، طبعا عدا شاعر عماني آخر كلاسيكي وعاش في فترة أسبق ويبدو العمانيون معجبين به ، باعتباره شاعرا وطنيا ويرون فيه شاعرا لا يقل مكانة عن مكانة الشاعر المصري أحمد شوقي ، وله قصيدة نونية يرددونها
. إن ديوان "أبو مسلم البهلاني " هو أول ديوان عماني يطبع ، " وله كتب أخرى في الفقه والسلوك حرص أبي على امتلاك طبعاتها الأولى " يقص الفنان خالد بن عيسى المهاجر على زوجته أسماء ويروي لها أن والده عيسى كان يأخذه معه إلى كورنيش القاهرة ويطلب منه إلقاء نونية أبي مسلم ، وحين يبدأ الابن قراءة القصيدة يكمل الأب الأبيات بنفسه حتى يصل إلى:
" نزحت عنها بحكم لا أغالبه
لا يغلب القدر المحتوم انسان "
كان أبو مسلم شخصية نهضوية متعددة الجوانب ، غزيرة الإبداع وقد أسس أول جريدة عمانية في مطلع القرن العشرين . .
يرد اسم درويش وقصيدته "يطير الحمام..يحط الحمام " على لسان الشاعر العماني أحمد الذي يعقد قرانه على الفتاة لندن ، ويطلب منها الآتي :
"اسمعي يا لندن...أنت خطيبتي وحبيبتي..لكن لا تحاصريني بالغيرة والأنانية والتملك والاستئثار..الأنانية قبح ، والغيرة تخلف، والتملك من مخلفات عصور الطبقية المقيتة.. أنا شاعر..مثقف..روحي حرة طليقة...مثل الحمام...آه ذكرتني بمحمود درويش ... يطير الحمام...يحط الحمام..القيود تخنقني..تخنق إبداعي... تخنق شاعريتي المتدفقة.. أريد امرأة تفهمني.. أنا الريح وهي الشجرة.. تمتد جذورها في الأرض و أحلق أنا في السماء " .
يعني كل ما لفت انتباه الشاعر العماني في الشاعر الفلسطيني هو علاقة الأخير بالمرأة.
طارت رنا قباني الزوجة الأولى للشاعر وحطت الزوجة الثانية حياة الهني.
طبعا أحمد يريد أن يطير من امرأة إلى أخرى ، ولا يريد امرأة قيدا.
ولأنني قاريء لأشعار درويش فإنني تذكرته في قراءات لاحقة للرواية.
يشكل اختفاء أم الراوي الرئيس في الرواية ، وإحدى شخصياتها الأساسية ، فكرة مهمة ، فالأم التي اختفت ولم تحضر إلا من سؤال ابنها عنها هي شخصية رئيسة ، فهي تظل ملازمة كالظل لابنها الذي يسأل عنها عمته فلا تجيب ، ويسأل عنها ظريفة مربيته فلا تجيب أيضا ، علما بأنها تقول له الكثير.
مرة يسأل عبدالله ظريفة عن سبب اختفاء أمه فتجيب من خلال مثل هو "آفتي معرفتي ، راحتي ما أعرف شيء " . هذا المثل ذكرني بقصيدة درويش "اوديب / ما حاجتي للمعرفة" من ديوان "هي أغنية.. هي أغنية" ١٩٨٦ وفي القصيدة يتساءل:
ما حاجتي للمعرفة؟
أنا زوجتي أمي وابنتي أختي
وتختي مثل عرشي أوبئة " .
هل يتذكر المرء الشاعر اليمني عبدالله البردوني :
"فظيع جهل ما يجري
وأفظع منه أن تدري " .

***

7- جوخة الحارثي وثقافة الأسماء :

"لو الأسماء بتنباع وبتنشرى كان سمى الناس خرى " . هذا مثل يقوله الناس في مجتمعنا ، وغالبا ما يبحث الجيل الجديد عن أسماء جديدة وطريفة ، إن لم يكن هؤلاء غير تراثيين وغير متدينين .
ارتبطت الأسماء بالفكر وحال الأمة ، وخيض في الموضوع كثيرا ، ومع ذلك فكل مرحلة لها أسماؤها ، وهذا لا جدال فيه .
في " سيدات القمر " يتوقف شخوصها أمام ظاهرة الأسماء التي تتغير بتغير الظروف والمعطيات.
تسمي ميا ابنتها البكر "لندن" وهو اسم عاصمة ولم يكن أي عماني سمى مولوده باسم العاصمة التي تستعمر دولتها بلاده.
ولميا قصة لم تضأ في الرواية بما فيه الكفاية.
هل أحبت ميا قبل أن تتزوج؟
والاسم لندن له صلة بالموضوع .
كيف تختار ميا لابنتها هذا الاسم ؟ وكيف يوافق زوجها عليه؟ الرجل إذن لا شخصية له .
زوجة عم عبدالله التي تقف إلى جانب ميا في ولادتها تخاطبها بخصوص الاسم :
" ما زلت مصرة على هذا الاسم الغريب للمولودة؟ أحد يسمي بنته لندن ؟ هذه اسم بلاد يا بنتي .. بلاد نصارى .. كلنا متعجبون جدا ، وأظن صحتك الآن تسمح لك بالتفكير مرة ثانية في اسم للبنت ..سمها على اسم أمك سالمة".
" كانت الأم حاضرة فغضبت : " ليش يا حبة عيني تريدي أن تسميها على اسمي وأنا حية ترزق ... تتفاءلي لي بالموت ؟ .. من أجل أن تخلفني البنت ؟" .استدركت زوجة العم : " حاشا لله ما قصدت .. كثير من الناس يسمون أبناءهم وهم بخير وعافية ... بعيد الشر عنك يا سالمة .. أي اسم غير لندن".. ولكن ميا تصر على اسم لندن : " ما له اسم لندن ؟ . . حرمة في بلاد جعلان اسمها لندن..".
تعترض الشخصيات المحافظة على الأسماء الجديدة غير المألوفة
ولا تروق لها وهو ما يبدو في موقف ظريفة من الأسماء الجديدة :
" بدل ما يسمو حبيبة ومريم وفاطمة يسموا هذي الأسامي مرفت ورباب وناباب وشاكاب وداداب وقلع عين ابليس...دنيا ! وأنت يا ميا من اسمها بنتك ؟ " .
وفي مكان آخر تتهامس زوجة المؤذن وأرملة القاضي يوسف وهما في بيت والدة ميا :
" يا أختي أي رجل هذا يخلي بنته تتسمى هذا الاسم الغريب ؟ ما له شور وحرمته ميا مشتارة به ، لو عنده عزم و شور كان ما يخليها تسميها اسم بلاد النصارى ، لندن ؟ تو حد يسمي بنته اسم بلاد؟".
إن ظريفة تحتج على تسمية كنتها شنة لابنتها . اختارت شنة الاسم رشا ولم يحتج ابنها على هذا الاسم الذي لم يرق للأم ، فقد سكت " وولدي مسكين سكت.. ايش بيقول ؟ بتلدغه لو تكلم .. " والتي تلدغه هي زوجته شنة التي تنعتها حماتها ، كما سنلاحظ ، بالأفعى .
والوقوف أمام الأسماء يتكرر في الرواية عموما .
لا يختلف المجتمع العماني في هذا الجانب عن المجتمع الفلسطيني .
ثمة فلسطينيون كانوا أيضا يرفضون أن تختار المرأة الاسم ، ويترك الاختيار لكبير العائلة ولكن هذا تغير أيضا مع الأيام ، ولقد صار يتم بالتوافق بين الزوجين ، وغالبا ما تسمى البنت الأولى على اسم أم والدها ، ولكن بعض أمهات الرجل يرفضن .
وأعتقد أن طرافة الأسماء ، لنا ، في الرواية موضوع يستحق الاهتمام .
أنا من سمى ابنتي روز وفائزة .
اخترت اسم روز لأن الرفيق أبو روز سمى ابنته روز على اسم ( روزا لوكسمبرغ ) وكنت صديقا للرفاق ، وكانت روز على قدر كبير من الصحة والجمال واللطافة . وغالبا ما سبب الاسم لي مشاكل ، إذ كيف أسمي أنا الدارس الأدب العربي ابنتي بهذا الاسم ، علما بأنه اسم معروف في بلادنا .

***

8- جوخة الحارثي : ثقافة الأسماء 2 / طبقية الأسماء :

غالبا ما يشير الاسم إلى هوية حامله ، وهذا ليس اكتشافا ، فحتى قبل كتاب أمين معلوف " هويات قاتلة " حيث الاسم واللهجة والأيقونة تشير إلى هوية صاحبها ، وهو ما تجسد في رواية جبور الدويهي " شريد المنازل " (انظر دراستي :سؤال الهوية في الرواية العربية ) .
تأتي " سيدات القمر " على طبقية الأسماء ،فالرواية التي ترصد المجتمع العربي في عمان تقف أمام طبقية المجتمع الذي كان في نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين مجتمعا بنيته بنية إقطاعية بالتمام ، وتلتفت إلى انعكاس هذا في حياة الناس اليومية وسلوكهم إزاء بعضهم البعض ، وموقف كل طبقة من الطبقة الأخرى .
طبقتا المجتمع هما طبقة الأسياد وطبقة العبيد ، والحياة مقسمة بينهما ولكل دوره ونمط حياته ، ولكل أيضا أسماؤه الخاصة به .
هناك أسماء خاصة بالأسياد وأخرى خاصة بالعبيد .
" أم ظريفة يلقبها الناس ب "الخيرزانة " لطولها ورشاقتها ، لكن اسمها الحقيقي هو " عنكبوتة " ، كان أبوها قد مل من ولادات زوجته المتكررة ومن انتقاء الأسماء التي ينبغي في كل مرة ألا تقترب من أسماء الشيوخ والأسياد ، فلم يخطر على باله اسم آخر غير عنكبوتة ، وهكذا كان .
حين يفكر سنجر ابن ظريفة العبدة أن يسمي ابنته رشا تهجم أمه عليه وتشد رقبته وتقول له " تسمي بنتك هذا الاسم الغريب رشا وتريد تهاجر ؟ "
فيجيبها صائحا :
" اسمعي يا أمي ، بنتي ما يهمني اسمها ولو كانت ولد سميته محمد أو هلال أو عبدالله "
وأسماءالذكور هذه أسماء الأسياد ، وهنا تصيح الأم :
" ايش ؟ "
وتضيف :
" سيقتلك التاجر سليمان ...تسمي على اسم أهله و أولاده؟ أنت جنيت يا ولد؟ تكبر رأسك على من ؟ ..من رباك وعلمك وزوجك ؟ ".
ثمة أسياد وعبيد ، وثمة طبقية يجب في نظر الأم أن تراعى ، وإن بدأ بعض الناس يتمردون . وكان سنجر من الذين تمردوا وهذا ما لم يستوعبه التاجر سليمان الذي ظل في مرضه عامين يهذي بجلب سنجر وربطه بالشجرة ، وحين يقول له ولده عبدالله إن الحكومة حررت العبيد يقول لابنه إن أمر الحكومة لا يعنيه ، فسنجر عبده لا عبد الحكومة .
مع ما سبق حدث تغيير في الأسماء ، كما لاحظنا ، بعد الانفتاح على العالم ، وتكفي الإشارة إلى اسم لندن .
وفي فترة أسبق كان الأسياد هم الذين يسمون عبيدهم ، فحين تلد عنكبوتة طفلتها ظريفة يعلن الشيخ سعيد أن المولودة اسمها ظريفة " ولكنه لن يتمكن لسوء الأحوال بعد فساد محصول التمر من ذبح أي عقيقة عنها " ، وإذا كان أبي يكرر على مسمعي دائما عبارة "أنت ومالك لأبيك" فإن عنكبوتة وابنتها ظريفة هما ملك للشيخ سعيد ، وحين يبيع هذا ظريفة للتاجر سليمان تصبح هي وابنها ملكا له ، وكما نلاحظ في الرواية فإنه هو من يختار لها زوجها ، بعد أن أغضبته وهجرها.

***

9 - جوخة الحارثي : سيدات وعبدات :

لا تقص جوخة الحارثي عن سيدات وحسب. إنها تروي عن عبدات أيضا يتلذذن بعبوديتهن ويدافعن عنها ، وحين يتمرد الزوج على العبودية ويطالب بحريته تستاء الزوجة من زوجها أو ابنها الذي ينكر نعمة سيده.
أعتقد أن عملية إحصائية للنماذج النسوية في الرواية وتصنيفها ورصد مآلاتها تبدو مجدية .
هناك سيدات يتمردن ويخن أزواجهن ، وهناك سيدات يعانين من عقدة الطلاق مرتين ، وهناك جيل قديم وجيل جديد ، وهناك نسوة يبحثن عن حريتهن أولا حتى لو خالفن العرف الاجتماعي .
هناك عبدات يعشن حياة قاسية يبعن عبدات ويخلفن عبدات ويمارسن الجنس كما لو أنهن مومسات لا تعرف الواحدة منهن من هو والد ولدها أو والد ابنتها . إنهن يضاجعن غير شخص دون أن يعرفن ممن حملن .
تلك هن هن نسوة عمان في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين .
ومع ذلك هناك آباء يحترمون بناتهن ولا يجبرونهن على الزواج ، آباء يقرؤون الشعر العربي ويتبارزون شعرا مع بناتهن .
وثمة فصل بين السيدات والعبدات ، فالسيدات لا يحببن مخالطة العبدات ولا يستقبلهن بفرح في بيوتهن حتى لو كن محظيات السيد وخليلاته ، فهن عبدات ومن طبقة أدنى ، وهن شبقات ولا يتحرجن في كلامهن وسلوكهن .
حين تزور ظريفة سالمة في بيتها لتبارك لها في ولادة ابنتها ميا ، تتباطأ سالمة في استقبالها والترحيب بها وتدعي أن رجلها توجعها ، وعلى خلاف استقبالها لها تستقبل زوجة المؤذن ، فتقوم وترحب به وتلحظ ظريفة الأمر فتعقب :
" واعجبي !! شفيت رجول سالمة وقدرت تقوم !!" وحين تلحظ مصافحة سالمة زوجة المؤذن بحرارة تقول :
" يقول المتوصف : المحبوب محبوب جاء ضحى وجاء غروب ، والرامد رامد جاء حاش وسامد " ، ثم ضربت فخذها بكفها ودخلت المطبخ "
وكانت ظريفة العبدة الوحيدة التي تجلس في مجلس النسوة الأرقى طبقة وتتصرف بحرية ، فهي محظية التاجر سليمان وهي من ربت عبدالله زوج ميا وكانت له بمثابة أم ، وكانت أحيانا تناديه بـ"ياولدي".
في بعض مواطن الرواية نقرأ عن انفتاح مجتمع العبدات وتحررهن جنسيا ؛ لغة وسلوكا ، فظريفة التي تخاف على عبدالله من الشذوذ وتسلط الآخرين من الذكور الشباب والكبار عليه تدفع بالفتيات العبدات نحوه ليمارس معهن الجنس ، دون مراعاة لكبريائه ، ولا تتردد الفتيات العبدات من التحرش به جنسيا .
وفي غير موطن نقرأ عن انكشاف العبدات لغة .
في ص٢٦ تقول ظريفة ، لزوجة المؤذن التي اعترضت على الزواج المبكر لسنجر ، بصراحة عن سبب تزويج ابنها سنجر :
" وأسألك أحسن أزوج سنجر ولا أحسن أخليه ليركبه الرجال " وظريفة تعبر بصراحة وبالحركة الدالة عما تفعل وتحب . إنها لا تتوانى عن التعبير عن حياتها في أشياء يبدو التعبير عنها أمام الآخرين محرجا .
حين يسألها عبدالله عن اختفاء أمه مثلا تتغابى وتتظاهر بأنها لا تعرف ، فيستغرب ويسألها ماذا تعرف إذن ، فتجيب :
" أنا ظروف لا أعرف كل شيء ، أعرف أطبخ وآكل و أرقص و ... " وأشارت بيديها في حركة بذيئة " . ولم تكن ظريفة استثناء في هذا ، فحين يكبر عبدالله يرى " كثيرا من هذه الحركات من رجال ونساء على السواء " ، ولما سبق تحرص سالمة على أن تكون غرفة بناتها منعزلة حتى لا يختلطن بالنساء الكبيرات المتزوجات من الزائرات .
ويتحدث عبدالله عن تحرش شنة به ومراودته وارتمائها عليه .

***

10- جوخة الحارثي : المرأة - باص الشعب والمخيلة الشعبية :

من النماذج النسوية في الرواية حفيظة، وهي من طبقة العبيد، وقد اكتسبت اللقب "باص الشعب".
كانت حفيظة لم تتعد السابعة عشرة حين حبلت أول مرة ، وحين غمز الناس ولمزوا غير مستغربين فمن " قبلها عمتها " وهي "سايرة على الدرب " وحين وضعت المولودة الأشد سمرة منها ومن أمها ، سألتها سعادة : " من أبو هذه الغبنة ؟" أجابتها : " قلت لك يا أمي ، إذا ما كان زعتر فإنه مرهون أو حبيب " .
ولا تتوب حفيظة ، فقد عادت لتنام مع الرجال ولم تكن متأكدة من والد المولودة الجديدة ، وكان الناس ينظرون إلى شبه المولودة بالرجال الذين تذكر أسماءهم ممن ناموا معها ، وإذا كان الشبه واضحا قالوا " مقعية أبوها في حصاة " وهو مثل يضرب للدلالة على شدة الشبه بين الأب وابنه أو ابنته .
المولودة الثالثة التي أنجبتها حفيظة كانت شديدة الشبه بها ، وكانت هذه هي الأخيرة "إذ اهتدت حفيظة إلى حبوب منع الحمل".
اللافت طبعا هو لسان الناس السليط ومخيلتهم الشعبية " باص الشعب " ، وعندنا في فلسطين يقولون عن المرأة التي تقيم أكثر من علاقة مع أكثر من رجل "سيارة".

***

11- جوخة الحارثي : " عنصر التشويق في الرواية " :

لا يغيب عن ذهن جوخة الحارثي أن عنصر التشويق عنصر أساس ومهم من عناصر الفن الروائي ، ولذلك تعتمده عنصرا مهما وأساسيا من عناصر " سيدات القمر ".
لا تقول جوخة الأشياء كلها دفعة واحدة .إنها تترك قاريء روايتها في حيرة من أمره ، حتى يتابع القراءة . إن عنصر التشويق هنا لا تقوم على توتير اللغة ، وإنما على تأجيل النهاية التي تخص الأحداث ومصير الشخصيات ، ولو أخذنا مثالا واحدا هو والدة الراوي عبدالله . إننا لا نعرف كل شيء عن علاقتها بزوجها . لماذا انفصلا وماذا كانت نهايتها هي ؟
يظل الحديث عن هذه العلاقة يجري على ألسنة الشخصيات الروائية ، فتكثر الإشاعات والأقاويل والتخمينات والتوقعات ، ويبدو الأمر لغزا حقا .
في الصفحتين 208 و 209 من الرواية - أي قبل 15 صفحة من نهايتها نعرف السر على لسان مسعودة والدة شنة زوجة سنجر .
تصاب مسعودة بالزهايمر فتعود إلى الطفولة وتذكر ما كتمته :
" كان جالسا على طرف السرير ، وهي واقعة قبالته ، قالت بصوتها الخفيض دوما : " شفتها هي وسليم عبد الشيخ سعيد تحت شجرة الريحان " .
أخذ التاجر سليمان يرتجف ، فأكملت دون أن تغير نبرة صوتها : " ولا يهمك ، خليها علي " وخرجت.
كان على التاجر سليمان أن يسافر ذلك الصباح بالذات إلى صلالة لشؤون تجارته ، وبعد أن عاد بعد ثلاثة أشهر كانت زوجته قد ماتت تاركة عبدالله الرضيع في رعاية عمته ، وكان سليم عبد الشيخ سعيد قد اختفى.
وكانت مسعودة قد مسحت هذا الفجر المعتم من عقلها بكل قوة " .
زوجة السيد تخون زوجها مع عبده ، وزوجة شهريار في " ألف ليلة وليلة " خانت الملك مع العبد .
يرى ( يونغ ) أن الآثار الأدبية صدى لأساطير عريقة تتردد في حياة البشر .
وعموما سوف نقرأ اعتماد ليلى الأطرش في روايتها " ترانيم الغواية " 2014 شخصية نسوية مصابة بالزهايمر لتقص عن القدس في العهد العثماني.

***

12- جوخة الحارثي : التعالي المريض

من الشخصيات النسوية في الرواية عمة السارد عبدالله ، وهذه المرأة تذكر قاريء سيرة فدوى طوقان الذاتية " رحلة جبلية..رحلة صعبة " بالشيخة عمة فدوى .
الشيخة في سيرة فدوى امرأة مطلقة بلا أبناء تقيم في بيت العائلة وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة وتترك تأثيرا سلبيا في شخصية فدوى فتنفر الأخيرة منها وتبرز لها صورة سلبية في المطلق .
يقص السارد عبدالله عن عمته التي تزوجت مرتين وتطلقت مرتين ، فهي عقيم ولا تنجب .
تتعالى العمة على الآخرين وتكره مديرة المنزل ومدبرته العبدة ظريفة لأنها كانت محظية التاجر سليمان.
تبدو العلاقة بين والد السارد وعمته - أي بين الأخوين - في الظاهر علاقة احترام مفرط وتبدو العلاقة رسمية ، وحين كبر عبدالله فهم " كم كان احترامهما الظاهر يحمل من الاحتقار العميق والكراهية".
كانت ظريفة تنتقد عمة عبدالله وترى أن السبب يعود إلى " كونها غير محظية عند الرجال كونها تطلقت مرتين من أخوين ، وعلى عقمها ، وعودها الجاف " .
عقم العمة ولد لديها احتقارا للأطفال أكثر من أي شيء آخر " وإن كانت أصلا " تحتقر كل الناس ، وتعاملهم بأدب ظاهر ....يسف عن الاستخفاف العميق بهم ." .
نلحظ هذا التعالي في مواطن أخرى أيضا ، بخاصة في نظرة مجتمع السيدات إلى مجتمع العبيد .
في مشهد ولادة ميا التي استقرت ، بعد وضعها طفلتها لندن ، في بيت أمها سالمة ، لفترة النفاس ، تذهب ظريفة إلى بيت سالمة لتبارك لهما ، فتتهكم سالمة على ظريفة ولا تنهض لتسلم عليها وتتظاهر بأن رجلها توجعها . بعد دقائق تزور زوجة المؤذن سالمة لتبارك لها ، فتنهض الأخيرة وتسلم عليها ، وتلاحظ ظريفة هذا فتتساءل متعجبة من ازدواجية تصرف سالمة ، وتهمهم قائلة :
" واعجبي !! شفيت رجول سالمة وقدرت تقوم... الخ " .
وظريفة كما يتضح في الرواية تغدو لعبدالله زوج ميا بمثابة الأم ، فهي التي تربيه بعد اختفاء أمه ، وبالتالي فإنها الجدة الثانية للمولودة .
وفي أثناء مرض سليمان التاجر يظل يهذي بما نشأ عليه ، ولا يصدق أن سنجر صار حرا بعد أن حررت الدولة العبيد . إنه يواصل طلبه من ابنه عبدالله بربط سنجر بالشجرة وضربه ، علما أن سنجر سافر إلى الكويت بعد أن انعتق من العبودية بموجب قانون إلغاء الرق . إن لاوعي سليمان هو الذي يلح في مرضه عليه .

***

13- جوخة الحارثي : عمان الفقيرة وقسوة المجتمع:

ترصد جوخة الحارثي في روايتها المجتمع العماني خلال قرن من الزمان ، ويتجسد ذلك من خلال بعض الشخصيات في ماضيها وحاضرها .
و من خلال علاقة الأبناء بالآباء نتعرف على أيام الفقر والجوع والمعاناة التي مر بها العمانيون قبل اكتشاف النفط وإقامة الدولة ، وقد تشوب علاقة الطرفين حالة من التوتر والصدام .
كما لو أن جوخة الحارثي تكتب تاريخ مجتمع عمان وتجسده من خلال شخصياتها الكثيرة المكتظة التي تضاء أحيانا إضاءات مقبولة وأحيانا أخرى إضاءات غير كافية ، والأخيرة تذكر ذكرا عابرا لا تعلق بسببه في الذاكرة .
من الشخصيات التي تلفت النظر شخصية منين وابنه زايد الذي رباه أبوه بعد مغادرة أمه لأنها " هربت مع رجل آخر " وتركته " رضيعا فأحسنت إليه الجارات حتى كبر وأصبح قادرا على العناية بنفسه".
منين والد زايد شخصية طريفة ، فهو يعاني من الفقر والوحدة وحب الطعام والشراب والنساء ، وغالبا ما يجلس أمام بيته الفقير المتواضع ليتحدث مع المارة ، حتى وإن كانوا أطفالا .
كان زايد طفلا قويا مشاكسا يتحرش بالبنات ، ولما كبر التحق بالجيش ولم ينقطع عن زيارة العوافي حيث ولد ونشأ وحيث يقيم أبوه .
بنى زايد لأبيه بيتا جديدا ملأه بالرز والسكر والعصائر ، وطلب من أبيه أن يجلس فيه لا أمامه على قارعة الطريق حيث تمتهن كرامته . ولكن الأب يريد محادثة الناس فلا يستطيع العيش بعيدا عنهم .
يواصل زايد الاهتمام بأبيه ويحضر له خادمة تعتني به وبملابسه وطعامه ، وبعد فترة تحمل من منين ، ما يدفع زايدا إلى إعادتها لبلادها .
لا ينجح الابن في تغيير سلوك أبيه ونمط حياته ، ولقد أخذ ، بسبب مكانته في الجيش ، يخجل من أبيه ، ما أدى إلى توتر العلاقة.
ذات نهار يجد الناس منين مقتولا برصاصة في رأسه ، وأما ابنه زايد فقد تزوج من ابنة حفيظة سيئة السلوك وقد لقبها الناس - كما ذكرت - ب "باص الشعب " .
أقام زايد حفل زواجه في مسقط في فندق الشيراتون ، ولم يحضره من أهل العوافي "سوى العروس و أختيها وأمها حفيظة " ، وما عاد يعود إلى العوافي ." في البداية كان زايد يعود للعوافي كل جمعة ، ويوزع الفواكه حتى على جيرانه .... وحين لم يصب له أحد القهوة في عزاء زيد ، بل تركوه يصب لنفسه ، عرف أن أهل العوافي لن يروه أبدا الضابط الناجح ، سيظل في نظرهم زايد بن منين الذي يستجدي الناس .هؤلاء الناس يؤمنون بالماضي وليس بالمستقبل " .
ربما هذه العوالم هي ما لفت أنظار لجنة الجائزة إلى الرواية !

***

14- جوخة الحارثي : الحب المحرم

لعل ما يلفت النظر في الرواية هو بدايتها ونهايتها في الوقت نفسه .
ذهبت إلى أن بعض شخصيات الرواية لم تضأ بما فيه الكفاية ، وظلت بعض الأحداث لغزا لم نستطع فك رموزه من قراءة أو ثانية ، أو على الأقل من خلال ما بقي عالقا في الذاكرة من الرواية .
هنا نتذكر ما كتبه ( بيرسي لوبوك ) في مقدمة كتابه " صنعة الرواية " . إننا حين نصدر حكما على رواية فإننا نصدر حكما على ما بقي عالقا منها في الذاكرة ، لا على الرواية في الورق .
ماذا عن بداية الرواية ولسوف أترك الآن الكتابة عن نهايتها .
تفتتح الرواية بسرد عن حياة ميا ، ولا أظن أن السارد هنا هو زوجها عبدالله ابن التاجر سليمان .
ميا فتاة تجلس في البيت ولا تتعلم في المدرسة ، والمدارس في العوافي في حينه قليلة وتعليم الفتيات كان موضوعا غير مقتنع به اقتناعا تاما .
تجلس ميا في البيت وراء ماكنة الخياطة وتنفق وقتها في الخياطة ولكن لميا قلب أيضا .
تفتتح الرواية بالسطرين الآتيين :
" ميا التي استغرقت في ماكينة خياطتها السوداء ماركة الفراشة ، استغرقت في العشق ".
أمام هذين السطرين يتساءل القاريء :
- عشق من ؟ وهل عشقها عشق واقعي حقيقي أم عشق رباني ؟
وسرعان ما يفصح وتتضح طبيعته . إنه عشق صامت لكنه يهز بدنها النحيف كل ليلة في موجات من البكاء والتنهد.
تشعر ميا بأنها ستموت تحت وطأة الرغبة في رؤيته ، وتحلف في صلاة الفجر في سجودها :" والله العظيم يا رب لا أريد شيئا...فقط أن أراه...والله العظيم يا رب لا أريد أن يلتفت لي...فقط أن أراه".
كانت ميا رأت علي بن خلف الذي كان أمضى سنوات في لندن للدراسة وعاد بلا شهادة فصعقت في الحال ، ويرسم له السارد /ة صورة جميلة كما لو أنه يوسف في الجمال .
" كان طويلا لدرجة أنه لامس سحابة عجلى مرقت في السماء ، ونحيلا لدرجة أن ميا أرادت أن تسنده من الريح التي حملت السحابة بعيدا . كان نبيلا . كان قديسا .لم يكن من هؤلاء البشر العاديين الذين يتعرقون وينامون ويشتمون " ، وحين تراه ميا ثانية في موسم حصاد تنتحي جانبا وتجهش في البكاء .
ولا نعرف عن علي بن خلف ، بعد ذلك ، الكثير . يأتي عبدالله ابن التاجر سليمان ويتزوج من ميا ، ويظل السؤال إن كانت أحبت أو عشقت قبل زواجها ، يظل يثار في الرواية .
كم امرأة في عالمنا العربي تشبه تجربتها تجربة ميا ؟
كم امرأة تتزوج زواجا مثل زواجها . تريد من عشقه قلبها ثم يرسل الله إلى بيتها شخصا آخر فتتساءل المرأة تساؤل ميا :
" فلماذا أرسلت ولد سليمان هذا لبيتنا ؟ تعاقبني على حبي ؟ " وتكتم حبها ولا تبوح به لمن تعشقه ولا حتى لأخواتها .
من يعرف شيئا عن علي بن خلف في الرواية فليذكرني ؟
وماذا عن نهاية الرواية التي لا تقول الأشياء بوضوح ؟
تتطلب قراءة الرواية قدرا كبيرا من التركيز ، وذلك عائد ، كما قلنا ، إلى تكسر الزمن وتداخله وعدم سيره سيرا خطيا منتظما ، وعدم بناء الرواية بناء تقليديا : مقدمة من فوسط فذروة فنهاية .
يحتاج القاريء وهو يقرأ النهاية إلى العودة إلى صفحات سابقة يقرأ فيها عن علاقة ميا بزوجها عبدالله وعلاقتها بابنها محمد الذي يعاني من مرض التوحد ، فقد كانت توليه عناية خاصة لدرجة أنه شغلها عن علاقتها بأبيه- زوجها ، وصار الولد عبئا كما صار منين والد زايد عبئا أيضا على ابنه .
إن نهاية الرواية توحي ولا تفصح ولكن قراءتها في ضوء نهايات حياة منين ونجية ووالدة عبدالله تقول لنا إن عبدالله الذي سبح في الماء مع ابنه تخلص منه ، وتخلص ممن حل محله في بيته في علاقته بميا زوجته .
" قال لي: " لم أعد أحتمل يا عبدالله ، ستقتلني غيرتها "، ألتفت إليه: "من هي؟"قال " زوجتي " . ولم يكن محمد متزوجا فهو مريض يعاني من التوحد وكانت أمه أحيانا تنام إلى جانبه حتى ينام ، ولذلك يقول له أبوه ، بعد أن يمسك بكم دشداشته الرمادية: " ولكنك صغير ، ومربض ، ولا زوجة لك".
تنتهي الرواية بالأسطر الآتية :
" أظلمت الدنيا ، سمعت صوت سيارتي وهي تنطلق مبتعدة ، لمحت لندن خلف المقود ، حملت محمدا بين ذراعي ، وفكرت أنه مثل السمكة ، اقتربت من البحر الهائج ، وغصت فيه حتى صدري ، حين فتحت ذراعي انزلق محمد مثل السمكة ، ورجعت دون أن أبتل".

***

15- جوخة الحارثي : مجتمع العشق والزنا واللواط :

كان المجتمع العماني قبل تحريم تجارة العبيد ، وهنا في الرواية يتجسد في منطقة العوافي ، مجتمعا يتكون من طبقتين هما الأسياد الذين يعملون في التجارة ويملكون الأرض ومن عليها أيضا ، والعبيد الذين يخدمون الأسياد أو يعيشون على الهامش فقراء تعساء .
أشرت إلى نجية القمر وعلاقتها الحرة المنفتحة مع عزان المتزوج وصاحب الأسرة . إنها علاقة عشق حسي دون رابط شرعي أو دون زواج مدني ما زال غير موجود في العالم العربي كله كما أعرف ، ولا أدري إن كان موجودا في لبنان .
وهناك علاقة الحب المنفتح والحسي بين السيد وعبداته ويتجسد ، كما لاحظنا ، بين سليمان التاجر وعبدته ظريفة التي كانت سريته وخليلته بعد هرب زوجته مع رجل آخر .
يروي عبدالله وهو في الطائرة عن علاقته بالنساء منذ كان فتى مراهقا في الرابعة عشرة من عمره .
لقد حاولت بعض الفتيات العبدات اغتصابه ، وكن يطمعن ، عدا تحقيق رغباتهن وإشباع حاجاتهن الجنسية ، في هداياه .
ليس الطريف فيما سبق وإنما تكمن الطرافة في أن ظريفة كانت تقدم له بنات العبدات ليمارس معهن الجنس خوفا عليه من أن يغتصب من الرجال الكبار أو من أصحابه الأكبر منه سنا وينحرف جنسيا .
في مكان آخر تأتي ظريفة على أسباب تزويجها ابنها سنجر من قريبتها التي مات أبوها وجنت أمها ، ولم يكن هذان العاملان السبب الوحيد فقد ورد على لسانها وهي تدافع عن تزويج ابنها في سن مبكرة الآتي :
" واسألك أحسن أزوج سنجر ولا أحسن أخليه ليركبه الرجال " .. نظرت إليها سالمة وهزت زوجة المؤذن رأسها : " استغفر الله من هذا الكلام .
وأعتقد أن القيام بإحصاء الممارسات الجنسية المتعددة في الرواية يبدو أمرا مجديا ، فهو من الكثرة اللافتة ، ويبدو الجنس واضحا في الطبقتين ؛ الأسياد والعبيد ، وإن كان بين العبيد أكثر .
عبدالله السارد في فصول عديدة يأتي في صفحات عديدة على هذا ، كما تأتي مسعودة التي أصيبت بالزهايمر ، كما لاحظنا ، على قصة أمه وعلاقتها الجسدية مع غير زوجها .
في الصفحات 43 حتى 48 نقرأ عن بدايات علاقته الجسدية مع النساء .
" لاحقتني شنة خلف أشجار الليمون في المزرعة وأنا لم أكمل الأربعة عشر ، ارتمت علي بدون مقدمات فشعرت بالغثيان ودفعتها عني ، ملطخة بالطين أقسمت إنني سأدفع الثمن غاليا ، ولم تمض أيام حتى كانت ظريفة تحاول دفعي للزنى بأي من بنات العبدات في بيت أبي ، كانت المحاولات فجة ومجردة تماما من أي عاطفة ، ومعظم البنات كن خائفات أو طامعات في الهدايا ، فازددت انسحابا وانطواء على نفسي . طار صواب طريفة وقد رأتني - وحالتي هذه - هدفا مناسبا لشذوذ الكبار من الصبية والرجال فعملت على حمايتي بكل وسائلها الخرقاء التي جرحت مراهقتي بجرحها النافذ ، حين رأيت ميا كنت قد فرغت من كل ذلك . كنت في التاسعة عشرة ولكني لم أفهم ما الذي أصابني على وجه الدقة " .
في هذه الصفحات يشير عبدالله إلى حفيظة وأمها سعادة ، وبناتها الثلاث مجهولات النسب ، وهو ما كتبت عنه تحت " باص الشعب " .
في الصفحتين 123و122 يضرب الأب ابنه سالما لأنه تأخر ليلا ، ويتذكر ضرب أبيه له حين تأخر . تتبدل الأدوار غير أن المهم هنا هو اشتهاء الرجال بعضهم بعضا .
يعرض شاب نفسه على سالم فقد قتلته نظرة الأخير ويقول له : " عارف...ما استاهل أظافر رجليك...ما استاهل نظرة " ويزداد انحناؤه على سالم :" الله الله يا حبيبي ، تفكر في ناري وترحمني".
حين يهرع سالم لسيارته "كانت سيارة الشاب البورش خلفه في شوارع مسقط ، ضلله في شارع جانبي ورجع إلى البيت"
ترى كيف هو المجتمع العماني اليوم ؟ لعل الكاتبة في روايات أخرى تأتي عليه في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحالي .

***

16- جوخة الحارثي : عدم تقبل ضرب المرأة

الرواية التي حفلت بالعلاقات الاجتماعية السلبية للمجتمع العماني لا تخلو من سمات إيجابية . صحيح أن المجتمع العماني مجتمع أسياد وعبيد ، ومجتمع فيه ظواهر سلبية توجد في المجتمعات كلها منذ بدء الخليقة ، ومازالت توجد في مجتمعات الدول المتحضرة ، إلا أن ثمة ظواهر إيجابية أيضا تتمثل في أشكال عديدة منها عدم تقبل ضرب الرجل المرأة .
إن مد الرجل يده لضرب زوجته أو خطيبته يبدو سلوكا نشازا لا يلجأ إليه إلا الرجل الناقص .
لندن الفتاة التي تدرس الطب تعاند أهلها وتصر على الارتباط بدارس الطب أحمد الذي يكتب الشعر.
لم تكن لندن تعرف طبيعته . لقد أعجبت به وفتنت وقبلت أن يكون عريس المستقبل ، ولكنه غيور شكاك دون سبب يدعو إلى ذلك ، فلم يصدر منها ، في الرواية ، أي تصرف يثير الشك والغيرة ، ومع ذلك يفحص هاتفها ويضيق عليها .
وتصل الأمور به إلى مد يده عليها ، وهنا تخبر أمها وتطلب خلعه .
ميا والدتها تبدي رأيها في ظاهرة ضرب الرجل المرأة في منطقة العوافي ، فتقول :
"يضربها؟ تقول يضربها ؟ ولد البيدار يضرب بنتي أنا ؟ ..شيء رجل يضرب امرأته ؟.. في العوافي كلها ما سمعت عن أحد يضرب امرأته غير فريح السكران.. يرجع سكران يقيء فيها ويضربها ؟ ..يضرب بنتي ولد البيدار ؟.. ما حدا مد يده علي ولا على أمي ولا على أخواتي ويجيء هذا الكلب يضرب بنتي؟.. يا فضيحتنا بين القبائل...يا فضيحتنا قدام الناس..زوج ابنتنا وفريح السكران من ثوب واحد...والله ما يشوفها بعينه .. والله اليوم يطلقها قبل بكرة .." وطلقها ، دفعنا له قيمة المهر وخلعت ابنتي نفسها وأصبحت حرة .
وتحمد ميا الله أن الأمر حدث في فترة العقد .

***

17- جوخة الحارثي : تطور المجتمع العماني

في الكتابة السابقة عن المجتمع العماني عقب الأستاذ ياسر جوابرة Yaser Jawabreh قائلا إن المجتمع العماني يتساهل في تطبيق العقوبات بحكم المذهب الذي يتبعه ، فردت عليه مواطنة عمانية تنفي ما قال ، وهي رقية حمود Ruqaiya Hamood وتقول إن المجتمع العماني تغير وتطور ، وتوضح له ما تراه هي في مجتمعها ، وتبدي إعجابها بجوخة الحارثي وروايتها .
ترصد " سيدات القمر " بعض جوانب تغير المجتمع العماني وتطوره ، وإن كانت الصورة الغالبة له هي صورة المجتمع الإقطاعي لا المجتمع الحديث .
يستطيع قاريء الرواية رصد بعض جوانب هذا التغير والتطور على أكثر من صعيد ولدى بعض الشخصيات .
تطور المجتمع من مجتمع أسياد وعبيد إلى مجتمع يتقبل ما لم يكن يتقبله من قبل ، فقد تحرر العبيد وبدأ صوتهم يرتفع رافضين عبوديتهم ، وهو ما بدا في سلوك سنجر ولد ظريفة الذي سافر إلى الكويت ليعمل هناك ، رافضا أن يظل عبدا للشيخ سليمان بالوراثة . وكان أبوه من قبل يحتج على العبودية التي كانت زوجته ظريفة تتقبلها وتدافع عنها .
من مظاهر تغير المجتمع وتطوره تعلم الفتاة ودراستها في الجامعة وبحثها عن عمل ، كما حدث مع حنان صديقة لندن .
لقد درست حنان الطب ووافقت على العمل في ظفار بعيدا عن أهلها ، وفكرت في والديها وأخيها ومساعدتهم كلهم ، مفضلة هذا على الزواج ، وكانت حنان عملية واقعية لا تنخدع بحب كاذب وكلام معسول ، وغالبا ما كانت تسخر من صديقتها التي تدرس الطب معها ؛ صديقتها لندن الرومانسية التي كان كلام أحمد المعسول يترك أثره فيها ، علما بأنه شخص كاذب متقلب يقيم علاقات متعددة مع النساء . ولكن هذا لا يعني أن التطور جذري وشامل ، فحنان نفسها ترفض رفع شكوى ضد الشخص الذي اغتصبها خوفا من شيوع الأمر ، ولذلك تتكتم عليه .
يتجسد هذا التغير والتطور في المجتمع العماني حين يقارن المرء بين ميا وابنتها لندن في التعبير عن حبهما والشخص الذي تقرران الارتباط به ، ففي حين تتكتم ميا على حبها الأول العابر ولا تأتي عليه وتوافق على الزواج من عبدالله ولد التاجر سليمان ولا تبدي أية معارضة ، نجد ابنتها لندن تختار من مالت إليه وتدافع عن اختيارها في وجه أمها وابيها وتصر على رأيها ولا تتراجع فيرضخ لها الأب وتنسحب الأم وتعقد لندن قرانها. وفيما بعد حين تكتشف شخصية خطيبها المتناقضة والمتقلبة والكاذبة تجرؤ على خلعه ويقف أهلها إلى جانبها.
وكنت أشرت من قبل إلى تطور المجتمع العماني اقتصاديا: من مجتمع يتاجر بالعبيد والسلاح إلى مجتمع البورصة والتجارة الحرة.

***

18- جوخة الحارثي : الولد سر أبيه / عبيد ينشدون الحرية

تعطي " سيدات القمر " قارئها - كما ذهبت - فكرة عن مجتمع عمان في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين والطبقات الاجتماعية التي كان يتشكل منها ، وهي كما ذكرت أيضا طبقة التجار / الأسياد و الفقراء العبيد .
يستطيع المرء أن يتوقف ، على سبيل المثال ، أمام الصفحات 109 - 112 ليصغي إلى صوت ظريفة في شبه مونولوج / حوار داخلي تحكي قصتها مع زوجها حبيب وابنها سنجر في علاقتهم الثلاثة بالتاجر سليمان ، وتذهب إلى ما أبعد من ذلك حين تقص حكايتها مع العبودية منذ طفولتها وزواجها واختفاء زوجها .
إن هذه الصفحات تبدو سردا مكثفا لحكايتها ولحكاية تجارة الرق والعبودية في تلك السنوات ، وهي حكاية فيها قدر كببر من الأسى ، ولهذا حين يتحرر هؤلاء العبيد يشعرون بالفرح إلا أقلهم ومنهم ظريفة التي تظل تلهج بنعمة سيدها التاجر سليمان وتستكثر احتجاج زوجها حبيب ومن بعده ابنه سنجر .
تلقي ظريفة في البداية اللوم على شنة زوجة سنجر ، ثم تتراجع وتعزو الأمر إلى زوجها فهو من بذر البذرة في رحمها . إن تمرد الابن على عبوديته وترحيبه بقرار تحرير العبيد ليس سببه الأساس زوجته الأفعى وإنما الأب الذي تمرد على وضعه وهرب رافضا العبودية .
" نحن أحرار يا أمي ، أحرار بموجب القانون ، وسنسمي أولادنا كما نشاء " وكنت توقفت من قبل أمام ثقافة الأسماء وطبقيتها .
ترى ظريفة في تمرد ابنها على واقعه ضربا من الجنون " جن ولدك يا ظريفة " والولد سر أبيه الهارب المتمرد:
" إيه يا حبيب ! كلما أردت أن أنساك وشقاءك تكبر بذرتك أمام عيني لتفقأهما . يسمي التاجر سليمان ، الذي رباه وآواه ، وأدخله المدرسة : الشايب الخرفان " .
لقد سيقت ظريفة من افريقيا عبدة وصارت تعيش بعيدة عن بلدها الأصلي . لقد عاشت رحلة مرعبة في حياتها قادتها في النهاية إلى ضرب من الاستقرار الذي فضلته على معاناتها ، ولهذا ظلت تلهج بنعمة سيدها التاجر.
إن تتبع علاقة الأبناء بالآباء في الرواية قد يقول لنا شيئا آخر مختلفا لا يؤكد مقولة " الولد سر أبيه " ، ويمكن النظر في علاقة عبدالله بأبيه سليمان وعلاقة خالد بأبيه عيسى المهاجر ." امتعضت ميا ، قالت إنها لن تعيش طوال حياتها تحت سطوة أمها كما أعيش أنا (عبدالله ) تحت سطوة أبي " ." الفن يا أسماء أنقذني من صياغة أبي لي وفقا لخيالاته ...حين كففت أخيرا عن الحياة في حدود خياله عرفت طعم الحرية . تذوقت كيف يختار المرء الكتب التي يحبها والأصدقاء الذين يحبهم والمدن التي يحبها ، وكيف يتحرر حين يكون نفسه وليس مجرد امتداد أو تجسيد لمخيلة شخص آخر، حتى لو كان أباه....."

***


19 - جوخة الحارثي : ابدأ صفحة جديدة

لم تنس جوخة الحارثي الماضي وهي تكتب روايتها .
يحضر الماضي لأنه حاضر في الحاضر ، والشخصيات التي تكتب عنها تحمل موروثا يحضر في حياتها ، فهي تجمع في ذاتها ماضيها وحاضرها . وهكذا هي عمان ، فالرواية تكتب عن مجتمع يعيش فيه الكبار والشباب والصغار ، أجيال قديمة وأخرى جديدة وهي تقيم معا في البيت الواحد.
وهناك ما هو مشترك في الطبيعة البشرية على مر العصور : الحب والغيرة والأمومة والأبوة والبحث عن الحرية والرغبة في التغيير و..و..
تمر لندن بتجربة خطبة فعقد كتاب ففسخ العلاقة ، ولكنها لا تنسى تلك التجربة لفترة طويلة ، وتحاول أن تنسى ولكن هل تستطيع ؟
صديقتها حنان التي تلاحظ أن لندن هي أسيرة الماضي تقول لها ببساطة :
" أوه يا لندن ! الحياة لا تتوقف ، اعملي له ديليت ، لت ات جو " ولكن لندن ترى أن الصفحة ثقيلة ، ولقد وقفت أمامها فسقطت يدها
" الناس مختلفون ، يا إلهي! كيف يقلبون الصفحة ؟ "
وحين تتذكر كلمات حنان "لت ات جو " تعقب :
" كأنها مقطع من فيلم أجنبي . غدر الحبيب فتركته البطلة ونسيته فورا بعدما قال لها شخص ما " أوه دير .. لت ات جو " وانتهت السالفة ، وقلبت البطلة الصفحة ، فلماذا لندن تنكسر يدها تحت ثقل الصفحة ولا تستطيع قلبها؟ لماذا يعتصرها الألم المبهم العنيف وهذا الشعور المذل بالشوق والفشل؟ تتقلب لندن ولا تنام ولا تقلب الصفحة " .
في رواية نجيب محفوظ " اللص والكلاب " عبارة لافتة ترد على لسان إحدى الشخصيات التي تعاني "ما أجمل أن ينصحنا الأغنياء بالفقر " - ولعلها ترد على لسان سعيد مهران يعقب فيها على نصيحة رؤوف علوان طالبا منه أن ينسى الماضي ويبدأ في حياته صفحة جديدة .
يختصر المثل الشعبي الفلسطيني الحكاية كلها " اللي ايده في المي مش مثل اللي ايده في النار " أو المثل " اللي بوكل العصي مش مثل اللي بعدها -يعدها " .
لندن عاشت التجربة التي لم تعشها حنان ، ولذلك فإن ردة الفعل إزاء التجربة تختلف ، وتختلف طريقة التعامل معها .
بعض الناس قد ينسون بسرعة وينجحون في قلب الصفحة وبدء صفحة جديدة ، ويعملون ( ديليت ) بسهولة ، وآخرون لا يستطيعون ، وتلك هي الطبيعة البشرية .
استطاع رؤوف علوان نسيان ماضيه وتحول من ثائر متمرد إلى انتهازي دون شعور بتأنيب ضمير ، وهذا ما لم يستطعه سعيد مهران فعاش في الماضي ورفض الخنوع والخضوع والخسران وانتهت حياته بالموت .
ثمة عبارة وردت في "سيدات القمر " وكنت أوردتها من قبل وهي أن الناس في عمان يعيشون في الماضي ولا ينظرون إلى المستقبل ، وذلك حين كتبت عن زايد وزواجه وتركه العوافي لأن الناس لم تنظر إلى حاضره وظلت تتعامل معه على أساس ماضيه " هؤلاء الناس يعيشون الماضي وليس المستقبل".
بعض الأدباء والمفكرين يرون أن الإنسان بلا ذاكرة لا يختلف عن الكائنات الأخرى، وسلمان ناطور في كتابه "هل قتلتم أحدا هناك" يرى أن الضباع سوف تأكلنا إن نسينا حكايتنا " ستأكلنا الضباع".

***

20- جوخة الحارثي : التعدد اللساني

تحفل الرواية بمستويات لغوية متعددة سببه أنها تحفل بشخصيات تختلف بيئاتها وثقافتها ، فالرواية فيها البسطاء العاديون الذين لم يتعلموا في المدارس إطلاقا ، وفيها المتعلمون من عمانيين وغير عمانيين ، وإن كان الأخيرون قلة كالانجليزي بيل والمصري الأستاذ ممدوح الذي يعلم في مدارس عمان ، وفيها محبو الشعر العربي القديم . ولم تقم جوخة الحارثي بما ثقوم به مياه نهر ( ليثي ) كما تقول الأسطورة ، حيث تحول كل ما يدخل فيها إلى ذهب ، أو لا تفعل جوخة الحارثي ما تفعله عيون ( ميدوزا ) أيضا في الاسطورة حيث تحول كل ما تقع عليه عينا ميدوزا إلى حجر / ذهب . لا تؤسلب الكاتبة لغة شخصياتها ولا تعيد كتابتها بعربية فصيحة كلاسيكية .إنها
تتركها تعبر عما في داخلها وتنقل ما يجري على لسانها كما هو ، وهكذا نقرأ لهجات وأمثالا شعبية عمانية باللهجة الشعبية العمانية ومفردات أجنبية ولغة عربية تراثية من خلال الشعر العربي القديم ، وهذا بدوره قد يترك تأثيره السلبي على القراءة ، في الوقت الذي يمنح الرواية ميزة تصوير الواقع العماني ونقل أجوائه حتى على الصعيد اللغوي ، وهنا يضطر القاريء إلى البحث عن معاني بعض المفردات التي هي من صميم البيئة العمانية ، مثل الفاشغ و مصر - ما يوضع على الرأس - والفلج ومندوس والمستوصف ، وهي كلمات أقرأها لأول مرة ، وإن اتضح بعضها من خلال السياق .
سوف أورد نماذج من التعدد اللساني في الرواية التي تتشابه في هذا الجانب مع رواية السعودية رجاء الصانع "بنات الرياض " وكنت خصصت التعدد اللساني فيها بمقالة نشرتها في جريدة " الأيام" الفلسطينية .
مسرد :
- مثل شعبي :
" المشي الريول تخب مين الفؤاد محب ومين ما أشتهي علي كود وتعب / تمشي الأرجل مسرعة حيث يحب الفؤاد ، وحيث لا أشتهي أشعر بالتثاقل والتعب "
" اللي ينقد يطيح المنقود فيه "
" أنفك منك ولو خاس "
" النهار حال حد ، والليل حال حد - شدة على الدال / النهار للإنس والليل للجن "
"الحمار لما يشبع يرفس "!!
- لهجة :
مسكد / مسقط
دخاتر / دكاترة
ترقص الحمبورة
لقيت القاشعة
تريد تتسفل
- لغة انجليزية :
نعم تي.. مور تي بليز tea /more tea e
لت ات جو / let it go.
اعملي له ديلت / Delete .
أوه دير / Oh dear.
- لغة مؤسلبة :
قال المعلم بيل :" لماذا لم تتعلم الإنجليزية وأنت صغير ؟ الآن أدركت أهميتها ؟ إنها أهم لغة في العالم " مع أن الرواية تشير إلى أن بيل الانجليزي يتقن العربية الفصيحة .
- لهجة مصرية :
انفجر أستاذ ممدوح من الضحك : " لما حتكبر حتبقى إيه ؟ تكبر وتطير وتجلس فوق الغيم ؟ الغيم ده زي البخار يا عبيط..هوا يعني..هوا .."
- أبيات من الشعر العربي القديم :
" أعانقها والنفس بعد مشوقة
إليها وهل بعد العناق تدان
وألثم فاها كي تزول حرارتي
فيشتد ما ألقى من الهيمان...الخ " .
وهنا يمكن التمييز بين لغة المتعلمين ، مثل خالد وأسماء وآخرين ، ولغة غير المتعلمين مثل ظريفة وسالمة . بين لغة قاريء كتب التراث العربي ولغة الانسان غير القاريء عموما .
ويمكن القول إن الكاتبة لم تغرق في نقل اللهجة العمانية ، وأنها أقامت ، في الهوامش ، بتوضيح بعض العبارات والأمثال مما اعتقدت أنه سيخفى معناه على القاريء العربي غير العماني .

***


21- غسان كنفاني وجوخة الحارثي : توارد الأفكار

عندما استشهد غسان كنفاني لم تكن الكاتبة العمانية التي فازت من شهرين بجائزة (مان بوكر) العالمية للرواية قد ولدت، فالكاتبة ولدت في العام ١٩٧٨ كما قرأت وكنفاني استشهد في الثامن من تموز في العام ١٩٧٢، وبالتالي فالصلة بين الكاتبين هي صلة أدبية ليس أكثر.
ولا أعرف إن كانت جوخة الحارثي قرأت كنفاني ولا أعرف ما هو موقفها منه؛ قضية وأدبا، فلم أقرأ، في المقابلات التي أجريت معها وشاهدتها، شيئاً عن موقفها من الأدب الفلسطيني.
وكما ذكرت في كتابتي عنها، فإن إحدى شخصيات روايتها «سيدات القمر» أتت على ذكر محمود درويش.
لم أكن شخصيا أتابع الأدب العماني متابعة حثيثة، على الرغم من أنني تابعت مجلة «نزوى» وقرأت بعض أشعار سيف الرحبي فيها، والرواية العمانية الوحيدة التي قرأتها، كما ذكرت، في كتابة سابقة، هي رواية «سيدات القمر» ولكنها لم تشدني كثيرا، لدرجة أنني لم أخصها بمقالة في زاويتي في جريدة الأيام أو في زاويتي في موقع «رمان». ولما فازت الرواية بالجائزة خصصتها بسلسلة كتابات متعاقبة دفعت بعض المثقفين للنيل من أحد النقاد الذين لم يعجبوا بعمل أدبي ما حتى إذا ما فاز بجائزة التفتوا إليه وأبدوا إعجابهم به، وهذا موضوع آخر.
وأنا أقرأ «سيدات القمر» تذكرت كنفاني ثلاث مرات؛ مرة حين أصغيت إلى مقابلة مع الكاتبة بثتها فضائية الجزيرة في برنامج «المشاء»، وثانية حين قرأت «سيدات القمر « ولاحظت بناءها الفني، وثالثة حين توقفت أمام هجرة العمانيين إلى الكويت في خمسينات القرن الماضي بسبب الفقر والجوع في السلطنة.
في المقابلة قالت الكاتبة إنها حين تكتب لا تفكر كثيرا في القارئ، وهذا ما تختلف فيه عن كنفاني الذي التفت إلى قارئ الرواية والتواصل معه لا مع القراء النقاد فقط، وأكثر متابعيه يعرفون رأيه في هذا، فحين وجد القارئ صعوبة في قراءة « ما تبقى لكم « قرر الكاتب ألا يكتب بأسلوب تيار الوعي وتداخل الأزمنة وتعدد الأصوات وتداخلها، فهو كاتب صاحب قضية، ويهمه التواصل مع القراء بالدرجة الأولى.
في مقابلتها مع «الجزيرة» قالت جوخة الحارثي كلاماً يعبر عن موقف مغاير لموقف كنفاني، وربما وجب أن يتوقف أمام الكاتبة والجمهور الذي تكتب له.
ما سبق كنت أتيت عليه، ولكن ما لم أتوقف أمامه في الصلة بين الكاتبين هو الكتابة عن عمان في خمسينات القرن الماضي.
في قصصه القصيرة قصة قصيرة عنوانها «موت سرير رقم ١٢»، وهي تأتي على مواطن عماني سافر من قريته «أبخا» إلى الكويت بحثا عن الثروة، ولكراهيته مجتمع قريته الذي حرمه من الزواج من فتاة أعجب بها، وقصة محمد علي أكبر يتذكرها قارئها حين يقرأ «سيدات القمر» عن سنجر، فسنجر العبد يرفض أن يظل عبدا مهانا للتاجر سليمان في قرية «العوافي» الافتراضية، ويسافر هو وزوجته شنة إلى الكويت ليعمل هناك، وفي الكويت يستقر. كتب كنفاني قصته، موظفا أسلوب الرسالة، في العام ١٩٦٠، وبالتالي فإن حدث القصة غير بعيد عن زمن كتابتها، وكان الكاتب يومها يقيم في الكويت، وأرجح أن سنجر سافر إلى الكويت في تلك الفترة.
ويستطيع المرء أن يقرأ قصة كنفاني ورواية الحارثي معا فيما يخص موضوعات الفقر والهجرة والصلات الاجتماعية والحياة في المنفى، وهنا في الرواية يمكن أن يتوقف القارئ أمام قصة عيسى المهاجر الذي يقيم مع عائلته في القاهرة.
حين يصل محمد علي أكبر إلى الكويت ينتابه حنين إلى أبخا وينظر إلى الوطن من موقع آخر مختلف، وهذا ما نقرؤه في رواية الحارثي على لسان خالد ابن عيسى المهاجر، فهذا الذي أقام في القاهرة وقرر البقاء فيها يختلف موقفه حين تموت أخته، ويتخذ الوطن في لحظات العودة لدفن جثتها وبعد ذلك، مفهوما آخر ويبدأ الحنين والتفكير في العودة ويعود.
وتبقى النقطة الثانية وهي البناء الفني لـ «سيدات القمر» و «ما تبقى لكم».
كتب كنفاني «ما تبقى لكم» متأثراً بأسلوب تيار الوعي وتداخل الأزمنة والأمكنة وتعدد الأصوات، وهو ما عرفته الرواية العالمية في ثلاثينات القرن العشرين على يد ( جيمس جويس ) و ( وليم فوكنر)، وعرفته الرواية العربية في العام ١٩٦١ على يد نجيب محفوظ في روايته «اللص والكلاب».
قرأ كنفاني رواية (فوكنر) «الصخب والعنف» - التي نقلها لاحقا إلى العربية جبرا ابراهيم جبرا - وأعجب بها وتأثر تأثراً واضحاً بالفصل الثاني منها، وأقر في مقابلات أجريت معه بإعجابه بها وتأثره فيها، ولكنه بعد أن كتب روايته ونشرها لاحظ إشادة النقاد بها وعدم فهم القراء لها فآثر الكتابة بأسلوب بسيط سهل.
تداخل الأزمنة والأصوات وتعدد الساردين هو ما يغلب أيضا على رواية الحارثي، وهذا دفع بالعديد من القراء إلى عدم متابعة الرواية، وهو ما أقر به قراء مقالاتي الخمسة والأربعين التي نشرتها تباعا في أيار وحزيران وبداية تموز على صفحة الفيس بوك الخاصة بي.
إن أسلوب تداخل الأزمنة وتعدد الأصوات والساردين أسلوب عرفته الرواية العربية بعد محفوظ وكنفاني وقرأناه في رواية الطاهر وطار «الزلزال» ورواية عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط» وروايات أخرى، وقد لفت هذا الأسلوب أنظار الدارسين.
وجوخة الحارثي أستاذة جامعية حصلت على الدكتوراه من جامعة (ادنبرة) في المملكة المتحدة، وهي لا شك على اطلاع على الرواية العربية والعالمية، فهي تقرأ باللغتين العربية والإنجليزية.
هل قرأت الكاتبة غسان كنفاني أم أن ما أراه لم يخطر ببالها؟
وأيا كان الأمر فثمة تقاطعات بين رواية «سيدات القمر» وبعض أعمال كنفاني موضوعاً وأسلوباً.
في الذكرى الحادية والخمسين لاستشهاد الأب المؤسس للرواية الفلسطينية نتذكره ونضع على قبره باقة ورد ولو مجازاً.



===============

جوخة الحارثي : " سيدات القمر "

فهرس :
١ - مان بوكر العالمية للرواية العربية
٢ - ثقافة الطعام
٣ - مان بوكر العالمية للرواية العربية ثانية
٤ - ثقافة الطعام ٢
٥ - جوخة الحارثي ومحمود درويش
٦ - جوخة الحارثي والشعر العماني
٧ - ثقافة الأسماء
٨ - ثقافة الأسماء : طبقية الأسماء
٩ - سيدات وعبدات
١٠ - المرأة ، باص الشعب والمخيلة الشعبية
١١ - عنصر التشويق في الرواية
١٢ - التعالي المريض
١٣ - عمان الفقيرة وقسوة المجتمع
١٤ - الحب المحرم
١٥ - مجتمع العشق والزنا واللواط
١٦ - عدم تقبل ضرب المرأة
١٧ - تطور المجتمع العماني
١٨ - الولد سر أبيه : عبيد ينشدون الحرية
١٩ - ابدأ صفحة جديدة
٢٠ - التعدد اللساني
21- غسان كنفاني وجوخة الحارثي : توارد الأفكار


========================


الهيكلية شبه الأخيرة لدراستي عن رواية جوخة الحارثي " سيدات القمر " :
فهرس :
- خريطة عائلة الرواية

* القسم الأول :
- ( مان بوكر ) العالمية للرواية العربية
- مان بوكر العالمية للرواية .
المجتمع العماني :
- ثقافة الطعام .
- ثقافة الطعام 2 : " التالي للغالي " أم التالي لغير المعتبر .
- ثقافة الأسماء .
- ثقافة الأسماء 2 / أم طبقية الأسماء .
- عمان الفقيرة وقسوة المجتمع .
المرأة في المجتمع العماني
- سيدات وعبدات
- المرأة : باص الشعب والمخيلة الشعبية
- الحب المحرم
- عدم تقبل ضرب المرأة
- البطيخة الجاهزة ووصايا أعرابية لابنتها ليلة زفافها
- المرأة الأفعى
- معاناة المرأة العربية
- البنت البكر ومريد البرغوثي
- شجرة الريحان وموت أم عبدالله
الصراع الاجتماعي في المجتمع العماني
- التعالي المريض
- تطور المجتمع العماني
- الولد سر أبيه : عبيد ينشدون الحرية
- رعب الريف من المدن والحياة فيها
- أنت ومالك لأبيك
- المجتمع العماني ومظاهر الحياة الجديدة
المجتمع العماني : الحب والأخلاق
- مجتمع العشق والحب والزنا
- ابدأ صفحة جديدة
- ابن حزم وانقسام الأرواح
المجتمع العماني : معتقدات اجتماعية وشعبية
- معتقدات وأساطير
- معتقدات شعبية
المجتمع العماني : الذات والآخر :
- الطبع والتطبع : الصلاة والسرقة
- مرايا الآخر : مصر والمصريون
- مرايا الآخر : الانجليز
- ثنائية المنفى والوطن
محمود درويش والشعر العماني
- غسان كنفاني : توارد الأفكار

* القسم الثاني :
- لوحة الغلاف
- حول العنوان
- سيدات القمر .. عبدات القمر
- البيئة المكانية
- طرق القص وصعوبة القراءة
- الزمن الروائي
- عنصر التشويق في الرواية
- التعدد اللساني
- المثل الشعبي
- نهايات سوداوية
- الليلة الخامسة والأربعون .
تموز 2019
"أنجزت الكتابة في آيار وحزيران وتموز من العام 2019 "




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...