" كيس الأحلام " هي المجموعة القصصية الثانية للشاعر و الناقد و الكاتب التونسي سمير بيّة بعد المجموعة القصصية " إسفلت ناعم " . و قد صدرت في حجم متوسط يضم 125 صفحة عن دار الوطن العربي للنشر و التوزيع في طبعتها الأولى لسنة 2022.
لعلّ أوّل ما يقابلنا في الكتاب صورة الغلاف التي هي عبارة عن ظلمة ليل ينيرها القمر في غابة ملآى بالأشجار هي عنوان الحياة و تتخلّلها فتاة ممسكة بمجموعة من البالونات التي ترفعها إلى السماء حُلُمًا بالإنطلاق في رحلة بحث عن عوالم جديدة عنونها سمير بيّة بــ " كيس الأحلام" الذي يضم 21 حلما لم يكن منطلقه عنده سوى واقع معيش يحلم بتغييره ،
فإذا بنا نغوص معه فيه ، بل نصبح شركاء معه في فعله اليومي كلّ ذلك بحيلة سرديّة ماكرة تقوم على عمليّة " التّصدير " في بعدها النفسي ، فإذا بالبوح آلية خادمة للسرد و الوصف في آن معا ، وإذا بتيمة « الحلم » تتكرّر على امتداد النصوص بشكل ظاهر أحيانا و تلميحا في أخرى ، فــ " الحلم الأخضر" الذي كان يطارده من أجل الحصول على الوظيفة سرعان ما يستفيق منه في " القمّة تحت قدمه اليمنى " ، هذه القدم التي خذلته حين تبرّك بها فلم ينل إلاّ الإنتظار الذي دقّت قدمه اليسرى مسمارا في آماله التي قادته نحو الهاوية: « سار نحو المصعد ، ضغط على الزرّ فإذا به مشغول ، فألقى برجله اليسرى على درجات السلّم الهاربة نحو الهاوية ». ( ص 16 ). ليفتح لنا مع " بدايات " أبواب المدينة الأربعة. هذه المدينة التي حلـُم بها وطنا عادلا فإذا به يصطدم فيها بــ " حلم مرهق " في رحلة البحث عن عمل يقيه البطالة و يمنحه شيئا من الرّاحة النفسيّة التي وجدها في لوحة معلّقة داخل قاعة عرض " معرض فنّي " متصوّرا أنّ الفنّانة قد رسمته في إرهاقه و بحثه عن ذاته ، لتكون هذه اللوحة سرابا ظلّ يطارده فإذا به أمام المرآة يضحك مع الضاحكين على خيبته.
هذه الخيبة التي ستلازمه في " ثعبان الفراش" الذي تقيّأه على حافة السرير « فارتطم بالأرض و أحسّ بألم في وجهه
و جنبه الأيسر و ركبته » ، لينقذه صوت أمّه : « بنيّ ، أفق يا بنيّ كيف وصلت إلى الأرض ؟ هيّ انهض » ( ص 25 ) ، ليكون ردّه :« الثعبان... الثعبان لفظني و الجينز الأزرق أشعرني بالرّجولة » ( ص 26 ) . هذا الشعور كان كابوسا في بحثه عن ذاته وسط رحلة الحياة. فإذا بنا بسمير بية يحاول بناء عالم خيالي يقيه هذه الكوابيس في « ليلة أخرى تحت المطر » ، حيث يحاول الإحتفاء بنفسه الحائرة بين أناه و تلك التي يخترعها لتشاركه قهوته و سيجارته ،
و لكنها سرعان ما رحلت عنه و تركته في انتظارها : « هي رحلت و لكنها مازالت هنا » ( ص 29 ). ليواصل أسئلته الحيرى: « لِـمَ تركتني و رحلتِ ؟ ألم أكن مختلفاً معكِ ؟ » ( ص 30 )، ليخلص في النهاية إلى سؤال أكثر ألما : « لِـمَ رحلت و لم تنتظري ؟ ألم تعديني بالرحيل معك إلى هناك ؟ ألم يكن الحلم أجمل بعينيك ؟ » ( ص 32 ).
هذه الأسئلة المنثالة لابدّ لها من « حوار خارجي » يرتّب به أحلامه و أحلام من أحبّها ، تلك التي التقاها بعد مرور شهر من الامتحان « ثلاث مرات في غفلة من الزمن القاسي. رتّبا أحلامهما كما أرادا ، غنّيا للحبّ معا و تذكّرا الامتحان معا
و في نفس اللحظة ، إنّه الزمن الحقود ثانية ، ثالثة و رابعة ... » ( ص 36 ) ، لتنكسر أحلامه ككلّ مرّة ، و إن كانت ماديّة هذه المرّة .
و لكن هل سييأس من أحلامه ؟
كلاّ ، إنه ينزل بكلّ ثقله في « جولة في مدينة المعرفة » ، « و بدأ يتجوّل في مدينة الحلم » ( ص 37 ) ، حيث مجتمع المعرفة و لكنّه « مجتمع مسكين يحتاج إلى إعادة برمجة » ( ص 38 ) حيث شاهد في الشاشة السابعة:« دمه الأزرق يسيل من كبد الحلم » (ص 37 ) ، ليكتشف أنّه في رحلة حلمه " سيزيف " و أنّ " الوقت كان هنا" و لكنّه لم يستطع اللّحاق به كسراب « كلّنا كنّا نجري وراءه » ( ص 44) .
لينخرط بنا سمير بيّة في « لــعــبــة » هي لعبة الحياة التي يقتضي النجاح فيها فهما لقواعدها التي من أهمّها :
« النّفاق » ، فــ « هم يملؤون صناديق سيّاراتهم بزهور النّفاق البلاستيكية » ( ص 46 ) . هذا النّفاق الذي لم يبرع فيه فتمّ إقصاؤه من أحلامه و من هذه اللعبة ، فــ « هم يلعبون بإتقان مدروس لعبتهم الخطيرة ، و أنت بغباء جيّد تلوّن بالأوهام حياتك الحقيرة » ( ص 47 ) ، حتى أنّ « الريح رفضت صداقتك و أنكرت معرفتك . »( ص 48 ).
فكان لابدّ من مهرب يُطرب نفسه الحيرى مع « أغان مصوّرة » تبثّ فيه شيئاً من الرّغبة ، و لكنّها رغبة خانقة ، فــ « شعر ببرودة تغزو جسمه ، و أحسّ بتفاهة تخنق عقله » ( ص 50) ،
فإذا هو في « حلقة فارغة تطوّقه ، ثم أخذت تضيق و تضيق حتى كادت تسحق عظامه. » ( ص 51 ) « فكرة زرقاء » حيث « حلمه عراقي يورق بلا دماء » ( ص 53 ) ، فيتحطّم حلمه العربي رغم أنّه « في جمع من الأطفال يتعلّم كيف يحلم » ( ص 54 ) ،و يتساءل عن " لون الحلم" ، و لكنّ الجرح العراقي لن يندمل ، بل سيرافقه « صوت أسود أراه » ،
هذا الصوت الذي « ما انقطع على زيارته منذ حصل على الإجازة قبل عام. كان صوتا هادرًا يهزّ جسده هزّا كلما زاره حاملاً إليه الصّور متراصّة متلاصقة حينا ، متباعدة مشتّتة حينا آخر. كلّما ارتفع الصوت كان يرى حجارة تسقط على صدره و أفعى سوداء رقطاء تلتفّ حول عنقه وهي تولول: أنا ضعفك المميت و عزلتك المرّة » ( ص 57) ، لتكون نجاته هذه المرة حين « نظر في مرآة الحلم فآستعار طفل الفرح من وجه حبيبته » ( ص 58 ) فكان ملجأه من « سطل أحزانه » ( ص 59 ) . لتتواصل رحلته في مطاردة هذا الحلم مع بقية القصص « دون أن يلتفت وراءه » ( ص 68 ) مع * هو و النادل و الحسناء * لتصل ذروة الحلم مع " غرق فرعون" الذي نجا من رحلة الموت إلى إيطاليا ، ليستفيق من جديد مع ابنته و " يا بابا كِـطال وُكِـف " و " بطاقة إعفاء من الحياة " ، هذه :« هي الحياة تلعب لعبتها وهو الموت يلعب لعبته » ، خاصة في " ماتراك " التي قصفت أحلام الشباب الطالبي ، ليخلص سمير بية في " وردة الذكرى " إلى أنّه كما يقول :« لقد رأيتُني أركض و أركض وراء حلمي مثلما يركض لِداتي من أبناء الحارة ، كانت أحلامنا بسيطة كحياتنا . » ( ص 97 ).
ليظلّ " كيس الأحلام " على اتّساعه ضيّقا على " لـلاّ لطيفة " حين خانها ابنها الطّاهر و : « لكنّه لم يكن وفيّا لأحلام أمّه فلم يتقلّد لا أعلى المناصب و لا أدناها » ( ص 118 ) .
و هكذا أخذنا سمير بية في رحلة سردية سبر خلالها أغوار النفس البشرية في بحثها عن أحلامها و أحلامنا في مزج جميل بين الذاتي و الموضوعي بأسلوب مشوّق طغت عليه احيانا شعرية حالمة فحمّلتنا هموم « كيس الأحلام » .
محمد أحمد مخلوف
لعلّ أوّل ما يقابلنا في الكتاب صورة الغلاف التي هي عبارة عن ظلمة ليل ينيرها القمر في غابة ملآى بالأشجار هي عنوان الحياة و تتخلّلها فتاة ممسكة بمجموعة من البالونات التي ترفعها إلى السماء حُلُمًا بالإنطلاق في رحلة بحث عن عوالم جديدة عنونها سمير بيّة بــ " كيس الأحلام" الذي يضم 21 حلما لم يكن منطلقه عنده سوى واقع معيش يحلم بتغييره ،
فإذا بنا نغوص معه فيه ، بل نصبح شركاء معه في فعله اليومي كلّ ذلك بحيلة سرديّة ماكرة تقوم على عمليّة " التّصدير " في بعدها النفسي ، فإذا بالبوح آلية خادمة للسرد و الوصف في آن معا ، وإذا بتيمة « الحلم » تتكرّر على امتداد النصوص بشكل ظاهر أحيانا و تلميحا في أخرى ، فــ " الحلم الأخضر" الذي كان يطارده من أجل الحصول على الوظيفة سرعان ما يستفيق منه في " القمّة تحت قدمه اليمنى " ، هذه القدم التي خذلته حين تبرّك بها فلم ينل إلاّ الإنتظار الذي دقّت قدمه اليسرى مسمارا في آماله التي قادته نحو الهاوية: « سار نحو المصعد ، ضغط على الزرّ فإذا به مشغول ، فألقى برجله اليسرى على درجات السلّم الهاربة نحو الهاوية ». ( ص 16 ). ليفتح لنا مع " بدايات " أبواب المدينة الأربعة. هذه المدينة التي حلـُم بها وطنا عادلا فإذا به يصطدم فيها بــ " حلم مرهق " في رحلة البحث عن عمل يقيه البطالة و يمنحه شيئا من الرّاحة النفسيّة التي وجدها في لوحة معلّقة داخل قاعة عرض " معرض فنّي " متصوّرا أنّ الفنّانة قد رسمته في إرهاقه و بحثه عن ذاته ، لتكون هذه اللوحة سرابا ظلّ يطارده فإذا به أمام المرآة يضحك مع الضاحكين على خيبته.
هذه الخيبة التي ستلازمه في " ثعبان الفراش" الذي تقيّأه على حافة السرير « فارتطم بالأرض و أحسّ بألم في وجهه
و جنبه الأيسر و ركبته » ، لينقذه صوت أمّه : « بنيّ ، أفق يا بنيّ كيف وصلت إلى الأرض ؟ هيّ انهض » ( ص 25 ) ، ليكون ردّه :« الثعبان... الثعبان لفظني و الجينز الأزرق أشعرني بالرّجولة » ( ص 26 ) . هذا الشعور كان كابوسا في بحثه عن ذاته وسط رحلة الحياة. فإذا بنا بسمير بية يحاول بناء عالم خيالي يقيه هذه الكوابيس في « ليلة أخرى تحت المطر » ، حيث يحاول الإحتفاء بنفسه الحائرة بين أناه و تلك التي يخترعها لتشاركه قهوته و سيجارته ،
و لكنها سرعان ما رحلت عنه و تركته في انتظارها : « هي رحلت و لكنها مازالت هنا » ( ص 29 ). ليواصل أسئلته الحيرى: « لِـمَ تركتني و رحلتِ ؟ ألم أكن مختلفاً معكِ ؟ » ( ص 30 )، ليخلص في النهاية إلى سؤال أكثر ألما : « لِـمَ رحلت و لم تنتظري ؟ ألم تعديني بالرحيل معك إلى هناك ؟ ألم يكن الحلم أجمل بعينيك ؟ » ( ص 32 ).
هذه الأسئلة المنثالة لابدّ لها من « حوار خارجي » يرتّب به أحلامه و أحلام من أحبّها ، تلك التي التقاها بعد مرور شهر من الامتحان « ثلاث مرات في غفلة من الزمن القاسي. رتّبا أحلامهما كما أرادا ، غنّيا للحبّ معا و تذكّرا الامتحان معا
و في نفس اللحظة ، إنّه الزمن الحقود ثانية ، ثالثة و رابعة ... » ( ص 36 ) ، لتنكسر أحلامه ككلّ مرّة ، و إن كانت ماديّة هذه المرّة .
و لكن هل سييأس من أحلامه ؟
كلاّ ، إنه ينزل بكلّ ثقله في « جولة في مدينة المعرفة » ، « و بدأ يتجوّل في مدينة الحلم » ( ص 37 ) ، حيث مجتمع المعرفة و لكنّه « مجتمع مسكين يحتاج إلى إعادة برمجة » ( ص 38 ) حيث شاهد في الشاشة السابعة:« دمه الأزرق يسيل من كبد الحلم » (ص 37 ) ، ليكتشف أنّه في رحلة حلمه " سيزيف " و أنّ " الوقت كان هنا" و لكنّه لم يستطع اللّحاق به كسراب « كلّنا كنّا نجري وراءه » ( ص 44) .
لينخرط بنا سمير بيّة في « لــعــبــة » هي لعبة الحياة التي يقتضي النجاح فيها فهما لقواعدها التي من أهمّها :
« النّفاق » ، فــ « هم يملؤون صناديق سيّاراتهم بزهور النّفاق البلاستيكية » ( ص 46 ) . هذا النّفاق الذي لم يبرع فيه فتمّ إقصاؤه من أحلامه و من هذه اللعبة ، فــ « هم يلعبون بإتقان مدروس لعبتهم الخطيرة ، و أنت بغباء جيّد تلوّن بالأوهام حياتك الحقيرة » ( ص 47 ) ، حتى أنّ « الريح رفضت صداقتك و أنكرت معرفتك . »( ص 48 ).
فكان لابدّ من مهرب يُطرب نفسه الحيرى مع « أغان مصوّرة » تبثّ فيه شيئاً من الرّغبة ، و لكنّها رغبة خانقة ، فــ « شعر ببرودة تغزو جسمه ، و أحسّ بتفاهة تخنق عقله » ( ص 50) ،
فإذا هو في « حلقة فارغة تطوّقه ، ثم أخذت تضيق و تضيق حتى كادت تسحق عظامه. » ( ص 51 ) « فكرة زرقاء » حيث « حلمه عراقي يورق بلا دماء » ( ص 53 ) ، فيتحطّم حلمه العربي رغم أنّه « في جمع من الأطفال يتعلّم كيف يحلم » ( ص 54 ) ،و يتساءل عن " لون الحلم" ، و لكنّ الجرح العراقي لن يندمل ، بل سيرافقه « صوت أسود أراه » ،
هذا الصوت الذي « ما انقطع على زيارته منذ حصل على الإجازة قبل عام. كان صوتا هادرًا يهزّ جسده هزّا كلما زاره حاملاً إليه الصّور متراصّة متلاصقة حينا ، متباعدة مشتّتة حينا آخر. كلّما ارتفع الصوت كان يرى حجارة تسقط على صدره و أفعى سوداء رقطاء تلتفّ حول عنقه وهي تولول: أنا ضعفك المميت و عزلتك المرّة » ( ص 57) ، لتكون نجاته هذه المرة حين « نظر في مرآة الحلم فآستعار طفل الفرح من وجه حبيبته » ( ص 58 ) فكان ملجأه من « سطل أحزانه » ( ص 59 ) . لتتواصل رحلته في مطاردة هذا الحلم مع بقية القصص « دون أن يلتفت وراءه » ( ص 68 ) مع * هو و النادل و الحسناء * لتصل ذروة الحلم مع " غرق فرعون" الذي نجا من رحلة الموت إلى إيطاليا ، ليستفيق من جديد مع ابنته و " يا بابا كِـطال وُكِـف " و " بطاقة إعفاء من الحياة " ، هذه :« هي الحياة تلعب لعبتها وهو الموت يلعب لعبته » ، خاصة في " ماتراك " التي قصفت أحلام الشباب الطالبي ، ليخلص سمير بية في " وردة الذكرى " إلى أنّه كما يقول :« لقد رأيتُني أركض و أركض وراء حلمي مثلما يركض لِداتي من أبناء الحارة ، كانت أحلامنا بسيطة كحياتنا . » ( ص 97 ).
ليظلّ " كيس الأحلام " على اتّساعه ضيّقا على " لـلاّ لطيفة " حين خانها ابنها الطّاهر و : « لكنّه لم يكن وفيّا لأحلام أمّه فلم يتقلّد لا أعلى المناصب و لا أدناها » ( ص 118 ) .
و هكذا أخذنا سمير بية في رحلة سردية سبر خلالها أغوار النفس البشرية في بحثها عن أحلامها و أحلامنا في مزج جميل بين الذاتي و الموضوعي بأسلوب مشوّق طغت عليه احيانا شعرية حالمة فحمّلتنا هموم « كيس الأحلام » .
محمد أحمد مخلوف