لم تكن الرصاصة التي اُطلِقت من مجهولٍ على زوجها ؛ فأردتهُ قتيلا بينَ حَشايا الحقولِ ، غيرَ البدايةِ التي خطّت لعائلتها الصّغيرة هذا المصير البائس ، واستباحت طمأنينتها وهي الآمنة ، ما ادّخرَ " عبدالشهيد " من حطامِ الدُّنيا ، إلّا بندقيته الهندي ، التي حرّزتها النيابة بعدَ الواقعةِ، ورواسبَ من كراهيةٍ ، عكّرت صفو أبناء القرية ، الذين ظلوا لسنواتٍ طِوال ، يبغضون غلظته ، ويكرهون احتمائهِ بسيدهِ صاحب الدايرة ، الذي تخلى عنه ، لحظة فارقت أنفاسه الحياة .
عرفه أهل الزِّمام ابن ليل، عربيدا لا يخشى فائقة الأيام ، ولا غَصّة الحرمان ، يُريقُ في سبيلِ قرشهِ ألف نفسٍ ونفس ، والرجل عنده لا يساوي قدح قمحٍ ، أو كَفَّ دقيق ، وها هي بضاعته رُدّت إليهِ أضعافا في أهلِ بيتهِ ، الذين ذاقوا من بعدهِ الفاقة ، وجنوا ثمار ما كسبت يداه.
أضحت " سكينة " ابنة الثلاثين ربيعا وأيتامها أُحدوثة الأفواه ، تتقاذفهم الأعتابُ ضنا عليهم بالمعروفِ، إذ كَيْفَ لهم أن يرعوا جبار الأمسِ في صغارهِ، أو يصونوا لحرمته كرامة ، امتلأ قلبها من إناءِ الألمِ حتّى فاضَ، خاصةً بعدما راودها " حجازي " عن نفسها لقاء قروشٍ يسيرة ، ثمن نصف أردب غلة ، و" حجازي " لمن يجهلهُ ، مُرابي الناحية الأشهر ، رجلا غليظ الكبد ، منزوع الشفقة ، لا يجيد سوى عقد الصفقات ، يقيم تجارته على مصّ دماء الغلابة ، واستنزاف أقواتهم ، لا يُقيمُ للشرفِ وزن ، ولا يعرِفُ للمروءةِ طريق ، مرّت الأيامُ بينَ قسوةٍ ورجاء ، حتّى هَبَطَ قلبها في ينبوعِ الوحشة ، وبينما هي في أحابيلِ يأسها تتخبّط ، لاحظتها عناية السّماء ، على غيرِ موعدٍ، رفعت رأسها كمن يصحو من بعدِ غَفوةٍ، تسيلُ الدهشة من نظراتها، وقفَ أمامها ذات أمسيةٍ ، تحتَ ضوِء المصباحِ الشَّاحب وجه جَاف التقاطيع ، أجابها بلكنةٍ مستهجنةٍ في اختصار :" هذه أمانة عبدالشهيد "، قَذَفَها بصرةٍ كبيرة، طويت في جلبابٍ قديم ، وفي ثوانٍ ابتلعه الظلام كحلمٍ قصير ، فركت عينيها مستغربة ، تُزيل عنها من هولِ المُفاجأة، تَحلّقَ الجميع حول الصُّرةِ مأخوذين ، قَفَزَ صغيرها " نبيل " في الهواءِ قبل أن تُعاجِلهُ يدها في خشونةٍ ، بلطمة أعادته للهدوءِ ، بعدها امتلأت العيون بوهجٍ أصفرٍ براق ، كومة عظيمة من الجنيهات الذهبية ، ولفائف العملةِ الورقية من كُلّ فئةٍ مربوطة بخيوطِ الدوبارة ، وخنجر تلطّخَ نصله بدمٍ قاني .
ارتجّت لمرآه ، قبل أن تَعود سريعا في صرةٍ لسيرتها الأولى ، تنبشُ كومة المال في جنونٍ، تمشّت الحياة من جديدٍ في البيتِ المُهمل ، تبدّلت معيشتهم بعدما هبطوا من سماءِ الأحلامِ، إلى أرضِ الحقيقة.
لتجدها تهتِفُ باسمِ صاحبها صباحَ مساء تذكره ؛ رحمةً وغُفرانا ، تناست آثامه، طوتها مع ما طوت من ماضيهِ الغَابرِ، بيدَ أنّ صوت " حجازي " النّكير ، لا ينفك يقتحم عليها خلوتها في تبجّح ٍ ، يتأتّى خشنا مرذولا:" القرش بقرشين يا سنيورة"، تبسّمت وهي تدُيرُ مفتاح خزينتها، تُطالِع في زَهوٍ محتوياتها ، امسكت بحزمةٍ تَفرّ أوراقها في استسلامٍ، وقد اصطَبَغَ وجهها بنضارةِ الشَّباب ، قائلة في خُيلاء: "وماله القرش بقرشين!"، لتعرِفَ القرية من بعدِ ذلك ، الحاجة " سكينة " المرابية الشهيرة..
محمد فيض خالد / مصر
عرفه أهل الزِّمام ابن ليل، عربيدا لا يخشى فائقة الأيام ، ولا غَصّة الحرمان ، يُريقُ في سبيلِ قرشهِ ألف نفسٍ ونفس ، والرجل عنده لا يساوي قدح قمحٍ ، أو كَفَّ دقيق ، وها هي بضاعته رُدّت إليهِ أضعافا في أهلِ بيتهِ ، الذين ذاقوا من بعدهِ الفاقة ، وجنوا ثمار ما كسبت يداه.
أضحت " سكينة " ابنة الثلاثين ربيعا وأيتامها أُحدوثة الأفواه ، تتقاذفهم الأعتابُ ضنا عليهم بالمعروفِ، إذ كَيْفَ لهم أن يرعوا جبار الأمسِ في صغارهِ، أو يصونوا لحرمته كرامة ، امتلأ قلبها من إناءِ الألمِ حتّى فاضَ، خاصةً بعدما راودها " حجازي " عن نفسها لقاء قروشٍ يسيرة ، ثمن نصف أردب غلة ، و" حجازي " لمن يجهلهُ ، مُرابي الناحية الأشهر ، رجلا غليظ الكبد ، منزوع الشفقة ، لا يجيد سوى عقد الصفقات ، يقيم تجارته على مصّ دماء الغلابة ، واستنزاف أقواتهم ، لا يُقيمُ للشرفِ وزن ، ولا يعرِفُ للمروءةِ طريق ، مرّت الأيامُ بينَ قسوةٍ ورجاء ، حتّى هَبَطَ قلبها في ينبوعِ الوحشة ، وبينما هي في أحابيلِ يأسها تتخبّط ، لاحظتها عناية السّماء ، على غيرِ موعدٍ، رفعت رأسها كمن يصحو من بعدِ غَفوةٍ، تسيلُ الدهشة من نظراتها، وقفَ أمامها ذات أمسيةٍ ، تحتَ ضوِء المصباحِ الشَّاحب وجه جَاف التقاطيع ، أجابها بلكنةٍ مستهجنةٍ في اختصار :" هذه أمانة عبدالشهيد "، قَذَفَها بصرةٍ كبيرة، طويت في جلبابٍ قديم ، وفي ثوانٍ ابتلعه الظلام كحلمٍ قصير ، فركت عينيها مستغربة ، تُزيل عنها من هولِ المُفاجأة، تَحلّقَ الجميع حول الصُّرةِ مأخوذين ، قَفَزَ صغيرها " نبيل " في الهواءِ قبل أن تُعاجِلهُ يدها في خشونةٍ ، بلطمة أعادته للهدوءِ ، بعدها امتلأت العيون بوهجٍ أصفرٍ براق ، كومة عظيمة من الجنيهات الذهبية ، ولفائف العملةِ الورقية من كُلّ فئةٍ مربوطة بخيوطِ الدوبارة ، وخنجر تلطّخَ نصله بدمٍ قاني .
ارتجّت لمرآه ، قبل أن تَعود سريعا في صرةٍ لسيرتها الأولى ، تنبشُ كومة المال في جنونٍ، تمشّت الحياة من جديدٍ في البيتِ المُهمل ، تبدّلت معيشتهم بعدما هبطوا من سماءِ الأحلامِ، إلى أرضِ الحقيقة.
لتجدها تهتِفُ باسمِ صاحبها صباحَ مساء تذكره ؛ رحمةً وغُفرانا ، تناست آثامه، طوتها مع ما طوت من ماضيهِ الغَابرِ، بيدَ أنّ صوت " حجازي " النّكير ، لا ينفك يقتحم عليها خلوتها في تبجّح ٍ ، يتأتّى خشنا مرذولا:" القرش بقرشين يا سنيورة"، تبسّمت وهي تدُيرُ مفتاح خزينتها، تُطالِع في زَهوٍ محتوياتها ، امسكت بحزمةٍ تَفرّ أوراقها في استسلامٍ، وقد اصطَبَغَ وجهها بنضارةِ الشَّباب ، قائلة في خُيلاء: "وماله القرش بقرشين!"، لتعرِفَ القرية من بعدِ ذلك ، الحاجة " سكينة " المرابية الشهيرة..
محمد فيض خالد / مصر