كتب أيمن مارديني في الصفحات الأخيرة في نصه/ الروائي/ المحكي "خيوط الانطفاء"
قول: كما كتبة الأناجيل قالوا ما لم يقله عيسى المسيح.
ومفسرو القرآن أتوا بما لم يأتِ على ذكره الله في كتابه الحكيم.
كل هذا القول لم يقله سامي...
وهذه الأفعال لم يأتِ بها سامي...
وما هو إلا شبه لهم.
ما هو إلا الانطفاء وخيوطه .
ما هي إلا آخر أمل يتعلقون به أمام مقبرة الأطفال النائمين.
حينما قرأت هذه الفقرات التي كانت مخبأة في الصفحات الأخيرة فهمت " سبب الرواية/ النص/ المحكي.
فلأبدأ بتصنيفي لهذا النص الذي يحتوى على بضعة نصوص يذكرني مرة بألف ليلة وليلة، ومرة بالعروس الروسية الخشبية " مار يوشكا " التي بداخلها عدة عرائس. لكن عليكم أولا أن تفتحوا العروسة الأكبر ثم تفتحوا العرائس الأصغر!
أمامي أكثر من حل لتصنيف النص:
الناشر والمؤلف اتفقا على أنه رواية، وأنا لا اختلف معهما إلا أنها رواية من نوع خاص. فالرواية العربية التقليدية مثل تلك التي كتبها نجيب محفوظ مثلا أصبحت الآن في عصرنا هذا ثقيلة على القلب والعقل. فمن يتحمل ثرثرة طويلة حول "عائلة سي السيد " ونسائه و أحفاده وثورة 1919 على البيعة أيضا.
هو نص اقرب إلى " بيضاء " يوسف إدريس، يلف بك ويدور حتى تدوخ، لتكتشف انه نص متعلق بالزمن الماضي( ليس كله فالزمن عند الكاتب بلا حدود، وهو يلعب به وفيه ماشاء له اللعب) ومتعلق بالسحر أيضا، ومتعلق بحكايات توراتية عن " الطوفان والماء " ( في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة. وروح الله يرف على وجه المياه " ( التكوين أصحاح واحد ) ثم الطيران، فهناك في النص نوعان من الطيران. طيران الحكاء أيمن وهو يعمل طيارا على طائرة حقيقية، الذي يعترف لنا باسمه ( اسم الكاتب أيضا ) ويقدم لنا بسخاء اسم حبيبته الأولى " نانو " التي أهداها الرواية النص المحكي في مفتتح النص، وأنا اعرف أنها زوجته ورفيقة حياته. ثم طيران يقوم به سامي، وهو شخصية عجائبية في النص المحكي يظهر ويختفي من / وفي "زمن " الحكي" وله جناحان من ريش. وهذا أيضا يذكرني بألف ليلة حيث كان كاتبوها مغرمين بفكرة الطيران، بل أنا اغرمت بها و كتبت فصلا في روايتي زجاج معشق عن الطيران (!)
ثم هناك موضوع الموت وما بعد الموت. هل هو قيامة .....
لن ألخص النص الروائي هنا، فهو صعب على التلخيص لأنه كما قلت يأخذ القراء ويلعب معهم. أحيانا يلعب الاستغماية، وأحيانا يلعب لعبة الكراسي الموسيقية، إذ يفاجئك في منتصف الحكي بتغيير الشخصية التي أمسكت أنت بها بصعوبة وارتحت إليها، لتكتشف أنك تقرأ عن شخصية أخرى أو على لسان شخصية أخرى.
ليست هناك سوى بداية ملتبسة ونهاية ملتبسة أيضا.
هناك كتاب النائمين " الذي يزيد عمره عن ألف عام. كتاب مقدس. كُتاب بين الأرض والسماء.... يحرسه ثعبان أعمى. ثم يزيد في القول الملتبس " أبي كان الحارس الأخير....... وإنا كنا له من الحافظين "
وكما أشرت من قبل إلى " نانو " التي يعرفها لنا بأنها ابنة العم وتأخذ لقب عائلة الحكاء أي لقب " الساحر" ويعطيك إيضاحا ملتبسا فيهيئ لك أن نانو ربما قد تكون الأم أو الأخت أو الخالة أو العمة.. نانو حبيبة الصبا أو لعلها حبيبة الطفولة لكنها تتركه لتتزوج شخصا أخر. وهذه تجربة أزعجت الراوي، لأن نانو ليست مجرد حبيبة لكنها كما يصفها لنا من وقت لآخر ومن زمن روائي إلى أخر غير روائي.
اذ يلقي الكاتب من وقت لآخر بمعلومة عن العائلة مثلا فيقول: " سر العائلة هو ما تعيش العائلة عليه. الأصل هو البحث والمعرفة عن منبت العتمة والانطفاء فينا وأصل شجرته "
وأتأمل أنا طويلا اصطلاح " الانطفاء فينا " هل يقصد انطفاء الحب الزوجي مثلا؟
أم يقصد الولع بالحياة؟
أي انطفاء هذا الذي يريد المؤلف أن يضعه أمام أعيننا؟ أية عتمة؟ لعله يريد أن يقول أن الانطفاء هو موت كل يقين سابق؟ الدين- الأب- الحب - الحبيبة؟!ّ
ثم يعلن لنا " أن الحكاية تبدأ قبل نهايتها وتنتهي قبل بدايتها " ( ص 29 -31) ليفاجئنا بمكان " لعله أثيري " يسميه مقبرة الأطفال النائمين......
وهكذا عشرات التفصيلات الصغيرة لكنها لا تقودك إلى مفتاح العمل الأدبي. حكايات تشبه الأبواب الخادعة في المقابر الفرعونية .. " وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ )
وقد لاحظت أن السراب أيضا يشكّل أحد ركائز النص المحكي. أي أن الراوي يقول أو يريد أن يقول " لا شيء ثابت .
" الكل باطل و قبض الريح"
كما أشرت سابقا إلى ثيمة الطيران التي اخترعتها ألف ليلة في" بساط الريح " ثم أضاف إليها الاسباني العظيم
خونتسيلو أسطورة مغربية عن الرجال الذين يتحولون إلى طائر " اللقلق" في روايته أسابيع الحديقة فيطيرون يبحثون عن زوجاتهم. ثم يشير المؤلف إلى حدوتة "اختفاء " حاكم مصر المعتوه الفاطمي بأمر الله حينما ركب بغلته واختفى في تلال المقطم.
حيرتي اختفت حينما قرأت المفتاح الأخير الذي نقلته كما هو في مفتتح كتابتي هذه .. بأن ما نعتقد أنه صحيح ما هو إلا " ما شبُه لنا به " باعتبارنا ضحايا مؤامرة كونية نصفها إلهي ونصفها شيطاني. وللكاتب الحق في أن يرى الكون والعالم بالطريقة التي يراها مريحة له ولمنطقه ولن نجادله فيها هنا لأن لكل أمريء "ما ارتأى" بدلا من "مما رأى "!!
فلست في جدل حول ماهية النص لأني أعرف، وأستطيع أن أحكم بأنه نصا جديدا، لكنه رغم جدته أو بسبب جدته كان يحتاج إلى "محرر " من نوع خاص يتفهم حركة وتطور الكتابة النصية العربية المعاصرة ومحاولتها الخروج عن المعروف التقليدي، فهذه ليست كتابة نصا بوليسيا علينا أن نبحث عن " المجرم " ولا نصا محفوظا متزود بالثرثرة، لكنه نص لرجل في منتصف حياته اضطر أن يهاجر بعائلته من بلده سوريا إلى بلاد الله الواسعة ليستقر به المقام في أرض بلا شمس حارقة، وبلا أشجار مثل تلك التي كانت في بيت خاله بمنشية البكري التي يحن إليها حنينا لا ترويه الحكايات ولا الذكريات. شعلات تحرق قلبه وروحه فيقرر إطفائها.
أعرف الغربة، وقد عشتها أكثر من ثلث حياتي. وأعرف انطفاء الشمس في الخريف وزوالها في الشتاء، واحتفل مع الآخرين بقدومها في الربيع والصيف..... وأعرف المشكلات النفسية للرجال في منتصف العمر وللزواج بعد منتصف عمره وللرفيقات والشريكات والزوجات، وكل منا ينطلق مثل الإبرة المغناطسية مبتعدا عن مجال الآخرين والأخريات .. بل أن طبيبتي العجوز قبل أن تعتزل نصحتني بألا ابقى هنا في هولندا في فصول الشتاء، بل علي أن أسافر أبحث عن الضوء. كما نصحتني بشراء مصباح كهربي خاص اخترعته شركة فيلبس إذا ما أضأته في الأيام المعتمة يضيء لي كأنه نور النهار !
كنت أعي المعرفة المؤلمة التي قالها لي أستاذ علم التمثيل حينما كنت ادرس المسرح في وارسو: أن منتصف العمر هو سن البحث المؤلم عن الذات الحقيقية، وبالتالي هو أيضا سن اليأس عند الرجال، وهو السن الذي يقرر فيها الذكور لأسباب عدة بعضها بيولوجي وبعضها عاطفي أن " ينهوا " حياتهم ..
وإذا جبنوا عن ذلك فهم يكتبونها !
وقد جبنت أنا وكثيرون غيري فكتبناها !!
لا أعرف متى بدأ أيمن مارديني في كتابة هذا النص المزعج ( بلي !) لأنه يأخذك عنوة من مقعدك المريح ويلقي بك من أعلى السموات متعمدا أن يكسر لك ضلوعك حتى تستفيق من نومك الذي هو موتك، وكما تشرح نانو في الرواية عن النوم الذي يدخلك إليه الجراحون بواسطة البنج، وعن النوم الذي تأخذ آنت فيه روحك إلى ما يشبه الموت لكن بلا موت. انه مثل انطفاء المشكاة في المصباح. نص تختلط فيه اسئلة الوجود مع " العدم " نص سرابي تظنه ماء يروي اسئلتك وحيرتك، فيزيد منهما فلا ترتوي، سراب يحسبه الظمآن ماء، لكنه أيضا يبلل ريقك من وقت لآخر قبل أن تهلك عطشا. إنه مثل فتاة الاستربتيز ومعناها : الغياظة .. تؤملك أن ترى ما ماهو مستور، لكنك لن ترى سوى ما تسمح هي لك به.
أمستردام - هولندا
قول: كما كتبة الأناجيل قالوا ما لم يقله عيسى المسيح.
ومفسرو القرآن أتوا بما لم يأتِ على ذكره الله في كتابه الحكيم.
كل هذا القول لم يقله سامي...
وهذه الأفعال لم يأتِ بها سامي...
وما هو إلا شبه لهم.
ما هو إلا الانطفاء وخيوطه .
ما هي إلا آخر أمل يتعلقون به أمام مقبرة الأطفال النائمين.
حينما قرأت هذه الفقرات التي كانت مخبأة في الصفحات الأخيرة فهمت " سبب الرواية/ النص/ المحكي.
فلأبدأ بتصنيفي لهذا النص الذي يحتوى على بضعة نصوص يذكرني مرة بألف ليلة وليلة، ومرة بالعروس الروسية الخشبية " مار يوشكا " التي بداخلها عدة عرائس. لكن عليكم أولا أن تفتحوا العروسة الأكبر ثم تفتحوا العرائس الأصغر!
أمامي أكثر من حل لتصنيف النص:
الناشر والمؤلف اتفقا على أنه رواية، وأنا لا اختلف معهما إلا أنها رواية من نوع خاص. فالرواية العربية التقليدية مثل تلك التي كتبها نجيب محفوظ مثلا أصبحت الآن في عصرنا هذا ثقيلة على القلب والعقل. فمن يتحمل ثرثرة طويلة حول "عائلة سي السيد " ونسائه و أحفاده وثورة 1919 على البيعة أيضا.
هو نص اقرب إلى " بيضاء " يوسف إدريس، يلف بك ويدور حتى تدوخ، لتكتشف انه نص متعلق بالزمن الماضي( ليس كله فالزمن عند الكاتب بلا حدود، وهو يلعب به وفيه ماشاء له اللعب) ومتعلق بالسحر أيضا، ومتعلق بحكايات توراتية عن " الطوفان والماء " ( في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة. وروح الله يرف على وجه المياه " ( التكوين أصحاح واحد ) ثم الطيران، فهناك في النص نوعان من الطيران. طيران الحكاء أيمن وهو يعمل طيارا على طائرة حقيقية، الذي يعترف لنا باسمه ( اسم الكاتب أيضا ) ويقدم لنا بسخاء اسم حبيبته الأولى " نانو " التي أهداها الرواية النص المحكي في مفتتح النص، وأنا اعرف أنها زوجته ورفيقة حياته. ثم طيران يقوم به سامي، وهو شخصية عجائبية في النص المحكي يظهر ويختفي من / وفي "زمن " الحكي" وله جناحان من ريش. وهذا أيضا يذكرني بألف ليلة حيث كان كاتبوها مغرمين بفكرة الطيران، بل أنا اغرمت بها و كتبت فصلا في روايتي زجاج معشق عن الطيران (!)
ثم هناك موضوع الموت وما بعد الموت. هل هو قيامة .....
لن ألخص النص الروائي هنا، فهو صعب على التلخيص لأنه كما قلت يأخذ القراء ويلعب معهم. أحيانا يلعب الاستغماية، وأحيانا يلعب لعبة الكراسي الموسيقية، إذ يفاجئك في منتصف الحكي بتغيير الشخصية التي أمسكت أنت بها بصعوبة وارتحت إليها، لتكتشف أنك تقرأ عن شخصية أخرى أو على لسان شخصية أخرى.
ليست هناك سوى بداية ملتبسة ونهاية ملتبسة أيضا.
هناك كتاب النائمين " الذي يزيد عمره عن ألف عام. كتاب مقدس. كُتاب بين الأرض والسماء.... يحرسه ثعبان أعمى. ثم يزيد في القول الملتبس " أبي كان الحارس الأخير....... وإنا كنا له من الحافظين "
وكما أشرت من قبل إلى " نانو " التي يعرفها لنا بأنها ابنة العم وتأخذ لقب عائلة الحكاء أي لقب " الساحر" ويعطيك إيضاحا ملتبسا فيهيئ لك أن نانو ربما قد تكون الأم أو الأخت أو الخالة أو العمة.. نانو حبيبة الصبا أو لعلها حبيبة الطفولة لكنها تتركه لتتزوج شخصا أخر. وهذه تجربة أزعجت الراوي، لأن نانو ليست مجرد حبيبة لكنها كما يصفها لنا من وقت لآخر ومن زمن روائي إلى أخر غير روائي.
اذ يلقي الكاتب من وقت لآخر بمعلومة عن العائلة مثلا فيقول: " سر العائلة هو ما تعيش العائلة عليه. الأصل هو البحث والمعرفة عن منبت العتمة والانطفاء فينا وأصل شجرته "
وأتأمل أنا طويلا اصطلاح " الانطفاء فينا " هل يقصد انطفاء الحب الزوجي مثلا؟
أم يقصد الولع بالحياة؟
أي انطفاء هذا الذي يريد المؤلف أن يضعه أمام أعيننا؟ أية عتمة؟ لعله يريد أن يقول أن الانطفاء هو موت كل يقين سابق؟ الدين- الأب- الحب - الحبيبة؟!ّ
ثم يعلن لنا " أن الحكاية تبدأ قبل نهايتها وتنتهي قبل بدايتها " ( ص 29 -31) ليفاجئنا بمكان " لعله أثيري " يسميه مقبرة الأطفال النائمين......
وهكذا عشرات التفصيلات الصغيرة لكنها لا تقودك إلى مفتاح العمل الأدبي. حكايات تشبه الأبواب الخادعة في المقابر الفرعونية .. " وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ )
وقد لاحظت أن السراب أيضا يشكّل أحد ركائز النص المحكي. أي أن الراوي يقول أو يريد أن يقول " لا شيء ثابت .
" الكل باطل و قبض الريح"
كما أشرت سابقا إلى ثيمة الطيران التي اخترعتها ألف ليلة في" بساط الريح " ثم أضاف إليها الاسباني العظيم
خونتسيلو أسطورة مغربية عن الرجال الذين يتحولون إلى طائر " اللقلق" في روايته أسابيع الحديقة فيطيرون يبحثون عن زوجاتهم. ثم يشير المؤلف إلى حدوتة "اختفاء " حاكم مصر المعتوه الفاطمي بأمر الله حينما ركب بغلته واختفى في تلال المقطم.
حيرتي اختفت حينما قرأت المفتاح الأخير الذي نقلته كما هو في مفتتح كتابتي هذه .. بأن ما نعتقد أنه صحيح ما هو إلا " ما شبُه لنا به " باعتبارنا ضحايا مؤامرة كونية نصفها إلهي ونصفها شيطاني. وللكاتب الحق في أن يرى الكون والعالم بالطريقة التي يراها مريحة له ولمنطقه ولن نجادله فيها هنا لأن لكل أمريء "ما ارتأى" بدلا من "مما رأى "!!
فلست في جدل حول ماهية النص لأني أعرف، وأستطيع أن أحكم بأنه نصا جديدا، لكنه رغم جدته أو بسبب جدته كان يحتاج إلى "محرر " من نوع خاص يتفهم حركة وتطور الكتابة النصية العربية المعاصرة ومحاولتها الخروج عن المعروف التقليدي، فهذه ليست كتابة نصا بوليسيا علينا أن نبحث عن " المجرم " ولا نصا محفوظا متزود بالثرثرة، لكنه نص لرجل في منتصف حياته اضطر أن يهاجر بعائلته من بلده سوريا إلى بلاد الله الواسعة ليستقر به المقام في أرض بلا شمس حارقة، وبلا أشجار مثل تلك التي كانت في بيت خاله بمنشية البكري التي يحن إليها حنينا لا ترويه الحكايات ولا الذكريات. شعلات تحرق قلبه وروحه فيقرر إطفائها.
أعرف الغربة، وقد عشتها أكثر من ثلث حياتي. وأعرف انطفاء الشمس في الخريف وزوالها في الشتاء، واحتفل مع الآخرين بقدومها في الربيع والصيف..... وأعرف المشكلات النفسية للرجال في منتصف العمر وللزواج بعد منتصف عمره وللرفيقات والشريكات والزوجات، وكل منا ينطلق مثل الإبرة المغناطسية مبتعدا عن مجال الآخرين والأخريات .. بل أن طبيبتي العجوز قبل أن تعتزل نصحتني بألا ابقى هنا في هولندا في فصول الشتاء، بل علي أن أسافر أبحث عن الضوء. كما نصحتني بشراء مصباح كهربي خاص اخترعته شركة فيلبس إذا ما أضأته في الأيام المعتمة يضيء لي كأنه نور النهار !
كنت أعي المعرفة المؤلمة التي قالها لي أستاذ علم التمثيل حينما كنت ادرس المسرح في وارسو: أن منتصف العمر هو سن البحث المؤلم عن الذات الحقيقية، وبالتالي هو أيضا سن اليأس عند الرجال، وهو السن الذي يقرر فيها الذكور لأسباب عدة بعضها بيولوجي وبعضها عاطفي أن " ينهوا " حياتهم ..
وإذا جبنوا عن ذلك فهم يكتبونها !
وقد جبنت أنا وكثيرون غيري فكتبناها !!
لا أعرف متى بدأ أيمن مارديني في كتابة هذا النص المزعج ( بلي !) لأنه يأخذك عنوة من مقعدك المريح ويلقي بك من أعلى السموات متعمدا أن يكسر لك ضلوعك حتى تستفيق من نومك الذي هو موتك، وكما تشرح نانو في الرواية عن النوم الذي يدخلك إليه الجراحون بواسطة البنج، وعن النوم الذي تأخذ آنت فيه روحك إلى ما يشبه الموت لكن بلا موت. انه مثل انطفاء المشكاة في المصباح. نص تختلط فيه اسئلة الوجود مع " العدم " نص سرابي تظنه ماء يروي اسئلتك وحيرتك، فيزيد منهما فلا ترتوي، سراب يحسبه الظمآن ماء، لكنه أيضا يبلل ريقك من وقت لآخر قبل أن تهلك عطشا. إنه مثل فتاة الاستربتيز ومعناها : الغياظة .. تؤملك أن ترى ما ماهو مستور، لكنك لن ترى سوى ما تسمح هي لك به.
أمستردام - هولندا