شكرا لمنظمي هذا الفضاء على حسن اختيار الموضوع والمشاركين؛ وأشيد هنا، باسم جمهور القراء، بجهود "اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين" الرامية إلى "دمقرطة" النقاش الأدبي، حيث لم يحصروه على النخبة والخبراء، بل فتحوا الأبواب أمام غير المتخصصين؛ واعتبر وجودي هنا رمزا ودليلا على هذه "الدمقرطة".
وخلافا للنقاد ولكثير من المشاركين، فلن أتقيد بأي معيار فني لقياس أو تحليل أو نقد الرواية. والسبب بسيط: فاقد الشيء لا يعطيه. وأصارحكم، وقد أفاجئكم أيضا بقولي: لا أندم كثيرا على الأمر بل أجد فيه حرية ومتعة. لأن غياب الضوابط والمعايير النمطية يسمح لي بإطلاق العنان لمشاعري وانفعالاتي دون قيد ولا شرط. وقد حصرتها في كتل، تعد على أصابع اليد، من الأحاسيس الكثيفة، يمكن اعتبارها بمثابة مفاتيح قراءتي للكتاب.
مفتاح 1: التعدد اللغوي والخلفية المثمرة
كنتُ أقرأ الرواية، والانطباعات والأحاسيس ترد في ذهني حولها تباعا متسارعة بلغة الضاد التي كُتبتْ بها، وكذلك باللغة الفرنسية، وبالدارجة الحسانية أحيانا، أي ب" ازريگه"، كما يقال عندنا في موريتانيا. وفهمتُ فيما بعد أن مرد "ازريگفونيتي" يعود أولا وقبل كل شيء إلى " لغز أنجيل برنادا" ذاته. فالرواية عابرة للحدود اللغوية والحضارية. يمكن لكل أحد أن يتعامل معها بلغته أو بأي لغة عالمية يحسنها. ومن جهة أخرى، فأنا من الذين يؤمنون بأن العمل الأدبي والفني لا ينفصل عن صاحبه. فهو مرآة عاكسة للمؤلف. والأخ محمد السالك ولد إبراهيم متعدد اللغات (polyglotte). ونشعر بأنه معْبر لغوي من خلال نعومة لغته وعصريتها وانسيابيتها التي يثريها بتطويع اللغات الأجنبية وصهرها بسهولة في لغة الضاد، كتوظيفه الموفق لكلمات مثل: "كرنفال"، "بوفي"، "تيليفيريك"...إلخ. وطبعا التعدد اللغوي حامل لتعدد المضامين وتنوعها. وسار انفعالي الأول في هذا الاتجاه، وكان بالفرنسية. وقد كتبتُ في نهايته:
"فاقتناعي راسخ بأن الخاتمة النهائية للقصة لن تكون أحادية المعنى والدلالة. بل على العكس، أتوقعها بالجمع المتعدد الأوجه؛ أو بعبارة أخرى: فكأي عمل أدبي أو فني حقيقي، جدير بهذا الاسم، فإن "لغز إنجيل برنابا" يشكل عملا أدبيا متعدد المعاني، يُنظرُ إليه من زوايا متعددة القراءة والتأويل.
وهكذا أفسر شخصيا الجاذبية التي تشدني بقوة إلى هذه الرواية. هذا هو شعوري كقارئ راضٍ بما قرأ رغم كوني غير متخصص، بل هاوٍ فقط للكلمات، أسهاهم ما استطعت لذلك سبيلا في رحلتها"[ii].
مفتاح 2: الباحث و"البطل الغائب"
وقَعتُ في لب الحدث دون أن اعلم. لم يكن البروفسور حامدون، بطل الرواية الرئيسي، يعلم أن ضالته الثمينة، التي يبحث عنها منذ فيينا، كانت موجودة حتى عهد قريب في مسقط رأسه بمدينة أطار في موريتانيا. وكمثله، لم انتبه بدوري إلى أنني وصلت إلى لب موضوع الرواية منذ الصفحة 56 حينما توقفتُ عند مقطع أثار إعجابي ثم اقتطعته ونشرته على الفيسبوك دون أن أدرك محوريته في الرواية، وأنه السبيل المؤدي إلى فك اللغز. كيف ذلك؟ لن أبوح بالسر حتى لا أشوش على فضول من لم يقرؤوا الرواية بعدُ. بل سوف اترك لهم لذة اكتشاف بيت القصيد.
وفيما يلي جزء من المقطع المذكور آنفا:
"لم يكن الأهالي يرون غضاضة في الاتجار بالمنقولات الأثرية، رغم أنه محظور بموجب القانون. بل إن اغلبيتهم لم يكونوا على علم بذلك الحظر.
في الحقيقة لم تكن السلطات تبذل أي جهد للتحسيس حول الموضوع.. بل كانت تتساهل حتى مع الأهالي الذين كانوا يبيعون المنقولات الاثرية على قارعة الطريق، وعلى مرأى من الجميع في المدن والحواضر الكبرى.
أما في البلديات الريفية (...)، فيظل وجود سلطة الدولة محدودا ورمزيا. وبالتالي لا أحد يهتم بتطبيق القانون في تلك الربوع، خاصة إذا تعلق الأمر بموضوع حفظ الآثار والتراث، والعناية بالمقتنيات الثقافية، باعتبارها جزء من تدبير الهم العام، الموضوعي ورعاية الملكية الفكرية العامة للأمة"[iii].
وقد استمالني الموضوع رغم أن الشروح الواردة فيه لم تعتمد الأسلوب القصصي بدرجة تنذرني بربطها ببقية الرواية. بينما هذا هو لب الإشكالية المطروحة. وسوف تعاودني الملاحظة مرارا كلما تقدمت في قراءة " لغز أنجيل برنادا". لأن المؤلف يمزج بين السرد الموضوعي، العلمي والوصفي، الذي يتحلى به الباحث الأكاديمي، مع الأسلوب القصصي الخيالي. فبوصفه خبيرا وباحثا متمرسا في العلوم الإنسانية، وكاتبا موهوبا، لعب في الرواية دور "البطل المجهول" الذي يروي ويشرح الأحداث دون أن يظهر كطرف فيها. وإن لم تخني الذاكرة، فإنني اعتقد أن طه حسين استخدم نفس الأسلوب في "دعاء الكروان".
إلا أن هذا الدور كثيرا ما يؤديه البطل الرئيسي للرواية في شكل مونولوكات (مناجاة الذات). بينما نلاحظ قلة المونولوكات في " لغز أنجيل برنادا"، على خلاف ما نلقاه مثلا عند الروائي الموريتاني امبارك ولد بيروك. وأظن أن أجاتا كريستي تستخدم الأسلوبين حسب رواياتها.
المفتاح 3: تدقيقات
دفع بي الفضول الشديد، احتذاءً برغبة المؤلف في الكمال (perfectionnisme)، إلى الوقوف عند بعض التفاصيل والتساؤلات، من بينها:
هل اعتنقت السيدة ماريانا الإسلام بعد توبتها؟ وإلا، فما معنى استخدامها لعبارة "اللهم" في دعائها الأخير (صفحة 409)؟ كلمة "الله"، ألا تخص المسلمين بينما المسيحون يقولون "الرب"، "الإله". وإن كانت، كما أتصور، مسيحية أو كاثولوكية (لا اعرف بالضبط ما الفرق بين المسيحية والكاثوليكية)، عملها الخيري والتطوعي القابل في موريتانيا، في منطقة آدرار بالذات، الذي تنوي القيام به تكفيرا لذنوبها، أين هذا المشروع من تسويق "العمل الخيري" كغطاء لحملات دينية وسياسية، كما يعترف الراهب "مورونتيوس" بذلك حين يقول، متحدثا باسم الكنيسة:
"(...) نحن نبذل جهدا كبيرا لتقديم العون للمحتاجين، لكننا نرى بان العمل الخيري لا ينفصل عن النشاط التبشيري، والأموال لا تُدفع بغير مقابل." ص. 142.
الكتاب عربي، وطبع في لندن بصورة مرضية على العموم، سواء من حيث حجم وشكل الحروف أو من حيث "تهوية" النص (aération du texte). كما أن الأخطاء المطبعية قليلة مقارنة مع كثير من الكتب المطبوعة في العالم العربي. ففعلا لاحظتُ منها 14 خطأ. قد يبدو العدد كبيرا بينما هو غير ذلك مقارنة بحجم الكتاب (426 صفحة)، أي ما معدله : 1خطأّ/30،36 صفحة. منها خطأ أثار انتباهي بشكل خاص: أسم تيودور مونو ينتهي دائما في الرواية بحرف الدال: "تيودور مونود". وهذه إعادة لرسم كتابته بالفرنسية (Théodore Monod) بحروف عربية. بينما لا تكتب في العربية حروف لا تنطق إلا في حالات نادرة جدا مثل : "ألف الجمع" في الفعل.
ذكرت الرواية فيما يزيد على نصف صفحة ما اعتبره شخصيا "مشاركة موريتانيا في غزو الفضاء"، اعني "گلب الريشات". وخُصصت منها ثمان كلمات فقط لعلاقاته بالفضاء الخارجي، قائلة أن علماء الفضاء والفلك يسمونه " عين الصحراء" (ص. 49). ولستُ أدري لماذا لم يكتب اسمه كما ينطق" گلب الريشات" بدلا من "قلب الريشات". كما أن الذين سموه واهتموا به كثيرا هم "رواد الفضاء" وليسوا "علماء الفضاء والفلك". ولم يُعرف له دور ثقافي متميز، اللهم إن كان الانتشار الواسع لصوره المأخوذة من الفضاء الخارجي أو الجدل العلمي حوله كظاهرة جيولوجية، والذي يبدو أن أمره حسم اليوم. ويستخدمه قادة المركبات والمحطات الفضائية كأحد المعالم الأرضية الرئيسية التي يستدلون بها بواسطة تقنيات التنقل المرئي (navigation à vue) خلال ملاحتهم ودورانهم حول الأرض. وكنت أفضل أن ينال هذا الجانب قسطا أوفر من الحديث.
المفتاح 4. الموسوعية والصرامة في المنهجية
ذُهلتُ بشكل لا يتصور من حجم المعلومات، ودقتها، وعمقها، وتنوعها، التي يضم "لغز إنجيل برنابا". لدرجة أن اللغز المنصوص عليه في العنوان تحول في مخيلتي إلى تساؤلات أو الغاز من نوع آخر: كيف تمكن المؤلف من جمع هذا الكم الهائل والمتنوع؟ وكيف ألف وربط بين مكوناته المتباينة: الجغرافية، التاريخية، الأدبية، الدينية، السياسية والجيوسياسية، العلمية...؟ وكيف حبكها في أسلوب قصصي وظف فيه الثقافة والحضارة العالميتين ببراعة بوصفهما أداة الربط المتينة والقاسم المشترك؟
وحول مركزية الثقافة وفنونها المختلفة في "اللغز"، يدهشنا وجودها بقوة وكثافة أينما تترك ريشة الكاتب بصماتها: في الفنادق، في المدن، في المطارات، في الشارع، في الصحراء، في المكتبات، في المتاحف، في المسارح، في المأكل والمشرب... في كل مرة تتجلى لنا موسوعية قل مثيلها. وأذكر مثالا قد لا يخطر على بال كثير من الناس، لكنه يروق لي شخصيا لأنني أحب القيام بالطبخ. كثيرا ما افتخر بقدراتي في مجال فن الطهي. لكن اعتزازي ومعرفتي في هذا المجال تراجعا لما قرأت ما كتبه المؤلف عن بعض الوجبات الأثيوبية:
"- هنا تجد اطباقا متنوعة.. لكنها مزجت مع البهارات بعناية شديدة، هذه مثلا لحوم الضأن.. والدجاج والبقر إلى جانب عصائد الحبوب، والخضروات الطازجة، مثل الملفوف، واللفت، والطماطم والجزر، والبطاطا والقرطبيط، والبذنجان، والبطاطا الحلوة، والبطل الأحمر"[iv].
وكلنا نعلم أن اليونسكو تصنف اليوم فن الطهي ضمن التراث الثقافي العالمي. فهكذا صنفت وجبتيْ "كسكس" و"تيبو دَنْ" المتداولتين كثيرا في بلادنا وفي الدول المجاورة شمالا وجنوبا. وأتساءل: لماذا لم يدرجهما الكاتب في قوائم الطعام المتنوعة، التي ذكرها في مناطق عديدة؟
وحديث محمد السالك المفصل والدقيق عن فن الطهي في بلدان متفرقة يدل، كما أسلفتُ، على موسوعية يحسد عليها الرجل، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ومن السهل علينا، كقراء، أن نتخيل أنه اطلع على كثير من المراجع، لكن ليس من اليسير أن ندرك ونقيم الجهد الذي كلف ذلك: لا من حيث الوقت ولا من حيث المنهجية المتبعة.
لا شك أنك، أخي محمد السالك، تتوفر على خبرة فريدة في البحث نحن بحاجة إلى أن تتقاسم معنا آليتها (logiciel). ومن هذه الموسوعية والدقة العلمية والعمق الفكري، نشأ لديك أسلوب سردي جذاب تشد به القارئ دون أن تُثقل كاهله أو تَشحن مسامعه بوابل من المحسنات البديعية غير اللازمة، يعوض بها كثير من الكتاب ما عجزوا عنه من فكر وبيان.
المفتاح 5: رواية بوليسية من نوع خاص، والأمل الحذر...
وفي الختام، اتفق تماما مع الناشر لما وصف الرواية بأنها "عمل ضخم لأديب بارع"-(ص. الغلاف الأخيرة) ، لكنني أتردد عندما يقول بأن هذا العمل مبني على "التصور الكلاسيكي للرواية". قد يكون الأمر كذلك من حيث البنية الفنية العامة، لكن من حيث المضمون وثراء المادة العلمية، ومن حيث العمق الفكري، بودي أن أسأله: متى كانت الرواية البوليسية الكلاسيكية -(polar)- تؤدي رسالة فكرية وأخلاقية بهذا الحجم والقيمة؟ متى كان العلماء والباحثون-ممثلون في البروفسور حامدون وزوجته د. آرابيلا-يقومون في إطار عملهم العلمي بدور المحقق (détective)، متبعين ومتقيدين بمواثيق الأخلاق المهنية (déontologie)؟ ومتي كان الجميع ينصاع لإرشاداتهم وآرائهم: إنتيربول، الدول والحكومات (موريتانيا، إيطاليا، فرنسا...) هيئات الأمم المتحدة كاليونسكو وغيرها...؟
صحيح بأن هذا لم يقع فعليا، بل حلم ورجاء يراودان كاتبا ذا خيال واسع وخصب، ويعبران عن رغبتنا جميعا وطموحنا، لأنه السبيل الأمثل للخلاص. وقد وفق الكاتب محمد السالك ولد إبراهيم في بيانه عبر "لغز إنجيل برنابا". لقد أطلق صرخة إنذار خطيرة دون أن يغرقنا في بحر من التشاؤم المقيت، بل ترك وفتح بصيص أمل.
فهنيئا لك، أخي العزيز، على هذا العمل العظيم. وشكرا لاتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين على تلقي رسالتك بصدر رحب. وأرجو أن يحذو أصحاب القرار السياسي، حكومات، هيئات دولية وغيرها، حذوهم، وأن يواكب الجميع الرسالة طبقا للصورة الحالمة التي رسمتْ ريشتك في صيغة خبرية وبأسلوب تقريري يقومان على الخيال، لما كتبتَ:
"كان الجميع يشعرون بأنهم، من دون تنسيق مسبق- فريق عمل واحد. ظل يعمل من أجل تحقيق نفس الهدف، ولو اختلفتْ الأساليب. لكن الغايات والمآلات قد وحدتهم. وصقلت ضمائرهم... لكي يتقاسموا نفس المشاعر.. وهم ينظرون الآن إلى مستقبل ربما يكون أفضل لعالم هو في أمس الحاجة إلى ذلك؛ عالم متعدد، يحتضن كل الثقافات، ويتسع لكل الحضارات.. بكل اسهاماتها.. ورغم جميع اختلافاتها.. وينظر إليها كقيم إنسانية أسمى.. قيم خالدة.. سيظل عمق معانيها وكثافة دلالاتها الرمزية... تتعالى على صنمية البضاعة وهوس الربح.. وعبادة الأرقام"[v].
ومن العسير على المرْء أن يتصور أيَّ انسان كان لا يشاطرك هذه الأحلام الرائعة. لكن ينبغي أن نكرر دائما: جعلها ربي حقا.
آمين.
نواكشوط، 06 يوليه 2022
البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)
[HR][/HR]
i تم إعداد هذه الورقة في إطار ندوة نظمها اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين يوم 06 يوليو 2022 حول الرواية المذكورة في العنوان.
[ii] Une énigme plurivoque, comme on aime lire.
[iii] محمد السالك ولد إبراهيم: "لغز إنجيل برنابا"، صفحة 56-57.
[iv] المرجع السابق، ص. 237-238.
[v] المرجع السابق، ص. 418
وخلافا للنقاد ولكثير من المشاركين، فلن أتقيد بأي معيار فني لقياس أو تحليل أو نقد الرواية. والسبب بسيط: فاقد الشيء لا يعطيه. وأصارحكم، وقد أفاجئكم أيضا بقولي: لا أندم كثيرا على الأمر بل أجد فيه حرية ومتعة. لأن غياب الضوابط والمعايير النمطية يسمح لي بإطلاق العنان لمشاعري وانفعالاتي دون قيد ولا شرط. وقد حصرتها في كتل، تعد على أصابع اليد، من الأحاسيس الكثيفة، يمكن اعتبارها بمثابة مفاتيح قراءتي للكتاب.
مفتاح 1: التعدد اللغوي والخلفية المثمرة
كنتُ أقرأ الرواية، والانطباعات والأحاسيس ترد في ذهني حولها تباعا متسارعة بلغة الضاد التي كُتبتْ بها، وكذلك باللغة الفرنسية، وبالدارجة الحسانية أحيانا، أي ب" ازريگه"، كما يقال عندنا في موريتانيا. وفهمتُ فيما بعد أن مرد "ازريگفونيتي" يعود أولا وقبل كل شيء إلى " لغز أنجيل برنادا" ذاته. فالرواية عابرة للحدود اللغوية والحضارية. يمكن لكل أحد أن يتعامل معها بلغته أو بأي لغة عالمية يحسنها. ومن جهة أخرى، فأنا من الذين يؤمنون بأن العمل الأدبي والفني لا ينفصل عن صاحبه. فهو مرآة عاكسة للمؤلف. والأخ محمد السالك ولد إبراهيم متعدد اللغات (polyglotte). ونشعر بأنه معْبر لغوي من خلال نعومة لغته وعصريتها وانسيابيتها التي يثريها بتطويع اللغات الأجنبية وصهرها بسهولة في لغة الضاد، كتوظيفه الموفق لكلمات مثل: "كرنفال"، "بوفي"، "تيليفيريك"...إلخ. وطبعا التعدد اللغوي حامل لتعدد المضامين وتنوعها. وسار انفعالي الأول في هذا الاتجاه، وكان بالفرنسية. وقد كتبتُ في نهايته:
"فاقتناعي راسخ بأن الخاتمة النهائية للقصة لن تكون أحادية المعنى والدلالة. بل على العكس، أتوقعها بالجمع المتعدد الأوجه؛ أو بعبارة أخرى: فكأي عمل أدبي أو فني حقيقي، جدير بهذا الاسم، فإن "لغز إنجيل برنابا" يشكل عملا أدبيا متعدد المعاني، يُنظرُ إليه من زوايا متعددة القراءة والتأويل.
وهكذا أفسر شخصيا الجاذبية التي تشدني بقوة إلى هذه الرواية. هذا هو شعوري كقارئ راضٍ بما قرأ رغم كوني غير متخصص، بل هاوٍ فقط للكلمات، أسهاهم ما استطعت لذلك سبيلا في رحلتها"[ii].
مفتاح 2: الباحث و"البطل الغائب"
وقَعتُ في لب الحدث دون أن اعلم. لم يكن البروفسور حامدون، بطل الرواية الرئيسي، يعلم أن ضالته الثمينة، التي يبحث عنها منذ فيينا، كانت موجودة حتى عهد قريب في مسقط رأسه بمدينة أطار في موريتانيا. وكمثله، لم انتبه بدوري إلى أنني وصلت إلى لب موضوع الرواية منذ الصفحة 56 حينما توقفتُ عند مقطع أثار إعجابي ثم اقتطعته ونشرته على الفيسبوك دون أن أدرك محوريته في الرواية، وأنه السبيل المؤدي إلى فك اللغز. كيف ذلك؟ لن أبوح بالسر حتى لا أشوش على فضول من لم يقرؤوا الرواية بعدُ. بل سوف اترك لهم لذة اكتشاف بيت القصيد.
وفيما يلي جزء من المقطع المذكور آنفا:
"لم يكن الأهالي يرون غضاضة في الاتجار بالمنقولات الأثرية، رغم أنه محظور بموجب القانون. بل إن اغلبيتهم لم يكونوا على علم بذلك الحظر.
في الحقيقة لم تكن السلطات تبذل أي جهد للتحسيس حول الموضوع.. بل كانت تتساهل حتى مع الأهالي الذين كانوا يبيعون المنقولات الاثرية على قارعة الطريق، وعلى مرأى من الجميع في المدن والحواضر الكبرى.
أما في البلديات الريفية (...)، فيظل وجود سلطة الدولة محدودا ورمزيا. وبالتالي لا أحد يهتم بتطبيق القانون في تلك الربوع، خاصة إذا تعلق الأمر بموضوع حفظ الآثار والتراث، والعناية بالمقتنيات الثقافية، باعتبارها جزء من تدبير الهم العام، الموضوعي ورعاية الملكية الفكرية العامة للأمة"[iii].
وقد استمالني الموضوع رغم أن الشروح الواردة فيه لم تعتمد الأسلوب القصصي بدرجة تنذرني بربطها ببقية الرواية. بينما هذا هو لب الإشكالية المطروحة. وسوف تعاودني الملاحظة مرارا كلما تقدمت في قراءة " لغز أنجيل برنادا". لأن المؤلف يمزج بين السرد الموضوعي، العلمي والوصفي، الذي يتحلى به الباحث الأكاديمي، مع الأسلوب القصصي الخيالي. فبوصفه خبيرا وباحثا متمرسا في العلوم الإنسانية، وكاتبا موهوبا، لعب في الرواية دور "البطل المجهول" الذي يروي ويشرح الأحداث دون أن يظهر كطرف فيها. وإن لم تخني الذاكرة، فإنني اعتقد أن طه حسين استخدم نفس الأسلوب في "دعاء الكروان".
إلا أن هذا الدور كثيرا ما يؤديه البطل الرئيسي للرواية في شكل مونولوكات (مناجاة الذات). بينما نلاحظ قلة المونولوكات في " لغز أنجيل برنادا"، على خلاف ما نلقاه مثلا عند الروائي الموريتاني امبارك ولد بيروك. وأظن أن أجاتا كريستي تستخدم الأسلوبين حسب رواياتها.
المفتاح 3: تدقيقات
دفع بي الفضول الشديد، احتذاءً برغبة المؤلف في الكمال (perfectionnisme)، إلى الوقوف عند بعض التفاصيل والتساؤلات، من بينها:
هل اعتنقت السيدة ماريانا الإسلام بعد توبتها؟ وإلا، فما معنى استخدامها لعبارة "اللهم" في دعائها الأخير (صفحة 409)؟ كلمة "الله"، ألا تخص المسلمين بينما المسيحون يقولون "الرب"، "الإله". وإن كانت، كما أتصور، مسيحية أو كاثولوكية (لا اعرف بالضبط ما الفرق بين المسيحية والكاثوليكية)، عملها الخيري والتطوعي القابل في موريتانيا، في منطقة آدرار بالذات، الذي تنوي القيام به تكفيرا لذنوبها، أين هذا المشروع من تسويق "العمل الخيري" كغطاء لحملات دينية وسياسية، كما يعترف الراهب "مورونتيوس" بذلك حين يقول، متحدثا باسم الكنيسة:
"(...) نحن نبذل جهدا كبيرا لتقديم العون للمحتاجين، لكننا نرى بان العمل الخيري لا ينفصل عن النشاط التبشيري، والأموال لا تُدفع بغير مقابل." ص. 142.
الكتاب عربي، وطبع في لندن بصورة مرضية على العموم، سواء من حيث حجم وشكل الحروف أو من حيث "تهوية" النص (aération du texte). كما أن الأخطاء المطبعية قليلة مقارنة مع كثير من الكتب المطبوعة في العالم العربي. ففعلا لاحظتُ منها 14 خطأ. قد يبدو العدد كبيرا بينما هو غير ذلك مقارنة بحجم الكتاب (426 صفحة)، أي ما معدله : 1خطأّ/30،36 صفحة. منها خطأ أثار انتباهي بشكل خاص: أسم تيودور مونو ينتهي دائما في الرواية بحرف الدال: "تيودور مونود". وهذه إعادة لرسم كتابته بالفرنسية (Théodore Monod) بحروف عربية. بينما لا تكتب في العربية حروف لا تنطق إلا في حالات نادرة جدا مثل : "ألف الجمع" في الفعل.
ذكرت الرواية فيما يزيد على نصف صفحة ما اعتبره شخصيا "مشاركة موريتانيا في غزو الفضاء"، اعني "گلب الريشات". وخُصصت منها ثمان كلمات فقط لعلاقاته بالفضاء الخارجي، قائلة أن علماء الفضاء والفلك يسمونه " عين الصحراء" (ص. 49). ولستُ أدري لماذا لم يكتب اسمه كما ينطق" گلب الريشات" بدلا من "قلب الريشات". كما أن الذين سموه واهتموا به كثيرا هم "رواد الفضاء" وليسوا "علماء الفضاء والفلك". ولم يُعرف له دور ثقافي متميز، اللهم إن كان الانتشار الواسع لصوره المأخوذة من الفضاء الخارجي أو الجدل العلمي حوله كظاهرة جيولوجية، والذي يبدو أن أمره حسم اليوم. ويستخدمه قادة المركبات والمحطات الفضائية كأحد المعالم الأرضية الرئيسية التي يستدلون بها بواسطة تقنيات التنقل المرئي (navigation à vue) خلال ملاحتهم ودورانهم حول الأرض. وكنت أفضل أن ينال هذا الجانب قسطا أوفر من الحديث.
المفتاح 4. الموسوعية والصرامة في المنهجية
ذُهلتُ بشكل لا يتصور من حجم المعلومات، ودقتها، وعمقها، وتنوعها، التي يضم "لغز إنجيل برنابا". لدرجة أن اللغز المنصوص عليه في العنوان تحول في مخيلتي إلى تساؤلات أو الغاز من نوع آخر: كيف تمكن المؤلف من جمع هذا الكم الهائل والمتنوع؟ وكيف ألف وربط بين مكوناته المتباينة: الجغرافية، التاريخية، الأدبية، الدينية، السياسية والجيوسياسية، العلمية...؟ وكيف حبكها في أسلوب قصصي وظف فيه الثقافة والحضارة العالميتين ببراعة بوصفهما أداة الربط المتينة والقاسم المشترك؟
وحول مركزية الثقافة وفنونها المختلفة في "اللغز"، يدهشنا وجودها بقوة وكثافة أينما تترك ريشة الكاتب بصماتها: في الفنادق، في المدن، في المطارات، في الشارع، في الصحراء، في المكتبات، في المتاحف، في المسارح، في المأكل والمشرب... في كل مرة تتجلى لنا موسوعية قل مثيلها. وأذكر مثالا قد لا يخطر على بال كثير من الناس، لكنه يروق لي شخصيا لأنني أحب القيام بالطبخ. كثيرا ما افتخر بقدراتي في مجال فن الطهي. لكن اعتزازي ومعرفتي في هذا المجال تراجعا لما قرأت ما كتبه المؤلف عن بعض الوجبات الأثيوبية:
"- هنا تجد اطباقا متنوعة.. لكنها مزجت مع البهارات بعناية شديدة، هذه مثلا لحوم الضأن.. والدجاج والبقر إلى جانب عصائد الحبوب، والخضروات الطازجة، مثل الملفوف، واللفت، والطماطم والجزر، والبطاطا والقرطبيط، والبذنجان، والبطاطا الحلوة، والبطل الأحمر"[iv].
وكلنا نعلم أن اليونسكو تصنف اليوم فن الطهي ضمن التراث الثقافي العالمي. فهكذا صنفت وجبتيْ "كسكس" و"تيبو دَنْ" المتداولتين كثيرا في بلادنا وفي الدول المجاورة شمالا وجنوبا. وأتساءل: لماذا لم يدرجهما الكاتب في قوائم الطعام المتنوعة، التي ذكرها في مناطق عديدة؟
وحديث محمد السالك المفصل والدقيق عن فن الطهي في بلدان متفرقة يدل، كما أسلفتُ، على موسوعية يحسد عليها الرجل، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ومن السهل علينا، كقراء، أن نتخيل أنه اطلع على كثير من المراجع، لكن ليس من اليسير أن ندرك ونقيم الجهد الذي كلف ذلك: لا من حيث الوقت ولا من حيث المنهجية المتبعة.
لا شك أنك، أخي محمد السالك، تتوفر على خبرة فريدة في البحث نحن بحاجة إلى أن تتقاسم معنا آليتها (logiciel). ومن هذه الموسوعية والدقة العلمية والعمق الفكري، نشأ لديك أسلوب سردي جذاب تشد به القارئ دون أن تُثقل كاهله أو تَشحن مسامعه بوابل من المحسنات البديعية غير اللازمة، يعوض بها كثير من الكتاب ما عجزوا عنه من فكر وبيان.
المفتاح 5: رواية بوليسية من نوع خاص، والأمل الحذر...
وفي الختام، اتفق تماما مع الناشر لما وصف الرواية بأنها "عمل ضخم لأديب بارع"-(ص. الغلاف الأخيرة) ، لكنني أتردد عندما يقول بأن هذا العمل مبني على "التصور الكلاسيكي للرواية". قد يكون الأمر كذلك من حيث البنية الفنية العامة، لكن من حيث المضمون وثراء المادة العلمية، ومن حيث العمق الفكري، بودي أن أسأله: متى كانت الرواية البوليسية الكلاسيكية -(polar)- تؤدي رسالة فكرية وأخلاقية بهذا الحجم والقيمة؟ متى كان العلماء والباحثون-ممثلون في البروفسور حامدون وزوجته د. آرابيلا-يقومون في إطار عملهم العلمي بدور المحقق (détective)، متبعين ومتقيدين بمواثيق الأخلاق المهنية (déontologie)؟ ومتي كان الجميع ينصاع لإرشاداتهم وآرائهم: إنتيربول، الدول والحكومات (موريتانيا، إيطاليا، فرنسا...) هيئات الأمم المتحدة كاليونسكو وغيرها...؟
صحيح بأن هذا لم يقع فعليا، بل حلم ورجاء يراودان كاتبا ذا خيال واسع وخصب، ويعبران عن رغبتنا جميعا وطموحنا، لأنه السبيل الأمثل للخلاص. وقد وفق الكاتب محمد السالك ولد إبراهيم في بيانه عبر "لغز إنجيل برنابا". لقد أطلق صرخة إنذار خطيرة دون أن يغرقنا في بحر من التشاؤم المقيت، بل ترك وفتح بصيص أمل.
فهنيئا لك، أخي العزيز، على هذا العمل العظيم. وشكرا لاتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين على تلقي رسالتك بصدر رحب. وأرجو أن يحذو أصحاب القرار السياسي، حكومات، هيئات دولية وغيرها، حذوهم، وأن يواكب الجميع الرسالة طبقا للصورة الحالمة التي رسمتْ ريشتك في صيغة خبرية وبأسلوب تقريري يقومان على الخيال، لما كتبتَ:
"كان الجميع يشعرون بأنهم، من دون تنسيق مسبق- فريق عمل واحد. ظل يعمل من أجل تحقيق نفس الهدف، ولو اختلفتْ الأساليب. لكن الغايات والمآلات قد وحدتهم. وصقلت ضمائرهم... لكي يتقاسموا نفس المشاعر.. وهم ينظرون الآن إلى مستقبل ربما يكون أفضل لعالم هو في أمس الحاجة إلى ذلك؛ عالم متعدد، يحتضن كل الثقافات، ويتسع لكل الحضارات.. بكل اسهاماتها.. ورغم جميع اختلافاتها.. وينظر إليها كقيم إنسانية أسمى.. قيم خالدة.. سيظل عمق معانيها وكثافة دلالاتها الرمزية... تتعالى على صنمية البضاعة وهوس الربح.. وعبادة الأرقام"[v].
ومن العسير على المرْء أن يتصور أيَّ انسان كان لا يشاطرك هذه الأحلام الرائعة. لكن ينبغي أن نكرر دائما: جعلها ربي حقا.
آمين.
نواكشوط، 06 يوليه 2022
البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)
[HR][/HR]
i تم إعداد هذه الورقة في إطار ندوة نظمها اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين يوم 06 يوليو 2022 حول الرواية المذكورة في العنوان.
[ii] Une énigme plurivoque, comme on aime lire.
[iii] محمد السالك ولد إبراهيم: "لغز إنجيل برنابا"، صفحة 56-57.
[iv] المرجع السابق، ص. 237-238.
[v] المرجع السابق، ص. 418