يقول الشاعر الروسي بوشكين وهو يستعيد ذكرى أصدقائه الغائبين في واحدة من أجمل قصائده ( التاسع عشر من أكتوبر ) : آه ، إن دائرتنا تتخلخل ساعة بعد ساعة ، بعضنا يرقد في القبر ، وبعضنا يعانى اليتم بعيدا ، القدر يتأمل ونحن نذبل والأيام تركض ، إننا نزداد انحناء وتسرى البرودة فينا، ونقترب من بدايتنا من دون أن نشعر ، من ذا الذى سيبقى منا ، ليحتفل بذكرى رحلتنا وحيدا في شيخوخته ؟ يالتعاسة ذلك الصديق فسوف يكون بين الأجيال الجديدة ضيفا ثقيلا زائدا وغريبا ، وسيذكرنا ويذكر أيام لقاءنا مغطيا عينيه بيد مرتجفة ... ) حين أتوقف هنا يقفز أمام عينى صديقى الأديب الراحل يحيى الطاهر عبد الله ويحاورنى طيفه قائلا لى : ياأخى لقد غنينا دائما للفرح وبهجة الحياة ولميلاد عالم إنسانى جديد – تجرع كأسا من شراب الرتسينا " اليوناني أو زجاجة من الجعة التي كنا نحتسيها على ضفة نهر النيل كما اعتدنا ان نفعل معا ، وتنعم بعطايا " ديونيسوس " رب اللذات والمتع والخمر ، فقد عرفنا معا كل خمارات المدينة ، وتذكر شعارك " ثوريون في السياسة زورباويون في الحياة " فأكمل بقية قصيدة بوشكين حتى لاتكون ذكرانا لديك حزينة . فأضيف : ( فليقض يومه أنذاك مع الكأس في فرح حتى وإن كان فرحه حزينا ، ليقضه ، كما فعلت أنا صديقكم الذابل ، اذ قضيت يومى بلا حزن ولاهموم .)
1 – أيام لم تكن معه – حقا ؟
وقعت في يدى أخيرا اليوميات التي دونتها المخرجة الكبيرة الراحلة عطيات الأبنودى ( 26 أكتوبر1939 – 5 أكتوبر 2018 ) بعنوان " أيام لم تكن معه " وصدرت عن دار الفرسان للنشر عام 1999 عن الستة شهور التي كان فيها زوجها الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى معتقلا سياسيا من 9 أكتوبر 1966 حتى 12 مارس 1967 . وقد اتسمت يومياتها بما اتسمت به أفلامها من " الواقعية الشاعرية " . لقد اتخذت هذه اليوميات شكل رسائل موجهة إلى زوجها ، وقد حوت تفاصيل حياتها اليومية أثناء غيابه وقد دونتها في حينها يوما بيوم تقريبا ،ثم زودتها بمقدمة عند النشر ، حكت فيها عن نفسها وأسرتها ، وكيف تعرفت على عبد الرحمن الأبنودى الذى كان في مقتبل حياته آنذاك . لقد ظلت هذه المراسلات خفية لعدة عقود إلى أن قررت الكاتبة أن تخوض ( التجربة النفسية للعودة إلى هذه الأوراق القديمة ، ربما لأنى بعد أن بلغت هذا العمر أجدنى قد وصلت إلى مواسم الغفران التي يصلها الإنسان مع نفسه بعد أن يشرف على سنواته الستين ) وهى تقدمها كشهادة على أيام عاشتها ودونت تفاصيلها في وقتها كواحدة من جيل الستينات الذى كانت له أحلام كبيرة قصمها إنكسار هزيمة يونيو 1967 .
ورغم عنوان اليوميات فقد كان حبيبها الذى وجهت له رسائلها / يومياتها حاضرا في كل دقيقة ، وفى كل تفصيلة من تفاصيل حياتها اليومية وكان هو محور الأحداث ومناط الرواية . وتصدر الكاتبة رسائلها ببيان بما اسمته دوائر العلاقات فتبدأ بقائمة بأسماء المعتقلين – من سبقوا الى المعتقل ومن لحقوهم بالتتابع – وتورد أسماء الجيران ( ولا أستطيع أن أنسى ليلى ابنة جارتهم هدى حداد ذات الجمال الأفروديتى الملائكى الخرافى ) – فبيانا بأصدقاء الأبنودى ويحيى الطاهر عبد الله ( ويرد اسمى ضمن قائمة الأصدقاء ) فثبتا بأسماء المتعاطفين مع المعتقلين من أهالى ، وفنانين ، وكتاب وصحفيين وإذاعيين ومسرحيين ، والشخصيات الأجنبية ، وقائمة بالمسؤولين الرسميين وغير الرسميين ، وضباط المباحث العامة في مكتب مكافحة الشيوعية .
وهى تذكر كيف إعتقل عبد الرحمن ليلة أتى والده لزيارته لأول مرة بعد قطيعة ، ورد الفعل بين الأهل والجيران والأصدقاء على الإعتقال ، وتورد أشكال تضامنهم ونصائحهم وأنماط دعمهم ، وتذكر عيون المدينة الأمنية لرصد تحركاتها وزوارها وتجنيد أقرب جيرانها إليها بإرهابهم بل وبعض أفراد أسرتها أيضا ، وتبين الاتصالات التي قامت بها عبر أطراف مختلفة وبسبل متعددة لإرسال رسائل وأطعمة وأدوية ودخانا لعبد الرحمن ورفاقه ، ولاتنسي محاولات المباحث الميكيافيلية لتجنيدها ومساومتها لمعرفة مكان هروب يحيى الطاهر عبد الله الذى أفلت من القبضة البوليسية ، وتعرض لعلاقتها ببعض رفاق الحلقة الثانية من الحركة الشيوعية المصرية ممن كانوا يتابعونها بالنصح والمشورة وأبرزهم طاهر عبد الحكيم ورؤوف نظمى ، وتحكى عن الصلات بجملة من الفنانين ممن تعاطفوا مع زوجها مثل عبد الحليم حافظ ، وممن إرتعبوا من أى اتصال مثل محمد رشدى ... إلخ ويتخلل كل هذا تفاصيل الحياة اليومية من عملها في الإذاعة والمسرح وزيارات الاهل ولقاء الأصدقاء والطعام والشراب ومشاهدة الأفلام وقبض نقود بعض الأعمال . وتشير الى المسؤولين الذين جرى الإتصال بهم ثم الإتصالات الخارجية بمنظمة العفو الدولية ، وبالمفكر الفرنسي جان بول سارتر للتدخل من أجل الإفراج عن المعتقلين . وصولا إلى الكوابيس والأحلام الليلية المزعجة المتكررة التي تكتنفها الأقنعة الأمنية .
لقد كانت عطيات الأبنودى كما يبدو كاتبة رسائل غزيرة الإنتاج تعرف كيف تكشف عن واقعها الشعورى واللاشعورى بفصاحة . وحسبما عرفتها في الواقع – وقد كانت أول مثقفة ألتقى بها في حياتى حين أكملت بالكاد عامي الواحد والعشرين ولم يكن قد مضى على زواجها من عبد الرحمن سوى بضعة شهور – أستطيع أن أقول أنها أتاحت لنفسها في هذه الرسائل أن تكون نفسها بلا إدعاء ، وقد كانت إنسانة فاعلة ، مستقلة ، مليئة بالشجاعة والحيوية ، ومحبة للحياة . ومن ناحية أسلوب كتابتها فهو يرتدى أحيانا شكل المونولوج وأحيانا شكل الحوار وهى تتبع نموذج اللغة الشفهية أكثر من المكتوبة مما يجعل القارئ يعايش الأحداث وكأنه داخلها مستغرقا في حياتها اليومية . وقد تحررت في روايتها من الكوابح فأتخذت شكل عفوية منثالة عدا في بعض المواضع القليلة ( مثلا حين أتاها يحيى الطاهر عبد الله في الثانية صباحا وكان هاربا ، وجداله معها حول بعض تصريحاتها التي شاعت بشأن رفضها لهروبه ، فرغم تأثرها مما قال لم تقل ماذا قال لها في هذا الحوار العاصف ) . ورغم أن عطيات كانت أقل إرتباطا بالسياسة من عبد الرحمن فقد جمعهما الحب والقضية المشتركة / وحدة العقل والروح . ولقد كانت محقة حين أرادت مساحة خاصة لهما متفردة . ولكن كانت مفاهيمنا وقتها تعطى الأولوية للشأن العام على أي علاقة خاصة ، فتدخل الأصدقاء في العلاقة وتحول بيتهما الى كوميونة عامة لاخصوصية لهما فيها وقد كانت عطيات صادقة ومحقة فيما ذكرته عن طبيعة علاقتها بيحيى وتطلبها بعض الخصوصية . من جانبي ظلت علاقتى بها طيبة لأننى كنت الوحيد تقريبا الذى لم يتدخل في علاقتهما أي الأبنودى وهى – على حد قولها لى ذات يوم .
لن يكون مقالى عرضا للكتاب وتفاصيله ولا تعليقا على كل موضوعاته وإنما تداع على متن الكتاب ، أو رواية موازية جزئية تكملها من موقع ومنظور آخر في بعض الأمور ، أو هي جزء ضئيل من سيرة جيل ، أو " تناص " كما قد يحلو للبعض أن يقول . فقد عاصرت هذه الفترة بكل تفاصيلها قبل حدث الإعتقال وأثناءه وبعده وعرفت معظم من لعبوا فيها دورا أو آخر ، بعضهم كان من أصدقائى وبعضهم كان من المعارف . ومعظمهم كانوا نجوما في طريقهم للصعود في عالم الأدب والسياسة والفكر .
2 خليل كلفت من أربعاء الرماد الى البيان الشيوعى
تعرفت على الصديق النوبى الراحل خليل كلفت ( 26 نوفمبر 1942 – 9 نوفمبر 2015 ) في صيف عام 1964 من خلال المخرج المسرحى زغلول الصيفى الذى كان يعمل مديرا لمسرح الجيب ويشرف على فريق التمثيل الذى كنت عضوا فيه بمركز شباب عابدين . كانت لى إهتمامات أدبية وفنية وخاصة الكتابة للمسرح وميولا للقراءة الفلسفية والتاريخية . وكانت الماركسية قد استهوتنى من خلال الكتابات المعادية لها عموما التي إنتشرت مع إعتقال الشيوعيين في أول يناير 1959 وضمتها مكتبة أبى . ولم يكن من السهل الحصول على كتاب ماركسي واحد آنذاك . وكان لقائى بخليل نقطة تحول جذرية في حياتى العقلية رغم أنه كان في هذه الفترة أديبا عدميا يقرض الشعر ( ياأغنيات الملل الحزينة هذا نهار من زمان لاجديد فيه – هياكل هياكل هياكل – ولغ الكلب في إنائى ولاتراب – حيث الغيب بالنهار حمار في الليل ) وشاعره المفضل ت . إس إليوت بأربعاء رماده ، وأرضه الخراب . كان الشيوعيون على وشك الخروج وبعضهم كان قد خرج بالفعل ، وهناك شباب محدودى العدد للغاية كانت له صلة ما ببعضهم – تعرفت في هذه الفترة من خلاله على الصحفى الشيوعى أمين رضوان الذى أفرج عنه مبكرا ، وقد وفر لى كتاب المبادئ الأساسية للفلسفة لجورج بوليتزر المفكر الماركسي الفرنسي الذى اعدمه النازى . وكنا – خليل وأنا - نحضر ندوات أدبية في النادى النوبى ورابطة أبناء الدقهلية ومعظم العروض المسرحية .وكانت صلتى به أحد المداخل للتعرف على بعض الشيوعيين النوبيين ( محمود شندى ) والقاهريين ( إبراهيم شعراوى وعزت عواد ! وقد دارت حولهما أقاويل فيما بعد ) . وكان من ضمن ماقمنا به زيارة المراكز الثقافية التشيكية والروسية وغيرها لمشاهدة الأفلام الطليعية . كما دعانى لزيارة قريته بلانة ثان في النوبة الجديدة فتعرفت على أسرته الكريمة الجميلة ، واستمتعت بحفاوة النوبيين وتقاليدهم ، وكدت ان أقع في غرام شقيقته الصغرى .
مرض خليل في أوئل ربيع عام 1966 – وعلمت من أحد أصدقاءه وهو الشاعر البتانونى الراحل نجيب شهاب الدين أنه يقيم في بيت الأبنودى الذى يقوم هو وزوجته برعايته – لاأعرف بالتفصيل مادار خلال إقامته في بيت الأبنودى وبرفقة يحيى الطاهر عبد الله غير أنه "أمسى عدميا وجوديا وأصبح ماركسيا " وظل كذلك حتى وقت رحيله عن عالمنا . كان التغير مفاجئا بالنسبة لى غير أنه أسعدنى بالطبع . دعانى لزيارة بيت الأبنودى في باب اللوق لأتعرف عليه وعلى يحيى الطاهر عبدالله الذى روى لى شفويا – إن لم تخنى الذاكرة – قصة قصيرة بعنوان " الثلاث ورقات " في أول لقاء .
أما مع خليل فقد قررنا دراسة الماركسية معا ، وكنت قد حصلت على ترجمة د . راشد البراوى لرأس المال . وظللنا نقرأ في الفصل الأول أسبوعين كاملين دون أن نفهم شيئا . فاكملنا الكتاب حتى نهايته ، وقد بقى في عقولنا ظلال بعض أفكاره .
3 – وبلدنا عالترعة بتغسل شعرها جاها نهار ماقدرش يدفع مهرها
بات بيت الأبنودى ملتقى لنا ووقتها لم يكن من الممكن أن تميز بين يحيى وعبد الرحمن كانت علاقتهما فريدة في عمقها وإخلاصها . كانا قد إنفصلا عن منظمة شيوعية صغيرة هي وحدة الشيوعيين المصريين لأسباب وجيهة ، سيرد الحديث عنها فيما بعد . المهم أن بيت الأبنودى بات منتدى سياسيا وأدبيا تلتقى فيه ، بصلاح عيسي ، وسيد حجاب ، ومحمد عبد الرسول ، وغالب هلسا ، وإبراهيم عبد العاطى ، ومن الجيل الأقدم طاهر عبد الحكيم ، ومحمد عودة وغيرهم الكثير فيما بعد .
بدأ عبد الرحمن ويحيى يفكران في تكوين حلقة ماركسية تبدأ ككل الحلقات وقتها كحلقة دعائية تعرض فيها الكتب الماركسية - وكانت دار التقدم الروسية قد افتتحت لها مكتبة " الشرق " في شارع طلعت حرب لبيع الدراسات والكتب الماركسية علنا - ومثل التفكير في تكوين حلقة وقتها احتجاجا من جيل الستينات على قرار الحل الذى أصدرته المنظمات الشيوعية الثلاث الكبرى : حدتو ، الراية ، وطليعة العمال – ورفضته المنظمات الصغيرة ومنها وحدة الشيوعيين المصريين التي ناهضت مقولة وجود "مجموعة اشتراكية في السلطة " من الديموقراطيين الثوريين ، و"طريق النمو غير الرأسمالى " ، " وضرورة وحدة كل القوى الاشتراكية " -- ومثل بداية لما أسمى في جيلنا فيما بعد " غواية التنظيم ". وتبنت مقولة أن هذا النمط من الاشتراكية هو " اشتراكية رأس المال الكبير " وهو عنوان وثيقة كتبها المفكر والناقد الأدبى الماركسي إبراهيم فتحى في سجن القناطر الخيرية عام 1961 .
كان صلاح عيسي هو الأبرز في تبلوره النظرى والسياسي وقدرته على الكتابة وقتها قياسا بكل الآخرين عدا غالب هلسا . وقد استطاع ان يوظف مواقف وآراء وحدة الشيوعيين المصريين السياسية السرية في مقالات ، وإن كان ذلك بلغته الخاصة التي كان عليها ان تراعى مقتضيات النشر العلنى ، حتى وان جرى النشر في بيروت . مثلت مقالاته المعنونة : " الثورة بين المسير والمصير " التي صدرت في مجلة الحرية البيروتية الناطقة باسم القوميين العرب في الأعداد 328 ، 329 ، 330 في يوليو 1966 زادنا النظرى والسياسي ولعبت دور الكريدو ( قانون الايمان ) بالنسبة لحلقتنا التي كانت في طور التشكل .
كان يحيى والأبنودى هما أول من فاتحانى في الانضمام لهذه الحلقة وكان يفترض أن تضم صلاح عيسي ، وسيد حجاب وخليل كلفت وغالب هلسا ( ! ) وإبراهيم عبد العاطى ( ! ) وقد أدهشنى وجود الأخير فيها فقد كان شديد الاهتمام بالغرائب والاعاجيب ، واذكر أنه نشر قصة عنوانها " دعد " في أحد أعداد مجلة جاليرى 68 كما كان مولعا بالمركيز دوساد ومؤلفه " مائة يوم في سادوم " .
جرى اجتماع الحلقة الأول في بيت صلاح عيسى بشارع بورسعيد في سبتمبر 1966 ولم أحضره فقد كنت خارج القاهرة آنذاك . وحين عدت علمت من يحيى أنه جرى تكليفى بإعداد عرض ومناقشة كتاب الدولة والثورة ، ولم يتسن لى أن أعرضه أبدا فقد داهمتنا الأحداث التالية .
4 – من لذة المطاردة الى قص الأجنحة
مثلت وحدة الشيوعيين المصريين إنقساما على " حدتو" عقب تأييد الأخيرة لإنقلاب يوليو 1952 وحسم الموقف بتأييدها لإعدام عاملى كفر الدوار خميس والبقرى في سبتمبر من نفس العام . وقد ضمت فى بدايتها عبد الرحمن ناصر ، ومحمد مستجير مصطفى ، وإبراهيم فتحي ، وعلى الشوباشي وفى مراحل تالية الصحفى إبراهيم عامر وبهجت النادى وعادل رفعت وأحمد فرج ، ومحمود ندا والدكتور عاطف أحمد وآخرين . وقد تعرضت لضربة يناير 1959 التي حصدت الكوادر الأساسية فيها ، وتصدى لقيادتها الصف الثانى وخاصة المترجم أحمد العزبى ، والمهندس غازى عزام . وكان من ضمن أعضاءها الأديب سيد خميس الذى جند تقريبا معظم الأدباء الشبان آنذاك : الأبنودى والطاهر وآخرين وليس جميعهم . كما ضمت بعض خريجى معهد الخدمة الاجتماعية مثل صلاح عيسي ومحمد عبد الرسول .
كانت وحدة الشيوعيين قد تكلست ووقفت عند الادب الحزبي الذى كتب في أوائل الستينات . ولم تصدر تحليلات جديدة عقب 1961 ، غير أنها تبنت النقد الصينى للخط السياسي السوفييتى المؤيد لتوجهات سلطة يوليو ( الاشتراكية ) . كما لم يكن لها دستور داخلى أي لائحة حزبية ، وقد وضعت قضية الأمان ، وتفادى مراقبة الشرطة في المرتبة الأولى مبتعدة عن أبسط أشكال العمل الجماهيرى عقب ضربة يناير 1959 ثم ضربة تالية كان من ضمنها الدكتور عاطف احمد ، وسعد ص . الفيشاوى ، وسيد الزنارى ، والناقد غالى شكرى . وكانت هذه هي جملة الإنتقادات التي وجهها هؤلاء الأعضاء من الأدباء لها وأدت الى تركهم صفوف هذه المنظمة . أو وفقا لتعبيرات صلاح عيسي " كنا نمارس لذة المطاردة ... ولم تمنحنا أكثر من الإحساس بأننا رفضنا مايجرى ... وعجزت او عجزنا نحن – ان نمدها للشعب الذى نحلم به ونفكر فيه " . أو " ... لم نتعلم منها سوى الخوف من المخبر الذى يمشى خلفنا وكيفية التخلص منه " وفقا لتعبير المناضل محمد عبد الرسول .
تضافرعاملان وراء قرار إعتقال هذه المجموعة من الشباب بالتتابع في النصف الأول من أكتوبر 1966 الأول هو مجموعة المقالات التي نشرت في مجلة الحرية الممثلة للقوميين العرب آنذاك والتي استهلت نقدا للنظام الناصرى ساهم فيه صلاح عيسي بمقاله المطول : الثورة بين المسير والمصير كما أشير عاليه ، ومحمد كشلى ، ومحسن إبراهيم ، ووضاح شرارة ، وجرى عرض كتابى أنور عبد الملك : مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون ، ومصر الناصرية لحسن رياض ( سمير أمين ) . ورغم أن صلاح عيسى لم يكن وقتها قوميا عربيا فقد إعتبر لدى الجهات الأمنية كذلك . كان مجمل المقالات وعروض الكتب صادما للنظام الناصرى فقد أبدت جرأة غير مسبوقة ، وجميعها تنتقد الأوضاع " الاشتراكية " في مصر من منظور ماركسي بهذه الدرجة أو تلك . وأثارت المقالات ردود فعل إيجابية وسط الماركسيين الشباب المحدودين في مصر ، لأنها انتقدت حركة يوليو من على يسارها ، ووسمت ارهاصات التوجه الماركسي الذى سينحوه القوميون العرب فيما بعد . وأدى " تحالف " معظم الشيوعيين المصريين والسوفييت مع عبد الناصر الى اعتبار كل نقد موجه للنظام " صيني " او يسارى متطرف . ( وقد تعرفت في هذه الفترة بصلاح عيسى حيث التقيت به من خلال صديقى التاريخى خليل كلفت في نادى الاجتماعيين .)
كان للقوميين العرب فرع قطرى في مصر يقوده المحامى سمير حمزة وقد حلوا الفرع وانضموا لمنظمة الشباب وعين سمير حمزة نائبا للدكتور حسين بهاء الدين في رئاستها .
كان العامل الثانى في صدور قرار الاعتقال هو رفض منظمة وحدة الشيوعيين المصريين لقرارات الحل التي أصدرتها المنظمات الشيوعية الأخرى في غضون 1964 – 1965 واستمرارها في العمل التنظيمى . ويشير الروائى الراحل جمال الغيطانى في احدى الندوات التي عقدت عن ادب السجون أنه علم بعد خروجه من المعتقل ان " زميلا سلم أسمائهم للمباحث العامة " ، ويشير سيد حجاب في حوار له قبل رحيله أنه " انضم لوحدة الشيوعيين بعد تجنيده وهو طالب بكلية الهندسة من قبل كامل داود – وهو ابن عم حسن طلعت داود مدير المباحث العامة ومؤسسها في أغسطس 1952، وعراب إنشاء قوى الأمن المركزى بعد مظاهرات فبراير 1968" وقد استغل احتياجه المالى لحثه على الوشاية برفاقه كما يؤكد الابنودى هذه الرواية وكذلك الصحفى محمد العزبى .
5 – تغازل العصافير قضبانها .. دوق زينا حلاوة الزنازين
قبل ان ينتهى النصف الأول من أكتوبر 1966 كان قد تم اعتقال الأبنودى ، وحجاب ، وعيسى ، ومحمد عبد الرسول ، وسيد خميس ، والغيطانى ، وهلسا ، وعلى الشوباشى ، ورؤوف نظمى ( محجوب عمر ) ، احمد ومحمد العزبى -- وهما أخوان ويجرى الخلط بينهما أحيانا والأول فقط هو من كان قياديا في وحدة الشيوعيين -- ، وغازى عزام ، واحمد فرج وآخرين . وقد سبقهم بفترة طويلة إبراهيم فتحي ،والمحامى اليسارى عادل امين ، والعاملان منصور زكى ومحمد عبد الغفار .
تمكن يحيى الطاهر عبد الله من الإفلات من الضربة البوليسية بسبب تركه الإقامة في منزل الأبنودى قبلها بفترة وجيزة مما سأتناوله في موضعه .
كانت سلطة يوليو ماتزال في ذروة سطوتها المخابراتية – البوليسية حيث مارست قبلها ولمدة عام كامل او يزيد كافة صنوف القمع والتعذيب على متآمرى الإخوان المسلمين من أنصار سيد قطب وغيرهم بدءا من صيف 1965 ، وكان من المنطقى ان يحظى المتمردون على النظام الناصرى - سواء كانوا شيوعيين قدامى من رافضى الحل ، او شيوعيون جددا يتبنون الخط الصينى ،او قوميون عربا انتقدوا مااسمى " التجربة الاشتراكية " – بنصيبهم من القمع والتعذيب ، ولم يستثنوا أحدا تقريبا من الضرب والإهانة ، والتعليق والسحل الخ . وأرادوا كسر إبراهيم فتحى المسؤول السياسي لوحدة الشيوعيين أمام الشباب الجدد ، فرفض طلبهم القول " أنا مره " . وحين قيدوه لم يجد سوى رأسه يقاوم بها في جدار حائط . ثم نال النصيب الأكبر من التعذيب محمد عبد الرسول وهو الماركسي الصلب لأن المباحث العامة وجدت في حوزته وثائق ومنشورات سرية . ويقول عنه سيد حجاب في واحد من حواراته " تعرض لكل أنواع التعذيب التي تتخيلها والتي لاتتخيلها من الجلد والصلب والتعليق والسحل وكل شيء ولم يغير أقواله " . ويورد الصحفى محمد العزبى شهادة الأبنودى عن تفاصيل الضرب والاهانة ، وكذلك صلاح عيسي الذى كتب عن ضربه وشتمه وتعليقه في المشجب الحديدى من قبل الرائد عاصم الوكيل الذى تولى مهام التعذيب آنذاك .
وقد كانت تجربة السجن مؤثرة في حياة الأبنودى لأنها شخصت عطشه الحقيقى للحرية ، رغم أنها لم تتجاوز الستة شهور في حياته كلها – يقول الأبنودى : " كان حائط السجن مثل كرسي الاعتراف ، اذا اردت ان تعرف نفسك جيدا اسند ظهرك الى الحائط ، حتعرف قد ايه شجاع او قد ايه جبان ، وبتخاف من ايه وبتخاف على ايه ، ودرجة صمودك قد ايه ، وكيف ترى الناس حولك ." وبعدها بعقود يدرك ان " الزنزانة " ليست المترين في مترين " بحسب صورتها التقليدية ، لكن قص الأجنحة وتكبيل القوانين ولى اعناقها نوع من تحديث صورة الزنازين ! "
وشهدت فترة الإعتقال وفق التقليد الشيوعى تنظيم الحياة العامة المشتركة للمعتقلين ، خاصة مع وجود القدامى من ذوى الخبرة ، وعقد الأمسيات الأدبية ، وتنظيم الإحتفالات والغناء ، ولحظات الترفيه المتناسب مع واقع الحال ، وتمكن الأبنودى من إنهاء " قصيدة أحمد سماعين " آنذاك ، ورغم كل الأوضاع القمعية يعتبر الأبنودى ان الأيام التي قضاها في معتقل طرة هي " الأيام التي لم أكف فيها عن الضحك " .
6 – يحيى الطاهر عبد الله بلا طوق ولا اسورة
توقع قسم مكافحة الشيوعية ان يجد يحيى مقيما مع الأبنودى ، ولم يبلغه أنه ترك المنزل قبل حوالى شهر من تاريخ المداهمة في 9 أكتوبر 1966 اثر خلاف مع عطيات الأبنودى . وكان قد جرى إعتقال صلاح عيسى وغالب هلسا قبلها في يوم 4 أكتوبر مما جعل الإعتقال من الجميع أمرا مترقبا . وكما ذكرت عطيات " لم تكن المباحث تعرف أى شيء عن يحيى أو صورته " .
كان يحيى عضوا في منظمة وحدة الشيوعيين المصريين بالفعل ، ورفيقا في خلية واحدة مع صلاح عيسى وقد إختار لنفسه اسما حركيا " سعيد مهران " وهو اسم بطل رواية نجيب محفوظ المعروفة اللص والكلاب . وقد إنسحب من المنظمة ضمن المجموعة التي إنسحبت للأسباب التي عرضتها عاليه دون ان يتخلى بالطبع عن فكره السياسى الماركسى ولاعن ادراكه للضرورة التاريخية للتنظيم الشيوعى الفاعل في الواقع .
أفلت يحيى من القبضة البوليسية وتوجه الى منزلى كأول مكان للإختفاء – وكان قد تعرف قبلا على أسرتى واعتبرته أمى ككل أصدقاءنا أخا لنا يشاركنا في كل شيء ( سي يحيى -هكذا كانت تناديه ) ولم تكن إقامته لتثير اى تساؤل أو شكوك خاصة لدى شقيقى عادل ومجدى . وقتها لم أكن معروفا بعد لدى المباحث العامة ، رغم ترددى على منزل الأبنودى وشيوع معرفة صداقتى بيحيى مما سهل مهمة هروبه وإختباءه . ولم أشعر وقتها بأننى أقوم بعمل فذ او استثنائى وانما أقوم بواجبى كماركسي مناهض للنظام رغم حداثة ماركسيتى ، وبواجبى كصديق مقرب ، وأخيرا برغبتى فى ممارسة التجربة وتذوق متعة مراوغة السلطة .
ولكن يحيى لم يكن ليقنع بالقراءة والكتابة والإستماع للمذياع ( لم يكن لدينا تلفاز ) وتقييد الحركة ورؤية صديق واحد مشترك هو خليل كلفت . وبدأ يضيق بالإنضباط الذى أصررت عليه ، وتدخل الأخير لإقناعى بأهمية أن يلقى أبناء الأديب الكبير عبد الرحمن الخميسى ( وكان ذلك سببا للقائى بزوجتى الأولى السيدة ضياء الخميسى وأم ابنتى البكر ميادة ) . فوافقت على مضض ، فأتوا لزيارته في مخبئه . وبعدها أصر على أن نستغل وقت الإفطار في رمضان ونذهب لزيارة أحمد مجاهد المحامى في منزله بشارع مريت باشا المواجه للمتحف المصرى بميدان التحرير ، وكان هو والأبنودى يسمونه " الخال " أي أنه الخال الأصلى قبل أن يتسمى الأبنودى بهذا الاسم – وقد كان من أنصار حزب مصر الفتاة في الأربعينات ، ثم حزب العمل الإشتراكى في السبعينات في عصرى السادات ومبارك – وكانت له مواقف مشرفة في الدفاع القانوني عن الشيوعيين المصريين عقب حملة أول يناير 1959 ، فلاحا ، شهما أصيلا ، كريما من دكرنس .
إستقبلنا أحمد مجاهد بترحاب شديد هو وزوجته الفنانة المسرحية عواطف رمضان ، وكان هناك بالمصادفة الصحفى المعروف منير عامر الذى تساءل عن " هذا الرجل الغامض " الذى هو أنا بشكل مرح ، وبالطبع لم يكن يحيى ليقدمنى معرفا بى آنذاك . أفطرنا معهم على مائدة خشبية أرضية بزخرفات من الطراز الياباني ، وتحدث أحمد مجاهد عن طفله الشجاع الذى يلقى بنفسه من ارتفاع شاهق على ذراع أبيه دون أن يخاف ، ونفى يحيى أن تكون هذه شجاعة ورجح أنها عدم إدراك ، وتحدث منير عن " باشا " حبيبته التي إلتقاها قبل مجيئه مباشرة وهى تقود سيارتها . أما عواطف فقد كانت حريصة على معرفة أحوال يحيى وظروف حياته وقد طمئنها بأن كل شيء على مايرام . وطلبت منه أن يتصل بها إن احتاج لأى شيء . وغنى عن الذكر أن زوجها الذى ناداه الأبنودى ويحيى دائما ب " الخال " قد قام بواجبه كخال إزاء الإثنين ماديا ومعنويا وقانونيا كمحام ذو خبرة .
الإثم الذى لايغتفر في فلسفة هيمنة الدولة المخابراتية – البوليسية هو العصيان لأنه يهز صورة " جبروت السلطة " . وكان الإفلات وتفادى القبض هو أحد هذه الآثام الكبرى – اذ كيف يمكن ان يفلت احد من هذا الأخطبوط القمعي . وكان ينظر لذلك من جانب حلقة محدودة من الأصدقاء الماركسيين والمتعاطفين على المستوى الشخصى بوصفه شيئا يحمل معنى التحدى إزاء نظام يوليو في عز جبروته ، حيث كان من الممكن ان يذهب اى احد " ماوراء الشمس " حسب التعبير السائد في تلك الأيام لأى مدة ولأقل الأسباب . لم يكن هناك أي تنظيم يقف أو يساند يحيى أثناء هروبه ، كما أنه لم يكن " محترفا ثوريا " متفرغا للعمل السياسي ينفق عليه الأبنودى بأمر من التنظيم ، بعكس الإنطباع الذى ساد لدى المباحث العامة والبعض الآخر آنذاك – وقد بدأ هربه عندى وفى منزل والدتى في حى السيدة زينب حيث أقام ، وبعد كثرة المترددين لزيارته بناء على طلبه ودعوته ، وبعد القبض على ( على كلفت ) واختطافه لمكان مهجور وضربه ضربا مبرحا ، وهو مريض القلب لمعرفة مكان يحيى ، اقترحت عليه مع خليل كلفت ان نغير المكان كل فترة ، فإنتقلنا عند صديق مراهقة لى كان طالبا في المعهد الزراعى بمشتهر ، ويقيم في مساكن الأميرية هو المهندس الزراعى الراحل وفيق السيد الشع ، ومدير مزرعة أبحاث جامعة عين شمس فيما بعد . ثم أقام بعد فترة في بيت أبى مع أخى عادل العليمى بالحلمية الجديدة لبعض الوقت ، حيث كان لأخى غرفته الكبيرة المستقلة التي كنت أشغلها أصلا . ولكن يحيى بقلقه وتحفزه وحيويته لم يكن يقر على حال ، ولم يقبل القواعد المعروفة لتأمينه وحمايته من القبض عليه ، فبدأ يتردد على الكثير من الأصدقاء ويلتقى بأصدقاء الأصدقاء من أصحاب الفضول ، وبات معرضا للقبض عليه في أي لحظة . وأصر على أن يلتقى بعلى كلفت ليعرف منه تفاصيل القبض عليه واستجوابه بشأن مكانه ، والتقينا به في مقهى بالفعل خلف منزلنا بشارع مجلس الشعب ، ثم قرر أن يذهب لمنزل إبراهيم عبد العاطى بعابدين بشارع الشيخ ريحان وحده – وهو اديب كان يعمل بمجلس الدولة .
تولد لدى آنذاك شعور لازمنى فيما بعد وهو أن الأدباء والشعراء ومن ماثلهم لابد أن يوضعوا على مسافة من أي عمل حزبى منظم نظرا لفرديتهم المفرطة ، واستبدادهم برأيهم ، وعدم التزامهم بأصول العمل السرى وبديهياته . وقرر يحيى أن ينتقل الى حيث شاء بحيث يكون مسؤولا عن حركته ( علق المثقف الكويتى عبد الله المسعود لعطيات الأبنودى عن طريقة يحيى في التحرك فيما بعد قائلا " ده موش هروب من الاعتقال ، ده شكله بيتفسح ) . فاختار الذهاب لأصدقاء له في محور - الجيزة وخاصة عزبة أبو أتاتة - والعمرانية والوراق – وبدأت أسمع أسماء ( الشيخ ) محمد عبد السلام والمرحوم طارق جويلى أخ الأديب والفنان خالد جويلى ، وآخرين لم يكونوا معروفين لدى .
واتفقنا ان نتراسل من خلال خليل كلفت هو باسم " عوليس " وانا باسم "نسطور الحكيم " حيث كنا قد انتهينا لتونا من قراءة الإلياذة والأوديسه لهوميروس وإستعرنا أسماءنا منها . واخترنا اسما لصديقته هو " الأولمبية " وللمحامى احمد مجاهد هو " أخيل - صاحب العفشة التحتانية " لأنه كان دائم الاستعمال لهذا التعبير الأخير .
طلب منى ان أطمئن صديقته عليه وعلى أحواله وسلمنى رسالة لتسليمها اليها وهى من أهدى لها مجموعته القصصية الأولى " ثلاث شجرات تثمر برتقالا كثيرا " فأرفقت الرسالة بقطعة شيكولاته وسلمتها إليها ، ولعبت دور رسول الغرام الى حين ، وربما كانت هذه هي النواة الواقعية لشخصية صانع احجبة المحبة الشيخ العليمى التي صورها في روايته الطوق والإسورة فيما بعد .
اشتد الطلب على يحيى ، وكلف الضابط هانى الكمونى الذى عمل في قنا وكان يعرف " الجنوبيين " وسبق له الإحتكاك بهم فيما يبدو ، لمتابعته والقبض عليه .
أعلنت عطيات الأبنودى عدم موافقتها على هرب يحيى ، لأنه يؤكد للمباحث وجود تنظيم ، كما أنه يضر بالمعتقلين حيث يطيل حبسهم . كما لاتوجد وظيفة سياسية لهذا الهروب . واعتبرت هذا التصرف بمثابة دون كيشوتية ليس لها مايبررها .
وربما كان لرأيها وجاهة في ظروف أخرى مغايرة فليس الهرب في كل الأوضاع والاحوال أمرا مرغوبا .
7 – من معطف الجلد .. الى الكابوس الأسود
جرى القبض على كمال الأبنودى شقيق عبد الرحمن لسؤاله عن مكان هروب يحيى مع الوجبة المعتادة من الضرب والشتم والاهانة . ( وماحدث لكمال الأبنودى وماحدث لعلى كلفت من قبل وماكان سيحدث لشوقى حجاب وماسيجد من أحداث ، كله بسبب يحيى الطاهر أفندى ) هكذا رأت عطيات الأبنودى الأمر . ولم يخب توقعها طويلا ، فقد اعتقل محمد عبد الغفار ، وبعده مختار الحجيرى ، وجرى تهديد والد عطيات لنفس السبب . ثم إستدعاها الرائد منير محيسن – وقد عرفته شخصيا فيما بعد عام 1968 حين اعتقلت لأول مرة – وأراد ان يتأكد من وقائع شجارها مع يحيى وحقيقة تركه منزل الأبنودى ، وحاول كالعادة إغوائها بالتعاون معهم لأن ( القضية مفتوحة ولابد من القبض على يحيى ولازم تساعدينا علشان عبد الرحمن يرجع البيت ( وأكد لها ان هذا عمل أخلاقى مائة في المائة ، وأن المصلحة العامة ومصلحة الأمن والوطن ومصلحة عبد الرحمن ومن معه في أن تساعد المباحث العامة على معرفة مكان يحيى ! وتكرر الاستدعاء مرة أخرى من الضابط هانى الكمونى وأحد رؤساءه .
ولكن رفعت السعيد الذى كان من أبطال حل التنظيمات الشيوعية وسكرتيرا لمكتب خالد محيى الدين آنذاك كان له رأى آخر وفقا لما ذكرته عطيات الأبنودى : ( ... ان المباحث تعرف طريق يحيى الطاهر وهو متأكد من هذا بدون نقاش ...المباحث رأيها ان طول مايحيى هارب سوف يكون هناك دائما شخصا ما مسؤول عن هربه ، وبالتالي يكون هذا الشخص مسؤول التنظيم الوهمى الذى لايعرف جهاز المباحث اثباته حتى الآن ... )
وتورد عطيات رواية هامة على لسان رفعت السعيد عن عضو قديم في حدتو جرى فصله منها بعد ان ضبط معه " كارنيه المباحث " أتاه يطلب " تبرعا" دعما ومساندة ليحيى في هربه محاولا الإيقاع به وبخالد محيى الدين .
وهو مايؤيد احتمال ان يكون مكان اختباء يحيى معروفا في أيامه الأخيرة من خلال هذا الواشي الذى رفض رفعت السعيد ذكر اسمه . وقد قبض علي يحيى يوم 14 فبراير 1966 بينما كان يسير في شارع قصر النيل من ناحية العتبة في السادسة مساء – حسب رواية خليل كلفت التي نقلتها عطيات في مذكراتها .
لقد كتب يحيى عن فترة الهرب قصتين تعكسان مرحلتين مختلفتين فيها الأولى هي : معطف من الجلد ( كان اسمها الأول الذى غيره هو : جاكت من الجلد للمطر ) وقد كتبها حين كنا معا – وتتضمنها مجموعتة القصصية الأولى : ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا ، ومما يرد فيها ( إنهم يقلبون عليك الدنيا : أترك هذا المكان وأبحث عن مكان آخر – كان صديقى خليل وكنا نسكن سويا ، وكنت أحبه – قال إنهم هم - لاهو - ... وقال أترك هذا المكان فورا قلت لماذا ؟ ) قال إنه الجنون – وأن الأرض تدور وإننا في 1966 ... ) وفى موضع آخر ( رددت وقد إنتابنى زهو : إنهم يبحثون عنى في كل مكان .. بالصعيد .. في العاصمة – بالمقاهى .. سألوا كل معارفى .... ) وفى موضع ثالث ( ... ستكون درجة الجنون الذى يطاردنى قد هبطت قليلا )
أما القصة الثانية فقد روى لخليل كلفت ولى أن هناك من تعمد تخديره ذات ليلة حين كان في عزبة أبوأتاتة بالجيزة وأنه يشك في صلة هذا الشخص بالمباحث العامة لأنه فقد وعيه تماما ولايدرى ماذا حدث له بالضبط . واسم القصة " الكابوس الأسود "، وهى مغرقة في الكافكاوية ، ولم أقرأ مثيلا لها الا في الرويات الأسطورية عن تفاصيل عذابات الجحيم . ففيها حديث عن " أفرع شجرة الحشيش النورانية " ورؤى وتصورات وهلاوس وأحلام كابوسية ضاغطة وقد ( كان محاصرا بالسكون والظلمة والتعب – وقد كف عن النداء ، أحس بأن روحه منهكة ، وأنه فعلا مضطهد ومقهور ، وأنه حقيقة يتعذب ، شعر بالخوف لأنه مخمور ووحيد . )
8 – أين إختبأت ياإسكافى المودة ؟
هل كان يمكن للمباحث العامة أن تتغاضى عن سؤال يحيى عن مكان إختفاءه أول ماأختفى ؟ حسب إفادته لخليل كلفت ولى أنه صفع وضرب باللكمات وكان سؤاله عن منظمة وحدة الشيوعيين روتينيا ، والواقع أنه لم يعترف بشئ على رفاقه ممن سبقوه الى المعتقل ومن زاملهم في وحدة الشيوعيين . ولابد أنهم إكتشفوا أنها كانت شبحا من الناحية الفعلية ، وأنه لم يكن زعيما هاربا وقف خلفه تنظيم قوى .
لم يبق يحيى في المعتقل أكثر من أربع أسابيع ، ثم أفرج عنهم جميعا بناء على تدخل من الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ، الذى رفض في البداية قبول زيارة مصر بينما يعتقل فيها التقدميون ، ووعده الرئيس عبد الناصر بالافراج عنهم يوم مغادرته مصر . وقد قامت الفنانة التشكيلية الراحلة إيفلين بوريه بحث والدها السويسرى على الإتصال بسارتر وابلاغه بوضع المعتقلين الماركسيين ومنهم زوجها الشاعر سيد حجاب آنذاك . تابع أهلها الإتصال بسارتر من الخارج ، وبعد أن وصل للقاهرة مع سيمون دوبوفوار تمكنت إيفلين من لقاءالأخيرة واعطتها رسالة لسارتر امام مصعد الفندق . وأسفر تدخله عن الإفراج بالفعل عن المعتقلين جميعا يوم مغادرتة مصر في 12 مارس 1966 .
كان يحيى أول من ساعدنى على الاتصال بعبد الفتاح الجمل المثقف والروائى والمشرف على الصفحة الأدبية لجريدة المساء ، وأوصل اليه لأول مرة قصتى المترجمة " نهر شان الجليدى ، وهى قصة كورية ، ومن المصادفات أن كوريا الشمالية ضربت احدى الغواصات الامريكية " بويبلو " آنذاك فنشرت القصة على الفور في 31 يناير 1968 ، وبعدها قصة مجرية عنوانها " لاغفران " ، وآخرى تركية بعنوان " البيت الحجرى " .
كان يحيى شخصية استثنائية فريدة قلما تصادف مثلها وقد وصف نفسه كما يلى ( عشقت الشعب والقص والخمر وبعض النساء ورفضت أن أكون إلا ماإخترت " ، " فرحى النهائي، والعرس الأخير هو الثورة وتحرك الشعب الراقد " ، " ربما يتعذر على واقع لاإنسانى أن يعطيك أشياء إنسانية .. يعنى الواقع الطبقى واقع لاانسانى وكل مايمكنك ان تفعله هو ان تحاول الحياة كرجل محترم .. وان تسعى الى نفى إغترابك وهذا لايكون الا بالثورة ". وكان صادقا فيما قاله عن نفسه .
كما وصفه رفيقه في وحدة الشيوعيين المصريين وصديقه صلاح عيسى بأنه "فارس القص المقتدر ، الذى يوجز سيرة جيلنا " الطاووس المشاغب " ، " أمير الحكى " " الغماز ، اللماز ، الهجاء ، الغضوب ، المتشاجر مع ذباب وجهه ، طفل البرارى " وهو وصف واقعى وأمين .
وقد كان الأبنودى هوأقرب الناس اليه وقد عاشره سنوات معاشرة يومية . ويصفه بأنه شخصية بديعة ومبدعة به مس من الجنون ، بارعا في استجلاب العواطف ، وكان أينما يذهب تمشى الشجارات والمشاكل بين أقدامه . (... فقد كان يعتقد أنه يرى الحقيقة وعلى الجميع أن يروا مايراه والا كانوا متخاذلين ... ) . ولم يكن يتورع عن إستخدام حقوق صديق بدلا عنه ودون إستئذانه اذا خيل اليه ظنا منه ان ذلك كان صوابا .
كنا في مقهى إيزافيتش بميدان التحرير ( مكان كنتاكى الآن ) بعد هزيمة يونيو 1967 ، وشاهد صديقه الفلسطيني الشهيد مازن أبو غزالة وقال له ماذا تفعل في مصر ؟ تدرس هنا ؟ مكانك مع المقاومة الفلسطينية . وبالفعل شد مازن رحاله وانضم للمقاومة الفلسطينية وكان من أوائل من إستشهدوا من منظمة فتح .
كما يحكى الوردانى في واحد من كتبه الأخيرة " الإمساك بالقمر " وهو بمثابة سيرة فكرية سياسية له ولجيلنا ، عن يحيى أيضا وقد عكس جانبا من شخصيته خاصة الورطات التي وضع فيها بعض أصدقاءه دون أن يشعر أنه قد فعل شيئا لم يكن منتظرا ولامتوقعا . وقد صوره الوردانى تصويرا دقيقا بنزواته ، وعواصفه الغاضبة ، وفرديته الجامحة ، وإعتداده بنفسه ، وثقل وطأته على أصدقاءه، وتقديسه لإله الخمر اليونانى ديونيسوس ، وجمال أدبه الباقى .
حين أفرج عن المعتقلين زارنى يحيى مباشرة وأخطرنى بأنه ترك عنوانى لدى المباحث العامة كمكان لإقامته ، لأنه لم يشأ ان يكتب عنوان الأبنودى ولا ان يتطفل على اى احد آخر . ولابد أن أشدد على انه ان لم يكن أخبرنى لم أكن لأعلم بذلك وهو مايدلل على ان الأمر يدخل في اطار تقديراته الخاصة الاستثنائية ، ونزوعه أحيانا لاستخدام حقوق اصدقاءه . وكان فرحى بخروجه مع الأصدقاء المعتقلين أقوى من إستيائى لترك عنوانى لديهم .
وحين اعتقلت لأول مرة في مايو عام 1968 مع محمد عبد الرسول ، وصلاح عيسي ، واحمد الخميسي في أعقاب مظاهرات فبراير من نفس العام ، وكنت مازلت أصعد درج مبنى المباحث العامة بلاظوغلى ، فوجئت بمن يهبط من اعلى الدرج ليسألنى ( أنت اللى خبيت يحيى الطاهر عبد الله ؟ ) فأجبت عفويا وقد فوجئت تماما ( يحيى الطاهر عبد الله مين ؟ ) فأردف بغضب ( كنت عارف انك حتقول كده ) . وكان هذا الشخص هو المقدم منير محيسن الذى لخص بفظاظة ودونية سمات الجهاز النموذجية في عهد " مراكز القوى " تحت قيادة شعراوى جمعة آنذاك .
كان التنظيم الشيوعى المصرى قد تأسس في 8 ديسمبر 1969 . وكنت قد نلت عضويته اثناء اعتقالى . وبدأت على الفور في النشاط الحزبى مع خليل كلفت الأمر الذى أدى لتباعد لقاءاتنا مع يحيى . ورغم ميوله واتجاهاته السياسية لم نفاتحه في وجود التنظيم او نفكر في ضمه لتعذر خضوعه لأى انضباط حزبى .
حين تزوج يحيى من أخت الدكتور عبد المنعم تليمة أستاذ الأدب المعروف لم أحضر وخليل كلفت زفافه في مارس 1975 فقد كنا معتقلين بسجن الحضرة بالإسكندرية على ذمة قضية أمن دولة . وبعد الافراج عنا على ذمة القضية صدر قرار حزبى بضرورة اختفاءنا من الحياة العلنية وممارسة النشاط السرى .
التقيت به بعدها بفترة طويلة وكنت قد بدأت التواجد علنا بقدر ما . زارنى في بيت والدتى وكانت رواية الدف والصندوق قد صدرت في العراق فأهدانى نسخة منها وقد كتب عليها : ( الى صديقى سعيد العليمى الطاهر النقى ) وقد أهديتها الى ابنته الدكتورة أسماء يحيى الطاهر عبد الله – أستاذة المسرح بجامعة حلوان . وكان قد أسمى إحدى شخصيات روايته الطوق والاسورة " الشيخ العليمى " تكريما لى كما قال .
كان آخر لقاء لنا في أواخر السبعينات وحدثنى عن مشاكل بينه وبين صهره الدكتور تليمة الذى انتمى الى مايسمى بالتيار الثورى وقتها وكان اتجاها مواليا تماما ومدعما لأنور السادات الذى انتفض الشعب ضده في انتفاضة يناير 1977 . ولم يقبل يحيى ضغوط بعض اعضاءه في قبول الانضمام له ، ولم يكن يحيى بتكوينه وبفكره السياسى الذى رفض كل تجليات النظام الناصرى لينصاع لما يخالف معتقده حتى وان حاول البعض تنغيص حياته الخاصة بسبب ذلك .
علمت بالحادث الأليم الذى رحل فيه يحيى في 9 ابريل 1981 من الصحف عندما ( تمكن الموت من الريح ) على حد قول الأبنودى .
ولابد ان أردد الآن مع يحيى ماورد في قصته " شموس " ( والأيام التي مرت من العصى أن تعود : هذا مايحزننى . )
9 – رمان وسيرة الطفولة والشباب
روى الأبنودى سيرته الذاتية في طفولته ومراهقته ومطلع شبابه في كتابه " أيامى الحلوة " ( كانت كنايته رمان ) وهى الأيام التي قضاها في أبنود بمحافظة قنا . وهو يقدم عالما كاملا بكل مافيه من واقعية حياتية وبؤس وفاقة وعوز ، حيث يخيم السحروالخرافة والغجر والأسطورة ، حيث الرعى والسمك والكلاب والعقارب والثعابين ، حيث تصدح أغانى العمل في الأفراح والأحزان والمناسبات ... وتكتمل هذه السيرة بكتاب آخر كتب على لسانه هو " الخال " حيث يحكى عن أيام القرية ليتجاوزها الى تجربته الحياتية والشعرية في كليتها في المدينة .
وربما سقطت بعض الأشياء من ذاكرته فعقب هزيمة يونيو 1967 تحول منزل الأبنودى الى بؤرة " ثورية " تشهد لقاءات شبه يومية تقريبا ذات طابع سياسي ، فقد هزتنا الهزيمة جميعا حتى الأعماق ، ويمكنك أن تلتقى عنده الدكتور محجوب عمر ( رؤوف نظمى ) ، وطاهر عبد الحكيم ، وصلاح عيسى ، ومصطفى الحلاج الفنان التشكيلى الفلسطيني ، والدكتور أحمد يونس العائد لتوه من أسبانيا ، والصحفى الناصرى محمد عودة ! ومحمد عبد الرسول ، وخليل كلفت ، وعبد الرحمن محسن المقدم الأديب الضابط العائد من الأسر الإسرائيلي في عتليت ، وإبراهيم عبد العاطى القاص والمستشار في مجلس الدولة ، وجارته السيدة هدى حداد مع بنتيها الجميلتين ، والفتاتين المراهقتين منى الخميسي وأروى صالح .
حين تظاهر الطلاب في فبراير 1968 احتجاجا على الاحكام الهزلية التي صدرت ضد بعض قادة الطيران ، أنعش هذا التحرك آمالنا في خروج الجماهير من أسر النظام عقب ان غاب وعيها لسنوات بعد ان صودرت حركتها . وتحمس الأبنودى وصلاح عيسي لكتابة منشور وتوزيعه – وكان منزل عبد الرحمن محسن المقدم هو مكان اللقاء لمناقشته وصياغته نظرا لوضعه الأمني الجيد كضابط بالقوات المسلحة ( مؤلف رواية زمن حاتم زهران فيما بعد ). وحالت ظروف فنية دون طباعته . غير أن بعض المجتمعين قرروا النزول للشارع مع المتظاهرين : صلاح عيسي ، محمد عبد الرسول ، أحمد الخميسى ، وسعيد العليمى .
وفى صيف 1969 في معتقل طرة السياسي بعد اعتقالنا نحن الأربعة فوجئنا بوزير الداخلية شعراوى جمعة يستضيف الأبنودى في برنامج تليفزيونى ، ورغم أنه كان بادى التعاسة في اللقاء ، الا ان المشهد بدا لنا نحن أصدقاءه نذير شؤم – لم قبل الدعوة !
كان آخر لقاء مباشر لى بالأبنودى في أبريل 1970 –عقب الافراج عنى بعد عامين وقد إستضافنى وعطيات بكرمهما المشهود إحتفالا بى – أما آخر اتصال به فكان في التسعينات حين أتى لدولة البحرين وعلمت بوجوده في فندق الخليج فأتصلت مرحبا به ودعوته للقاء فأعتذر بأنه على موعد مع وزير الاعلام طارق المؤيد . وقد فعل نفس الشئ مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش حين كان في بيروت .
10 - الأبنودى وتناقضاته ودائرته المقطوعة
تناقضات الأبنودى ومراوحته بين قطبى السلطة والمعارضة خلال مسيرته الشعرية ملحوظة ، وكنت أتوقع من صديقين عزيزين راحلين هما الناقدين الأدبيين إبراهيم فتحى وخليل كلفت أن يتناولا تلك المراوحة في مقالين كانا تأبينا ووداعا له حين رحيله . فقد كتب إبراهيم فتحى مقاله " الشاعر العظيم والأعماق الشعبية " عن الجانب الفني المبدع لديه واعتبر شعره ملتحما بالحياة ، وانشاد مصاحب للحركة الثورية وإن إستدرك ( وقد يختلف حول بعض مواقفه كثيرون ، ولكن لاخلاف على عبقريته وإبداعه ) ، كما كتب خليل كلفت مقاله " الأبنودى معجزة لاتموت " مشيدا بإبداعه ( البوليفونى الشامل المتعدد الرؤى والطبقات والألحان والألوان الذى كان ثمرة ناضجة لأخوته الحميمة مع الملايين من بنات وأبناء شعبه يلهمونه ويلهمهم . يغذونه بتجربتهم، فيغذيهم بابداعه ... ) ولم يتناول هذا التناقض – في حدود معرفتى – سوى الكاتب الماركسي أحمد حسن في مقاله " كيف نرى تجربة الشاعر عبد الرحمن الأبنودى " حيث رصد عند الأبنودى ( هذا التعايش الحرج بين الحلم الكامن ، وواقعه الجديد المستقر ، بين الصلة التي سيحرص عليها مع الدولة ، والوعى الذى يؤلمه ويبحث عن منفذ داخله للتعبير، بين شاعر السوق ، وشاعر الموقف ، اللذين يعيشهما ويتقاسمانه ، هذا التوتر بينهما وما ينجم عنه من تباين سيؤطرويحكم حركة الأبنودى وانقسامه حتى نهاية حياته .. ) ، ( ... روحين ، أحدهما في الوعى والمعارضة ، والأخرى في حضن الدولة ) .
لقد رصد الظاهرة من الخارج دون أن يقدم تفسيرا لها ، أي تبيان جذر هذا التناقض . لقد إنشق وعى الأبنودى بحكم توزع موقعه الطبقى ، وموقفه الطبقى وعدم إتساقهما ، فهو يعيش شروط الحياة البورجوازية في / ومع قممها العليا ، وفكره متجذر بحكم أصوله الطبقية وتكوينه ووعيه في أحوال ومشاعر الكادحين ، وقد مر في فترات من حياته بأزمات روحية حادة سببها هذا التناقض ( ياناس .. ياهو – قبلن ماأقول قوله – اتأكدوا انه صوتى ده وصدر منى – انا مش عميل حد -- أنا شاعر جاى من ضمير الشعب ) ، مما دفعه في أحيان كثيرة الى ان ينزع بلارحمة القناع عن الواقع ويعرى تناقضاته ( في سوق العصر أو المد والجزر ، أو الميدان و ضحكة المساجين مثلا وهى تعكس جوانبا من الثورة على الوضع القائم) ومرة أخرى يعود الى التوطؤ مع ماهو قائم ويخضع له . هل يمكن تفسير ذلك بالصيغة العامة حول تردد البورجوازية الصغيرة بين قطبى المجتمع ؟ ربما كان هذا جوابا جزئيا . ولكنه يتسق مع غلبة العناصر البورجوازية الصغيرة في الحركة الثورية المصرية ، والضعف النسبى لنضالات الطبقة العاملة وجركتها واستقلاليتها ، وتمحورها حول المطالب الاقتصادية وعدم وضوح الأفق امامها . هل يمكن أن نقول عنه ماقاله لينين عن تولستوى من أن التناقضات في آراءه ومعتقداته ليست من قبيل المصادفة ، وانما تعبر عن الظروف المتناقضة التي تعيشها بلادنا ، وهى انعكاس للظروف بالغة التعقيد وللمؤثرات الاجتماعية والتقاليد التاريخية التي شكلت شخصية مختلف الطبقات ومختلف الفئات . لم يفهم الأبنودى تعقيدات العملية الثورية وبصفة خاصة التطورات التي أعقبت يونيو 2013 وشاركه الكثيرون في أوهامه . وربما كانت مواقفه السياسية انعكاس عام لضعف الثورة ونواقصها اكثر من كونها نواقصه الشخصية الذاتية .
يتساءل الأبنودى في قصيدته " الدايرة المقطوعة " :
( إيه المعنى وأى بطولة في ان حياتنا واحلى سنينا يروحو بلاش ؟ ) وهى احدى محاولات تبرير بعض مواقفه للنكوص عن أي نضال مبادر ريادى طليعى وكأن ذلك شيء لم يعرفه كل تاريخ حركات التمرد والاحتجاج والثورات . وهو يتردد بين قطبى الإحتجاج والخضوع نتيجة رؤى سياسية أحادية الجانب للسلطة السائدة وخاصة في أواخر حياته .
ويفسر مقصوده ( .. ثمة طليعة لاتدرك ذلك ولاتعيه ، تعيش منعزلة عن الجماهير . طليعة تخاطب بعضها ، وتلعب دور الطليعة والجماهير معا . لايمكن أن يؤدى نضالها الى تغيير عبقرى حقيقى يقلب تربة الأوضاع السياسية التي نعيشها .. ) مالم تتواصل الدائرة .
ولكن هل يخضع الأمر لإرادة طليعة من المثقفين ؟ أسمح لنفسي أن أقتبس من مقال قديم لى – ( ح ع ش م في التأريخ الكورييلى -- أنظر موقعى على الحوار المتمدن ) -- هذا المقتطف الذى يوجز المسألة :
" هل يمكن أن ينفصل مآل التنظيمات الماركسية كلها فى هذه المرحلة التاريخية عن هيمنة العولمة , والليبرالية المتوحشة , وعن التغييرات الإقتصادية والسياسية العميقة التى أحاطت ببلادنا منذ عصر السادات وحتى وقتنا الراهن , أى لثلاث عقود على الأقل , هل يمكن أن ينفصل عن النزعة التى هيمنت وحولت كل النضالات الى مسارات حقوق الانسان فى الخارج والداخل , وجففت منابع الطاقة الثورية الشابة بتحويلها عن المسارات الجذرية إلى الصراعات القانونية الحقوقية ورشوتها وإفسادها , هل يمكن بصفة أخص أن ينفصل عن ماأثاره سقوط الإشتراكيات البيروقراطية الواقعية الذى كان حدثا مدويا لايمكن مقارنته فى تاريخنا إلا بالغزو الصليبى , أو المغولى , أو العثمانى , أو بسقوط الأندلس , فحتى تروتسكى لم تتجاوز تصوراته حول الإتحاد السوفييتى حد الدولة العمالية ذات التشوه البيروقراطى . حيث بات كل رفيق يسأل رفيقه كل يوم كيف حال إيمانك هذا الصباح ؟ وهل يمكن أن ينفصل عن وضع الطبقة العاملة العالمية ومكانتها فى الرأسمالية على الصعيد الأممى ؟ وهل يمكن أن ينفصل عن وضع الطبقة العاملة المصرية التى جرى تمزيق أوصالها وتفتيتها بأساليب مختلفة تبدأ من أساس وجودها الإقتصادى ممثلا فى القطاع العام الصناعى , وبالإحالة للمعاش المبكر , وتجريدها من المكتسبات النسبية التى حققتها فى العهد الناصرى على ضآلتها وإصلاحيتها , وتجريدها من استقلاليتها , وأدوات صراعها النقابية والسياسية . فضلا عن أن رثاثة البورجوازية وفق المصطلح الذى صكه أندريه جوندر فرانك لابد وأن ينعكس على نقيضها , وحافر قبرها , وممثلوه السياسيون الذى يعكسون فيما يعكسون نفوذ هذه البورجوازية عليه , وكذلك تفاوت درجات الوعى بمصالحه حيث يسرى هنا أيضا قانون التطور غير المتكافئ . فلايمكن أن توجد أحزاب ماركسية ثورية متماسكة فى مواقفها ونظراتها , الا إستنادا إلى طبقة عاملة ناهضة نشطة فى حركتها التلقائية . وقد علمتنا اللينينية أن الحزب الثورى , ونظريته وأساليب عمله , وأشكال حركته , وتنظيمه , تتخذ شكلها النهائى فى علاقتها الوثيقة بالنشاط العملى لحركة جماهيرية حقا , وثورية حقا . اذا كانت مصر لم تتمخض عن ماو , كما أشار أحد الرفاق المتحاورين , ألا يمكن لنا أن نفسر ذلك بغياب حركة فلاحية ثورية واسعة النطاق على غرار الحركة الثورية فى الصين التى إمتدت قرونا , ولاتعود الى تكاسل البعض أو عدم طموحه إلى أن يكون كذلك ؟ وينطبق ذات الشئ على هوشى منه فى فييتنام , متى تحرك فلاحونا المصريون وهل خاضوا أبدا مايمكن أن نسميه حرب فلاحين ؟ ويمكن أيضا أن نتسائل مسايرين نفس الرفيق لماذا لم يظهر فى أوساطنا لابريولا , أو جرامشى.................. ؟ هل يمكن أن نفصل ذلك عن الحركة الشيوعية المصرية التى كانت فى إجمالها بإستثناءات قليلة تزدرى النظرية ( حنجورى ) وعاشت على ماركسية عقائدية مبسطة , نست أن التاريخ لايعود الى الوراء شرط أن يكون قد تقدم بالفعل إلى الأمام ؟ وأن أعمال رواد الماركسية الأوائل لم تعرف حتى اليوم إلا فى أشكال مشوهة مجزأة ؟ هل يمكن أن نفصل الإنحراف اليمينى الذى سيطر على تاريخ الحركة , وتذيل البورجوازية فى مراحل مختلفة وتواصله حتى الآن حيث يهيمن المناشفة على الحركة الشيوعية المصرية بدرجات وتلاوين وأطياف تبدأ من حزب التجمع والشيوعى المصرى مرورا بكل الأحزاب التحالفية الشعبية , والاشتراكية والعمالية الفلاحية , وصولا الى الإشتراكيين الثوريين , أو وهو الأخطر عن نسيان " الفريضة الغائبة " - بل والتباهى بأننا لم نحمل فى حياتنا سوى قلما - وهى الإنتفاضة , وفق المفهوم البلشفى , وضرورة الإعداد لها , دون اللعب بها حسب نصيحة إنجلز ؟ هل يمكن لنا أن نتجاهل الموروث الثقافى الذى هيمن فيه الاتجاه الرجعى , وغياب أى تقليد منهجى للفكر الفلسفى الذى إنقطع منذ زمن إبن رشد تقريبا ؟ "
فالعامل الحاسم هو الطبقة الاجتماعية النشطة الثورية الناهضة فهى الفاعل الإجتماعى الذى بدون تطوره وسلوكه ثوريا لايمكن لأى طليعة مثقفة نشطة أن تصل الدائرة المقطوعة . وربما أشرنا عرضا الى ان هذا الانفصال تعانى منه الحركة الثورية في أوروبا الغربية وقد حاول المفكر البريطاني الماركسى بيرى أندرسون أن يفسر هذه الظاهرة في اطارها الأوروبى . وهو واجب مازال على الماركسيين المصريين أن ينجزوه في بلادنا .
وربما كان جرامشى محقا حين كتب في مقاله " أكره اللامبالين " : ...
إن اللامبالاة هي الحمل الثقيل للتاريخ . إنها المقذوفة الرصاصية في وجه المبدع ، إنها المادة الخاملة التي تغرق فيها الحماسة المتألقة ، إنها المستنقع الذي يحيط بالمدينة القديمة ويحميها أكثر من أشد الجدران صلابةً ، أكثر من صدور مقاتليها ، ويبتلع في دوامته الطفيلية الرجال المقدامين ويهلكهم ويحبط من عزائمهم و يدفعهم أحياناً إلى التراجع عن مشروعهم البطولى .
لقد رحل الأبنودى ودفن معه ولاءه المؤقت للأنظمة أي بات جزءا من ماضيه ولكن شعره الثورى سينتمى دائما للمستقبل وهو إرث لابد من صيانته .
مراجع المقال :
1 – أيام لم تكن معه ( عبد الرحمن الأبنودى في السجن ) ، عطيات الأبنودى ، دار الفرسان بالقاهرة ، الطبعة الأولى مارس 1999 .
2 – مثقفون وعسكر ، صلاح عيسى ، مكتبة مدبولى ، 1986 . كتب عربية ( إلكترونية )
3 – كناسة الصحف ، محمد العزبى ، كتاب الجمهورية ، مارس 2012 . ( إلكترونية )
4 – الخال ، محمد توفيق ، المصرى للنشر والتوزيع ، الطبعة الثانية ، ديسمبر 2013 . ( إلكتروتية )
5 – أيامى الحلوة ، عبد الرحمن الأبنودى ، أطلس للنشر والإنتاج الإعلامى ، 2002 ( إلكترونية )
6 – الكتابات الكاملة ، يحيى الطاهر عبد الله ، دار المستقبل العربى ، الطبعة الثانية 1994 ( إلكترونية )
7 – أدب السجون ، تحرير شعبان يوسف ، شهادة جمال الغيطانى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2014 . ) إلكترونية )
8 - في خدمة الأمن السياسي مايو 1939 – مايو 1970 ، اللواء حسن طلعت ، مدير المباحث العامة ،الوطن العربى للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى 1983 .
9 – مفكرون خلف القضبان ( 9 ) ، حنان عبد الهادى جريدة الرأي – الإلكترونية ، أول سبتمبر 2010 .
10 -الزنزانة 21 وصديق الغيطانى الحنوبى ، غادة قدرى ، جريدة مبتدا الإلكترونية ، 18 أكتوبر ، 2015 .
11 في حوار عمره 14 سنة الشاعر سيد حجاب ، محمد منير ، جريدة الأهرام ( ثقافة وفنون ) ، 28 يناير 2017 .
12– الشاعر العظيم والأعماق الشعبية ، إبراهيم فتحى ، جريدة القاهرة يوليو ، 2017 .
13– الأبنودى معجزة لاتموت ، خليل كلفت ، الحوار المتمدن ، العدد 4790 ، 28 أبريل 2015 .
14 – كيف نرى تجربة الشاعر عبد الرحمن الأبنودى ، أحمد حسن ، الحوار المتمدن ، العدد 5139 ، 21 أبريل 2016 .
15 – الأبنودى يتذكر ويروى حكايات البدايات 19 : إستفز السجانون وعينا السياسى ، جريدة الجريدة الكويتية الإلكترونية ) 4 أكتوبر 2007 .
.
1 – أيام لم تكن معه – حقا ؟
وقعت في يدى أخيرا اليوميات التي دونتها المخرجة الكبيرة الراحلة عطيات الأبنودى ( 26 أكتوبر1939 – 5 أكتوبر 2018 ) بعنوان " أيام لم تكن معه " وصدرت عن دار الفرسان للنشر عام 1999 عن الستة شهور التي كان فيها زوجها الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى معتقلا سياسيا من 9 أكتوبر 1966 حتى 12 مارس 1967 . وقد اتسمت يومياتها بما اتسمت به أفلامها من " الواقعية الشاعرية " . لقد اتخذت هذه اليوميات شكل رسائل موجهة إلى زوجها ، وقد حوت تفاصيل حياتها اليومية أثناء غيابه وقد دونتها في حينها يوما بيوم تقريبا ،ثم زودتها بمقدمة عند النشر ، حكت فيها عن نفسها وأسرتها ، وكيف تعرفت على عبد الرحمن الأبنودى الذى كان في مقتبل حياته آنذاك . لقد ظلت هذه المراسلات خفية لعدة عقود إلى أن قررت الكاتبة أن تخوض ( التجربة النفسية للعودة إلى هذه الأوراق القديمة ، ربما لأنى بعد أن بلغت هذا العمر أجدنى قد وصلت إلى مواسم الغفران التي يصلها الإنسان مع نفسه بعد أن يشرف على سنواته الستين ) وهى تقدمها كشهادة على أيام عاشتها ودونت تفاصيلها في وقتها كواحدة من جيل الستينات الذى كانت له أحلام كبيرة قصمها إنكسار هزيمة يونيو 1967 .
ورغم عنوان اليوميات فقد كان حبيبها الذى وجهت له رسائلها / يومياتها حاضرا في كل دقيقة ، وفى كل تفصيلة من تفاصيل حياتها اليومية وكان هو محور الأحداث ومناط الرواية . وتصدر الكاتبة رسائلها ببيان بما اسمته دوائر العلاقات فتبدأ بقائمة بأسماء المعتقلين – من سبقوا الى المعتقل ومن لحقوهم بالتتابع – وتورد أسماء الجيران ( ولا أستطيع أن أنسى ليلى ابنة جارتهم هدى حداد ذات الجمال الأفروديتى الملائكى الخرافى ) – فبيانا بأصدقاء الأبنودى ويحيى الطاهر عبد الله ( ويرد اسمى ضمن قائمة الأصدقاء ) فثبتا بأسماء المتعاطفين مع المعتقلين من أهالى ، وفنانين ، وكتاب وصحفيين وإذاعيين ومسرحيين ، والشخصيات الأجنبية ، وقائمة بالمسؤولين الرسميين وغير الرسميين ، وضباط المباحث العامة في مكتب مكافحة الشيوعية .
وهى تذكر كيف إعتقل عبد الرحمن ليلة أتى والده لزيارته لأول مرة بعد قطيعة ، ورد الفعل بين الأهل والجيران والأصدقاء على الإعتقال ، وتورد أشكال تضامنهم ونصائحهم وأنماط دعمهم ، وتذكر عيون المدينة الأمنية لرصد تحركاتها وزوارها وتجنيد أقرب جيرانها إليها بإرهابهم بل وبعض أفراد أسرتها أيضا ، وتبين الاتصالات التي قامت بها عبر أطراف مختلفة وبسبل متعددة لإرسال رسائل وأطعمة وأدوية ودخانا لعبد الرحمن ورفاقه ، ولاتنسي محاولات المباحث الميكيافيلية لتجنيدها ومساومتها لمعرفة مكان هروب يحيى الطاهر عبد الله الذى أفلت من القبضة البوليسية ، وتعرض لعلاقتها ببعض رفاق الحلقة الثانية من الحركة الشيوعية المصرية ممن كانوا يتابعونها بالنصح والمشورة وأبرزهم طاهر عبد الحكيم ورؤوف نظمى ، وتحكى عن الصلات بجملة من الفنانين ممن تعاطفوا مع زوجها مثل عبد الحليم حافظ ، وممن إرتعبوا من أى اتصال مثل محمد رشدى ... إلخ ويتخلل كل هذا تفاصيل الحياة اليومية من عملها في الإذاعة والمسرح وزيارات الاهل ولقاء الأصدقاء والطعام والشراب ومشاهدة الأفلام وقبض نقود بعض الأعمال . وتشير الى المسؤولين الذين جرى الإتصال بهم ثم الإتصالات الخارجية بمنظمة العفو الدولية ، وبالمفكر الفرنسي جان بول سارتر للتدخل من أجل الإفراج عن المعتقلين . وصولا إلى الكوابيس والأحلام الليلية المزعجة المتكررة التي تكتنفها الأقنعة الأمنية .
لقد كانت عطيات الأبنودى كما يبدو كاتبة رسائل غزيرة الإنتاج تعرف كيف تكشف عن واقعها الشعورى واللاشعورى بفصاحة . وحسبما عرفتها في الواقع – وقد كانت أول مثقفة ألتقى بها في حياتى حين أكملت بالكاد عامي الواحد والعشرين ولم يكن قد مضى على زواجها من عبد الرحمن سوى بضعة شهور – أستطيع أن أقول أنها أتاحت لنفسها في هذه الرسائل أن تكون نفسها بلا إدعاء ، وقد كانت إنسانة فاعلة ، مستقلة ، مليئة بالشجاعة والحيوية ، ومحبة للحياة . ومن ناحية أسلوب كتابتها فهو يرتدى أحيانا شكل المونولوج وأحيانا شكل الحوار وهى تتبع نموذج اللغة الشفهية أكثر من المكتوبة مما يجعل القارئ يعايش الأحداث وكأنه داخلها مستغرقا في حياتها اليومية . وقد تحررت في روايتها من الكوابح فأتخذت شكل عفوية منثالة عدا في بعض المواضع القليلة ( مثلا حين أتاها يحيى الطاهر عبد الله في الثانية صباحا وكان هاربا ، وجداله معها حول بعض تصريحاتها التي شاعت بشأن رفضها لهروبه ، فرغم تأثرها مما قال لم تقل ماذا قال لها في هذا الحوار العاصف ) . ورغم أن عطيات كانت أقل إرتباطا بالسياسة من عبد الرحمن فقد جمعهما الحب والقضية المشتركة / وحدة العقل والروح . ولقد كانت محقة حين أرادت مساحة خاصة لهما متفردة . ولكن كانت مفاهيمنا وقتها تعطى الأولوية للشأن العام على أي علاقة خاصة ، فتدخل الأصدقاء في العلاقة وتحول بيتهما الى كوميونة عامة لاخصوصية لهما فيها وقد كانت عطيات صادقة ومحقة فيما ذكرته عن طبيعة علاقتها بيحيى وتطلبها بعض الخصوصية . من جانبي ظلت علاقتى بها طيبة لأننى كنت الوحيد تقريبا الذى لم يتدخل في علاقتهما أي الأبنودى وهى – على حد قولها لى ذات يوم .
لن يكون مقالى عرضا للكتاب وتفاصيله ولا تعليقا على كل موضوعاته وإنما تداع على متن الكتاب ، أو رواية موازية جزئية تكملها من موقع ومنظور آخر في بعض الأمور ، أو هي جزء ضئيل من سيرة جيل ، أو " تناص " كما قد يحلو للبعض أن يقول . فقد عاصرت هذه الفترة بكل تفاصيلها قبل حدث الإعتقال وأثناءه وبعده وعرفت معظم من لعبوا فيها دورا أو آخر ، بعضهم كان من أصدقائى وبعضهم كان من المعارف . ومعظمهم كانوا نجوما في طريقهم للصعود في عالم الأدب والسياسة والفكر .
2 خليل كلفت من أربعاء الرماد الى البيان الشيوعى
تعرفت على الصديق النوبى الراحل خليل كلفت ( 26 نوفمبر 1942 – 9 نوفمبر 2015 ) في صيف عام 1964 من خلال المخرج المسرحى زغلول الصيفى الذى كان يعمل مديرا لمسرح الجيب ويشرف على فريق التمثيل الذى كنت عضوا فيه بمركز شباب عابدين . كانت لى إهتمامات أدبية وفنية وخاصة الكتابة للمسرح وميولا للقراءة الفلسفية والتاريخية . وكانت الماركسية قد استهوتنى من خلال الكتابات المعادية لها عموما التي إنتشرت مع إعتقال الشيوعيين في أول يناير 1959 وضمتها مكتبة أبى . ولم يكن من السهل الحصول على كتاب ماركسي واحد آنذاك . وكان لقائى بخليل نقطة تحول جذرية في حياتى العقلية رغم أنه كان في هذه الفترة أديبا عدميا يقرض الشعر ( ياأغنيات الملل الحزينة هذا نهار من زمان لاجديد فيه – هياكل هياكل هياكل – ولغ الكلب في إنائى ولاتراب – حيث الغيب بالنهار حمار في الليل ) وشاعره المفضل ت . إس إليوت بأربعاء رماده ، وأرضه الخراب . كان الشيوعيون على وشك الخروج وبعضهم كان قد خرج بالفعل ، وهناك شباب محدودى العدد للغاية كانت له صلة ما ببعضهم – تعرفت في هذه الفترة من خلاله على الصحفى الشيوعى أمين رضوان الذى أفرج عنه مبكرا ، وقد وفر لى كتاب المبادئ الأساسية للفلسفة لجورج بوليتزر المفكر الماركسي الفرنسي الذى اعدمه النازى . وكنا – خليل وأنا - نحضر ندوات أدبية في النادى النوبى ورابطة أبناء الدقهلية ومعظم العروض المسرحية .وكانت صلتى به أحد المداخل للتعرف على بعض الشيوعيين النوبيين ( محمود شندى ) والقاهريين ( إبراهيم شعراوى وعزت عواد ! وقد دارت حولهما أقاويل فيما بعد ) . وكان من ضمن ماقمنا به زيارة المراكز الثقافية التشيكية والروسية وغيرها لمشاهدة الأفلام الطليعية . كما دعانى لزيارة قريته بلانة ثان في النوبة الجديدة فتعرفت على أسرته الكريمة الجميلة ، واستمتعت بحفاوة النوبيين وتقاليدهم ، وكدت ان أقع في غرام شقيقته الصغرى .
مرض خليل في أوئل ربيع عام 1966 – وعلمت من أحد أصدقاءه وهو الشاعر البتانونى الراحل نجيب شهاب الدين أنه يقيم في بيت الأبنودى الذى يقوم هو وزوجته برعايته – لاأعرف بالتفصيل مادار خلال إقامته في بيت الأبنودى وبرفقة يحيى الطاهر عبد الله غير أنه "أمسى عدميا وجوديا وأصبح ماركسيا " وظل كذلك حتى وقت رحيله عن عالمنا . كان التغير مفاجئا بالنسبة لى غير أنه أسعدنى بالطبع . دعانى لزيارة بيت الأبنودى في باب اللوق لأتعرف عليه وعلى يحيى الطاهر عبدالله الذى روى لى شفويا – إن لم تخنى الذاكرة – قصة قصيرة بعنوان " الثلاث ورقات " في أول لقاء .
أما مع خليل فقد قررنا دراسة الماركسية معا ، وكنت قد حصلت على ترجمة د . راشد البراوى لرأس المال . وظللنا نقرأ في الفصل الأول أسبوعين كاملين دون أن نفهم شيئا . فاكملنا الكتاب حتى نهايته ، وقد بقى في عقولنا ظلال بعض أفكاره .
3 – وبلدنا عالترعة بتغسل شعرها جاها نهار ماقدرش يدفع مهرها
بات بيت الأبنودى ملتقى لنا ووقتها لم يكن من الممكن أن تميز بين يحيى وعبد الرحمن كانت علاقتهما فريدة في عمقها وإخلاصها . كانا قد إنفصلا عن منظمة شيوعية صغيرة هي وحدة الشيوعيين المصريين لأسباب وجيهة ، سيرد الحديث عنها فيما بعد . المهم أن بيت الأبنودى بات منتدى سياسيا وأدبيا تلتقى فيه ، بصلاح عيسي ، وسيد حجاب ، ومحمد عبد الرسول ، وغالب هلسا ، وإبراهيم عبد العاطى ، ومن الجيل الأقدم طاهر عبد الحكيم ، ومحمد عودة وغيرهم الكثير فيما بعد .
بدأ عبد الرحمن ويحيى يفكران في تكوين حلقة ماركسية تبدأ ككل الحلقات وقتها كحلقة دعائية تعرض فيها الكتب الماركسية - وكانت دار التقدم الروسية قد افتتحت لها مكتبة " الشرق " في شارع طلعت حرب لبيع الدراسات والكتب الماركسية علنا - ومثل التفكير في تكوين حلقة وقتها احتجاجا من جيل الستينات على قرار الحل الذى أصدرته المنظمات الشيوعية الثلاث الكبرى : حدتو ، الراية ، وطليعة العمال – ورفضته المنظمات الصغيرة ومنها وحدة الشيوعيين المصريين التي ناهضت مقولة وجود "مجموعة اشتراكية في السلطة " من الديموقراطيين الثوريين ، و"طريق النمو غير الرأسمالى " ، " وضرورة وحدة كل القوى الاشتراكية " -- ومثل بداية لما أسمى في جيلنا فيما بعد " غواية التنظيم ". وتبنت مقولة أن هذا النمط من الاشتراكية هو " اشتراكية رأس المال الكبير " وهو عنوان وثيقة كتبها المفكر والناقد الأدبى الماركسي إبراهيم فتحى في سجن القناطر الخيرية عام 1961 .
كان صلاح عيسي هو الأبرز في تبلوره النظرى والسياسي وقدرته على الكتابة وقتها قياسا بكل الآخرين عدا غالب هلسا . وقد استطاع ان يوظف مواقف وآراء وحدة الشيوعيين المصريين السياسية السرية في مقالات ، وإن كان ذلك بلغته الخاصة التي كان عليها ان تراعى مقتضيات النشر العلنى ، حتى وان جرى النشر في بيروت . مثلت مقالاته المعنونة : " الثورة بين المسير والمصير " التي صدرت في مجلة الحرية البيروتية الناطقة باسم القوميين العرب في الأعداد 328 ، 329 ، 330 في يوليو 1966 زادنا النظرى والسياسي ولعبت دور الكريدو ( قانون الايمان ) بالنسبة لحلقتنا التي كانت في طور التشكل .
كان يحيى والأبنودى هما أول من فاتحانى في الانضمام لهذه الحلقة وكان يفترض أن تضم صلاح عيسي ، وسيد حجاب وخليل كلفت وغالب هلسا ( ! ) وإبراهيم عبد العاطى ( ! ) وقد أدهشنى وجود الأخير فيها فقد كان شديد الاهتمام بالغرائب والاعاجيب ، واذكر أنه نشر قصة عنوانها " دعد " في أحد أعداد مجلة جاليرى 68 كما كان مولعا بالمركيز دوساد ومؤلفه " مائة يوم في سادوم " .
جرى اجتماع الحلقة الأول في بيت صلاح عيسى بشارع بورسعيد في سبتمبر 1966 ولم أحضره فقد كنت خارج القاهرة آنذاك . وحين عدت علمت من يحيى أنه جرى تكليفى بإعداد عرض ومناقشة كتاب الدولة والثورة ، ولم يتسن لى أن أعرضه أبدا فقد داهمتنا الأحداث التالية .
4 – من لذة المطاردة الى قص الأجنحة
مثلت وحدة الشيوعيين المصريين إنقساما على " حدتو" عقب تأييد الأخيرة لإنقلاب يوليو 1952 وحسم الموقف بتأييدها لإعدام عاملى كفر الدوار خميس والبقرى في سبتمبر من نفس العام . وقد ضمت فى بدايتها عبد الرحمن ناصر ، ومحمد مستجير مصطفى ، وإبراهيم فتحي ، وعلى الشوباشي وفى مراحل تالية الصحفى إبراهيم عامر وبهجت النادى وعادل رفعت وأحمد فرج ، ومحمود ندا والدكتور عاطف أحمد وآخرين . وقد تعرضت لضربة يناير 1959 التي حصدت الكوادر الأساسية فيها ، وتصدى لقيادتها الصف الثانى وخاصة المترجم أحمد العزبى ، والمهندس غازى عزام . وكان من ضمن أعضاءها الأديب سيد خميس الذى جند تقريبا معظم الأدباء الشبان آنذاك : الأبنودى والطاهر وآخرين وليس جميعهم . كما ضمت بعض خريجى معهد الخدمة الاجتماعية مثل صلاح عيسي ومحمد عبد الرسول .
كانت وحدة الشيوعيين قد تكلست ووقفت عند الادب الحزبي الذى كتب في أوائل الستينات . ولم تصدر تحليلات جديدة عقب 1961 ، غير أنها تبنت النقد الصينى للخط السياسي السوفييتى المؤيد لتوجهات سلطة يوليو ( الاشتراكية ) . كما لم يكن لها دستور داخلى أي لائحة حزبية ، وقد وضعت قضية الأمان ، وتفادى مراقبة الشرطة في المرتبة الأولى مبتعدة عن أبسط أشكال العمل الجماهيرى عقب ضربة يناير 1959 ثم ضربة تالية كان من ضمنها الدكتور عاطف احمد ، وسعد ص . الفيشاوى ، وسيد الزنارى ، والناقد غالى شكرى . وكانت هذه هي جملة الإنتقادات التي وجهها هؤلاء الأعضاء من الأدباء لها وأدت الى تركهم صفوف هذه المنظمة . أو وفقا لتعبيرات صلاح عيسي " كنا نمارس لذة المطاردة ... ولم تمنحنا أكثر من الإحساس بأننا رفضنا مايجرى ... وعجزت او عجزنا نحن – ان نمدها للشعب الذى نحلم به ونفكر فيه " . أو " ... لم نتعلم منها سوى الخوف من المخبر الذى يمشى خلفنا وكيفية التخلص منه " وفقا لتعبير المناضل محمد عبد الرسول .
تضافرعاملان وراء قرار إعتقال هذه المجموعة من الشباب بالتتابع في النصف الأول من أكتوبر 1966 الأول هو مجموعة المقالات التي نشرت في مجلة الحرية الممثلة للقوميين العرب آنذاك والتي استهلت نقدا للنظام الناصرى ساهم فيه صلاح عيسي بمقاله المطول : الثورة بين المسير والمصير كما أشير عاليه ، ومحمد كشلى ، ومحسن إبراهيم ، ووضاح شرارة ، وجرى عرض كتابى أنور عبد الملك : مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون ، ومصر الناصرية لحسن رياض ( سمير أمين ) . ورغم أن صلاح عيسى لم يكن وقتها قوميا عربيا فقد إعتبر لدى الجهات الأمنية كذلك . كان مجمل المقالات وعروض الكتب صادما للنظام الناصرى فقد أبدت جرأة غير مسبوقة ، وجميعها تنتقد الأوضاع " الاشتراكية " في مصر من منظور ماركسي بهذه الدرجة أو تلك . وأثارت المقالات ردود فعل إيجابية وسط الماركسيين الشباب المحدودين في مصر ، لأنها انتقدت حركة يوليو من على يسارها ، ووسمت ارهاصات التوجه الماركسي الذى سينحوه القوميون العرب فيما بعد . وأدى " تحالف " معظم الشيوعيين المصريين والسوفييت مع عبد الناصر الى اعتبار كل نقد موجه للنظام " صيني " او يسارى متطرف . ( وقد تعرفت في هذه الفترة بصلاح عيسى حيث التقيت به من خلال صديقى التاريخى خليل كلفت في نادى الاجتماعيين .)
كان للقوميين العرب فرع قطرى في مصر يقوده المحامى سمير حمزة وقد حلوا الفرع وانضموا لمنظمة الشباب وعين سمير حمزة نائبا للدكتور حسين بهاء الدين في رئاستها .
كان العامل الثانى في صدور قرار الاعتقال هو رفض منظمة وحدة الشيوعيين المصريين لقرارات الحل التي أصدرتها المنظمات الشيوعية الأخرى في غضون 1964 – 1965 واستمرارها في العمل التنظيمى . ويشير الروائى الراحل جمال الغيطانى في احدى الندوات التي عقدت عن ادب السجون أنه علم بعد خروجه من المعتقل ان " زميلا سلم أسمائهم للمباحث العامة " ، ويشير سيد حجاب في حوار له قبل رحيله أنه " انضم لوحدة الشيوعيين بعد تجنيده وهو طالب بكلية الهندسة من قبل كامل داود – وهو ابن عم حسن طلعت داود مدير المباحث العامة ومؤسسها في أغسطس 1952، وعراب إنشاء قوى الأمن المركزى بعد مظاهرات فبراير 1968" وقد استغل احتياجه المالى لحثه على الوشاية برفاقه كما يؤكد الابنودى هذه الرواية وكذلك الصحفى محمد العزبى .
5 – تغازل العصافير قضبانها .. دوق زينا حلاوة الزنازين
قبل ان ينتهى النصف الأول من أكتوبر 1966 كان قد تم اعتقال الأبنودى ، وحجاب ، وعيسى ، ومحمد عبد الرسول ، وسيد خميس ، والغيطانى ، وهلسا ، وعلى الشوباشى ، ورؤوف نظمى ( محجوب عمر ) ، احمد ومحمد العزبى -- وهما أخوان ويجرى الخلط بينهما أحيانا والأول فقط هو من كان قياديا في وحدة الشيوعيين -- ، وغازى عزام ، واحمد فرج وآخرين . وقد سبقهم بفترة طويلة إبراهيم فتحي ،والمحامى اليسارى عادل امين ، والعاملان منصور زكى ومحمد عبد الغفار .
تمكن يحيى الطاهر عبد الله من الإفلات من الضربة البوليسية بسبب تركه الإقامة في منزل الأبنودى قبلها بفترة وجيزة مما سأتناوله في موضعه .
كانت سلطة يوليو ماتزال في ذروة سطوتها المخابراتية – البوليسية حيث مارست قبلها ولمدة عام كامل او يزيد كافة صنوف القمع والتعذيب على متآمرى الإخوان المسلمين من أنصار سيد قطب وغيرهم بدءا من صيف 1965 ، وكان من المنطقى ان يحظى المتمردون على النظام الناصرى - سواء كانوا شيوعيين قدامى من رافضى الحل ، او شيوعيون جددا يتبنون الخط الصينى ،او قوميون عربا انتقدوا مااسمى " التجربة الاشتراكية " – بنصيبهم من القمع والتعذيب ، ولم يستثنوا أحدا تقريبا من الضرب والإهانة ، والتعليق والسحل الخ . وأرادوا كسر إبراهيم فتحى المسؤول السياسي لوحدة الشيوعيين أمام الشباب الجدد ، فرفض طلبهم القول " أنا مره " . وحين قيدوه لم يجد سوى رأسه يقاوم بها في جدار حائط . ثم نال النصيب الأكبر من التعذيب محمد عبد الرسول وهو الماركسي الصلب لأن المباحث العامة وجدت في حوزته وثائق ومنشورات سرية . ويقول عنه سيد حجاب في واحد من حواراته " تعرض لكل أنواع التعذيب التي تتخيلها والتي لاتتخيلها من الجلد والصلب والتعليق والسحل وكل شيء ولم يغير أقواله " . ويورد الصحفى محمد العزبى شهادة الأبنودى عن تفاصيل الضرب والاهانة ، وكذلك صلاح عيسي الذى كتب عن ضربه وشتمه وتعليقه في المشجب الحديدى من قبل الرائد عاصم الوكيل الذى تولى مهام التعذيب آنذاك .
وقد كانت تجربة السجن مؤثرة في حياة الأبنودى لأنها شخصت عطشه الحقيقى للحرية ، رغم أنها لم تتجاوز الستة شهور في حياته كلها – يقول الأبنودى : " كان حائط السجن مثل كرسي الاعتراف ، اذا اردت ان تعرف نفسك جيدا اسند ظهرك الى الحائط ، حتعرف قد ايه شجاع او قد ايه جبان ، وبتخاف من ايه وبتخاف على ايه ، ودرجة صمودك قد ايه ، وكيف ترى الناس حولك ." وبعدها بعقود يدرك ان " الزنزانة " ليست المترين في مترين " بحسب صورتها التقليدية ، لكن قص الأجنحة وتكبيل القوانين ولى اعناقها نوع من تحديث صورة الزنازين ! "
وشهدت فترة الإعتقال وفق التقليد الشيوعى تنظيم الحياة العامة المشتركة للمعتقلين ، خاصة مع وجود القدامى من ذوى الخبرة ، وعقد الأمسيات الأدبية ، وتنظيم الإحتفالات والغناء ، ولحظات الترفيه المتناسب مع واقع الحال ، وتمكن الأبنودى من إنهاء " قصيدة أحمد سماعين " آنذاك ، ورغم كل الأوضاع القمعية يعتبر الأبنودى ان الأيام التي قضاها في معتقل طرة هي " الأيام التي لم أكف فيها عن الضحك " .
6 – يحيى الطاهر عبد الله بلا طوق ولا اسورة
توقع قسم مكافحة الشيوعية ان يجد يحيى مقيما مع الأبنودى ، ولم يبلغه أنه ترك المنزل قبل حوالى شهر من تاريخ المداهمة في 9 أكتوبر 1966 اثر خلاف مع عطيات الأبنودى . وكان قد جرى إعتقال صلاح عيسى وغالب هلسا قبلها في يوم 4 أكتوبر مما جعل الإعتقال من الجميع أمرا مترقبا . وكما ذكرت عطيات " لم تكن المباحث تعرف أى شيء عن يحيى أو صورته " .
كان يحيى عضوا في منظمة وحدة الشيوعيين المصريين بالفعل ، ورفيقا في خلية واحدة مع صلاح عيسى وقد إختار لنفسه اسما حركيا " سعيد مهران " وهو اسم بطل رواية نجيب محفوظ المعروفة اللص والكلاب . وقد إنسحب من المنظمة ضمن المجموعة التي إنسحبت للأسباب التي عرضتها عاليه دون ان يتخلى بالطبع عن فكره السياسى الماركسى ولاعن ادراكه للضرورة التاريخية للتنظيم الشيوعى الفاعل في الواقع .
أفلت يحيى من القبضة البوليسية وتوجه الى منزلى كأول مكان للإختفاء – وكان قد تعرف قبلا على أسرتى واعتبرته أمى ككل أصدقاءنا أخا لنا يشاركنا في كل شيء ( سي يحيى -هكذا كانت تناديه ) ولم تكن إقامته لتثير اى تساؤل أو شكوك خاصة لدى شقيقى عادل ومجدى . وقتها لم أكن معروفا بعد لدى المباحث العامة ، رغم ترددى على منزل الأبنودى وشيوع معرفة صداقتى بيحيى مما سهل مهمة هروبه وإختباءه . ولم أشعر وقتها بأننى أقوم بعمل فذ او استثنائى وانما أقوم بواجبى كماركسي مناهض للنظام رغم حداثة ماركسيتى ، وبواجبى كصديق مقرب ، وأخيرا برغبتى فى ممارسة التجربة وتذوق متعة مراوغة السلطة .
ولكن يحيى لم يكن ليقنع بالقراءة والكتابة والإستماع للمذياع ( لم يكن لدينا تلفاز ) وتقييد الحركة ورؤية صديق واحد مشترك هو خليل كلفت . وبدأ يضيق بالإنضباط الذى أصررت عليه ، وتدخل الأخير لإقناعى بأهمية أن يلقى أبناء الأديب الكبير عبد الرحمن الخميسى ( وكان ذلك سببا للقائى بزوجتى الأولى السيدة ضياء الخميسى وأم ابنتى البكر ميادة ) . فوافقت على مضض ، فأتوا لزيارته في مخبئه . وبعدها أصر على أن نستغل وقت الإفطار في رمضان ونذهب لزيارة أحمد مجاهد المحامى في منزله بشارع مريت باشا المواجه للمتحف المصرى بميدان التحرير ، وكان هو والأبنودى يسمونه " الخال " أي أنه الخال الأصلى قبل أن يتسمى الأبنودى بهذا الاسم – وقد كان من أنصار حزب مصر الفتاة في الأربعينات ، ثم حزب العمل الإشتراكى في السبعينات في عصرى السادات ومبارك – وكانت له مواقف مشرفة في الدفاع القانوني عن الشيوعيين المصريين عقب حملة أول يناير 1959 ، فلاحا ، شهما أصيلا ، كريما من دكرنس .
إستقبلنا أحمد مجاهد بترحاب شديد هو وزوجته الفنانة المسرحية عواطف رمضان ، وكان هناك بالمصادفة الصحفى المعروف منير عامر الذى تساءل عن " هذا الرجل الغامض " الذى هو أنا بشكل مرح ، وبالطبع لم يكن يحيى ليقدمنى معرفا بى آنذاك . أفطرنا معهم على مائدة خشبية أرضية بزخرفات من الطراز الياباني ، وتحدث أحمد مجاهد عن طفله الشجاع الذى يلقى بنفسه من ارتفاع شاهق على ذراع أبيه دون أن يخاف ، ونفى يحيى أن تكون هذه شجاعة ورجح أنها عدم إدراك ، وتحدث منير عن " باشا " حبيبته التي إلتقاها قبل مجيئه مباشرة وهى تقود سيارتها . أما عواطف فقد كانت حريصة على معرفة أحوال يحيى وظروف حياته وقد طمئنها بأن كل شيء على مايرام . وطلبت منه أن يتصل بها إن احتاج لأى شيء . وغنى عن الذكر أن زوجها الذى ناداه الأبنودى ويحيى دائما ب " الخال " قد قام بواجبه كخال إزاء الإثنين ماديا ومعنويا وقانونيا كمحام ذو خبرة .
الإثم الذى لايغتفر في فلسفة هيمنة الدولة المخابراتية – البوليسية هو العصيان لأنه يهز صورة " جبروت السلطة " . وكان الإفلات وتفادى القبض هو أحد هذه الآثام الكبرى – اذ كيف يمكن ان يفلت احد من هذا الأخطبوط القمعي . وكان ينظر لذلك من جانب حلقة محدودة من الأصدقاء الماركسيين والمتعاطفين على المستوى الشخصى بوصفه شيئا يحمل معنى التحدى إزاء نظام يوليو في عز جبروته ، حيث كان من الممكن ان يذهب اى احد " ماوراء الشمس " حسب التعبير السائد في تلك الأيام لأى مدة ولأقل الأسباب . لم يكن هناك أي تنظيم يقف أو يساند يحيى أثناء هروبه ، كما أنه لم يكن " محترفا ثوريا " متفرغا للعمل السياسي ينفق عليه الأبنودى بأمر من التنظيم ، بعكس الإنطباع الذى ساد لدى المباحث العامة والبعض الآخر آنذاك – وقد بدأ هربه عندى وفى منزل والدتى في حى السيدة زينب حيث أقام ، وبعد كثرة المترددين لزيارته بناء على طلبه ودعوته ، وبعد القبض على ( على كلفت ) واختطافه لمكان مهجور وضربه ضربا مبرحا ، وهو مريض القلب لمعرفة مكان يحيى ، اقترحت عليه مع خليل كلفت ان نغير المكان كل فترة ، فإنتقلنا عند صديق مراهقة لى كان طالبا في المعهد الزراعى بمشتهر ، ويقيم في مساكن الأميرية هو المهندس الزراعى الراحل وفيق السيد الشع ، ومدير مزرعة أبحاث جامعة عين شمس فيما بعد . ثم أقام بعد فترة في بيت أبى مع أخى عادل العليمى بالحلمية الجديدة لبعض الوقت ، حيث كان لأخى غرفته الكبيرة المستقلة التي كنت أشغلها أصلا . ولكن يحيى بقلقه وتحفزه وحيويته لم يكن يقر على حال ، ولم يقبل القواعد المعروفة لتأمينه وحمايته من القبض عليه ، فبدأ يتردد على الكثير من الأصدقاء ويلتقى بأصدقاء الأصدقاء من أصحاب الفضول ، وبات معرضا للقبض عليه في أي لحظة . وأصر على أن يلتقى بعلى كلفت ليعرف منه تفاصيل القبض عليه واستجوابه بشأن مكانه ، والتقينا به في مقهى بالفعل خلف منزلنا بشارع مجلس الشعب ، ثم قرر أن يذهب لمنزل إبراهيم عبد العاطى بعابدين بشارع الشيخ ريحان وحده – وهو اديب كان يعمل بمجلس الدولة .
تولد لدى آنذاك شعور لازمنى فيما بعد وهو أن الأدباء والشعراء ومن ماثلهم لابد أن يوضعوا على مسافة من أي عمل حزبى منظم نظرا لفرديتهم المفرطة ، واستبدادهم برأيهم ، وعدم التزامهم بأصول العمل السرى وبديهياته . وقرر يحيى أن ينتقل الى حيث شاء بحيث يكون مسؤولا عن حركته ( علق المثقف الكويتى عبد الله المسعود لعطيات الأبنودى عن طريقة يحيى في التحرك فيما بعد قائلا " ده موش هروب من الاعتقال ، ده شكله بيتفسح ) . فاختار الذهاب لأصدقاء له في محور - الجيزة وخاصة عزبة أبو أتاتة - والعمرانية والوراق – وبدأت أسمع أسماء ( الشيخ ) محمد عبد السلام والمرحوم طارق جويلى أخ الأديب والفنان خالد جويلى ، وآخرين لم يكونوا معروفين لدى .
واتفقنا ان نتراسل من خلال خليل كلفت هو باسم " عوليس " وانا باسم "نسطور الحكيم " حيث كنا قد انتهينا لتونا من قراءة الإلياذة والأوديسه لهوميروس وإستعرنا أسماءنا منها . واخترنا اسما لصديقته هو " الأولمبية " وللمحامى احمد مجاهد هو " أخيل - صاحب العفشة التحتانية " لأنه كان دائم الاستعمال لهذا التعبير الأخير .
طلب منى ان أطمئن صديقته عليه وعلى أحواله وسلمنى رسالة لتسليمها اليها وهى من أهدى لها مجموعته القصصية الأولى " ثلاث شجرات تثمر برتقالا كثيرا " فأرفقت الرسالة بقطعة شيكولاته وسلمتها إليها ، ولعبت دور رسول الغرام الى حين ، وربما كانت هذه هي النواة الواقعية لشخصية صانع احجبة المحبة الشيخ العليمى التي صورها في روايته الطوق والإسورة فيما بعد .
اشتد الطلب على يحيى ، وكلف الضابط هانى الكمونى الذى عمل في قنا وكان يعرف " الجنوبيين " وسبق له الإحتكاك بهم فيما يبدو ، لمتابعته والقبض عليه .
أعلنت عطيات الأبنودى عدم موافقتها على هرب يحيى ، لأنه يؤكد للمباحث وجود تنظيم ، كما أنه يضر بالمعتقلين حيث يطيل حبسهم . كما لاتوجد وظيفة سياسية لهذا الهروب . واعتبرت هذا التصرف بمثابة دون كيشوتية ليس لها مايبررها .
وربما كان لرأيها وجاهة في ظروف أخرى مغايرة فليس الهرب في كل الأوضاع والاحوال أمرا مرغوبا .
7 – من معطف الجلد .. الى الكابوس الأسود
جرى القبض على كمال الأبنودى شقيق عبد الرحمن لسؤاله عن مكان هروب يحيى مع الوجبة المعتادة من الضرب والشتم والاهانة . ( وماحدث لكمال الأبنودى وماحدث لعلى كلفت من قبل وماكان سيحدث لشوقى حجاب وماسيجد من أحداث ، كله بسبب يحيى الطاهر أفندى ) هكذا رأت عطيات الأبنودى الأمر . ولم يخب توقعها طويلا ، فقد اعتقل محمد عبد الغفار ، وبعده مختار الحجيرى ، وجرى تهديد والد عطيات لنفس السبب . ثم إستدعاها الرائد منير محيسن – وقد عرفته شخصيا فيما بعد عام 1968 حين اعتقلت لأول مرة – وأراد ان يتأكد من وقائع شجارها مع يحيى وحقيقة تركه منزل الأبنودى ، وحاول كالعادة إغوائها بالتعاون معهم لأن ( القضية مفتوحة ولابد من القبض على يحيى ولازم تساعدينا علشان عبد الرحمن يرجع البيت ( وأكد لها ان هذا عمل أخلاقى مائة في المائة ، وأن المصلحة العامة ومصلحة الأمن والوطن ومصلحة عبد الرحمن ومن معه في أن تساعد المباحث العامة على معرفة مكان يحيى ! وتكرر الاستدعاء مرة أخرى من الضابط هانى الكمونى وأحد رؤساءه .
ولكن رفعت السعيد الذى كان من أبطال حل التنظيمات الشيوعية وسكرتيرا لمكتب خالد محيى الدين آنذاك كان له رأى آخر وفقا لما ذكرته عطيات الأبنودى : ( ... ان المباحث تعرف طريق يحيى الطاهر وهو متأكد من هذا بدون نقاش ...المباحث رأيها ان طول مايحيى هارب سوف يكون هناك دائما شخصا ما مسؤول عن هربه ، وبالتالي يكون هذا الشخص مسؤول التنظيم الوهمى الذى لايعرف جهاز المباحث اثباته حتى الآن ... )
وتورد عطيات رواية هامة على لسان رفعت السعيد عن عضو قديم في حدتو جرى فصله منها بعد ان ضبط معه " كارنيه المباحث " أتاه يطلب " تبرعا" دعما ومساندة ليحيى في هربه محاولا الإيقاع به وبخالد محيى الدين .
وهو مايؤيد احتمال ان يكون مكان اختباء يحيى معروفا في أيامه الأخيرة من خلال هذا الواشي الذى رفض رفعت السعيد ذكر اسمه . وقد قبض علي يحيى يوم 14 فبراير 1966 بينما كان يسير في شارع قصر النيل من ناحية العتبة في السادسة مساء – حسب رواية خليل كلفت التي نقلتها عطيات في مذكراتها .
لقد كتب يحيى عن فترة الهرب قصتين تعكسان مرحلتين مختلفتين فيها الأولى هي : معطف من الجلد ( كان اسمها الأول الذى غيره هو : جاكت من الجلد للمطر ) وقد كتبها حين كنا معا – وتتضمنها مجموعتة القصصية الأولى : ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا ، ومما يرد فيها ( إنهم يقلبون عليك الدنيا : أترك هذا المكان وأبحث عن مكان آخر – كان صديقى خليل وكنا نسكن سويا ، وكنت أحبه – قال إنهم هم - لاهو - ... وقال أترك هذا المكان فورا قلت لماذا ؟ ) قال إنه الجنون – وأن الأرض تدور وإننا في 1966 ... ) وفى موضع آخر ( رددت وقد إنتابنى زهو : إنهم يبحثون عنى في كل مكان .. بالصعيد .. في العاصمة – بالمقاهى .. سألوا كل معارفى .... ) وفى موضع ثالث ( ... ستكون درجة الجنون الذى يطاردنى قد هبطت قليلا )
أما القصة الثانية فقد روى لخليل كلفت ولى أن هناك من تعمد تخديره ذات ليلة حين كان في عزبة أبوأتاتة بالجيزة وأنه يشك في صلة هذا الشخص بالمباحث العامة لأنه فقد وعيه تماما ولايدرى ماذا حدث له بالضبط . واسم القصة " الكابوس الأسود "، وهى مغرقة في الكافكاوية ، ولم أقرأ مثيلا لها الا في الرويات الأسطورية عن تفاصيل عذابات الجحيم . ففيها حديث عن " أفرع شجرة الحشيش النورانية " ورؤى وتصورات وهلاوس وأحلام كابوسية ضاغطة وقد ( كان محاصرا بالسكون والظلمة والتعب – وقد كف عن النداء ، أحس بأن روحه منهكة ، وأنه فعلا مضطهد ومقهور ، وأنه حقيقة يتعذب ، شعر بالخوف لأنه مخمور ووحيد . )
8 – أين إختبأت ياإسكافى المودة ؟
هل كان يمكن للمباحث العامة أن تتغاضى عن سؤال يحيى عن مكان إختفاءه أول ماأختفى ؟ حسب إفادته لخليل كلفت ولى أنه صفع وضرب باللكمات وكان سؤاله عن منظمة وحدة الشيوعيين روتينيا ، والواقع أنه لم يعترف بشئ على رفاقه ممن سبقوه الى المعتقل ومن زاملهم في وحدة الشيوعيين . ولابد أنهم إكتشفوا أنها كانت شبحا من الناحية الفعلية ، وأنه لم يكن زعيما هاربا وقف خلفه تنظيم قوى .
لم يبق يحيى في المعتقل أكثر من أربع أسابيع ، ثم أفرج عنهم جميعا بناء على تدخل من الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ، الذى رفض في البداية قبول زيارة مصر بينما يعتقل فيها التقدميون ، ووعده الرئيس عبد الناصر بالافراج عنهم يوم مغادرته مصر . وقد قامت الفنانة التشكيلية الراحلة إيفلين بوريه بحث والدها السويسرى على الإتصال بسارتر وابلاغه بوضع المعتقلين الماركسيين ومنهم زوجها الشاعر سيد حجاب آنذاك . تابع أهلها الإتصال بسارتر من الخارج ، وبعد أن وصل للقاهرة مع سيمون دوبوفوار تمكنت إيفلين من لقاءالأخيرة واعطتها رسالة لسارتر امام مصعد الفندق . وأسفر تدخله عن الإفراج بالفعل عن المعتقلين جميعا يوم مغادرتة مصر في 12 مارس 1966 .
كان يحيى أول من ساعدنى على الاتصال بعبد الفتاح الجمل المثقف والروائى والمشرف على الصفحة الأدبية لجريدة المساء ، وأوصل اليه لأول مرة قصتى المترجمة " نهر شان الجليدى ، وهى قصة كورية ، ومن المصادفات أن كوريا الشمالية ضربت احدى الغواصات الامريكية " بويبلو " آنذاك فنشرت القصة على الفور في 31 يناير 1968 ، وبعدها قصة مجرية عنوانها " لاغفران " ، وآخرى تركية بعنوان " البيت الحجرى " .
كان يحيى شخصية استثنائية فريدة قلما تصادف مثلها وقد وصف نفسه كما يلى ( عشقت الشعب والقص والخمر وبعض النساء ورفضت أن أكون إلا ماإخترت " ، " فرحى النهائي، والعرس الأخير هو الثورة وتحرك الشعب الراقد " ، " ربما يتعذر على واقع لاإنسانى أن يعطيك أشياء إنسانية .. يعنى الواقع الطبقى واقع لاانسانى وكل مايمكنك ان تفعله هو ان تحاول الحياة كرجل محترم .. وان تسعى الى نفى إغترابك وهذا لايكون الا بالثورة ". وكان صادقا فيما قاله عن نفسه .
كما وصفه رفيقه في وحدة الشيوعيين المصريين وصديقه صلاح عيسى بأنه "فارس القص المقتدر ، الذى يوجز سيرة جيلنا " الطاووس المشاغب " ، " أمير الحكى " " الغماز ، اللماز ، الهجاء ، الغضوب ، المتشاجر مع ذباب وجهه ، طفل البرارى " وهو وصف واقعى وأمين .
وقد كان الأبنودى هوأقرب الناس اليه وقد عاشره سنوات معاشرة يومية . ويصفه بأنه شخصية بديعة ومبدعة به مس من الجنون ، بارعا في استجلاب العواطف ، وكان أينما يذهب تمشى الشجارات والمشاكل بين أقدامه . (... فقد كان يعتقد أنه يرى الحقيقة وعلى الجميع أن يروا مايراه والا كانوا متخاذلين ... ) . ولم يكن يتورع عن إستخدام حقوق صديق بدلا عنه ودون إستئذانه اذا خيل اليه ظنا منه ان ذلك كان صوابا .
كنا في مقهى إيزافيتش بميدان التحرير ( مكان كنتاكى الآن ) بعد هزيمة يونيو 1967 ، وشاهد صديقه الفلسطيني الشهيد مازن أبو غزالة وقال له ماذا تفعل في مصر ؟ تدرس هنا ؟ مكانك مع المقاومة الفلسطينية . وبالفعل شد مازن رحاله وانضم للمقاومة الفلسطينية وكان من أوائل من إستشهدوا من منظمة فتح .
كما يحكى الوردانى في واحد من كتبه الأخيرة " الإمساك بالقمر " وهو بمثابة سيرة فكرية سياسية له ولجيلنا ، عن يحيى أيضا وقد عكس جانبا من شخصيته خاصة الورطات التي وضع فيها بعض أصدقاءه دون أن يشعر أنه قد فعل شيئا لم يكن منتظرا ولامتوقعا . وقد صوره الوردانى تصويرا دقيقا بنزواته ، وعواصفه الغاضبة ، وفرديته الجامحة ، وإعتداده بنفسه ، وثقل وطأته على أصدقاءه، وتقديسه لإله الخمر اليونانى ديونيسوس ، وجمال أدبه الباقى .
حين أفرج عن المعتقلين زارنى يحيى مباشرة وأخطرنى بأنه ترك عنوانى لدى المباحث العامة كمكان لإقامته ، لأنه لم يشأ ان يكتب عنوان الأبنودى ولا ان يتطفل على اى احد آخر . ولابد أن أشدد على انه ان لم يكن أخبرنى لم أكن لأعلم بذلك وهو مايدلل على ان الأمر يدخل في اطار تقديراته الخاصة الاستثنائية ، ونزوعه أحيانا لاستخدام حقوق اصدقاءه . وكان فرحى بخروجه مع الأصدقاء المعتقلين أقوى من إستيائى لترك عنوانى لديهم .
وحين اعتقلت لأول مرة في مايو عام 1968 مع محمد عبد الرسول ، وصلاح عيسي ، واحمد الخميسي في أعقاب مظاهرات فبراير من نفس العام ، وكنت مازلت أصعد درج مبنى المباحث العامة بلاظوغلى ، فوجئت بمن يهبط من اعلى الدرج ليسألنى ( أنت اللى خبيت يحيى الطاهر عبد الله ؟ ) فأجبت عفويا وقد فوجئت تماما ( يحيى الطاهر عبد الله مين ؟ ) فأردف بغضب ( كنت عارف انك حتقول كده ) . وكان هذا الشخص هو المقدم منير محيسن الذى لخص بفظاظة ودونية سمات الجهاز النموذجية في عهد " مراكز القوى " تحت قيادة شعراوى جمعة آنذاك .
كان التنظيم الشيوعى المصرى قد تأسس في 8 ديسمبر 1969 . وكنت قد نلت عضويته اثناء اعتقالى . وبدأت على الفور في النشاط الحزبى مع خليل كلفت الأمر الذى أدى لتباعد لقاءاتنا مع يحيى . ورغم ميوله واتجاهاته السياسية لم نفاتحه في وجود التنظيم او نفكر في ضمه لتعذر خضوعه لأى انضباط حزبى .
حين تزوج يحيى من أخت الدكتور عبد المنعم تليمة أستاذ الأدب المعروف لم أحضر وخليل كلفت زفافه في مارس 1975 فقد كنا معتقلين بسجن الحضرة بالإسكندرية على ذمة قضية أمن دولة . وبعد الافراج عنا على ذمة القضية صدر قرار حزبى بضرورة اختفاءنا من الحياة العلنية وممارسة النشاط السرى .
التقيت به بعدها بفترة طويلة وكنت قد بدأت التواجد علنا بقدر ما . زارنى في بيت والدتى وكانت رواية الدف والصندوق قد صدرت في العراق فأهدانى نسخة منها وقد كتب عليها : ( الى صديقى سعيد العليمى الطاهر النقى ) وقد أهديتها الى ابنته الدكتورة أسماء يحيى الطاهر عبد الله – أستاذة المسرح بجامعة حلوان . وكان قد أسمى إحدى شخصيات روايته الطوق والاسورة " الشيخ العليمى " تكريما لى كما قال .
كان آخر لقاء لنا في أواخر السبعينات وحدثنى عن مشاكل بينه وبين صهره الدكتور تليمة الذى انتمى الى مايسمى بالتيار الثورى وقتها وكان اتجاها مواليا تماما ومدعما لأنور السادات الذى انتفض الشعب ضده في انتفاضة يناير 1977 . ولم يقبل يحيى ضغوط بعض اعضاءه في قبول الانضمام له ، ولم يكن يحيى بتكوينه وبفكره السياسى الذى رفض كل تجليات النظام الناصرى لينصاع لما يخالف معتقده حتى وان حاول البعض تنغيص حياته الخاصة بسبب ذلك .
علمت بالحادث الأليم الذى رحل فيه يحيى في 9 ابريل 1981 من الصحف عندما ( تمكن الموت من الريح ) على حد قول الأبنودى .
ولابد ان أردد الآن مع يحيى ماورد في قصته " شموس " ( والأيام التي مرت من العصى أن تعود : هذا مايحزننى . )
9 – رمان وسيرة الطفولة والشباب
روى الأبنودى سيرته الذاتية في طفولته ومراهقته ومطلع شبابه في كتابه " أيامى الحلوة " ( كانت كنايته رمان ) وهى الأيام التي قضاها في أبنود بمحافظة قنا . وهو يقدم عالما كاملا بكل مافيه من واقعية حياتية وبؤس وفاقة وعوز ، حيث يخيم السحروالخرافة والغجر والأسطورة ، حيث الرعى والسمك والكلاب والعقارب والثعابين ، حيث تصدح أغانى العمل في الأفراح والأحزان والمناسبات ... وتكتمل هذه السيرة بكتاب آخر كتب على لسانه هو " الخال " حيث يحكى عن أيام القرية ليتجاوزها الى تجربته الحياتية والشعرية في كليتها في المدينة .
وربما سقطت بعض الأشياء من ذاكرته فعقب هزيمة يونيو 1967 تحول منزل الأبنودى الى بؤرة " ثورية " تشهد لقاءات شبه يومية تقريبا ذات طابع سياسي ، فقد هزتنا الهزيمة جميعا حتى الأعماق ، ويمكنك أن تلتقى عنده الدكتور محجوب عمر ( رؤوف نظمى ) ، وطاهر عبد الحكيم ، وصلاح عيسى ، ومصطفى الحلاج الفنان التشكيلى الفلسطيني ، والدكتور أحمد يونس العائد لتوه من أسبانيا ، والصحفى الناصرى محمد عودة ! ومحمد عبد الرسول ، وخليل كلفت ، وعبد الرحمن محسن المقدم الأديب الضابط العائد من الأسر الإسرائيلي في عتليت ، وإبراهيم عبد العاطى القاص والمستشار في مجلس الدولة ، وجارته السيدة هدى حداد مع بنتيها الجميلتين ، والفتاتين المراهقتين منى الخميسي وأروى صالح .
حين تظاهر الطلاب في فبراير 1968 احتجاجا على الاحكام الهزلية التي صدرت ضد بعض قادة الطيران ، أنعش هذا التحرك آمالنا في خروج الجماهير من أسر النظام عقب ان غاب وعيها لسنوات بعد ان صودرت حركتها . وتحمس الأبنودى وصلاح عيسي لكتابة منشور وتوزيعه – وكان منزل عبد الرحمن محسن المقدم هو مكان اللقاء لمناقشته وصياغته نظرا لوضعه الأمني الجيد كضابط بالقوات المسلحة ( مؤلف رواية زمن حاتم زهران فيما بعد ). وحالت ظروف فنية دون طباعته . غير أن بعض المجتمعين قرروا النزول للشارع مع المتظاهرين : صلاح عيسي ، محمد عبد الرسول ، أحمد الخميسى ، وسعيد العليمى .
وفى صيف 1969 في معتقل طرة السياسي بعد اعتقالنا نحن الأربعة فوجئنا بوزير الداخلية شعراوى جمعة يستضيف الأبنودى في برنامج تليفزيونى ، ورغم أنه كان بادى التعاسة في اللقاء ، الا ان المشهد بدا لنا نحن أصدقاءه نذير شؤم – لم قبل الدعوة !
كان آخر لقاء مباشر لى بالأبنودى في أبريل 1970 –عقب الافراج عنى بعد عامين وقد إستضافنى وعطيات بكرمهما المشهود إحتفالا بى – أما آخر اتصال به فكان في التسعينات حين أتى لدولة البحرين وعلمت بوجوده في فندق الخليج فأتصلت مرحبا به ودعوته للقاء فأعتذر بأنه على موعد مع وزير الاعلام طارق المؤيد . وقد فعل نفس الشئ مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش حين كان في بيروت .
10 - الأبنودى وتناقضاته ودائرته المقطوعة
تناقضات الأبنودى ومراوحته بين قطبى السلطة والمعارضة خلال مسيرته الشعرية ملحوظة ، وكنت أتوقع من صديقين عزيزين راحلين هما الناقدين الأدبيين إبراهيم فتحى وخليل كلفت أن يتناولا تلك المراوحة في مقالين كانا تأبينا ووداعا له حين رحيله . فقد كتب إبراهيم فتحى مقاله " الشاعر العظيم والأعماق الشعبية " عن الجانب الفني المبدع لديه واعتبر شعره ملتحما بالحياة ، وانشاد مصاحب للحركة الثورية وإن إستدرك ( وقد يختلف حول بعض مواقفه كثيرون ، ولكن لاخلاف على عبقريته وإبداعه ) ، كما كتب خليل كلفت مقاله " الأبنودى معجزة لاتموت " مشيدا بإبداعه ( البوليفونى الشامل المتعدد الرؤى والطبقات والألحان والألوان الذى كان ثمرة ناضجة لأخوته الحميمة مع الملايين من بنات وأبناء شعبه يلهمونه ويلهمهم . يغذونه بتجربتهم، فيغذيهم بابداعه ... ) ولم يتناول هذا التناقض – في حدود معرفتى – سوى الكاتب الماركسي أحمد حسن في مقاله " كيف نرى تجربة الشاعر عبد الرحمن الأبنودى " حيث رصد عند الأبنودى ( هذا التعايش الحرج بين الحلم الكامن ، وواقعه الجديد المستقر ، بين الصلة التي سيحرص عليها مع الدولة ، والوعى الذى يؤلمه ويبحث عن منفذ داخله للتعبير، بين شاعر السوق ، وشاعر الموقف ، اللذين يعيشهما ويتقاسمانه ، هذا التوتر بينهما وما ينجم عنه من تباين سيؤطرويحكم حركة الأبنودى وانقسامه حتى نهاية حياته .. ) ، ( ... روحين ، أحدهما في الوعى والمعارضة ، والأخرى في حضن الدولة ) .
لقد رصد الظاهرة من الخارج دون أن يقدم تفسيرا لها ، أي تبيان جذر هذا التناقض . لقد إنشق وعى الأبنودى بحكم توزع موقعه الطبقى ، وموقفه الطبقى وعدم إتساقهما ، فهو يعيش شروط الحياة البورجوازية في / ومع قممها العليا ، وفكره متجذر بحكم أصوله الطبقية وتكوينه ووعيه في أحوال ومشاعر الكادحين ، وقد مر في فترات من حياته بأزمات روحية حادة سببها هذا التناقض ( ياناس .. ياهو – قبلن ماأقول قوله – اتأكدوا انه صوتى ده وصدر منى – انا مش عميل حد -- أنا شاعر جاى من ضمير الشعب ) ، مما دفعه في أحيان كثيرة الى ان ينزع بلارحمة القناع عن الواقع ويعرى تناقضاته ( في سوق العصر أو المد والجزر ، أو الميدان و ضحكة المساجين مثلا وهى تعكس جوانبا من الثورة على الوضع القائم) ومرة أخرى يعود الى التوطؤ مع ماهو قائم ويخضع له . هل يمكن تفسير ذلك بالصيغة العامة حول تردد البورجوازية الصغيرة بين قطبى المجتمع ؟ ربما كان هذا جوابا جزئيا . ولكنه يتسق مع غلبة العناصر البورجوازية الصغيرة في الحركة الثورية المصرية ، والضعف النسبى لنضالات الطبقة العاملة وجركتها واستقلاليتها ، وتمحورها حول المطالب الاقتصادية وعدم وضوح الأفق امامها . هل يمكن أن نقول عنه ماقاله لينين عن تولستوى من أن التناقضات في آراءه ومعتقداته ليست من قبيل المصادفة ، وانما تعبر عن الظروف المتناقضة التي تعيشها بلادنا ، وهى انعكاس للظروف بالغة التعقيد وللمؤثرات الاجتماعية والتقاليد التاريخية التي شكلت شخصية مختلف الطبقات ومختلف الفئات . لم يفهم الأبنودى تعقيدات العملية الثورية وبصفة خاصة التطورات التي أعقبت يونيو 2013 وشاركه الكثيرون في أوهامه . وربما كانت مواقفه السياسية انعكاس عام لضعف الثورة ونواقصها اكثر من كونها نواقصه الشخصية الذاتية .
يتساءل الأبنودى في قصيدته " الدايرة المقطوعة " :
( إيه المعنى وأى بطولة في ان حياتنا واحلى سنينا يروحو بلاش ؟ ) وهى احدى محاولات تبرير بعض مواقفه للنكوص عن أي نضال مبادر ريادى طليعى وكأن ذلك شيء لم يعرفه كل تاريخ حركات التمرد والاحتجاج والثورات . وهو يتردد بين قطبى الإحتجاج والخضوع نتيجة رؤى سياسية أحادية الجانب للسلطة السائدة وخاصة في أواخر حياته .
ويفسر مقصوده ( .. ثمة طليعة لاتدرك ذلك ولاتعيه ، تعيش منعزلة عن الجماهير . طليعة تخاطب بعضها ، وتلعب دور الطليعة والجماهير معا . لايمكن أن يؤدى نضالها الى تغيير عبقرى حقيقى يقلب تربة الأوضاع السياسية التي نعيشها .. ) مالم تتواصل الدائرة .
ولكن هل يخضع الأمر لإرادة طليعة من المثقفين ؟ أسمح لنفسي أن أقتبس من مقال قديم لى – ( ح ع ش م في التأريخ الكورييلى -- أنظر موقعى على الحوار المتمدن ) -- هذا المقتطف الذى يوجز المسألة :
" هل يمكن أن ينفصل مآل التنظيمات الماركسية كلها فى هذه المرحلة التاريخية عن هيمنة العولمة , والليبرالية المتوحشة , وعن التغييرات الإقتصادية والسياسية العميقة التى أحاطت ببلادنا منذ عصر السادات وحتى وقتنا الراهن , أى لثلاث عقود على الأقل , هل يمكن أن ينفصل عن النزعة التى هيمنت وحولت كل النضالات الى مسارات حقوق الانسان فى الخارج والداخل , وجففت منابع الطاقة الثورية الشابة بتحويلها عن المسارات الجذرية إلى الصراعات القانونية الحقوقية ورشوتها وإفسادها , هل يمكن بصفة أخص أن ينفصل عن ماأثاره سقوط الإشتراكيات البيروقراطية الواقعية الذى كان حدثا مدويا لايمكن مقارنته فى تاريخنا إلا بالغزو الصليبى , أو المغولى , أو العثمانى , أو بسقوط الأندلس , فحتى تروتسكى لم تتجاوز تصوراته حول الإتحاد السوفييتى حد الدولة العمالية ذات التشوه البيروقراطى . حيث بات كل رفيق يسأل رفيقه كل يوم كيف حال إيمانك هذا الصباح ؟ وهل يمكن أن ينفصل عن وضع الطبقة العاملة العالمية ومكانتها فى الرأسمالية على الصعيد الأممى ؟ وهل يمكن أن ينفصل عن وضع الطبقة العاملة المصرية التى جرى تمزيق أوصالها وتفتيتها بأساليب مختلفة تبدأ من أساس وجودها الإقتصادى ممثلا فى القطاع العام الصناعى , وبالإحالة للمعاش المبكر , وتجريدها من المكتسبات النسبية التى حققتها فى العهد الناصرى على ضآلتها وإصلاحيتها , وتجريدها من استقلاليتها , وأدوات صراعها النقابية والسياسية . فضلا عن أن رثاثة البورجوازية وفق المصطلح الذى صكه أندريه جوندر فرانك لابد وأن ينعكس على نقيضها , وحافر قبرها , وممثلوه السياسيون الذى يعكسون فيما يعكسون نفوذ هذه البورجوازية عليه , وكذلك تفاوت درجات الوعى بمصالحه حيث يسرى هنا أيضا قانون التطور غير المتكافئ . فلايمكن أن توجد أحزاب ماركسية ثورية متماسكة فى مواقفها ونظراتها , الا إستنادا إلى طبقة عاملة ناهضة نشطة فى حركتها التلقائية . وقد علمتنا اللينينية أن الحزب الثورى , ونظريته وأساليب عمله , وأشكال حركته , وتنظيمه , تتخذ شكلها النهائى فى علاقتها الوثيقة بالنشاط العملى لحركة جماهيرية حقا , وثورية حقا . اذا كانت مصر لم تتمخض عن ماو , كما أشار أحد الرفاق المتحاورين , ألا يمكن لنا أن نفسر ذلك بغياب حركة فلاحية ثورية واسعة النطاق على غرار الحركة الثورية فى الصين التى إمتدت قرونا , ولاتعود الى تكاسل البعض أو عدم طموحه إلى أن يكون كذلك ؟ وينطبق ذات الشئ على هوشى منه فى فييتنام , متى تحرك فلاحونا المصريون وهل خاضوا أبدا مايمكن أن نسميه حرب فلاحين ؟ ويمكن أيضا أن نتسائل مسايرين نفس الرفيق لماذا لم يظهر فى أوساطنا لابريولا , أو جرامشى.................. ؟ هل يمكن أن نفصل ذلك عن الحركة الشيوعية المصرية التى كانت فى إجمالها بإستثناءات قليلة تزدرى النظرية ( حنجورى ) وعاشت على ماركسية عقائدية مبسطة , نست أن التاريخ لايعود الى الوراء شرط أن يكون قد تقدم بالفعل إلى الأمام ؟ وأن أعمال رواد الماركسية الأوائل لم تعرف حتى اليوم إلا فى أشكال مشوهة مجزأة ؟ هل يمكن أن نفصل الإنحراف اليمينى الذى سيطر على تاريخ الحركة , وتذيل البورجوازية فى مراحل مختلفة وتواصله حتى الآن حيث يهيمن المناشفة على الحركة الشيوعية المصرية بدرجات وتلاوين وأطياف تبدأ من حزب التجمع والشيوعى المصرى مرورا بكل الأحزاب التحالفية الشعبية , والاشتراكية والعمالية الفلاحية , وصولا الى الإشتراكيين الثوريين , أو وهو الأخطر عن نسيان " الفريضة الغائبة " - بل والتباهى بأننا لم نحمل فى حياتنا سوى قلما - وهى الإنتفاضة , وفق المفهوم البلشفى , وضرورة الإعداد لها , دون اللعب بها حسب نصيحة إنجلز ؟ هل يمكن لنا أن نتجاهل الموروث الثقافى الذى هيمن فيه الاتجاه الرجعى , وغياب أى تقليد منهجى للفكر الفلسفى الذى إنقطع منذ زمن إبن رشد تقريبا ؟ "
فالعامل الحاسم هو الطبقة الاجتماعية النشطة الثورية الناهضة فهى الفاعل الإجتماعى الذى بدون تطوره وسلوكه ثوريا لايمكن لأى طليعة مثقفة نشطة أن تصل الدائرة المقطوعة . وربما أشرنا عرضا الى ان هذا الانفصال تعانى منه الحركة الثورية في أوروبا الغربية وقد حاول المفكر البريطاني الماركسى بيرى أندرسون أن يفسر هذه الظاهرة في اطارها الأوروبى . وهو واجب مازال على الماركسيين المصريين أن ينجزوه في بلادنا .
وربما كان جرامشى محقا حين كتب في مقاله " أكره اللامبالين " : ...
إن اللامبالاة هي الحمل الثقيل للتاريخ . إنها المقذوفة الرصاصية في وجه المبدع ، إنها المادة الخاملة التي تغرق فيها الحماسة المتألقة ، إنها المستنقع الذي يحيط بالمدينة القديمة ويحميها أكثر من أشد الجدران صلابةً ، أكثر من صدور مقاتليها ، ويبتلع في دوامته الطفيلية الرجال المقدامين ويهلكهم ويحبط من عزائمهم و يدفعهم أحياناً إلى التراجع عن مشروعهم البطولى .
لقد رحل الأبنودى ودفن معه ولاءه المؤقت للأنظمة أي بات جزءا من ماضيه ولكن شعره الثورى سينتمى دائما للمستقبل وهو إرث لابد من صيانته .
مراجع المقال :
1 – أيام لم تكن معه ( عبد الرحمن الأبنودى في السجن ) ، عطيات الأبنودى ، دار الفرسان بالقاهرة ، الطبعة الأولى مارس 1999 .
2 – مثقفون وعسكر ، صلاح عيسى ، مكتبة مدبولى ، 1986 . كتب عربية ( إلكترونية )
3 – كناسة الصحف ، محمد العزبى ، كتاب الجمهورية ، مارس 2012 . ( إلكترونية )
4 – الخال ، محمد توفيق ، المصرى للنشر والتوزيع ، الطبعة الثانية ، ديسمبر 2013 . ( إلكتروتية )
5 – أيامى الحلوة ، عبد الرحمن الأبنودى ، أطلس للنشر والإنتاج الإعلامى ، 2002 ( إلكترونية )
6 – الكتابات الكاملة ، يحيى الطاهر عبد الله ، دار المستقبل العربى ، الطبعة الثانية 1994 ( إلكترونية )
7 – أدب السجون ، تحرير شعبان يوسف ، شهادة جمال الغيطانى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2014 . ) إلكترونية )
8 - في خدمة الأمن السياسي مايو 1939 – مايو 1970 ، اللواء حسن طلعت ، مدير المباحث العامة ،الوطن العربى للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى 1983 .
9 – مفكرون خلف القضبان ( 9 ) ، حنان عبد الهادى جريدة الرأي – الإلكترونية ، أول سبتمبر 2010 .
10 -الزنزانة 21 وصديق الغيطانى الحنوبى ، غادة قدرى ، جريدة مبتدا الإلكترونية ، 18 أكتوبر ، 2015 .
11 في حوار عمره 14 سنة الشاعر سيد حجاب ، محمد منير ، جريدة الأهرام ( ثقافة وفنون ) ، 28 يناير 2017 .
12– الشاعر العظيم والأعماق الشعبية ، إبراهيم فتحى ، جريدة القاهرة يوليو ، 2017 .
13– الأبنودى معجزة لاتموت ، خليل كلفت ، الحوار المتمدن ، العدد 4790 ، 28 أبريل 2015 .
14 – كيف نرى تجربة الشاعر عبد الرحمن الأبنودى ، أحمد حسن ، الحوار المتمدن ، العدد 5139 ، 21 أبريل 2016 .
15 – الأبنودى يتذكر ويروى حكايات البدايات 19 : إستفز السجانون وعينا السياسى ، جريدة الجريدة الكويتية الإلكترونية ) 4 أكتوبر 2007 .
.
سعيد العليمى - على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
سعيد العليمى - على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
www.ahewar.org