وائل النجمي - الخيال المضطرب عند جماعة الديوان

يري الكثير من النقاد أن البداية الحقيقية للنقد الأدبي الحديث في النقد العربي المعاصر كانت مع ((جماعة الديوان)) [1]، ومن نافلة القول التذكير بأن هذه الجماعة كانت متأثرة أساسا "بالرومانسية" [2]؛ ولكونها سلفا أساسيا للممارسة النقدية العربية المعاصرة، فإنه من الضروري مراجعتها ومسائلتها في إطار ما يُعرف "بنقد النقد"، وسوف أقوم في الدراسة المُقـَدَّمة هنا بتتبع تـَمَثــُّل هذه الجماعة لأحد المفاهيم الأساسية في "الرومانسية"، ألا وهو مفهوم "الخيال"، وسوف أبدأ أولا بإلقاء الضوء حول هذا المفهوم في "الرومانسية" نفسها قبل الانتقال إلي ((جماعة الديوان)).

يُعَدُّ مفهوم "الخيال"، والتفرقة بينه وبين "التوهم"، من القضايا الأساسية في "الرومانسية"، وعلي الرغم من وجود كم هائل من الاختلافات حولهما عند النقاد الرومانسيين، إلا أن ((سير موريس بورا)) لخص المدخل إلي هذه القضية في: ((تقرير أن الخيال لا يعالج ما لا وجود له، ولكنه يكشف نوعا ما من الحقيقة، ويتصل اتصالا وثيقا بالبصيرة أو الشعور أو الحدث [أظنها: الحدس])) [3]، وهكذا فإننا نجد أن "الخيال" عند "الرومانسيين" يتحول من كونه سبيل اختراع ما ليس له وجود؛ ليصبح وسيلة إدراك ما هو موجود بالفعل، ذلك الإدراك الذي لا يتم إلا عن طريق العمليات "العقلية ــ العاطفية" التي جوهرها "الخيال" في نفوسنا.

والمنطلق الأساسي لهذه النظرة عند "الرومانسيين" هو التمرد علي "النظرة الكلاسية" التي قللت من قيمة "الخيال"، وأخضعته في تزمت لقوالب صارمة لا يجوز لأحد الخروج عنها، ومن المعروف أن الطابع العام "للرومانسية" كان الثورة علي "الكلاسية"، وعلي كافة أصولها وقواعدها؛ بهدف تحرير "الأدب" من سيطرة الآداب الإغريقية واللاتينية القديمة التي اتخذها "الكلاسيون" إنجيلا "للأدب" [4]، لكن مع مرور الوقت أصبح "للرومانسية" رؤيتها المميزة وتحليلها الخاص "للأدب"، وكان مفهوم "الخيال" من بين العناصر الهامة لتلك الرؤية، ويبرز من بين نقادها ((كولريدج)) (1772-1834)، ليس بوصفه من ألمع النقاد الرومانسيين وحسب، وإنما بوصفه صاحب نظرية حول "الخيال"، تُعَدُ هي المحور الأساسي في هذا الفكر. [5].

كان ((كولريدج)) قد وضع "التوهم" كمقابل "الخيال"، وجعل منهما شيئين متناقضين، "فالتوهم" عنده هو قوة تجميعية يشبه عملها عمل الذاكرة، من تجميع وحشد ورص، مع تحرر من قيدي الزمان والمكان، كما أن هذا التجميع للمدركات معا يتم من غير توحيد لها [6]، أي أن "التوهم" لا يستطيع أن يخرج بشيء متماسك من المعطيات التي يعالجها، فهو: (((.) ملكة عقلية، تخلو من الروحية العاطفية، لذلك فإنها تحشد، وتكدس، وترص، لكنها لا تصل من هذا كله إلي (الوحدة).)). [7]، أما "الخيال" فهو علي النقيض من ذلك تماما، فهو جوهر عمليات المعرفة، وهو القادر علي الوصول إلي الوحدة الكامنة وراء الظواهر الحسية [8]، إنه يمتاز عن "التوهم" بما لديه من قدرة علي التركيب بين الأشياء، وتشكيلها في وحدة قائمة، فهو: ((ملكية [أظنه يقصد ملكة] عقلية، وقوة روحية عاطفية. لذلك فإنها أداة (موحدة)، تلمح بين الأشياء جوامعها، وتري في الأجزاء والعناصر وحدتها)). [9]

ولا يكتفي ((كولريدج)) بتلك الوظيفة التي أعطاها "للخيال"، وإنما يمضي إلي تقسيم هذا "الخيال" إلي قسمين: "أولي"، وآخر: "ثانوي". الأولي: هو تلك القوة الأولية التي بواسطتها يتم إدراك الإنسان بعامة، وهو متوفر بهذا الشكل عند كل البشر، أما الآخر: فهو "الخيال الشعري"، وهو تلك القوة التي تـُمَكـِّن الإنسان من الإدراك، ثم تتجاوز به إلي عملية خلق إبداعية، تذوب فيها المتناقضات معا، ويتم التوفيق بينها عن طريق الوقوف علي ما بها من وحدة كامنة فيها. [10]،

وكلمة "أولي" التي يُطلِقُها ((كولريدج)) هنا، توضح ما يراه من كون هذا النوع من الإدراك هو نوع بدائي، أو عادي، يمكن أن يقع به الكثير من الأخطاء، بينما كلمة "ثانوي" تعني نوعا من التمييز ورفع الشأن لهذا "الخيال" [11]؛ لذا فهو ليس بالضرورة متوفر عند كل الناس، بل هو خاصية مميزة للمبدعين، ويمكن تلخيص هذه المفاهيم الأساسية عند ((كولريدج)) علي النحو التالي:

المفهوم

التعريف

العمل

"الوهم"

قوة تجميع ورص.

تحشد وترص ما تجمعه معا، دون أن تخرج منه بشيء موحد.

"الخيال"

قوة توحيد وخلق.

تركب المدركات معا، فتخرج من ذلك بشيء موحد جديد.

"الخيال الأولي"

قوة توحيد إدراكي.

وسيلة الإدراك المتوفرة عند كل الناس، لكن من الممكن أن يقع بها بعض الأخطاء.
"الخيال الثانوي"

قوة توحيد إبداعي.

تفكك المدركات ثم تركبها من جديد في بناء موحد، وهي لا تتوفر إلا لدي الشعراء فقط، فتمكنهم من رؤيا مميزة للأشياء. [12]

والآن عودة إلي ((جماعة الديوان))، لقد ذكر ((العقاد)) (1889-1964) أن ((شكري)) (1886- 1958) هو رائد التفرقة بين "الخيال" Imagination، و"التوهم" Fancy، علي الرغم مما بهما من خلط والتباس عند أغلب النقاد الشرقيين والغربيين علي حد سواء [13]، وهو ما يعني اطلاع أعضاء هذه الجماعة علي أصول مفهوم "الخيال" في الأصل الغربي "للرومانسية"، بل إن ((العقاد)) يصور الأمر وكأنه معضلة كبيرة يصعب الخروج منها بصورة واضحة حول "الخيال"، ويصور ((شكري)) بوصفه صاحب تفرقة هامة بين "الخيال" و"التوهم"، تُعَدُّ أهم مما هو موجود عند الرومانسيين الغربيين أنفسهم!

ونص التفرقة التي يشير إليها ((العقاد)) عند ((شكري)) يقول فيه ــ وسوف أنقله كاملا علي الرغم من طوله نظرا لأهميته هنا ــ: ((إن التخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات التي بين الأشياء والحقائق، ويشترط في هذا النوع أن يعبر عن حق. والتوهم هو أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود، وهذا النوع الثاني يغري به الشعراء الصغار ولم يسلم منه الشعراء الكبار، ومثله قول أبي العلاء:

واهجم علي جنح الدجى ولو أنه
أسـد يصـول مـن الهلاك بمخلب

والصلة التي بين المشبه والمشبه به صلة توهم ليس لها وجود، وكذلك قول أبي العلاء في سيل النجوم:

ضرجته في دما سيوف الأعادي
فـبـكـت رحمـة لـه الشـعـريـان

أي أعادي؟ وأي سيوف، في مثل هذا البيت تري الفرق واضحا بين التخيل والتوهم. وأما أمثلة الخيال الصحيح، فهو أن يقول قائل: إن ضياء الأمل يظهر في ظلمة الشقاء، كما يقول البحتري:

كالكوكب الذي أخلص ضوءه
حلك الدجى حتى تألق وانجلي

فهذا تفسير للحقيقة وإيضاح لها، وكذلك قول الشريف:

فما للزمان رمي قومي فزعزعهم
تـطـايـر الـقـعـب لمـا صكه الحجر

والقعب: القدح، فهو يشبه تفرق قومه بتطاير أجزاء الإناء المكسور، وهذا أيضا وتوضيح لصورة حقيقية من الحقائق وهي تفرق قومه...)). [14]

وتعقيبا علي هذه التفرقة، فإني أري أن مقولة ((شكري)) بأن "الخيال" يظهر الصلات بين الأشياء، قريبة إلي حد ما من مقولة ((كولريدج)) بأن "الخيال" يركب المدركات معا، أما مقولته بأن "التوهم" هو جمع بين شيئين معا ليس بينهما صلة، أي تجميع ورص وتكديس للأشياء، فإني أراها متطابقة إلي حد كبير مع مقولة ((كولريدج)) حول "التوهم"، لكن برغم ذلك تبدو رؤية ((شكري)) غير واضحة المعالم، خاصة عند النظر إلي الأمثلة التي يوردها بهدف التفرقة بين "الخيال" و"التوهم".

إن البيتين الخاصين "بالخيال" عنده يأتي مصدر استحسانه لهما من كونهما يعبران عن حقيقة من الحقائق، وهذا التعبير هو ما جعل "الخيال" في هذين البيتين "خيالا صحيحا"، ولا يَظهَر في البيتين كيف أبان "الخيال" الصلات بين الأشياء، كما حدد هو كشرط "للخيال" من قبل، وعلي النقيض من ذلك أيضا، البيتان اللذان ضربهما كمثال "للتوهم"، فإنه لا يوجد فيهما جمع بين أشياء ليس بينها صلة، كما اشترط هو في تعريفه "للتوهم"، وإنما بهما صورة خيالية محلقة، ترسم تجاوبا رائعا للطبيعة مع المدركات الحسية.

والطريف أن تجاوب الطبيعة هذا ــ الذي يرفضه ((شكري)) في مقولته السابقة ــ هو من السمات الأساسية "للرومانسية" [15] التي من المفترض أن ((جماعة الديوان)) تنطلق منها أساسا، وهكذا فإنه من الملاحظ أن أمثلة ((شكري)) التوضيحية حول "الخيال" و"التوهم"، تتضاد مع الإطار النظري الذي وضعه لهما. أما لو تم عكس موضع الاستشهاد بهذه الأبيات، فيتم وضع ما خصصه "للتوهم" موضع "الخيال"؛ فإنه يتطابق في هذه الحالة أكثر مع تعريفه النظري من ناحية، ويقترب من طابع "الرومانسية" المحلقة في "الخيال" من ناحية أخرى؛ لذا فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: تحت أي إطار نظري جاء استشهاد ((شكري)) بهذه الأبيات؟

إن تتبع مفهوم "الخيال" في المرحلة السابقة علي ((جماعة الديوان)) في الممارسة النقدية العربية، أعني "المرحلة الإحيائية"، يوضح أن اختيار ((شكري)) لأبيات الاستشهاد هذه، يتوافق مع رؤية هذه المرحلة أكثر مما يتوافق مع إطاره النظري الذي صاغه في مقولته السابقة.

لقد كان نقاد "المرحلة الإحيائية" قد وضعوا تفرقة بين "الشعر" و"النظم" علي أساس خاصية نوعية يمتاز بها الأول دون الآخر هي "الخيال"، وهي خطوة تعد متقدمة بالنسبة لتلك الفترة، مقارنة بالتدهور الذي كان سائدا من قبل، لكن هؤلاء النقاد كانوا ينظرون إلي "الأدب" أساسا من منظور أخلاقي اجتماعي، يتحول فيه "الأدب" إلي أداة تعليمية أخلاقية أكثر من كونه ذا خاصية فنية جمالية؛ لذا كانت وظيفة "الخيال" الأساسية عندهم أنه: ((رداء خادع تكتسي به الحقائق، فتخفي مرارتها وجفافها علي العامة الذين هم أشبه بالصغار الذين لم يشبوا عن الطوق فكريا)) [16].

لذا كان لا يُسْمَح لهذا "الخيال" بالانطلاق أو التحرر من أسْر الواقع، بل كان عليه أن يكون "متعقلا" ــ بتعبير ((جابر عصفور)) ــ، يراعي قوانين الاحتمال وحدود المنطق، ويستمد مفرداته من معطيات الواقع ومكوناته؛ لكي يخرج المنتج الخيالي النهائي إما مشابه للواقع، أو ما يجب أن يكون في الواقع [17]؛ وذلك لكي يحقق "الخيال" فعالية تأثيره في المتلقي من وجهة نظرهم [18]، خاصة عندما يجد المتلقي نفسه أمام عوالم علي الرغم من أنها منشأة عن طريق "الخيال"، إلا أن "مظنة الكذب" منتفية عنها تماما، وهو ما يفرض علي "الخيال" ضِـيقا، يعوقه عن القيام بدوره في إثراء "الأدب" وفي تحقيق "الجمال الأدبي".

ومن الواضح أن اختيار ((شكري)) للأبيات الخاصة "بالخيال" و"التوهم" متأثر بهذه النظرة الإحيائية، بل إن وصفه "للخيال" بأنه "صحيح" دليل علي ذلك أيضا، لكونه قريب بشكل أو بآخر من نفي "مظنة الكذب" عند "الإحيائيين"، كما أن تمجيده لتعبير البيتين الخاصين "بالخيال" عن حقيقة من الحقائق، وتفسيرهما لهذه الحقائق، ذلك يخضع لتلك النظرة التعليمية الأخلاقية الخاصة بالإحيائيين، أكثر مما يتبع مفهومه النظري حول "الخيال" و"التوهم" أو مفهوم "الرومانسية" ذاتها، وهو ما يعني أن ((شكري)) الذي انطلق متأثرا "بالرومانسية" في محاولة تجديد الممارسة النقدية العربية، عن طريق الثورة علي "المرحلة الإحيائية" السابقة عليه، كان واقعا تحت تأثير بعض نظرات تلك المرحلة أساسا.

ولم يكن الحال يختلف كثيرا عند باقي أفراد الجماعة في هذا الصدد أيضا، فها هو ((العقاد)) نفسه يشير إلي أن "الخيال" ليس كما هو المعتقد أنه نوع من أنواع الكذب، أو القول الذي يفترض في قائله أنه لا يُصدَّق [19]، ثم يمضي في التفرقة بينه وبين "التوهم" في "الأدب" علي أساس أن ((الفن الذي يعتمد علي التوهم هو الفن الذي يرضي شهوة من الشهوات يفتقدها الإنسان في عالم الحس، فيموهها عليه في عالم الأحلام. أما الخيال فإنه لا يخاطب غرائز المتلقي ولا يتوخى تسليته أو إثارة إحساسه. بل يعمد إلي الأشياء التي يحسها الناس إحساسا مبهما أو مضطربا فيجلوها لهم في صورة فنية)) . [20]

((العقاد)) إذن يجعل "التوهم" مخاطبة الشهوات عند القراء، بينما "الخيال" هو تقديم المبهم والغامض من الأحاسيس والمشاعر في صورة فنية واضحة، وفضلا عن عدم ذكر ((العقاد)) لكيف يتم جلاء هذا "المبهم" و"الغامض" أصلا؛ فإن "الدور الفني" الذي يقوم به "الخيال" في تحقيق "الجمالية الأدبية" مختفٍ تماما عنده. ومما يثير الدهشة فيما يخص "الخيال" عنده أيضا، أنه أخذ بنظرية ((رينان)) العنصرية، التي تحصر "سعة الخيال" في الجنس الآري مطلقا، وتنفيها عن الجنس السامي، وهي نظرة ذات أبعاد استعمارية واضحة، حاول ((العقاد)) تخليصها منها بأن جعل الأديب الذي يتسع خياله في أدبه يكون جامعا لصفات الجنس الآري، علي الرغم من كونه من أبناء الجنس السامي [21]، وهي نظرة بها الكثير من المغالطة في أساسها نفسه، فضلا عن عدم إفادتها لأيٍّ من "الأدب" أو "النقد".

إذن هناك إجماع بين ((العقاد)) و((شكري)) علي أن "الخيال" ليس نوعا من أنواع الكذب، لكن ((العقاد)) وبشكل أخلاقي أيضا يجعل "التوهم" في الفن هو مخاطبة الغرائز والأحاسيس، وذلك يذكرنا بنحو أو بآخر برفض نقاد الإحياء للأدب الذي يتناول الأمور الغزلية الحسية، لكونه ضار بالمجتمع وخطر علي الناشئة من فتيات وفتيان [22]، ولم يتبق معنا في هذا الصدد إلا تتبع رؤية ((المازني)) (1889-1949) حول "الخيال".

و((المازني)) لا يخرج عن الدائرة نفسها في تعريف "الخيال" أيضا، فهو يري: ((أن الخيال السليم هو الخيال الذي يؤلف بين العناصر المختلفة ليخلق شيئا جديدا)) [23]، ويري أيضا أن "الخيال المحلق" في "الأدب" ليس بمنفصل عن الواقع، وإنما هو قائم ومعتمد علي هذا الواقع، فهو يري أن الشياطين وعرائس البحر والغاب التي يعج بها الشعر الغربي: (((...) ليست مخلوقة خلقا وإنما هي، علي بعدها وغرابتها، مما استحدثه الخيال النشيط من مألوف بنات الدنيا ولصوصها. فهي أسماء مستعارة لشخصيات مكونة من متفرق ما يلحظ في ناس هذه الدنيا)). [24]

لكن ((المازني)) أيضا يعود إلي النظرة "الإحيائية" عندما يعترض علي البيت الذي يقول:
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها عن الجهـل بعد الحلم أسبلتا معا
لأنه يري فيه مخالفة لما هو في الواقع، فلا يمكن للفرد أن يبكي بعين واحدة، كما أن البكاء بعين واحدة لا يدل علي الحزن الشديد كما يقول [25]، وهي نظرة نقدية تعتمد علي الحدود المنطقية بشكل صارم، كما هو الحال عند "الإحيائيين" من قبل.

إذن مفهوم "الخيال" عند ((جماعة الديوان)) مفهوم مضطرب، فهم يصرون علي نفي اعتبار "الخيال" نوعا من الكذب، ويصرون كذلك علي أنه عملية تجميع وتركيب بين الأشياء، وهي رؤية تستمد قوامها مباشرة من أصول "الرومانسية"، ثم يعودون بعد ذلك إلي الرؤية الإحيائية الأخلاقية المنطقية عند التمثيل أو التطبيق النقدي، أي أن فهم ((جماعة الديوان)) "للخيال" هو فهم ملتبس بين "الرومانسية" و"الإحيائية"، فهم يتنكرون لما عند الإحيائيين من أصول علي مستوي التنظير، ثم يعودون إلي الأخذ بالمفاهيم الإحيائية عند التطبيق، وذلك يضعنا في مواجهة ظاهرة لها تأثير خطير علي "النقد العربي"، ألا وهي ظاهرة "تداخل المناهج".

إن "تداخل المناهج" يختلف عن "تجاور المناهج"، فالأول يعني أن مجموعة من السمات الخاصة بمنهج معين، تتسرب إلي أصول منهج آخر، أما "تجاور المناهج" فهو يعني بقاء المنهج القديم بكل خصائصه وممارساته، حاضرا من خلال أنصاره بالمجاورة مع المنهج الآخر، و"تجاور المناهج" ليس له ضرر كبير علي "الممارسة النقدية"، وإن كان هو علامة علي عدم القدرة علي التطور وتحقيق "القطيعة المعرفية" مع الأصول القديمة، لكن "تداخل المناهج" هو علي قدر كبير من الخطورة، علي الرغم من كونه بشكل أو بآخر، أحد مظاهر التكييف الثقافي للمعطيات الجديدة الوافدة عادة، والتي تدخل في مواجهة مع الممارسات السابقة المتَجَذِّرة في الثقافة المقتبـِسة.

وفي اعتقادي أن سبب حدوث "التداخل المنهجي" هو عدم القدرة علي تَمَثُّل المفاهيم الجديدة بشكل صحيح من ناحية، وعدم القدرة علي تصور الكيفية التي يجب أن تكون عليها هذه المفاهيم في البيئة الجديدة المقتبس إليها من ناحية ثانية، وعدم التعامل مع هذه المفاهيم بشكل موضوعي سواء من قبل مقدميها أو رافضيها من ناحية ثالثة.
أما الأخطار التي تنطوي عليها ظاهرة "التداخل المنهجي" فهي: أولا عدم نجاح المفاهيم الجديدة في تحقيق الفعالية المطلوبة في مواجهة ما اُقتُبِّسَت من أجله أساسا، وثانيا عدم القدرة علي تحقيق مبدأ التطور الذاتي في مواجهة ما يجد من متغيرات، لتصبح قاعدة اقتباس المفاهيم الجاهزة هي الأساس في مواجهة المتغيرات عادة، وثالثا زعزعة منهجية الممارسة النقدية، إذ لا يتوقع من هذه الممارسة أن تكون منضبطة وهي تنادي بأصول نظرية معينة، ثم تقوم بإتباع شيء آخر غير ما نادت به عند التطبيق.

علي أية حال، إن الكشف عن "التداخل المنهجي" في الممارسة النقدية العربية" في هذه المرحلة الباكرة من مراحل نشوئها، يكشف عن أن ارتباط المشكلات التي تعاني منها هذه الممارسة في الوقت الحالي بهذه الجذور الأولي، وما من سبيل إذا ما رغبنا حقا في تقديم حل لهذه المشكلات، إلا العودة بمراجعة المفاهيم النقدية في مسيرة "الممارسة النقدية" من أجل فض هذا الالتباس والتشويش اللذين من الصعب الوصول إلي أية منهجية حقيقية في ظل وجودهما، ومن هنا فإن آخر ما أختم به حديثي هو الدعوة إلي المزيد من المراجعات للمفاهيم والمناهج التي ورثناها عن الأجداد؛ حتى نتمكن من مراجعة المفاهيم والمناهج التي نشتغل بها حاليا في خطوة لاحقة للأولي.
حواشي

[1] أنظر علي سبيل المثال حول هذه النظرة: د.سيد البحراوي: ((البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث))، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، 1993م، صـ17، وأنظر: د.عز الدين الأمين: ((نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر))، ط2، دار المعارف، 1970م، القاهرة، صــ8-9. وأنظر أيضا: د.شكري عياد: ((المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين))، عالم المعرفة، [عدد رقم (177)]، الكويت، 1993م، صـ100.

[2] أورد الدكتور مجدي أحمد توفيق ثبتا رائعا لما اتفق عليه الباحثون من تأثر جماعة الديوان بالرومانسية بوجه عام، أو ببعض أعلامها علي نحو خاص، وأورد أيضا اعترافات أعضاء الجماعة أنفسهم بهذا التأثر، مما يغني عن ذكره ثانية هنا، راجع: د.مجدي أحمد توفيق: ((مفاهيم النقد ومصادرها عند جماعة الديوان))، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة دراسات أدبية، القاهرة،1982م، صـ119-136.

[3] السابق: صـ328

[4] أنظر: د.محمد زكي العشماوي: ((دراسات في النقد الأدبي المعاصر))، دار الشروق للنشر والتوزيع، القاهرة، 1994م، صـ250

[5] د.عبد المنعم تليمة: ((مقدمة في نظرية الأدب))، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، د.ت، صـ194

[6] د.عبد المنعم تليمة: ((مقدمة في نظرية الأدب))، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، د.ت، صـ194

[7] د.عبد المنعم تليمة: ((مقدمة في نظرية الأدب))، مرجع سابق، صـ195

[8] أنظر: د.محمد زكي العشماوي: ((دراسات في النقد الأدبي المعاصر))، دار الشروق للنشر والتوزيع، القاهرة، 1994م، صـ257

[9] د.عبد المنعم تليمة: ((مقدمة في نظرية الأدب))، مرجع سابق، صـ194-195.

[10] أنظر: د.محمد زكي العشماوي: ((دراسات في النقد الأدبي المعاصر))، مرجع سابق، صـ257-258.

[11] أنظر: د.مجدي أحمد توفيق: ((مفاهيم النقد ومصادرها عند جماعة الديوان))، مرجع سابق، صـ330

[12] السابق، صـ331، ولكنني أضفت وعدلت كثيرا عما أورده؛ بغية إيضاح الفكرة بأكبر قدر ممكن.

[13] أنظر: د.محمد مندور: ((النقد والنقاد المعاصرون))، نهضة مصر، القاهرة،2004، صـ52، وعلي الرغم من أن ((المازني)) هاجم ((شكري)) في ((الديوان))، إلا أنه لا يمكن فصل ((شكري)) عن هذه الجماعة بأية حال من الأحوال؛ وذلك لكونه صاحب الفضل الأول في توجيه ((العقاد)) و((المازني)) نحو "الرومانسية" من ناحية، كما أن ((العقاد)) و((المازني)) عادا واعترفا بفضله وأهميته في أواخر أيامهم من ناحية أخري، أنظر: صـ42-45 من هذا المرجع نفسه أيضا.

[14] نقلا عن: السابق، صـ52-53.

[15] أنظر: د.محمد غنيمى هلال: ((الرومانتيكية))، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د.ت، صـ153

[16] د.جابر عصفور: ((قراءة النقد الأدبي))، مكتبة الأسرة، [الهيئة المصرية العامة للكتاب]، القاهرة، 2002م صـ122.

[17] يجب توضيح أن المقصود بـ "ما يجب أن يكون في الواقع" هنا، يعني أن يكون ما في العمل الأدبي متحددا علي أساس "المألوف من سنن الحياة"، أو ما "يُسمَع بمثله"؛ احتراسا من أن يتبادر إلي الذهن أية معانٍ أخري، تتداخل مع تلك الموجودة في " الواقعية"، ولمزيد من التوضيح أنظر إلي المعني المقصود "بمشابهة الواقع" التي يتحدد عليها "الصدق الفني" عند "الإحيائيين" في: د.شكري عياد: ((المذاهب الأدبية عند العرب والغربيين))، مرجع سابق، صـ94..

[18] أنظر: د.جابر عصفور: ((قراءة النقد الأدبي))، مرجع سابق، صـ109، ومن المفيد مراجعة الفصل بأكمله: صـ36-135.

[19] أنظر: د.أحمد إبراهيم الهواري: ((نقد الرواية في الأدب العربي الحديث في مصر))، ط3، دار المعارف، القاهرة،1983م، صـ153

[20] نقلا عن: السابق، صـ153-154.

[21] أنظر: د.شكري عياد: ((المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين))، مرجع سابق، صـ115-116.

[22] راجع: د.علي شلش: ((نشأة النقد الروائي في الأدب العربي الحديث))، مكتبة غريب، القاهرة، د.ت، صـ50-53.

[23] د.محمد مندور: ((النقد والنقاد المعاصرون))، مرجع سابق، صـ149

[24] نقلا عن: د.شكري عياد: ((المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين))، مرجع سابق، صـ124.

[25] أنظر: د.محمد مندور: ((النقد والنقاد المعاصرون))، مرجع سابق، صـ150.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...