يسعى زكريا تامر في هذه المجموعة إلى رسم بناء جديد لحياة الأسرة العربية التي تراوح بين الملهاة والفراغ والعبث، وهي تنتظم في سياق اجتماعي واحد يتمثل في الطبقة الوسطى التي تسعى لتطوير وضعها المادي والاجتماعي، مستعينا على ذلك بتثبيت الوحدة الجغرافية المتمثلة بمكان واحد (حارة قويق) تدور فيه أحداث المجموعة.
يعد زكريا تامر من الأدباء الذين لم ينضووا تحت أي قالب أو اتجاه، فقد عرف في مجموعاته القصصية الخمس الأولى ابتداء من صهيل الجواد الأبيض ، وصولا إلى النمور في اليوم العاشر ، برؤيته المتميزة للفرد في صراعه مع الحياة، وفي تشكله ضمن منظومة أزمة الوجود الإنساني كما أشار هو إلى ذلك في مقابلة صحفية: كنا مجموعة من الأدباء الشباب الضالين الكارهين لكل قيد، سواء أكان أدبيا أم اجتماعيا، والحالمين بتغيير العالم والأدب تغييرا يجعل من كل إنسان سيدا كما يجعل الأدب يبدع حرا ويهدم سجونا شيدت قديما باسم الأدب الرفيع الواقعي .
رفض زكريا تامر القوالب الفنية الجاهزة للعمل السردي، ومضى في تحطيمها، سعيا وراء إدراك العالم والذات من خلال التنوع في أشكال التعبير والموضوعات، حتى أصبحت القصة القصيرة لديه فنا من الشكل الذي لا يخضع لنظرية واحدة. واستغرق في المبالغة في الإدهاش والمفاجأة، مستفيدا من العديد من الاتجاهات الأدبية، فكان للوجودية واللامعقول والواقعية الاشتراكية والسريالية والعبثية والانطباعية وغيرها أثر بالغ في أسلوبه من حيث الاهتمام بأعماق الإنسان واللاشعور، فبدا عالمه القصصي خليطا من أشياء متنافرة ومزيجا من تلاحم الذهني بالواقعي، والماضي الذي يفضي إلى المستقبل دون الحاجة للوقوف على الحاضر الذي أصبح بدوره جسرا يحمل الماضي إلى المستقبل، من خلال قدرة فنية فائقة على التلاعب ببنية الزمن داخل العمل القصصي.
اتسمت حداثة زكريا تامر بدينامية عالية، تقوم على التجاوز المستمر للأبينة السردية المألوفة، كأن يتلاعب بدور الشخصيات والرواي، فتصبح الشخصيات أكثر علما من الراوي العليم، والعكس صحيح، في بناء سردي أفضل ما يمكن أن يطلق عليه: البناء المراوغ .. كل ذلك بالإضافة إلى كونه من الأدباء القلائل الذين أخلصوا لفن القصة القصيرة، فلم يتجاوزه إلى غيره من الفنون السردية، مما يؤهله لأن يكون بحق رائد أدب اللامعقول إذا جاز توظيف هذا التوصيف، من جهة، وأبرز كتاب القصة القصيرة العربية التعبيرية المعاصرة من جهة أخرى.
وفي وقفة نقدية عند مجموعة الحصرم ، التي صدرت ضمن المرحلة الفنية الثانية من مراحل أدب زكريا تمامر، يمكن القول إن هذه المجموعة تستدعي الاهتمام، لما لها من دور في رصد حالة التحول الفكري والفني في الواقع الأدبي المعاصر، فهي تكشف عن التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى انهيار منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية السائدة، علاوة على أنها امتداد لشعور العجز والاغتراب الذي عالجه القاص في مجموعاته السابقة، وما تنطوي عليه من رسم كاريكاتيري ساخر لاذع نتيجة تهميش الإنسان الفرد في الحياة بمستوياتها المختلفة.
ولا يخفى على دارس أن زكريا تامر في اشتغاله على التابوهات الثلاثة، كان يدرك حقيقة العجز العربي المنبثق من هذه التابوهات، لكنه في مجموعة الحصرم ارتأى الوقوف على المحرم الجنسي بصورة مغايرة لما عرف سابقا في معالجاته الفنية، فالدور الآن للمرأة في إعلان التمرد على هذا التابو بعد أن كانت مغيبة ومهمشة، وكأن الكاتب يسعى في هذه المجموعة للوصول إلى رؤية إنسان الغد القائمة على الاحتمالات السيكولوجية، وما ينطوي على ذلك من ألوان الشذوذ الجنسي الذي باتت المرأة تتعاطاه إلى جانب الرجل، لا بل تتفوق عليه في هذا التجاوز القيمي.
تتكون المجموعة من تسع وخمسين قصة قصيرة، يمكن التعامل معها على أنها سيرورة سردية ووحدة متصلة تكشف عن ترابط فني كبير بين القصص مجتمعة، وذات دلالة كلية كامنة تتحقق في العالم الكلي للسرد القصصي، كما يمكن القول إن فيها تواليا موضوعاتيا تضمنه قوة التركيب الفني الذي يكشف عن بنية فنية متطورة بشكل منطقي متدرج.
يسعى زكريا تامر في هذه المجموعة إلى رسم بناء جديد لحياة الأسرة العربية التي تراوح بين الملهاة والفراغ والعبث، وهي تنتظم في سياق اجتماعي واحد يتمثل في الطبقة الوسطى التي تسعى لتطوير وضعها المادي والاجتماعي، مستعينا على ذلك بتثبيت الوحدة الجغرافية المتمثلة بمكان واحد (حارة قويق) تدور فيه أحداث المجموعة.
برغم هذه الأبعاد الشكلية في التوصيف، فإن القصص تكاد ترفض أن تكون انعكاسا للحياة، حتى غدت المساحة واسعة بين النص والحياة، ويقدم الكاتب احتمالات كثيرة لهذا العالم قد يكون بعضها غير محتمل أو ممكن نتيجة الاستغراق في المتخيل السردي، إلا أنها تسهم في تمكيننا من إدراك أحوال هذا العالم.
ينصب اهتمام القاص في هذه المجموعة، على جدلية العلاقة بين الرجل والمرأة (الذكر والأنثى)، مؤكدا تراجع دور الذكر لصالح دور الأنثى التي تقدمت لتحتل المركز بدلا من الهامش الذي كانت تتبوأه، وقد خص علاقتها بالرجل في مستويين: الزوجة والعشيقة، مستعينا بطرق الإفصاح عن هذه الشخصيات بصور أكثر تحديدا لهوية كل منهما، عكس ما كان سائدا في أعماله السابقة التي اهتم فيها بتجريد الشخصيات من كل ما يميز ملامحها وهويتها، وفي أبسط أشكالها المرهونة بالاسم كأبسط حق من حقوقها الإنسانية، وصارت تعرف باسم ذي دلالة شعبية ومسحة فلكلورية، مثل: شلبية وبهيرة والمبيض والمر.
تتسم شخصيات مجموعة الحصرم التي اصطدمت بواقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بالانهيار والانهزام، فتخلى زكريا تامر عن تصويرها مطاردة ملاحقة من السلطات، ودفعها للتشظي، فظهرت في مستويات عديدة منها: الشعور بالمعاناة من التمايز الطبقي ومحاولة تجاوز ذلك بإقامة علاقات غير مشروعة مع الطبقة الغنية، العجز الجواني عن فهم الواقع، العجز عن التكيف والتأقلم والتواصل مع المجتمع، والعجز عن القدرة على تغيير الواقع.
فعالم الفرد لدى زكريا تامر، المستلب في مجموعاته السابقة، تحول في الحصرم إلى عالم جريء يقبل بشراسة على ممارسة حياته، ليس من باب المطالبة بالحقوق كلون من ألوان التمرد، بل الشراسة في التنفيس عن الغريزي المكبوت بصورة حيوانية بشعة لعلاقة غير سوية تقوم على الشذوذ، وكأن هذا السلوك ردة فعل لواقع الفرد المسحوق غير القادر على التغيير. وكأن تركيز تامر في الحصرم على الجانب الجنسي يؤدي دورا في الكشف عن الرغبة بممارسة فعل داخلي في مواجهة الشعور بالقمع والإذلال، بمعنى أن توظيف الجنس في إطار الشعور بالعجز يعبر عن القدرة مقابل العجز، وهذا ما يمكن وصفه بالتحول من الرضوخ والاستسلام الذي وسم مجموعاته الخمس السابقة، إلى التنفيس عن المكبوت في الحصرم وما بعدها.
فقاسم القزاز يتشهى زوجة مدير السجن في قصة يا خسارة ، غير مكترث بسبب وجوده في السجن أو بالتهمة الموجهة إليه أو بالعقوبة التي تنتظره، ويصبح الجنس رمزا للشهوة ووسيلة لتحقيق المكاسب وشكلا من أشكال السيطرة على المكان، كالمقابر التي يمارس الفرد فيها فعل الاغتصاب.
ومن اللافت للنظر، أن حضور المرأة يتجلى بوضوح في هذه المجموعة، فيعمد الكاتب إلى إعطائها دور البطولة، ورسمها بصورة غير مشرقة وغير مستلبة في الوقت نفسه، فهي ردة فعل على منظومة قيم التسلط الذكوري السائد في الموروث العربي من تجاهل لحقوقها الجنسية وحاجاتها النفسية ورغباتها المختلفة.
لقد برزت المرأة في المجموعة، مجردة من بعدها البيولوجي وما يعتريها من مراحل الحمل والإنجاب، أو ما يميز ملامحها الجسدية الأنثوية المثيرة والجاذبة، وتجاوز حضورها التقليدي السابق المبني على صور نموذجية ونمطية، فظهرت المرأة وهي تعي ذاتها وتفصح عن حاجاتها، حتى أصبحت مركز القوة بدل الضعف، فانعكست الأدوار بينها والرجل، طالبة لا مطلوبة، مبادرة لا واقعة تحت تأثير الطلب، وتحول الرجل إلى مستلب أمام إرادتها، تملك القرار والفعل أمام عجزه واستلابه، وكأن الكاتب يبني رؤيته على مفهوم مصادرة السلطة الذكورية.
لقد أصبحت المرأة تشكل عنصر دهشة من خلال علاقتها بالرجل، بالرد على ترسيخ مفهوم الاضطهاد الجنسي بفعل المبادرة، والرد على الذكر باستخدام السلاح نفسه، تغتصب الرجال كما اغتصبت هي من قبلهم.
اتسم السرد في المجموعة بالاتكاء على عنصري السخرية والتشويق، وبالبساطة والعفوية، وسيطرة الرواي العليم الذي يتحرك في حدود لا نهائية من الأفعال الماضية، فيفسح المجال لوجود بنية سردية شديدة التفصيل، والتوسع الزمني والمكاني في مساحة كتابة قصيرة جدا دون استغراق في لغة إنشائية، بل انصرف الجهد إلى التقاط خيوط الحالة النفسية بلغة موحية بعيدة عن الشاعرية، تكشف عن معاناة الشخصية، وهي أقرب ما تكون إلى الغرائبية، أقرب إلى الهدوء في تركيب اللفظي، وشرسة في الدلالة والمعنى، مثل عبارة: وأنصت لحظات للمطر الغزير يرجم زجاج النافذة .
زكريا تامر، الذي التفتت إليه الجوائز في وقت متأخر، أسهم في تقدم للقصة العربية الجديدة، فبعد أن أعطاها يوسف إدريس قيمة استبطان العالم الجواني في تفسير الواقع المعيش، استطاع تامر أن يجعلها في رحلة البحث عن العالم الداخلي تعي بشدة عالمها الخارجي المحيط وتتمرد عليه فينقاد الخارجي للداخلي.
د. امتنان الصمادي
يعد زكريا تامر من الأدباء الذين لم ينضووا تحت أي قالب أو اتجاه، فقد عرف في مجموعاته القصصية الخمس الأولى ابتداء من صهيل الجواد الأبيض ، وصولا إلى النمور في اليوم العاشر ، برؤيته المتميزة للفرد في صراعه مع الحياة، وفي تشكله ضمن منظومة أزمة الوجود الإنساني كما أشار هو إلى ذلك في مقابلة صحفية: كنا مجموعة من الأدباء الشباب الضالين الكارهين لكل قيد، سواء أكان أدبيا أم اجتماعيا، والحالمين بتغيير العالم والأدب تغييرا يجعل من كل إنسان سيدا كما يجعل الأدب يبدع حرا ويهدم سجونا شيدت قديما باسم الأدب الرفيع الواقعي .
رفض زكريا تامر القوالب الفنية الجاهزة للعمل السردي، ومضى في تحطيمها، سعيا وراء إدراك العالم والذات من خلال التنوع في أشكال التعبير والموضوعات، حتى أصبحت القصة القصيرة لديه فنا من الشكل الذي لا يخضع لنظرية واحدة. واستغرق في المبالغة في الإدهاش والمفاجأة، مستفيدا من العديد من الاتجاهات الأدبية، فكان للوجودية واللامعقول والواقعية الاشتراكية والسريالية والعبثية والانطباعية وغيرها أثر بالغ في أسلوبه من حيث الاهتمام بأعماق الإنسان واللاشعور، فبدا عالمه القصصي خليطا من أشياء متنافرة ومزيجا من تلاحم الذهني بالواقعي، والماضي الذي يفضي إلى المستقبل دون الحاجة للوقوف على الحاضر الذي أصبح بدوره جسرا يحمل الماضي إلى المستقبل، من خلال قدرة فنية فائقة على التلاعب ببنية الزمن داخل العمل القصصي.
اتسمت حداثة زكريا تامر بدينامية عالية، تقوم على التجاوز المستمر للأبينة السردية المألوفة، كأن يتلاعب بدور الشخصيات والرواي، فتصبح الشخصيات أكثر علما من الراوي العليم، والعكس صحيح، في بناء سردي أفضل ما يمكن أن يطلق عليه: البناء المراوغ .. كل ذلك بالإضافة إلى كونه من الأدباء القلائل الذين أخلصوا لفن القصة القصيرة، فلم يتجاوزه إلى غيره من الفنون السردية، مما يؤهله لأن يكون بحق رائد أدب اللامعقول إذا جاز توظيف هذا التوصيف، من جهة، وأبرز كتاب القصة القصيرة العربية التعبيرية المعاصرة من جهة أخرى.
وفي وقفة نقدية عند مجموعة الحصرم ، التي صدرت ضمن المرحلة الفنية الثانية من مراحل أدب زكريا تمامر، يمكن القول إن هذه المجموعة تستدعي الاهتمام، لما لها من دور في رصد حالة التحول الفكري والفني في الواقع الأدبي المعاصر، فهي تكشف عن التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى انهيار منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية السائدة، علاوة على أنها امتداد لشعور العجز والاغتراب الذي عالجه القاص في مجموعاته السابقة، وما تنطوي عليه من رسم كاريكاتيري ساخر لاذع نتيجة تهميش الإنسان الفرد في الحياة بمستوياتها المختلفة.
ولا يخفى على دارس أن زكريا تامر في اشتغاله على التابوهات الثلاثة، كان يدرك حقيقة العجز العربي المنبثق من هذه التابوهات، لكنه في مجموعة الحصرم ارتأى الوقوف على المحرم الجنسي بصورة مغايرة لما عرف سابقا في معالجاته الفنية، فالدور الآن للمرأة في إعلان التمرد على هذا التابو بعد أن كانت مغيبة ومهمشة، وكأن الكاتب يسعى في هذه المجموعة للوصول إلى رؤية إنسان الغد القائمة على الاحتمالات السيكولوجية، وما ينطوي على ذلك من ألوان الشذوذ الجنسي الذي باتت المرأة تتعاطاه إلى جانب الرجل، لا بل تتفوق عليه في هذا التجاوز القيمي.
تتكون المجموعة من تسع وخمسين قصة قصيرة، يمكن التعامل معها على أنها سيرورة سردية ووحدة متصلة تكشف عن ترابط فني كبير بين القصص مجتمعة، وذات دلالة كلية كامنة تتحقق في العالم الكلي للسرد القصصي، كما يمكن القول إن فيها تواليا موضوعاتيا تضمنه قوة التركيب الفني الذي يكشف عن بنية فنية متطورة بشكل منطقي متدرج.
يسعى زكريا تامر في هذه المجموعة إلى رسم بناء جديد لحياة الأسرة العربية التي تراوح بين الملهاة والفراغ والعبث، وهي تنتظم في سياق اجتماعي واحد يتمثل في الطبقة الوسطى التي تسعى لتطوير وضعها المادي والاجتماعي، مستعينا على ذلك بتثبيت الوحدة الجغرافية المتمثلة بمكان واحد (حارة قويق) تدور فيه أحداث المجموعة.
برغم هذه الأبعاد الشكلية في التوصيف، فإن القصص تكاد ترفض أن تكون انعكاسا للحياة، حتى غدت المساحة واسعة بين النص والحياة، ويقدم الكاتب احتمالات كثيرة لهذا العالم قد يكون بعضها غير محتمل أو ممكن نتيجة الاستغراق في المتخيل السردي، إلا أنها تسهم في تمكيننا من إدراك أحوال هذا العالم.
ينصب اهتمام القاص في هذه المجموعة، على جدلية العلاقة بين الرجل والمرأة (الذكر والأنثى)، مؤكدا تراجع دور الذكر لصالح دور الأنثى التي تقدمت لتحتل المركز بدلا من الهامش الذي كانت تتبوأه، وقد خص علاقتها بالرجل في مستويين: الزوجة والعشيقة، مستعينا بطرق الإفصاح عن هذه الشخصيات بصور أكثر تحديدا لهوية كل منهما، عكس ما كان سائدا في أعماله السابقة التي اهتم فيها بتجريد الشخصيات من كل ما يميز ملامحها وهويتها، وفي أبسط أشكالها المرهونة بالاسم كأبسط حق من حقوقها الإنسانية، وصارت تعرف باسم ذي دلالة شعبية ومسحة فلكلورية، مثل: شلبية وبهيرة والمبيض والمر.
تتسم شخصيات مجموعة الحصرم التي اصطدمت بواقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بالانهيار والانهزام، فتخلى زكريا تامر عن تصويرها مطاردة ملاحقة من السلطات، ودفعها للتشظي، فظهرت في مستويات عديدة منها: الشعور بالمعاناة من التمايز الطبقي ومحاولة تجاوز ذلك بإقامة علاقات غير مشروعة مع الطبقة الغنية، العجز الجواني عن فهم الواقع، العجز عن التكيف والتأقلم والتواصل مع المجتمع، والعجز عن القدرة على تغيير الواقع.
فعالم الفرد لدى زكريا تامر، المستلب في مجموعاته السابقة، تحول في الحصرم إلى عالم جريء يقبل بشراسة على ممارسة حياته، ليس من باب المطالبة بالحقوق كلون من ألوان التمرد، بل الشراسة في التنفيس عن الغريزي المكبوت بصورة حيوانية بشعة لعلاقة غير سوية تقوم على الشذوذ، وكأن هذا السلوك ردة فعل لواقع الفرد المسحوق غير القادر على التغيير. وكأن تركيز تامر في الحصرم على الجانب الجنسي يؤدي دورا في الكشف عن الرغبة بممارسة فعل داخلي في مواجهة الشعور بالقمع والإذلال، بمعنى أن توظيف الجنس في إطار الشعور بالعجز يعبر عن القدرة مقابل العجز، وهذا ما يمكن وصفه بالتحول من الرضوخ والاستسلام الذي وسم مجموعاته الخمس السابقة، إلى التنفيس عن المكبوت في الحصرم وما بعدها.
فقاسم القزاز يتشهى زوجة مدير السجن في قصة يا خسارة ، غير مكترث بسبب وجوده في السجن أو بالتهمة الموجهة إليه أو بالعقوبة التي تنتظره، ويصبح الجنس رمزا للشهوة ووسيلة لتحقيق المكاسب وشكلا من أشكال السيطرة على المكان، كالمقابر التي يمارس الفرد فيها فعل الاغتصاب.
ومن اللافت للنظر، أن حضور المرأة يتجلى بوضوح في هذه المجموعة، فيعمد الكاتب إلى إعطائها دور البطولة، ورسمها بصورة غير مشرقة وغير مستلبة في الوقت نفسه، فهي ردة فعل على منظومة قيم التسلط الذكوري السائد في الموروث العربي من تجاهل لحقوقها الجنسية وحاجاتها النفسية ورغباتها المختلفة.
لقد برزت المرأة في المجموعة، مجردة من بعدها البيولوجي وما يعتريها من مراحل الحمل والإنجاب، أو ما يميز ملامحها الجسدية الأنثوية المثيرة والجاذبة، وتجاوز حضورها التقليدي السابق المبني على صور نموذجية ونمطية، فظهرت المرأة وهي تعي ذاتها وتفصح عن حاجاتها، حتى أصبحت مركز القوة بدل الضعف، فانعكست الأدوار بينها والرجل، طالبة لا مطلوبة، مبادرة لا واقعة تحت تأثير الطلب، وتحول الرجل إلى مستلب أمام إرادتها، تملك القرار والفعل أمام عجزه واستلابه، وكأن الكاتب يبني رؤيته على مفهوم مصادرة السلطة الذكورية.
لقد أصبحت المرأة تشكل عنصر دهشة من خلال علاقتها بالرجل، بالرد على ترسيخ مفهوم الاضطهاد الجنسي بفعل المبادرة، والرد على الذكر باستخدام السلاح نفسه، تغتصب الرجال كما اغتصبت هي من قبلهم.
اتسم السرد في المجموعة بالاتكاء على عنصري السخرية والتشويق، وبالبساطة والعفوية، وسيطرة الرواي العليم الذي يتحرك في حدود لا نهائية من الأفعال الماضية، فيفسح المجال لوجود بنية سردية شديدة التفصيل، والتوسع الزمني والمكاني في مساحة كتابة قصيرة جدا دون استغراق في لغة إنشائية، بل انصرف الجهد إلى التقاط خيوط الحالة النفسية بلغة موحية بعيدة عن الشاعرية، تكشف عن معاناة الشخصية، وهي أقرب ما تكون إلى الغرائبية، أقرب إلى الهدوء في تركيب اللفظي، وشرسة في الدلالة والمعنى، مثل عبارة: وأنصت لحظات للمطر الغزير يرجم زجاج النافذة .
زكريا تامر، الذي التفتت إليه الجوائز في وقت متأخر، أسهم في تقدم للقصة العربية الجديدة، فبعد أن أعطاها يوسف إدريس قيمة استبطان العالم الجواني في تفسير الواقع المعيش، استطاع تامر أن يجعلها في رحلة البحث عن العالم الداخلي تعي بشدة عالمها الخارجي المحيط وتتمرد عليه فينقاد الخارجي للداخلي.
د. امتنان الصمادي