(1، 2 )
لو كنت ضيفا عندك ، وقدمت لي مشروبا أمريكانيا كالببس والكولا فلن أتناوله حتى لو أقسمتَ علي بكل أيمان الدنيا ، وحتى لو وضعت لي بجانب هذا المشروب مائة ألف جنيه . فلماذا ؟
كنت قبل أربعين عاما معيدا بجامعة أسيوط ، وكان راتبي وقتها اثنين وعشرين جنيها ، وحدث مرة أن كنت مغادرا قريتي بالقطار إلى أسيوط ، فرأيت حين نزلت من القطار على الرصيف زميلا من قريتي بكلية أخرى ومعه والده ، فوجدت من الواجب أن أحيي زميلي ووالده فدعوتهما لتناول مشروب ، وما وصلنا إلى بائع الصحف الذي تعودت أن أشتري منه الصحف والمجلات ، وطلبت منه [ حاجة ساقعة] للضيفين ، فاستخرج الرجل من ثلاجته زجاجتين للكولا كبيرتين جدا ، وفتحهما وقدمهما للضيفين ، وكاد يفتح الثالثة لي ، فرفضت بشدة ، فلم يكن وقتها في جيبي سوى شلن واحد [ ورقة بخمسة قروش ] فاقتربت من الرجل وهمست له : هذان ضيفان وليس معي سوى هذا الشلن .. أفتسترني سترك الله في الدنيا والآخرة ؟ فأخذ الرجل الشلن وقال بصوت مسموع : " ابقى ارجع خد الباقي بالليل يا أوووستاذ ماعنديش فكة !!! " كانت جملته تلك منجاة لي لم أنسها إلى اليوم ، وظللت - حتى اليوم ! - كلما كنت في أسيوط أمر على كشكه ذاك وأشتري من أولاده وحفدته كل ما أجده أمامهم من صحف ومجلات وأقرأ له الفاتحة ..
المهم توجهت لاستراحة المعيدين التي أقيم بها فلم أجد زميلي في الغرفة ( الدكتور عبد الجواد توفيق أستاذ الأدب الانجليزي المتفرغ حاليا بآداب أسيوط ) موجودا وكنت قد جعت جوعا شديدا ، ولا سجائر معي ، فاضطررت لكسر دولاب زميلي لعلي أجد فيه قروشا مبعثرة ، فلم أجد إلا ورقة ممزقة من فئة ال( 10 قروش) فأخذت أعالجها بالصمغ واللصق والمكواة حتى كادت تكون مقبولة ، وناديت بواب الاستراحة العجوز( عم أبو العلا ) ، وطلبت منه أن يشتري لي سندوتشين بقرشين وثلاث سجائر فلوريدا بثلاثة قروش ، فراح الرجل مشكورا وجاءني بما طلبته ، ودفع الحساب من جيبه ، فقد رفضوا أخذ تلك " البريزة " المهترئة ..
-------
توجهت للكلية للسؤال عن المرتب ، فوجدت الخزينة مغلقة .. فبدأت أبحث عن زملائي المقربين ، لعلي أجد عند أحد منهم مددا ، أسدد منه ما اقترضت من عم ( أبو العلا) بواب الاستراحة ، وأسدد لبائع الصحف ثمن البيبسي الذي كعَّه الضيفان اللذان صادفاني لدن نزولنا من القطار ..
تذكرت أيام طلب العلم بالكلية : كنا في دفعتنا ستة فقط من محافظة سوهاج ، أنا ورفعت من مركز طحطا ، وفتاة سوهاجية ، وحسين الجرجاوي ، وفتاة وفتى آخر من البلينا . وكان حسين الجرجاوي أقربهم مني ، وأخفهم روحا ، وأروعهم في تدبير واختراع المقالب ، وكان ذا شَعْر يغطي أذنيه كثيف ضخم كبير أكرت ، وكان متفننا في الحب والغرام فهو يحب ثلاثة أرباع بنات دفعتنا ( شعبة اللغة العربية) وهن متوسطات الجمال، ونصف بنات شعبة اللغة الإنجليزية ، وكلهن فاتنات ، وثلث بنات شعبة الأحياء [ التاريخ الطبيعي ] ، ومعظمهن جميلات خفيفات الظل ، ورُبع بنات شعبة الكيمياء والفيزياء ، ومعظمهن ذوات نظارات طبية ، وبنتين أو ثلاثا من شعبة الرياضيات وهن لا يضحكن إلا مرتين أو ثلاثا في العام الدراسي على الأكثر ، في الوقت الذي لا يعرف حسين في حياته إلا الضحك والمزاح ، وكانت صداقاته النسوية تلك مصدرا للارتزاق ، فهذه تعطيه أوراقا مالية من فئات أرباع الجنيه أو أنصافه ، وتلك تعطيه ثمن سجائره ، وتلك تعطيه مسبحة [ يبيعها بعد أيام لأي زميل متدين فقير] ، وتلك تهديه ألبوم صور فارغا ، وتلك تعطيه قلما أو ممحاة أو مسطرة ... وهكذا عاش هذا الفتى يتقوت من معجباته طوال سنواته الخمس بالجامعة .. وكل منهن يقسم لها – حين ينفرد بها – أنه عاشقها المغرم الملهوف الذي سيتقدم قريبا لخطبتها ، ويستحلفها أن تحتفظ بذلك سرا بينهما حتى يحبن الوقت ويغشى بيت أبيها خاطبا .
كان حسين يسير معي حين نغادر الكلية فنمر على رجل عجوز يبيع الصحف أسفل نفق كبير كنا نعبره ، فكنت أعطيه الستين فضة ( قرشا ونصف قرش) ليشتري لي الأهرام أو أخبار اليوم كل سبت أو الجمهورية يوم الخميس ، وكان - سامحه الله – يعطي الثمن للبائع العجوز ، ويميل على الصحف فيلطش نسختين لا نسخة واحدة ، فإذا عبرنا النفَق ، أعطاني نسختي واحتفظ لنفسه بالنسخة الحرام ، فأصرخ فيه ماذا فعلت يا زفت ؟ فيقول : نسختك معك بفلوسك ..أنت مالك ومالي ؟ أنا أخذت نسختي لنفسي وأنا حر !!
كان حسين الجرجاوي هذا يسبقنا بعام في الجامعة قضاه في شعبة اللغة الإنجليزية ، ورسب في ثمانية مقررات من السبعة اللواتي كان يدرسهن ! فلما افتتحوا شعبة للغة العربية في العام التالي – لأول مرة في كليات التربية في مصر كلها – بادر هو ومعظم زملائه الراسبين للتحويل إلى تخصصنا .. فاللغة العربية بالتأكيد ستكون أسهل عليهم في الفهم والدراسة من الانجليزية .. ولكنهم كانوا أحيانا يعانون من شيخنا أستاذ النحو المرحوم د. عبد الرحمن سليمان ، وكان شيخا وسيما قسيما جسيما ضخما مهيب الطلعة ، وقد قرر علينا كتابا مهيبا هو شرح المرادي على الأشموني الذي كان يدرِّسه لطلابه في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر ..
وجدت حسين يومها في الكلية فحكيت له ما حدث معي في الإفطار فأقسم لي أنه لا يملك مليما واحدا ، ويعيش أيامه على الكافيتريا ، يتغدى ويفطر ويتعشى على حساب معجباته . ولكن لأن أباه كان إذ ذاك موظفا ببلده جرجا في بنك كان يسمى ( بنك بورسعيد ) اقترح أن نذهب بالبريزة المرقَّعة التي وجدتها في دولاب عبد الجواد إلى بنك بورسعيد لنغيرها ، وهناك أخذها واقترب من موظف بالبنك وعرفه أنه ابن زميل له في فرع جرجا ويدرس بالجامعة وليس معه إلا هذه البريزة البائسة فرقَّ له الرجل وأخذها منه ومنحه بريزة جديدة ... طرنا بها فرحا فاشترينا منها سندوتشات وسجاير وأجّلنا تسديد دين بائع الكاكولا ودين عم أبو العلا إلى الغد .
لو كنت ضيفا عندك ، وقدمت لي مشروبا أمريكانيا كالببس والكولا فلن أتناوله حتى لو أقسمتَ علي بكل أيمان الدنيا ، وحتى لو وضعت لي بجانب هذا المشروب مائة ألف جنيه . فلماذا ؟
كنت قبل أربعين عاما معيدا بجامعة أسيوط ، وكان راتبي وقتها اثنين وعشرين جنيها ، وحدث مرة أن كنت مغادرا قريتي بالقطار إلى أسيوط ، فرأيت حين نزلت من القطار على الرصيف زميلا من قريتي بكلية أخرى ومعه والده ، فوجدت من الواجب أن أحيي زميلي ووالده فدعوتهما لتناول مشروب ، وما وصلنا إلى بائع الصحف الذي تعودت أن أشتري منه الصحف والمجلات ، وطلبت منه [ حاجة ساقعة] للضيفين ، فاستخرج الرجل من ثلاجته زجاجتين للكولا كبيرتين جدا ، وفتحهما وقدمهما للضيفين ، وكاد يفتح الثالثة لي ، فرفضت بشدة ، فلم يكن وقتها في جيبي سوى شلن واحد [ ورقة بخمسة قروش ] فاقتربت من الرجل وهمست له : هذان ضيفان وليس معي سوى هذا الشلن .. أفتسترني سترك الله في الدنيا والآخرة ؟ فأخذ الرجل الشلن وقال بصوت مسموع : " ابقى ارجع خد الباقي بالليل يا أوووستاذ ماعنديش فكة !!! " كانت جملته تلك منجاة لي لم أنسها إلى اليوم ، وظللت - حتى اليوم ! - كلما كنت في أسيوط أمر على كشكه ذاك وأشتري من أولاده وحفدته كل ما أجده أمامهم من صحف ومجلات وأقرأ له الفاتحة ..
المهم توجهت لاستراحة المعيدين التي أقيم بها فلم أجد زميلي في الغرفة ( الدكتور عبد الجواد توفيق أستاذ الأدب الانجليزي المتفرغ حاليا بآداب أسيوط ) موجودا وكنت قد جعت جوعا شديدا ، ولا سجائر معي ، فاضطررت لكسر دولاب زميلي لعلي أجد فيه قروشا مبعثرة ، فلم أجد إلا ورقة ممزقة من فئة ال( 10 قروش) فأخذت أعالجها بالصمغ واللصق والمكواة حتى كادت تكون مقبولة ، وناديت بواب الاستراحة العجوز( عم أبو العلا ) ، وطلبت منه أن يشتري لي سندوتشين بقرشين وثلاث سجائر فلوريدا بثلاثة قروش ، فراح الرجل مشكورا وجاءني بما طلبته ، ودفع الحساب من جيبه ، فقد رفضوا أخذ تلك " البريزة " المهترئة ..
-------
توجهت للكلية للسؤال عن المرتب ، فوجدت الخزينة مغلقة .. فبدأت أبحث عن زملائي المقربين ، لعلي أجد عند أحد منهم مددا ، أسدد منه ما اقترضت من عم ( أبو العلا) بواب الاستراحة ، وأسدد لبائع الصحف ثمن البيبسي الذي كعَّه الضيفان اللذان صادفاني لدن نزولنا من القطار ..
تذكرت أيام طلب العلم بالكلية : كنا في دفعتنا ستة فقط من محافظة سوهاج ، أنا ورفعت من مركز طحطا ، وفتاة سوهاجية ، وحسين الجرجاوي ، وفتاة وفتى آخر من البلينا . وكان حسين الجرجاوي أقربهم مني ، وأخفهم روحا ، وأروعهم في تدبير واختراع المقالب ، وكان ذا شَعْر يغطي أذنيه كثيف ضخم كبير أكرت ، وكان متفننا في الحب والغرام فهو يحب ثلاثة أرباع بنات دفعتنا ( شعبة اللغة العربية) وهن متوسطات الجمال، ونصف بنات شعبة اللغة الإنجليزية ، وكلهن فاتنات ، وثلث بنات شعبة الأحياء [ التاريخ الطبيعي ] ، ومعظمهن جميلات خفيفات الظل ، ورُبع بنات شعبة الكيمياء والفيزياء ، ومعظمهن ذوات نظارات طبية ، وبنتين أو ثلاثا من شعبة الرياضيات وهن لا يضحكن إلا مرتين أو ثلاثا في العام الدراسي على الأكثر ، في الوقت الذي لا يعرف حسين في حياته إلا الضحك والمزاح ، وكانت صداقاته النسوية تلك مصدرا للارتزاق ، فهذه تعطيه أوراقا مالية من فئات أرباع الجنيه أو أنصافه ، وتلك تعطيه ثمن سجائره ، وتلك تعطيه مسبحة [ يبيعها بعد أيام لأي زميل متدين فقير] ، وتلك تهديه ألبوم صور فارغا ، وتلك تعطيه قلما أو ممحاة أو مسطرة ... وهكذا عاش هذا الفتى يتقوت من معجباته طوال سنواته الخمس بالجامعة .. وكل منهن يقسم لها – حين ينفرد بها – أنه عاشقها المغرم الملهوف الذي سيتقدم قريبا لخطبتها ، ويستحلفها أن تحتفظ بذلك سرا بينهما حتى يحبن الوقت ويغشى بيت أبيها خاطبا .
كان حسين يسير معي حين نغادر الكلية فنمر على رجل عجوز يبيع الصحف أسفل نفق كبير كنا نعبره ، فكنت أعطيه الستين فضة ( قرشا ونصف قرش) ليشتري لي الأهرام أو أخبار اليوم كل سبت أو الجمهورية يوم الخميس ، وكان - سامحه الله – يعطي الثمن للبائع العجوز ، ويميل على الصحف فيلطش نسختين لا نسخة واحدة ، فإذا عبرنا النفَق ، أعطاني نسختي واحتفظ لنفسه بالنسخة الحرام ، فأصرخ فيه ماذا فعلت يا زفت ؟ فيقول : نسختك معك بفلوسك ..أنت مالك ومالي ؟ أنا أخذت نسختي لنفسي وأنا حر !!
كان حسين الجرجاوي هذا يسبقنا بعام في الجامعة قضاه في شعبة اللغة الإنجليزية ، ورسب في ثمانية مقررات من السبعة اللواتي كان يدرسهن ! فلما افتتحوا شعبة للغة العربية في العام التالي – لأول مرة في كليات التربية في مصر كلها – بادر هو ومعظم زملائه الراسبين للتحويل إلى تخصصنا .. فاللغة العربية بالتأكيد ستكون أسهل عليهم في الفهم والدراسة من الانجليزية .. ولكنهم كانوا أحيانا يعانون من شيخنا أستاذ النحو المرحوم د. عبد الرحمن سليمان ، وكان شيخا وسيما قسيما جسيما ضخما مهيب الطلعة ، وقد قرر علينا كتابا مهيبا هو شرح المرادي على الأشموني الذي كان يدرِّسه لطلابه في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر ..
وجدت حسين يومها في الكلية فحكيت له ما حدث معي في الإفطار فأقسم لي أنه لا يملك مليما واحدا ، ويعيش أيامه على الكافيتريا ، يتغدى ويفطر ويتعشى على حساب معجباته . ولكن لأن أباه كان إذ ذاك موظفا ببلده جرجا في بنك كان يسمى ( بنك بورسعيد ) اقترح أن نذهب بالبريزة المرقَّعة التي وجدتها في دولاب عبد الجواد إلى بنك بورسعيد لنغيرها ، وهناك أخذها واقترب من موظف بالبنك وعرفه أنه ابن زميل له في فرع جرجا ويدرس بالجامعة وليس معه إلا هذه البريزة البائسة فرقَّ له الرجل وأخذها منه ومنحه بريزة جديدة ... طرنا بها فرحا فاشترينا منها سندوتشات وسجاير وأجّلنا تسديد دين بائع الكاكولا ودين عم أبو العلا إلى الغد .