عم الظلام الدامس القاعة الكبيرة الخالية التي امتلأت بهمس الجدران الرطبة ، حيث تناثرت قطرات ماء المطر المتسربة من شقوق السقف لتغمر أرضية القاعة، تاركةً جزءاً جافاً انزوى فيه متكوماً في قيوده !
كانت الحشرات تسرح و تمرح و يثير فضولها ذلك الكائن الحي الذي ما فتئ ساكنا ، ولا يشير على أنه حي يرزق إلا صوت أنفاسه وسط سيمفونية قطرات المياه المتساقطة ! تجرأت بعض القطرات في لحظة انتصار عليه ، وكأنها ترشقه بتحية الحركة ، وانتشت على شفته السفلى فراح يتحسسها بلسانه غير آبه بظمأ الظلام ، فانتشى هو الآخر مع القطرة !
اقتربت الصراصير و تسلقت تلك الكينونة الحية لتواجَه بالجمود واللامبالاة، حيث هوى على صدره الجرح وامتقع ساكناً أكثر من سكون الموت.
و يبدو أن جموده شجع سائر الحشرات لاجتياح حرمته، ربما انتقاماً لقتلى الأحذية الذين لا تشيّع لهم جنازة أبداً. و لكن حركةً مفاجئة من ذلك الجسم المتكوم أطاحت بالحشرات بعيداً قاطعةً أمل الاقتراب أمام الجرذان المترصّدة ؟
لحظات و هرعت الحشرات و الجرذان إلى مخابئها بعد سطوع الضوء الفجائي الذي جعل الرجل يحمي عينيه بيديه من صدمة الانتقال من الظلام الدامس إلى الضوء الساطع !
يفكر الرجل في نفسه ...... يا إلهي، هاهم قد جاءوا مرة أخرى...إنهم لا يتعبون !
( تعبت عيون الليل وانسد السما ...... والجرح والجلاد يا يمه على صدري ارتمى )
ولحس شفته السفلى ليتذوق اثر القطرة النابتة من شقوق السقف !
فقد يحتاج لمؤونة من الندى في هذه اللحظات الدامية .
وفجأة انقشعت ومضة من جزء جانبي للسقف وانهمرت على وجهه !
- يا إلهي ..... ؟
كل هذا القطر لي ؟
تحسس بلسانه طعم الطراوة والندى !
آه .... منذ أسابيع لم ينبلج من بحر الدنيا على جبيني ماء، وستروينني قطرة أو قطرتان ...... وربما أطمع بخير الفضاء أكثر ، وأنهل القطرات النازلة ! لكن الضوء غريب جداً هذا اليوم !
آه ...... لقد أزفت الجراح الحانية !
لقد أزفت...... نعم !
يسمع أصوات ( البساطير ) تطأ الأرضية القاسية ، وأصوات ضحكٍ مترامٍ ..... يمسك به رجلان فقط ..... اليوم رجلان فقط .... ! يا للخفة والحنان ! يوقفانه فيتهدل مثل باقة نعناع ذابلة في يد طباخ ماهر !
و لكنّه لا يلبث أن يرتمي على الأرض متماوجاً ... ! فترفعان قيوده لتشبك بالحلقة المعلقة في السقف
و يتدلّى جسمه عمودياً بزندين نازفين .
ذو البسطار: قل لي ماذا كنت تفعل؟
آه ..... !
ذو البسطار: بيدك أن تصنع قدرك...أجب على سؤالي و لن تنال العقاب.
آه ........!
ذو البسطار: حقاً إنّك لغبيٌّ جاهل...ألا تريد لهذا الحال أن ينتهي!
صمت...
ذو البسطار: حسناً...بما أنك مصرٌّ على عجرفتك....... !
ونادى على الآخرين :
ألقوه في الظلمة و اجلدوه مائة جلدة ثمّ أطلقوا الأفاعي هذه المرة.
استغرب الرجلان المعاونان، فإنّ ذا البسطار صار يلين كثيراً هذه الأيام....لماذا لا ينتقل إلى العقاب النهائي و يريح الرجل و يريحنا أيضاً.؟ .. فكرا في نفسيهما بدون أن ينبسا ببنت شفة، فما هما إلا عبدان مأموران ! هما جلادان لا يبكيان ولا يرتعدان كثيراً عند ال...... !
و الحقيقة أن ذا البسطار كان يستغرب من نفسه أيضاً. لقد كان أكثر قسوة و أسرع قراراً بلا مماطلة على عكس حاله الآن. لكنّه لا يزال يستذكر ذاك الرجل العجوز الذي أطال استجوابه لحين إقرار موته، ليعلم بعد حين أنّ الرجل العجوز كان أصم أبكم لا يسمع و لا ينطق! و يتساءل في نفسه: أترى هذا الرجل أبكم أيضا ؟ أتراه فقد ذاكرته؟
أتراه لا يعلم ما أتكلّم عنه؟ و لكنّه وإن كان أبكم حقّاً فلماذا تبدو عليه رباطة الجأش هذه، كما لو يحتضن معلومة لا يستطيع البوح بها! ....يجب أن آخذ قسطاً من الراحة، فأنا لم أعتد على مساءلة نفسي هكذا...تباً لذلك الأبكم المفترض اللعين..!
أفاق الرجل المكبل من إغماءته مغموراً بالظلمة على لسعةٍ في فخذه. و يبدو أنه استسلم للألم إذ بقي ساكناً، مما أثار استغراب ذي البسطار الذي كان يتابعه من كاميرا المراقبة.... !
ألا يشعر هذا الرجل؟ فلا اشمئزازه من برودة و قذارة المكان و لا ألمه من اللسعات و الجلدات يحرك فيه ساكناً أو يستثيره! ماذا تبقّى بعد الاشمئزاز و الألم ؟؟ آه من الألم .... ؟ آخ من الألم ... فكم تذوقته وكم نال من جلدي ؟؟
يا للهول ويا للخزي .. هل يمكن أنني أعكس كل تاريخي بهذه الهوايات ؟
لا فأنا أيضا عبد مأمور ولكن اختياري جاء تاريخاً !
يمكن أنهم كانوا قد أهلوني لهذه الهوايات جزافاً ؟ ربما لكي يعلموا الذين يسمعون جيداً ! يا له من عنيد غبي...؟
لم يمض على آخر إضاءة غير بضعة ساعات لينتشل المكبل من ظلمته مرة أخرى حضورُ ذي البسطار و معاونيه.
ذو البسطار: اقتلوه... !
استغرب المعاونان من سرعة القرار الذي لم يسبقه استجواب هذه المرة، و كأن ذا البسطار قد استشفّ ما كانا يفكران به !
و طفقا يعدّان العدة .... !
شاهدها المكبل ..... وهو يلحس شفتيه الجافتين وينظر نحو الأعلى رافعاً ذراعيه بامتداد شاهق :
وهمس بهدوء أثار الرعب في صدر صاحب البسطار :
قطرة من شقوق السقف ..... !
كانت الحشرات تسرح و تمرح و يثير فضولها ذلك الكائن الحي الذي ما فتئ ساكنا ، ولا يشير على أنه حي يرزق إلا صوت أنفاسه وسط سيمفونية قطرات المياه المتساقطة ! تجرأت بعض القطرات في لحظة انتصار عليه ، وكأنها ترشقه بتحية الحركة ، وانتشت على شفته السفلى فراح يتحسسها بلسانه غير آبه بظمأ الظلام ، فانتشى هو الآخر مع القطرة !
اقتربت الصراصير و تسلقت تلك الكينونة الحية لتواجَه بالجمود واللامبالاة، حيث هوى على صدره الجرح وامتقع ساكناً أكثر من سكون الموت.
و يبدو أن جموده شجع سائر الحشرات لاجتياح حرمته، ربما انتقاماً لقتلى الأحذية الذين لا تشيّع لهم جنازة أبداً. و لكن حركةً مفاجئة من ذلك الجسم المتكوم أطاحت بالحشرات بعيداً قاطعةً أمل الاقتراب أمام الجرذان المترصّدة ؟
لحظات و هرعت الحشرات و الجرذان إلى مخابئها بعد سطوع الضوء الفجائي الذي جعل الرجل يحمي عينيه بيديه من صدمة الانتقال من الظلام الدامس إلى الضوء الساطع !
يفكر الرجل في نفسه ...... يا إلهي، هاهم قد جاءوا مرة أخرى...إنهم لا يتعبون !
( تعبت عيون الليل وانسد السما ...... والجرح والجلاد يا يمه على صدري ارتمى )
ولحس شفته السفلى ليتذوق اثر القطرة النابتة من شقوق السقف !
فقد يحتاج لمؤونة من الندى في هذه اللحظات الدامية .
وفجأة انقشعت ومضة من جزء جانبي للسقف وانهمرت على وجهه !
- يا إلهي ..... ؟
كل هذا القطر لي ؟
تحسس بلسانه طعم الطراوة والندى !
آه .... منذ أسابيع لم ينبلج من بحر الدنيا على جبيني ماء، وستروينني قطرة أو قطرتان ...... وربما أطمع بخير الفضاء أكثر ، وأنهل القطرات النازلة ! لكن الضوء غريب جداً هذا اليوم !
آه ...... لقد أزفت الجراح الحانية !
لقد أزفت...... نعم !
يسمع أصوات ( البساطير ) تطأ الأرضية القاسية ، وأصوات ضحكٍ مترامٍ ..... يمسك به رجلان فقط ..... اليوم رجلان فقط .... ! يا للخفة والحنان ! يوقفانه فيتهدل مثل باقة نعناع ذابلة في يد طباخ ماهر !
و لكنّه لا يلبث أن يرتمي على الأرض متماوجاً ... ! فترفعان قيوده لتشبك بالحلقة المعلقة في السقف
و يتدلّى جسمه عمودياً بزندين نازفين .
ذو البسطار: قل لي ماذا كنت تفعل؟
آه ..... !
ذو البسطار: بيدك أن تصنع قدرك...أجب على سؤالي و لن تنال العقاب.
آه ........!
ذو البسطار: حقاً إنّك لغبيٌّ جاهل...ألا تريد لهذا الحال أن ينتهي!
صمت...
ذو البسطار: حسناً...بما أنك مصرٌّ على عجرفتك....... !
ونادى على الآخرين :
ألقوه في الظلمة و اجلدوه مائة جلدة ثمّ أطلقوا الأفاعي هذه المرة.
استغرب الرجلان المعاونان، فإنّ ذا البسطار صار يلين كثيراً هذه الأيام....لماذا لا ينتقل إلى العقاب النهائي و يريح الرجل و يريحنا أيضاً.؟ .. فكرا في نفسيهما بدون أن ينبسا ببنت شفة، فما هما إلا عبدان مأموران ! هما جلادان لا يبكيان ولا يرتعدان كثيراً عند ال...... !
و الحقيقة أن ذا البسطار كان يستغرب من نفسه أيضاً. لقد كان أكثر قسوة و أسرع قراراً بلا مماطلة على عكس حاله الآن. لكنّه لا يزال يستذكر ذاك الرجل العجوز الذي أطال استجوابه لحين إقرار موته، ليعلم بعد حين أنّ الرجل العجوز كان أصم أبكم لا يسمع و لا ينطق! و يتساءل في نفسه: أترى هذا الرجل أبكم أيضا ؟ أتراه فقد ذاكرته؟
أتراه لا يعلم ما أتكلّم عنه؟ و لكنّه وإن كان أبكم حقّاً فلماذا تبدو عليه رباطة الجأش هذه، كما لو يحتضن معلومة لا يستطيع البوح بها! ....يجب أن آخذ قسطاً من الراحة، فأنا لم أعتد على مساءلة نفسي هكذا...تباً لذلك الأبكم المفترض اللعين..!
أفاق الرجل المكبل من إغماءته مغموراً بالظلمة على لسعةٍ في فخذه. و يبدو أنه استسلم للألم إذ بقي ساكناً، مما أثار استغراب ذي البسطار الذي كان يتابعه من كاميرا المراقبة.... !
ألا يشعر هذا الرجل؟ فلا اشمئزازه من برودة و قذارة المكان و لا ألمه من اللسعات و الجلدات يحرك فيه ساكناً أو يستثيره! ماذا تبقّى بعد الاشمئزاز و الألم ؟؟ آه من الألم .... ؟ آخ من الألم ... فكم تذوقته وكم نال من جلدي ؟؟
يا للهول ويا للخزي .. هل يمكن أنني أعكس كل تاريخي بهذه الهوايات ؟
لا فأنا أيضا عبد مأمور ولكن اختياري جاء تاريخاً !
يمكن أنهم كانوا قد أهلوني لهذه الهوايات جزافاً ؟ ربما لكي يعلموا الذين يسمعون جيداً ! يا له من عنيد غبي...؟
لم يمض على آخر إضاءة غير بضعة ساعات لينتشل المكبل من ظلمته مرة أخرى حضورُ ذي البسطار و معاونيه.
ذو البسطار: اقتلوه... !
استغرب المعاونان من سرعة القرار الذي لم يسبقه استجواب هذه المرة، و كأن ذا البسطار قد استشفّ ما كانا يفكران به !
و طفقا يعدّان العدة .... !
شاهدها المكبل ..... وهو يلحس شفتيه الجافتين وينظر نحو الأعلى رافعاً ذراعيه بامتداد شاهق :
وهمس بهدوء أثار الرعب في صدر صاحب البسطار :
قطرة من شقوق السقف ..... !