مع مطلع الأربعينيات من القرن الماضي شقّ الشعر التفعيلي طريقه، وتواترت قصائده وتتابعت، إلى أن أصبح في منتصف الستينيات تقريبًا (وبعد رحيل عباس محمود العقَّاد ألدّ خصومه سنة 1964م ) واقعًا مفروضًا لا سبيل إلى إنكاره. عندها فترت عزيمة المناضلين لاقتلاعه.
ومع عدم إيماننا المطلق بمصطلح الحداثة الشعرية؛ لأن كلمة (حداثة) تنطلق من إطار زمني سرعان ما يصبح قابلاً للتلاشي مع مرور الأيام، ولأن كل تجربة جديدة ومبتكرة إنما هي حداثة وإن كانت اجترارًا من الماضي. فنحن نستطيع أن نقول – باطمئنان وثقة – إن تجربة محمود سامي البارودي (ت 1904م ) هي تجربة حداثية؛ وإن كانت تقليدية في جوهرها. ذلك لأنها تخالف السياق العام المواكب لها؛ ذلك السياق القائم على اجتلاب الزخرف اللفظي والحلي الصوتية الجوفاء. فتجربة البارودي حداثية لأنها خروج عن المألوف المواكب لها. نعود ونقول: مع عدم إيماننا المطلق باصطلاح الحداثة الشعريّة إلا أننا نسلم مُذعنين بأنها قد ارتبطت أو كادت ترتبط بشكل كبير – للأسف الشديد – بهذا التيار الشعريّ التفعيلي الذي استقطب شعراءَ كبارًا أصبحوا من أعلامه وروّاده.
وفي سياق الحداثة الشعرية يمكن رصد تيارين شعريين كبيرين، لكل منهما توجه إبداعي مستقل وروَّاد متميزون، وبين هذين التيارين تتراوح الإبداعات الشعرية قربا وبعدا، وهذان التياران هما: تيار التعبير و تيار التجريد.
والقصائد التعبيرية لا تتضمن إضمارا كثيرا، فهي تذكر وتعبر وتفصح عن مؤشراتها السياقية، وهي تضع هذه المؤشرات" في عنوانها تارة، وفي ذكر طرف من الأحداث والأشخاص تارة أخرى، بحيث يستطيع المتلقي – دائما– أن يبني في تصوره دلائل الموضوع الذي تشير إليه بشكل ما" (1) ، وليس هذا التعبير قدحًا في شعريتها، أو إنقاصا من قيمتها الفنيـة فليس من الضرورة أن تكون شديدة المباشرة والتقريرية؛ وإنما المقصود بتعبيريتها هو: قدرة المتلقي على الدخول السريع إلى عالمها الفني دون معاناة طويلة في الربط والتأويل.
ولعل أهم أعلام هذا الاتجاه الشعري التعبيري الشاعر السوري: نزار قباني (ت 1998م)، والشاعر المصري: فاروق شوشة ، والشاعرة الكويتية: سعاد الصبّاح.
أما التيار التجريدي فهو يمثل أعلى درجة من درجات الغموض والإبهام، لأن الشاعر ينحرف انحرافا شديدا عن قوانين الحس العام المألوف، ويقدم صورا عصيّة على الإدراك المباشر، ويَـْشعر القارئ أن هذه العناصر التي يقـدمها لـه الشاعـر في تكوينه التصويري مكونـة تكوينـا غريبا وشاذا، وأن عناصر الصورة الشعرية ليست متجمعة على نحو صحيح، ومن ثم يفشل المتلقي غالبا في تكوين موضوع، وتتخلى العبارات عن حسيتها وتتخلص من تصورها واستيعابها كتلةً مألوفة ؛ لتكون معنىً ذهنيا مجردا، والعمل الشعري في هذا المضمار التجريدي يركز" الأداء على عملية الخلق ذاتها، وعلى تجربة التعبير وهي تتم، دون أن يكون هدفه إبراز مُعَبَّر عنه يتسم بالوضوح والصفاء والاكتمال ؛ عندئذ يتحول التعبير اللغوي ذاته إلى بؤرة الاهتمام، كما أن الألوان وهندسة المكان وإيقاع الخطوط تصبح مجالات إبداع اللوحة التجريدية، فلم تعد هناك وقائع خارجية تطمح اللوحة إلى تمثيلها. تركت ذلك للكاميرا الدقيقة، فتخلت عن الآلية والنمطية أصبحت تنتج واقعا مغايرا هو الواقع الفني البحت، لم تعد مرجعيتها تجارب الحياة ؛ بل نسيج اللغة" (2)
والرائد الأوّل في هذا التيار الشعري – تنظيرا وإبداعا – هو الشاعر السوري أدونيس، ومن الشعراء الذين اتجهوا إليه بشكل كبير الشاعر المغربي محمد بنيس، والشاعر المصري رفعت سلام، ولا يكاد ديوان شاعر من شعراء الحداثة يخلو من بعض القصائد التجريدية إلى جانب قصائده التعبيرية؛ فمعظمهم" يقف على الأعراف بين هذين التيارين بتنويعات عديدة تقوم على المزج بين التعبير والتجريد" (3).
والشعر التجريدي يجوز أن نشبهه بالرسم التجريدي. وقد مرت الفنون التشكيلية بمرحلتي التعبير والتجريد – أيضًا – فكان الرسامون الكلاسيكيون يعبرون عن الواقع، ويبرعون كلما استطاعوا نقل الواقعة بدقة شديدة، مع إضفاء لمسة خاصة تعطي انطباعًا ما. وفي مرحلة جديدة – خاصة بعد اختراع الكاميرات – لم يعد مهمًا أن ينقل الرسام الصورة بشكل واقعي، وما عليه من بأس أن يحطمها ويفتتها، بل ويعيد تصويرها من خلال زوايا تخضع لمنظوره الشخصي ورؤيته المنفردة، كما في اللوحات التكعيبية لبيكاسو.
وقد يتجاوز الأمر هذه المرحلة إلى الاكتفاء بأثر اللون فقط وما يوحي به مما يمكن أن يستشفه كل متأمل للوحة التجريدية، وبالطبع قد تثير منظومة الألوان الوحشية المتداخلة لدى متلق ما شيئًا مناقضًا تمامًا لما يراه متلق آخر. وقد يختلف الإيحاء والدلالة عند كلٍ منهما عما قصده الرسَّام وعناه تمامًا.
ولنطبق هذه النظرية بحذافيرها على الشعر؛ لنجد الشعراء التعبيريين – في كل العصور – وقد نقلوا إلينا صورًا واقعية من الحياة، قد ينأى بها الخيال الشعري بعض الشيء عن واقعيتها؛ لكنها في النهاية تعود – بعد فهمها وتأويلها – إلى الواقع مهما جَمحَ الخيال. أما الشعراء التجريديون فهم يقدمون لقارئهم زخمًا من الكلمات المتراصة المتداخلة التي لا يمكن أن نربط بينها بحال من الأحوال. وهذه الكلمات تتحلل من واقعيتها بسبب العلاقات الغريبة التي تربط بينها. ومن ثمّ لا نفهما، ولا ينبغي لنا أن نفهمها، لأنها – في الأعم الأغلب – تقصد الإيحاء لا الدلالة القطعية المُبِينة. ومن هنا يجوز لنا أن نخترع لها معانيَ متباينة، ويصح أن يفهمها كل قارئ على هواه.
وهذا النمط الشعريّ – على الأخص – هو ما يصح أن نطبق عليه ما يقوله البنيويون حين "يحاولون إقناعنا بأن المؤلف ميت، وأن النص الأدبي خطاب لا تتضمن وظيفته الإخبار بالحقيقة" (4) ؛ لأن المؤلف الفعلي لهذا النص هو القارئ الذي يختلق المعاني ويبتكرها ويلصقها بالكلمات الغريبة المتداخلة تداخلاً عشوائيًا مستفزًا.
واختلاق المعاني وإبداعها – في حد ذاته – مصدر إمتاع للقارئ والمتلقي" حين يصبح هو نفسه منتجا، أي حين يسمح له النص بإظهار قدراته. وهناك بالطبع حدود لاستعداد القارئ للمشاركة" (5)؛ لأنه مهما اختلق من المعاني ليس له أن يخرج عن حيِّز الحقول الدلالية – أو بالأحرى الإيحائية – لما تحمله الكلمات. ولذلك قد يختلف القرَّاء في فهمهم. لكننا قد نجد بعض الخطوط العريضة المشتركة التي تجمع بين القراءات المختلفة.
وهناك في كل نص – مهم كان غامضًا – بعض المواضع اليقينية التي لا يمكن أن يتجاهلها القارئ. هذه المواضع اليقينية هي المنبع الصريح للدلالة للخيوط الدلالية المشتركة. والقراءة الخلاَّقة إنما هي" تفاعل بين الصريح والضمني، بين البوح والإخفاء، وما يتم إخفاؤه يدفع القارئ إلى الفعل، إلا أن هذا الفعل يحكمه ما يباح به؛ ويخضع الصريح بدوره للتحول حين يخرج الضمني إلى النور" (6).
ومن هذا المنطلق ستكون محاولتنا المتواضعة لقراءة نص شعري تجريدي موجز للشاعر المغربي الكبير محمد بنيس (7). وعنوان هذه القصيدة الموجزة: (خرصان) . إليكم القصيدة القصيرة:
عَـلـِّقْ هواءَك فوق َ خُرْصَان البيوتْ
أو فوقَ باقيةٍ من الأمداح ِ
أنتَ مُعبأٌ بالبحر ِ
عُمْقـُكَ زرقة ٌ
يدُك البليلة ُ نشوة ٌ
أو
لا تكون ْ (8)
لنبحث أولاً عن مواضع اليقين. وأول مواضع اليقين فيما يرى الناقد الفرنسي ميشال أوتان هو: (العنوان) (9)، ذلك بأنه – في الغالب – يعبر عن الفكرة الأساسية التي يجب أن يدور حولها النص ( وإن لم يكن هذا الأمر متواترًا ).
وعنوان قصيدتنا: (خرصان)، والسياق الشعري – بطبيعة الحال – لن يقدم لنا تفصيلاً لما يعنيه هذا الخرصان، غير أن ارتضاءنا بكون الخرصان (الذي يقدمه عنوان القصيدة) محورًا يقينيًا يجعلنا مدفوعين إلى الربط بينه وبين ما يمكن أن نصل إليه من تأويل كلي للقصيدة.
أما العنصر اليقيني الثاني ( والأخير ) فهو: تَوَجّّه هذه القصيدة نحو مُخاطب، وآية ذلك أنها – على قِصرها وإيجازها – تحتوي على ستة ضمائر للمخاطب، ما بين ظاهر ومضمر. أما المُخاطِبُ والمُخَاطَبُ فهما مجهولان.
ولنبدأ في التأويل، ولنعتبر أن هذه القصيدة موجَّهة من ذات إلى نفسها. ولا نقول إنها ذات الشاعر، ولكنها ذات يعبر عنها الشاعر على أية حال ؛ ليس يعنينا – وقد مات المؤلف – أن تكون هذه الذات المُخاطبة هي ذاته أو غيرها من الذوات!
أما كلمة العنوان المُفردة: (خُرْصَان ) فقد اقتُبِست من مستهل القصيدة، وسياق تركيبها اللغوي الإضافي في القصيدة: ( خُرْصَان البيوت ) يُرَجِّح كونها مادة البناء الأسمنتية التي نسميها – نحن المصريين – (الخرسانة)، على أنـها تعني – أيضا –" الأقراط التي تُصْنع على هيئة حلقة مستديرة... وتطلق كذلك على الدروع لأنها ُتجْعل على حلقات" (10)، وغير مُستبعد – في إطار هذا التيار الشعري – أن يكون هذا المعنى المُعجميّ الغريب هو المقصود أيضا، فالبحث عن الصور المبتكرة غير المطروقة يدفع إلى التنقيب عن الكلمات المهجورة وإقحامها في سياق تصويري غير مألوف.
إن القصيدة تربط بين كينونة المخاطَب و ( تعلـيق هوائه فوقَ خُرْصَان البيوت، أو فوق باقية من الأمداح )؛ لأن عدم تحقيقه لهذا الأمر معناه: (ألاّ يكون)، ولديه مسوغات الاضطلاع بهذه المُهمة المجهولة فهو (مُعبأ ٌ بالبحر، و عمقه زرقة ٌ، ويده البليلة نشوة)، يجوز فهم هذه الصور الأخيرة على أنها الجموح والثورة، فيده البليلة بثورة البحر وطيشه واندفاعه تملك نشوة اجتياح المجهول، لكن القارئ مضطر إلى إعادة الدائرة نحو نقطة البداية مرة أخرى، والنكوص مرتدا إلى محورنا اليقيني الأول: (خرصان)، وربطها بهذه الصورة.
ولنفترض أن الخرصان هو تلك الكتلة الأسمنتية الصلبة عازلين بقية المعاني المُعجمية: إن كلمة خرصان توحي بـ ( الصلابة، والقسوة والقوة، والأساس المتين)، والبيوت توحي بـ (السكينة، والمودة والرحمة، والاحتواء)، إن تعليق هواء المُخاطب في القصيدة على خرصان البيوت هو ربط لحياته بالجذور، بألفة الانتماء، وهنا يلوح أحد المعاني المُعجمية التي تجوهلت، فتكون البيوت دروعا أيضا.
إن البيوت (بمعناها الرمزي) ( وإن كانت صلبة وقاسية وعنيفة) لهي رباط وثيق في باطنه المودة والسكينة، و المُخاطَب في هذه القصيدة يمتلك من هذه البيوت –على قسوتها – (باقية من الأمداح) يمكنه أن يعلق هواءه عليها، له أن يثور ويتمرد، له أن يشارف المجهول وينتشي باكتشاف آفاق غريبة، لكن عليه دائما أن يبقى على رباط ببيته مهما يكن جمود ذلك البيت وغلظته، وإلا فإنه أبدا لن يكون.
وهكذا نكون قد توصلنا إلى فهم دلالي مقبول، وهو – قطعًا – ليس فهمًا يقينيًا وحاسمًا ؛ لكنه – في تصوري – مقبول ومنطقي من زاوية القراءة التي توجهنا من خلالها.
وأخيرًا يدفعني النقد الذاتي إلى الاعتراف بأن ثمة قصورًا في اختيار هذا النموذج، لأن قِصَره الشديد سيكون مدعاة إلى شيء من التماسك فيه، ومدعاة إلى سهولة إحكام تأويله. وليس الأمر على هذا النحو في المطوَّلات من قصائد الشعر التجريدي.
وأعترف للقارئ أن اختياري لهذا النص القصير كان لدافع وجداني، مؤداه إعجابي بهذه القصيدة القصيرة، وإذا كان الشعر هادفًا إلى تحقيق المتعة الروحية؛ فضلاً عن المتعة العقلية المُكْتَسَبة من توليد الدلالات فلي أن أعترف للقارئ الكريم بأنني لم أجد هذه المتعة الروحية والعقلية مع النصوص الشعرية التجريدية المُطَوَّلة التي يشعر المرء فيها أنه يتقدم في القراءة دون أن يستطيع تحصيل شيء جديد. وأقول: إن النماذج التجريدية الموجزة أنجع وأدنى إلى التواصل مع القارئين من المطولات.
هوامش وتعليقات
1.أساليب الشعرية المعاصرة ، د. صلاح فضل [ الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1996م ] ص: 59
2.السابق: ص: 414
3.السابق : ص: 9
4.النظرية الأدبية المعاصرة، رامان سلدن، ترجمة د: جابر عصفور [ الهيئة العامة لقصور الثقافة،القاهرة، 1995 م ] ص: ص: 107
5.فعل القراءة، نظرية في الاستجابة الجمالية، فولفاجنج إيسر، ترجمة: د. عبد الوهاب علوب [ المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2000م ] ص: 116
6.السابق : ص: 173
7.شاعر مغربي، ولد في مدينة فاس 1948م، حصل على الدكتوراه في الأدب من جامعة الرباط سنة 1988م . أسس مجلة: الثقافة الجديدة، ودار توبقال للنشر. يعمل أستاذًا في جامعة الرباط. ترجم العديد من الكتب إلى العربية. وله مجموعات شعرية عديدة منها (مواسم الشرق / ورقة البهاء / في اتجاه صوتك العمودي)وقد صدرت أعماله الكاملة عن دار توبقال سنة 2002م . كما أن له العديد من الكتب النقدية منها:(ظاهرة الشعر العربي المعاصر في المغرب / مساءلة الحداثة)
8.ديوان: هبة الفراغ، ضمن: الأعمال الشعرية الكاملة [ دار توبقال للنشر، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى لسنة 2002 م ] ص: 113
9.انظر: سيميائية القراءة، ميشال أوتان، ضمن: آفاق التناصية، المفهوم والمنظور ترجمة: د محمد خير البقاعي [ الهيئة المصرية للكتاب، القاهــرة ، 1998 م] ص: 116 ويشمل الكتاب مجموعة من الدراسات المترجمة عن الفرنسية لمجموعة متعددة من المؤلفين، من بينها هذه الدراسة المذكورة.
10.راجع مادة (خرص) في لسان العرب، محمد جمال الدين بن منظور، تحقيق عبد الله على الكبير وآخرين[ دار المعارف، القاهرة (دون تاريخ)] الجزء الثاني، ص: 1134
ومع عدم إيماننا المطلق بمصطلح الحداثة الشعرية؛ لأن كلمة (حداثة) تنطلق من إطار زمني سرعان ما يصبح قابلاً للتلاشي مع مرور الأيام، ولأن كل تجربة جديدة ومبتكرة إنما هي حداثة وإن كانت اجترارًا من الماضي. فنحن نستطيع أن نقول – باطمئنان وثقة – إن تجربة محمود سامي البارودي (ت 1904م ) هي تجربة حداثية؛ وإن كانت تقليدية في جوهرها. ذلك لأنها تخالف السياق العام المواكب لها؛ ذلك السياق القائم على اجتلاب الزخرف اللفظي والحلي الصوتية الجوفاء. فتجربة البارودي حداثية لأنها خروج عن المألوف المواكب لها. نعود ونقول: مع عدم إيماننا المطلق باصطلاح الحداثة الشعريّة إلا أننا نسلم مُذعنين بأنها قد ارتبطت أو كادت ترتبط بشكل كبير – للأسف الشديد – بهذا التيار الشعريّ التفعيلي الذي استقطب شعراءَ كبارًا أصبحوا من أعلامه وروّاده.
وفي سياق الحداثة الشعرية يمكن رصد تيارين شعريين كبيرين، لكل منهما توجه إبداعي مستقل وروَّاد متميزون، وبين هذين التيارين تتراوح الإبداعات الشعرية قربا وبعدا، وهذان التياران هما: تيار التعبير و تيار التجريد.
والقصائد التعبيرية لا تتضمن إضمارا كثيرا، فهي تذكر وتعبر وتفصح عن مؤشراتها السياقية، وهي تضع هذه المؤشرات" في عنوانها تارة، وفي ذكر طرف من الأحداث والأشخاص تارة أخرى، بحيث يستطيع المتلقي – دائما– أن يبني في تصوره دلائل الموضوع الذي تشير إليه بشكل ما" (1) ، وليس هذا التعبير قدحًا في شعريتها، أو إنقاصا من قيمتها الفنيـة فليس من الضرورة أن تكون شديدة المباشرة والتقريرية؛ وإنما المقصود بتعبيريتها هو: قدرة المتلقي على الدخول السريع إلى عالمها الفني دون معاناة طويلة في الربط والتأويل.
ولعل أهم أعلام هذا الاتجاه الشعري التعبيري الشاعر السوري: نزار قباني (ت 1998م)، والشاعر المصري: فاروق شوشة ، والشاعرة الكويتية: سعاد الصبّاح.
أما التيار التجريدي فهو يمثل أعلى درجة من درجات الغموض والإبهام، لأن الشاعر ينحرف انحرافا شديدا عن قوانين الحس العام المألوف، ويقدم صورا عصيّة على الإدراك المباشر، ويَـْشعر القارئ أن هذه العناصر التي يقـدمها لـه الشاعـر في تكوينه التصويري مكونـة تكوينـا غريبا وشاذا، وأن عناصر الصورة الشعرية ليست متجمعة على نحو صحيح، ومن ثم يفشل المتلقي غالبا في تكوين موضوع، وتتخلى العبارات عن حسيتها وتتخلص من تصورها واستيعابها كتلةً مألوفة ؛ لتكون معنىً ذهنيا مجردا، والعمل الشعري في هذا المضمار التجريدي يركز" الأداء على عملية الخلق ذاتها، وعلى تجربة التعبير وهي تتم، دون أن يكون هدفه إبراز مُعَبَّر عنه يتسم بالوضوح والصفاء والاكتمال ؛ عندئذ يتحول التعبير اللغوي ذاته إلى بؤرة الاهتمام، كما أن الألوان وهندسة المكان وإيقاع الخطوط تصبح مجالات إبداع اللوحة التجريدية، فلم تعد هناك وقائع خارجية تطمح اللوحة إلى تمثيلها. تركت ذلك للكاميرا الدقيقة، فتخلت عن الآلية والنمطية أصبحت تنتج واقعا مغايرا هو الواقع الفني البحت، لم تعد مرجعيتها تجارب الحياة ؛ بل نسيج اللغة" (2)
والرائد الأوّل في هذا التيار الشعري – تنظيرا وإبداعا – هو الشاعر السوري أدونيس، ومن الشعراء الذين اتجهوا إليه بشكل كبير الشاعر المغربي محمد بنيس، والشاعر المصري رفعت سلام، ولا يكاد ديوان شاعر من شعراء الحداثة يخلو من بعض القصائد التجريدية إلى جانب قصائده التعبيرية؛ فمعظمهم" يقف على الأعراف بين هذين التيارين بتنويعات عديدة تقوم على المزج بين التعبير والتجريد" (3).
والشعر التجريدي يجوز أن نشبهه بالرسم التجريدي. وقد مرت الفنون التشكيلية بمرحلتي التعبير والتجريد – أيضًا – فكان الرسامون الكلاسيكيون يعبرون عن الواقع، ويبرعون كلما استطاعوا نقل الواقعة بدقة شديدة، مع إضفاء لمسة خاصة تعطي انطباعًا ما. وفي مرحلة جديدة – خاصة بعد اختراع الكاميرات – لم يعد مهمًا أن ينقل الرسام الصورة بشكل واقعي، وما عليه من بأس أن يحطمها ويفتتها، بل ويعيد تصويرها من خلال زوايا تخضع لمنظوره الشخصي ورؤيته المنفردة، كما في اللوحات التكعيبية لبيكاسو.
وقد يتجاوز الأمر هذه المرحلة إلى الاكتفاء بأثر اللون فقط وما يوحي به مما يمكن أن يستشفه كل متأمل للوحة التجريدية، وبالطبع قد تثير منظومة الألوان الوحشية المتداخلة لدى متلق ما شيئًا مناقضًا تمامًا لما يراه متلق آخر. وقد يختلف الإيحاء والدلالة عند كلٍ منهما عما قصده الرسَّام وعناه تمامًا.
ولنطبق هذه النظرية بحذافيرها على الشعر؛ لنجد الشعراء التعبيريين – في كل العصور – وقد نقلوا إلينا صورًا واقعية من الحياة، قد ينأى بها الخيال الشعري بعض الشيء عن واقعيتها؛ لكنها في النهاية تعود – بعد فهمها وتأويلها – إلى الواقع مهما جَمحَ الخيال. أما الشعراء التجريديون فهم يقدمون لقارئهم زخمًا من الكلمات المتراصة المتداخلة التي لا يمكن أن نربط بينها بحال من الأحوال. وهذه الكلمات تتحلل من واقعيتها بسبب العلاقات الغريبة التي تربط بينها. ومن ثمّ لا نفهما، ولا ينبغي لنا أن نفهمها، لأنها – في الأعم الأغلب – تقصد الإيحاء لا الدلالة القطعية المُبِينة. ومن هنا يجوز لنا أن نخترع لها معانيَ متباينة، ويصح أن يفهمها كل قارئ على هواه.
وهذا النمط الشعريّ – على الأخص – هو ما يصح أن نطبق عليه ما يقوله البنيويون حين "يحاولون إقناعنا بأن المؤلف ميت، وأن النص الأدبي خطاب لا تتضمن وظيفته الإخبار بالحقيقة" (4) ؛ لأن المؤلف الفعلي لهذا النص هو القارئ الذي يختلق المعاني ويبتكرها ويلصقها بالكلمات الغريبة المتداخلة تداخلاً عشوائيًا مستفزًا.
واختلاق المعاني وإبداعها – في حد ذاته – مصدر إمتاع للقارئ والمتلقي" حين يصبح هو نفسه منتجا، أي حين يسمح له النص بإظهار قدراته. وهناك بالطبع حدود لاستعداد القارئ للمشاركة" (5)؛ لأنه مهما اختلق من المعاني ليس له أن يخرج عن حيِّز الحقول الدلالية – أو بالأحرى الإيحائية – لما تحمله الكلمات. ولذلك قد يختلف القرَّاء في فهمهم. لكننا قد نجد بعض الخطوط العريضة المشتركة التي تجمع بين القراءات المختلفة.
وهناك في كل نص – مهم كان غامضًا – بعض المواضع اليقينية التي لا يمكن أن يتجاهلها القارئ. هذه المواضع اليقينية هي المنبع الصريح للدلالة للخيوط الدلالية المشتركة. والقراءة الخلاَّقة إنما هي" تفاعل بين الصريح والضمني، بين البوح والإخفاء، وما يتم إخفاؤه يدفع القارئ إلى الفعل، إلا أن هذا الفعل يحكمه ما يباح به؛ ويخضع الصريح بدوره للتحول حين يخرج الضمني إلى النور" (6).
ومن هذا المنطلق ستكون محاولتنا المتواضعة لقراءة نص شعري تجريدي موجز للشاعر المغربي الكبير محمد بنيس (7). وعنوان هذه القصيدة الموجزة: (خرصان) . إليكم القصيدة القصيرة:
عَـلـِّقْ هواءَك فوق َ خُرْصَان البيوتْ
أو فوقَ باقيةٍ من الأمداح ِ
أنتَ مُعبأٌ بالبحر ِ
عُمْقـُكَ زرقة ٌ
يدُك البليلة ُ نشوة ٌ
أو
لا تكون ْ (8)
لنبحث أولاً عن مواضع اليقين. وأول مواضع اليقين فيما يرى الناقد الفرنسي ميشال أوتان هو: (العنوان) (9)، ذلك بأنه – في الغالب – يعبر عن الفكرة الأساسية التي يجب أن يدور حولها النص ( وإن لم يكن هذا الأمر متواترًا ).
وعنوان قصيدتنا: (خرصان)، والسياق الشعري – بطبيعة الحال – لن يقدم لنا تفصيلاً لما يعنيه هذا الخرصان، غير أن ارتضاءنا بكون الخرصان (الذي يقدمه عنوان القصيدة) محورًا يقينيًا يجعلنا مدفوعين إلى الربط بينه وبين ما يمكن أن نصل إليه من تأويل كلي للقصيدة.
أما العنصر اليقيني الثاني ( والأخير ) فهو: تَوَجّّه هذه القصيدة نحو مُخاطب، وآية ذلك أنها – على قِصرها وإيجازها – تحتوي على ستة ضمائر للمخاطب، ما بين ظاهر ومضمر. أما المُخاطِبُ والمُخَاطَبُ فهما مجهولان.
ولنبدأ في التأويل، ولنعتبر أن هذه القصيدة موجَّهة من ذات إلى نفسها. ولا نقول إنها ذات الشاعر، ولكنها ذات يعبر عنها الشاعر على أية حال ؛ ليس يعنينا – وقد مات المؤلف – أن تكون هذه الذات المُخاطبة هي ذاته أو غيرها من الذوات!
أما كلمة العنوان المُفردة: (خُرْصَان ) فقد اقتُبِست من مستهل القصيدة، وسياق تركيبها اللغوي الإضافي في القصيدة: ( خُرْصَان البيوت ) يُرَجِّح كونها مادة البناء الأسمنتية التي نسميها – نحن المصريين – (الخرسانة)، على أنـها تعني – أيضا –" الأقراط التي تُصْنع على هيئة حلقة مستديرة... وتطلق كذلك على الدروع لأنها ُتجْعل على حلقات" (10)، وغير مُستبعد – في إطار هذا التيار الشعري – أن يكون هذا المعنى المُعجميّ الغريب هو المقصود أيضا، فالبحث عن الصور المبتكرة غير المطروقة يدفع إلى التنقيب عن الكلمات المهجورة وإقحامها في سياق تصويري غير مألوف.
إن القصيدة تربط بين كينونة المخاطَب و ( تعلـيق هوائه فوقَ خُرْصَان البيوت، أو فوق باقية من الأمداح )؛ لأن عدم تحقيقه لهذا الأمر معناه: (ألاّ يكون)، ولديه مسوغات الاضطلاع بهذه المُهمة المجهولة فهو (مُعبأ ٌ بالبحر، و عمقه زرقة ٌ، ويده البليلة نشوة)، يجوز فهم هذه الصور الأخيرة على أنها الجموح والثورة، فيده البليلة بثورة البحر وطيشه واندفاعه تملك نشوة اجتياح المجهول، لكن القارئ مضطر إلى إعادة الدائرة نحو نقطة البداية مرة أخرى، والنكوص مرتدا إلى محورنا اليقيني الأول: (خرصان)، وربطها بهذه الصورة.
ولنفترض أن الخرصان هو تلك الكتلة الأسمنتية الصلبة عازلين بقية المعاني المُعجمية: إن كلمة خرصان توحي بـ ( الصلابة، والقسوة والقوة، والأساس المتين)، والبيوت توحي بـ (السكينة، والمودة والرحمة، والاحتواء)، إن تعليق هواء المُخاطب في القصيدة على خرصان البيوت هو ربط لحياته بالجذور، بألفة الانتماء، وهنا يلوح أحد المعاني المُعجمية التي تجوهلت، فتكون البيوت دروعا أيضا.
إن البيوت (بمعناها الرمزي) ( وإن كانت صلبة وقاسية وعنيفة) لهي رباط وثيق في باطنه المودة والسكينة، و المُخاطَب في هذه القصيدة يمتلك من هذه البيوت –على قسوتها – (باقية من الأمداح) يمكنه أن يعلق هواءه عليها، له أن يثور ويتمرد، له أن يشارف المجهول وينتشي باكتشاف آفاق غريبة، لكن عليه دائما أن يبقى على رباط ببيته مهما يكن جمود ذلك البيت وغلظته، وإلا فإنه أبدا لن يكون.
وهكذا نكون قد توصلنا إلى فهم دلالي مقبول، وهو – قطعًا – ليس فهمًا يقينيًا وحاسمًا ؛ لكنه – في تصوري – مقبول ومنطقي من زاوية القراءة التي توجهنا من خلالها.
وأخيرًا يدفعني النقد الذاتي إلى الاعتراف بأن ثمة قصورًا في اختيار هذا النموذج، لأن قِصَره الشديد سيكون مدعاة إلى شيء من التماسك فيه، ومدعاة إلى سهولة إحكام تأويله. وليس الأمر على هذا النحو في المطوَّلات من قصائد الشعر التجريدي.
وأعترف للقارئ أن اختياري لهذا النص القصير كان لدافع وجداني، مؤداه إعجابي بهذه القصيدة القصيرة، وإذا كان الشعر هادفًا إلى تحقيق المتعة الروحية؛ فضلاً عن المتعة العقلية المُكْتَسَبة من توليد الدلالات فلي أن أعترف للقارئ الكريم بأنني لم أجد هذه المتعة الروحية والعقلية مع النصوص الشعرية التجريدية المُطَوَّلة التي يشعر المرء فيها أنه يتقدم في القراءة دون أن يستطيع تحصيل شيء جديد. وأقول: إن النماذج التجريدية الموجزة أنجع وأدنى إلى التواصل مع القارئين من المطولات.
هوامش وتعليقات
1.أساليب الشعرية المعاصرة ، د. صلاح فضل [ الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1996م ] ص: 59
2.السابق: ص: 414
3.السابق : ص: 9
4.النظرية الأدبية المعاصرة، رامان سلدن، ترجمة د: جابر عصفور [ الهيئة العامة لقصور الثقافة،القاهرة، 1995 م ] ص: ص: 107
5.فعل القراءة، نظرية في الاستجابة الجمالية، فولفاجنج إيسر، ترجمة: د. عبد الوهاب علوب [ المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2000م ] ص: 116
6.السابق : ص: 173
7.شاعر مغربي، ولد في مدينة فاس 1948م، حصل على الدكتوراه في الأدب من جامعة الرباط سنة 1988م . أسس مجلة: الثقافة الجديدة، ودار توبقال للنشر. يعمل أستاذًا في جامعة الرباط. ترجم العديد من الكتب إلى العربية. وله مجموعات شعرية عديدة منها (مواسم الشرق / ورقة البهاء / في اتجاه صوتك العمودي)وقد صدرت أعماله الكاملة عن دار توبقال سنة 2002م . كما أن له العديد من الكتب النقدية منها:(ظاهرة الشعر العربي المعاصر في المغرب / مساءلة الحداثة)
8.ديوان: هبة الفراغ، ضمن: الأعمال الشعرية الكاملة [ دار توبقال للنشر، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى لسنة 2002 م ] ص: 113
9.انظر: سيميائية القراءة، ميشال أوتان، ضمن: آفاق التناصية، المفهوم والمنظور ترجمة: د محمد خير البقاعي [ الهيئة المصرية للكتاب، القاهــرة ، 1998 م] ص: 116 ويشمل الكتاب مجموعة من الدراسات المترجمة عن الفرنسية لمجموعة متعددة من المؤلفين، من بينها هذه الدراسة المذكورة.
10.راجع مادة (خرص) في لسان العرب، محمد جمال الدين بن منظور، تحقيق عبد الله على الكبير وآخرين[ دار المعارف، القاهرة (دون تاريخ)] الجزء الثاني، ص: 1134