لم تعد تقول الأشياء كما كانت تقولها ... أصبحت تومئ برأسها فقط . أحيانا يصدر عن عينيها إلحاح بالبوح، وإصرار على الكلم يصطدم بالعجز عن النطق، ويحدث اهتزازات ورجات في جسدها النحيف. تنظر في عيني بحزم لتدعوني إلى استقراء نظراتها وحركاتها كي أنوب عليها في الإفصاح عما تومئ إليه.
حين نكون وحديْنا، أمرر يدي على كتفيها برفق فتهدأ، أدغدغ وجنتيها وأقبلهما. تلكز صدري بقوة كلما تمنعت على خدي إحدى الدمعات، وتنهرني بنظرة أقوى من الكلام. اللكزة منها تربئ بي عن الضعف بواضح الدلالة "الرجال لايبكون" ،،، "كن قويا"،،، أجول بناظري في الجدران الأربعة و السقف أسألهم رباطة الجأش وثبات الشكيمة أمام ما تبقى من جبروتها. أقتفي طنين حشرة طائرة أدمنتْ لعبة الخفاء والتجلي في هذه الحجرة الفسيحة. أُولّي عيني صوب وجهها. تغرز في أحشائي ذات النظرة ... لم تأكل شيئا منذ صباح الأمس، قالت إحداهن .. أقشر موزة وأذهب بها إلى فمها، تزم شفتيها وتأخذ الموزة بيدها. تنتظر حتى أقشر الثانية وأقضم منها كي تبسم وتبدأ الأكل بمهل وطمأنينة. في القبة الكبيرة، حين يتحلق حولها الكبار والصغار، تختارني من بين الجميع. تثبت علي نظرتَها الشزراء بكبرياء، تتبعها أعين زوجتي وأبنائي والآخرين، فيصيبني ارتباك كبير. أتسمّر في مكاني كتمثال، عيناي تحفران عتبة الباب، وأذناي تتعقبان صوت أخي "عمر" العائد لتوه من الأحراش، يسبقه قطيع الماشية وضجيج حوافرها. يصل صوته العائد من وراء الجبل إلى القبة فيرتج الجسد النحيف ويهتز ،،، تهم بالنهوض، تتلقفها الأيادي ويسارع عمر إلى حضنها ... تأخذه بين دراعيها وتهدأ. تغرس رأسَه على صدرها، وتغرس أنفَها في ثيابه المتربة المبتلة من العرق، وتغرس ذات النظرة في أوصالي ... يا إلهي ... ذات النظرة ترميني بها ابنتي عندما أرفع عيني إلى مرآة السيارة التي تطوي بنا الطريق ... ألتفت إلى سحنة زوجتي الساهمة على يميني .. ذات النظرة، يحيطها وجوم غامض :
- "أنظر أمامك،، وخفف السرعة،،، لدينا متسع من الوقت " .
أنظر في عينيها وأسرح ... الوقت ؟؟ بدتْ لي الكلمة معتلة، زمِنة، مثل علبة قصديرية صدئة وفارغة. الصندوق الحديدي الذي يحملنا يطارد إسفلتا هاربا. أحاول الانفلات من "الوقت" كي أدركه. تطول المطاردة. يرتطم رأس زوجتي بشيء غير مرئي فتنتبه من إحدى غفواتها المتكررة. تلصق للمرة الألف هاتفا على صدغها وتنتظر. تعيده إلى حقيبتها اليدوية وهي تتمتم : ".. لاشيء ..." ... خمنتُ : " لاشيء !! ربما كانت تلك آخر كلمة نطقتها قبل أن تسلم الروح ... لاشيء ... " .. تذكرتُ. هو أيضا قالها . سألتُه إن لم يعد يربطه بنا شيء، فلفظها : لاشيء ... هل كان علي أن أحملَ لها كل تلك القسوة : " لاااا شييءء " ؟؟ أنا لم أستطع بـــ " لاشيء" إطفاء تلك النظرة المتحدية، رغم أن رؤيتها تزحف إلى الموت على أمل كاذب كانت تقضم أحشائي من الداخل .. سيأتي.... قال حتما سيأتي. أوقفتُ السيارة وسط عويل النسوة وصياح الأطفال . سارعتُ إلى حيث تركتُها آخر مرة. كانت هناك ، مستسلمة هذه المرة وباردة .. الغرفة خالية إلا من جثمانها ومن موت أريحي كأنها كانت تستدنيه ... قبلتُ وجنتيها ورأسها وبكيت .. لم يأت .. لم يأت ،، سامحيني أمي ... دخلتْ زوجتي مسرعة ... ناولتني هاتفها بلهفة .. يرن ،،، إنه يرن .. ثم خرجتْ ... كانت يدي الأخرى ماتزال تحت رأسها. يتردد رنين الهاتف وأنظر إلى عينيها المنطفئتين ... صوت يقطع الرنين ويعوي ... آلو آلو .. أرتبكُ .. أنظر إلى وجهها الشاحب ،،،، ألو ألو .. ،،، أكبس الصوت، أغطي وجهها ... أهمسُ ... لاشيء.
حين نكون وحديْنا، أمرر يدي على كتفيها برفق فتهدأ، أدغدغ وجنتيها وأقبلهما. تلكز صدري بقوة كلما تمنعت على خدي إحدى الدمعات، وتنهرني بنظرة أقوى من الكلام. اللكزة منها تربئ بي عن الضعف بواضح الدلالة "الرجال لايبكون" ،،، "كن قويا"،،، أجول بناظري في الجدران الأربعة و السقف أسألهم رباطة الجأش وثبات الشكيمة أمام ما تبقى من جبروتها. أقتفي طنين حشرة طائرة أدمنتْ لعبة الخفاء والتجلي في هذه الحجرة الفسيحة. أُولّي عيني صوب وجهها. تغرز في أحشائي ذات النظرة ... لم تأكل شيئا منذ صباح الأمس، قالت إحداهن .. أقشر موزة وأذهب بها إلى فمها، تزم شفتيها وتأخذ الموزة بيدها. تنتظر حتى أقشر الثانية وأقضم منها كي تبسم وتبدأ الأكل بمهل وطمأنينة. في القبة الكبيرة، حين يتحلق حولها الكبار والصغار، تختارني من بين الجميع. تثبت علي نظرتَها الشزراء بكبرياء، تتبعها أعين زوجتي وأبنائي والآخرين، فيصيبني ارتباك كبير. أتسمّر في مكاني كتمثال، عيناي تحفران عتبة الباب، وأذناي تتعقبان صوت أخي "عمر" العائد لتوه من الأحراش، يسبقه قطيع الماشية وضجيج حوافرها. يصل صوته العائد من وراء الجبل إلى القبة فيرتج الجسد النحيف ويهتز ،،، تهم بالنهوض، تتلقفها الأيادي ويسارع عمر إلى حضنها ... تأخذه بين دراعيها وتهدأ. تغرس رأسَه على صدرها، وتغرس أنفَها في ثيابه المتربة المبتلة من العرق، وتغرس ذات النظرة في أوصالي ... يا إلهي ... ذات النظرة ترميني بها ابنتي عندما أرفع عيني إلى مرآة السيارة التي تطوي بنا الطريق ... ألتفت إلى سحنة زوجتي الساهمة على يميني .. ذات النظرة، يحيطها وجوم غامض :
- "أنظر أمامك،، وخفف السرعة،،، لدينا متسع من الوقت " .
أنظر في عينيها وأسرح ... الوقت ؟؟ بدتْ لي الكلمة معتلة، زمِنة، مثل علبة قصديرية صدئة وفارغة. الصندوق الحديدي الذي يحملنا يطارد إسفلتا هاربا. أحاول الانفلات من "الوقت" كي أدركه. تطول المطاردة. يرتطم رأس زوجتي بشيء غير مرئي فتنتبه من إحدى غفواتها المتكررة. تلصق للمرة الألف هاتفا على صدغها وتنتظر. تعيده إلى حقيبتها اليدوية وهي تتمتم : ".. لاشيء ..." ... خمنتُ : " لاشيء !! ربما كانت تلك آخر كلمة نطقتها قبل أن تسلم الروح ... لاشيء ... " .. تذكرتُ. هو أيضا قالها . سألتُه إن لم يعد يربطه بنا شيء، فلفظها : لاشيء ... هل كان علي أن أحملَ لها كل تلك القسوة : " لاااا شييءء " ؟؟ أنا لم أستطع بـــ " لاشيء" إطفاء تلك النظرة المتحدية، رغم أن رؤيتها تزحف إلى الموت على أمل كاذب كانت تقضم أحشائي من الداخل .. سيأتي.... قال حتما سيأتي. أوقفتُ السيارة وسط عويل النسوة وصياح الأطفال . سارعتُ إلى حيث تركتُها آخر مرة. كانت هناك ، مستسلمة هذه المرة وباردة .. الغرفة خالية إلا من جثمانها ومن موت أريحي كأنها كانت تستدنيه ... قبلتُ وجنتيها ورأسها وبكيت .. لم يأت .. لم يأت ،، سامحيني أمي ... دخلتْ زوجتي مسرعة ... ناولتني هاتفها بلهفة .. يرن ،،، إنه يرن .. ثم خرجتْ ... كانت يدي الأخرى ماتزال تحت رأسها. يتردد رنين الهاتف وأنظر إلى عينيها المنطفئتين ... صوت يقطع الرنين ويعوي ... آلو آلو .. أرتبكُ .. أنظر إلى وجهها الشاحب ،،،، ألو ألو .. ،،، أكبس الصوت، أغطي وجهها ... أهمسُ ... لاشيء.