أ. د. عادل الأسطة - قتل المواطن إبراهيم الأقرع... يوم استشهد المواطن إبراهيم النابلسي

في أثناء الحرب الأخيرة على غزة في الخامس من آب ٢٠٢٢ دار جدل بين كتابنا على صفحات التواصل الاجتماعي تمحور حول ردود أفعال أهل الضفة على الحرب. هل يواصل فلسطينيو الضفة الغربية حياتهم كالمعتاد أم أن عليهم أن يوقفوا مظاهر الحياة متضامنين مع فلسطينيي غزة؟
كتب الروائي عباد يحيى الآتي:
"إيقاف مظاهر الحياة بما فيها الفرح في ظل المواجهة غير حقيقي ولا عملي وسلبي وصعب، ولكن بث فعل وطني في أي مظهر من مظاهر الحياة بما فيها الفرح شيء بالمتناول وسهل وحقيقي... إلخ".
ما كتبه الروائي لم يرق للناشط والمهندس والفنان التشكيلي الغزي مجدي عاشور فاقتبس ما نشره الروائي وعقب عليه بالآتي:
"اسمعوا بالله عليكم ما كتبه عباد يحيى محرر الترا صوت في ظل تعليق بعض الفاعليات الثقافية في الضفة الغربية، وكأن من واجب أهل غزة الحياة تحت القصف بينما يرقص أهلنا الدبكة وينفخون في الربابة والأرغول في الضفة الغربية. انظروا كيف تتم صياغة المماحكات".
في ١٣ آب من الشهر نفسه استشهد في نابلس إبراهيم النابلسي واثنان آخران، فأعلن الحداد العام تضامنا مع أهل الشهداء وحزنا على الشهداء. في اليوم نفسه مساء عرفت من قريبين مني أنهم وعائلاتهم سينفقون يوم غد في أحد الشاليهات في منطقة الأغوار، وسمعت عن إعدادهم واستعدادهم لما تقتضيه الرحلة وما تتطلبه من طعام وشراب.
لم أبد شخصيا رأيا في الجدل الدائر أو في رحلة معارفي، ولكني سرعان ما تذكرت قصة الصديق أكرم هنية "يوم قتل المواطن إبراهيم الأقرع" التي نشرها في مجموعته "طقوس ليوم آخر" (١٩٨٦)، وبدأت أفكر في نصوص أدبية فلسطينية وعربية أتت من قبل على أحداث شبيهة. تذكرت مثلا رواية الكاتب العربي السوري أديب نحوي "عرس فلسطيني" (١٩٧٠) وتذكرت قصيدة محمود درويش "ونحن نحب الحياة" من مجموعة "ورد أقل" (١٩٨٦) وتذكرت كتابه "ذاكرة للنسيان" (١٩٨٦) الذي كتب فيه عن الحياة في بيروت في أثناء حصارها في العام ١٩٨٢.
في "عرس فلسطيني" ينتظر الأب عودة ابنه الفدائي سالما من فلسطين ليحتفل به عريسا في الموعد المحدد. في النهار يعد العدة للعرس ليلا، وفي المساء حيث موعد العرس يأتي نبأ استشهاد ابنه، فلا يعلنه الأب على الملأ، ويقرر الاستمرار في مجريات العرس، فابنه قد يتأخر قليلا في المجيء ويحتفل الحضور.
في حصار بيروت ١٩٨٢ كان أهلها في أثناء اشتداد المعارك يقبعون في الملاجئ، وما إن يعرفوا عن هدنة حتى يخرجوا ليواصلوا حياتهم، فيذهب إلى الشاطئ من يريد الاستجمام ويتزوج من كان قرر أن يتزوج، ولعل هذا ما أوحى لدرويش بكتابة قصيدته "ونحن نحب الحياة":
"ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا ونرقص بين شهيدين
نرفع مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا".
وهو ما نقرأ شبيها له في "ذاكرة للنسيان" حين يكتب عن مشاهدته مباريات كأس العالم لكرة القدم في ١٩٨٢ وعن المظاهرات التي شهدها الشارع العربي في الجزائر ضد الحكم في حين لم يتظاهر الشارع العربي ضد محاصرة عاصمة عربية يتعرض مواطنوها للقتل والتجويع والعطش:
"ولكني لا أغضب، كما غضب غيري، من المظاهرات العربية الصاخبة التي خرجت تحتج على حكم منحاز في مباريات كرة القدم تلهب الحماسة أكثر من هذا الصمود الطويل في بيروت... ونحن نحب كرة القدم. ونحن أيضا يحق لنا أن نحب كرة القدم، ويحق لنا أن نرى المباراة. لم لا؟.. "(أنظر الصفحات ٥٣ إلى ٥٦ من مجلة "الكرمل" عدد ٢١و٢٢ عام ١٩٨٦).
وأعود إلى قصة "يوم قتل المواطن إبراهيم الأقرع"، فمن هو إبراهيم؟ وماذا جرى يوم قتله؟ وكيف كانت الحياة تسير؟ وماذا يرمي القاص من وراء ذلك؟
إبراهيم هو مواطن فلسطيني صودرت أرضه فدافع عنها وقتل في ٢ أيار ١٩٨٣. هذا ما يقصه علينا رئيس تحرير جريدة يعرف بالخبر ويتابعه ويفكر في كتابة مقال افتتاحي يتمحور حول الحدث الطازج الساخن.
في اليوم الذي استشهد إبراهيم فيه كانت الحياة تسير في الضفة على طبيعتها. كان الناس مشغولين بهمومهم وهي كثيرة وليست متشابهة، فمنهم من تشغله مصالحه الخاصة ومنهم من هو مهموم بالوطن. منهم من يبيع أشرطة فيديو ومنهم من يبدل العملات في محل الصرافة الخاص به، ومنهم المعلم الذي يشارك في اجتماع نقابي، ومنهم من يذهب لقضاء سهرة في نتانيا... إلخ
وما يرمي إليه السارد، ومن ورائه الكاتب، هو أن الحياة لا تتوقف باستشهاد مواطن. الحياة نهر تجري مياهه ولا تتوقف شئنا أم أبينا، حزنا أو اعتكفنا في بيوتنا حتى يعود الشهيد إلى الأرض.
وليست هذه القصة الوحيدة للقاص التي يصور فيها انعكاس حدث معين على الناس واختلاف ردود أفعالهم. هناك قصة ثانية في المجموعة نفسها عنوانها "عندما أضيء ليل القدس"، فحين يظهر رجل الضوء يرى فيه كل مواطن من يفتقده؛ الأب الشهيد أو الحبيب الغائب أو الابن السجين... إلخ.
في العام ٢٠٠٦ عندما هاجمت إسرائيل لبنان وسوت الضاحية الجنوبية بالأرض كنا نتابع الأخبار ونشاهد أيضا مباريات كرة القدم، واحتفل جيراننا يومها بنجاح ابنتهم أو خطبتها، ومن وحي ذلك أظن أنني كتبت مقالا عنوانه "فرح في بيت الجيران".
هل أتبنى وجهة نظر عباد يحيى أو وجهة نظر مجدي عاشور؟ وماذا تقدم وجهة نظري أو تؤخر؟ الحياة منذ الأزل قائمة على ثنائية الحياة والموت والفرح والحزن والربح والخسارة، وربما ما نحتاج إليه في الأوقات الحرجة والصعبة والمرة هو أن نقنن من مشاعرنا في الفرح والبهجة. الحياة لا بد أن تستمر.

أ. د. عادل الأسطة
2022-09-11


* الأيام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...