مقتطف نبهان رمضان عوض - الواقعية الزائفة في أدب نجيب محفوظ

(بكل تأكيد نجيب محفوظ يتمتع بالذكاء أن يستخدم سمات كل مرحلة سائدة في الرواية العالمية و العربية و تطويعها في بث أفكاره و معتقداته الخاصة كما اسماه محمد حسن عبد الله الأفكار المهاجرة من رواية إلى أخرى)


مقدمة
نجيب محفوظ يتمتع بمكانة كبيرة في قائمة الأدب العربي و حسب بل في الأدب العلمي. يعد أكثر التجارب اكتمالا.
عندما ننظر إلى الأدب أو إبداع المحفوظي نجده يمر بعدة مراحل و نعي بصفة أساسية إنتاجه الروائي, فهو كاتب رواية في المقام الأول فضلا عن أن الرواية كنوع أدبي تكشف أكثر من أي نوع أدبي آخر مدى التطور الذي طرأ على أدب نجيب محفوظ.
كل مرحلة من مراحل إبداع الكاتب تتكون من مجموعة عناصر, أعمال المرحلة و عنوانها, حدودها الزمنية و سماتها الفنية.
انقسم الإنتاج الروائي إلى ثلاث مراحل:
الأولى: تضم روايات رادوبيس,عبث الأقدار, كفاح طيبة,
و نقدر أن نطلق عليها المرحلة التاريخية أو الأعمال التي تتناول أعمال مستوحاة من التاريخ و كانت هي السمة الأساسية لأعمال المبدعين الآخرين في نفس الفترة الزمانية.
الثانية: تضم روايات القاهرة الجديدة, خان الخليلي, السراب, زقاق المدق,بداية و نهاية, الثلاثية و تسمى المرحلة الواقعية. المذهب الواقعي الذي انتشر في الأدب العالمي خلال تلك الفترة الزمنية .
الثالثة: تضم روايات اللص و الكلاب, السمان و الخريف, الطريق, الشحاذ, ثرثرة فوق النيل, ميرا مار, و تسمى المرحلة الفكرية.
هناك بعض من النقاد قسموا إبداع نجيب محفوظ تقسيمات أخرى و لكن في الأغلب توافق معظم النقاد على هذه المراحل الثلاث.
الأكاديمية السويدية أوضحت في حيثياتها عندما منحت جائزة نوبل إلى الكاتب نجيب محفوظ قالت أنها مالت نحو تقسيم أعمال نجيب محفوظ لعدة مراحل نوعية تتضمن على سبيل المثال مرحلة تاريخية و مرحلة واقعية و مرحلة ميتافيزيقية و صوفية فان هذا التقسيم مبرر له و أسبابه غير انه لم يحل دون النظرة الشاملة لمسيرته الإبداعية. كما جاء أيضا في الحيثيات ثمة من سلسلة روايات نجيب محفوظ صورت القاهرة المعاصرة منها زقاق المدق التي صدرت عام 1947 حيث بات الزقاق القاهري يضم جمعا ينبض بالواقعية النفسية العميقة التعبير.
من وجهة نظري انا إبداع نجيب محفوظ رغم هذه التقسيمات و طرح الاهتمام بالواقعية كسمة أساسية يعد تقليل من قيمة هذا الإبداع الثري بعناصر و سمات إبداعية كثيرة و عميقة أكثر من الواقعية و تبدو واضحة و بارزة بقوة أكثر من الواقعية بأنواعها.
بكل تأكيد نجيب محفوظ يتمتع بالذكاء أن يستخدم سمات كل مرحلة سائدة في الرواية العالمية و العربية و تطويعها في بث أفكاره و معتقداته الخاصة كما اسماه محمد حسن عبد الله الأفكار المهاجرة من رواية إلى أخرى أو من مرحلة إلى أخرى و ليست الأفكار فقط التي تهاجر بل الأساليب الفنية و التقنيات الروائية فمثلا يرى البعض أن رسم شخصية خوفو في عبث الأقدار يتكرر بصورة أخرى في رسم شخصية الجبلاوي في أولاد حارتنا و الرحيمي في الطريق و زعبلاوي في دنيا الله.
كما نجد نماذج شخصية عثمان بيومي بطل حضرة المحترم في محجوب عبد الدايم في القاهرة الجديدة و حسين الصاوي بطل قصة كلمة في نص الليل من مجموعة دنيا الله و غير بعيد عن هذا من نظر إلى الحرافيش على أنها إعادة صياغة لأولاد حارتنا.
من هنا نستخلص أن التقسيمات من حيث السمات الفنية و التقنيات السردية يمكن أن يتداخل في أزمنة مختلفة و تجارب متأخرة متقدمة من حيث زمن الإصدار أو النشر و لا ندري أن كانت كتبت في أزمنة متقدمة أو متأخرة أيضا.
دعنا نعتمد في بحثنا هذا على الأعمال دون تحديد مراحل. روايات خان الخليلي, القاهرة الجديدة, زقاق المدق, بداية و نهاية, لكن سنستبعد الثلاثية( بين القصرين, قصر الشوق, السكرية) لأنها تحتاج بحث منفصل, موضوع بحثنا عن التقنية السردية التي استخدمها نجيب محفوظ التي يمكن أن نطلق عليها الواقعية الزائفة في أدب نجيب محفوظ.
استخدام التيار الواقعي كسمة أساسية تاريخية في الإبداع الروائي العربي كان أداة استخدمها نجيب محفوظ في رسم أفكار ميتافيزيقية فلسفية تخص العالم الإنساني الجمعي العالمي الغير مرتبط بالمكان رغم اهتمامه برسم الحارة المصرية القاهرية
من حيث الشكل و تقسيم الشوارع و البنايات لكن إمعانا في القصة ذاتها و الأفكار المطروحة داخل هذه البنايات و الأزقة يمكن أن تحدث في أي مكان في العالم فمثلا حميدة في زقاق المدق يمكن أن تكون نتاشا في حارة من حواري موسكو البنت التي تعشق جسدها و المال و ليس لها أب شرعي و أم متوفية اعتقد أن غادة الكاميليا في رواية ألكسندر دوماس الابن كانت لها نفس الخصائص لكن لكل منهما قصة مختلفة.
الأدب العربي بدأ في محاكاة المذهب الواقعي أعقاب الحرب العالمية الثانية و زاد هذا التيار و سيطر في الرواية المصرية بعد ثورة يوليو 1952,و بخاصة بعد تطبيق الاشتراكية السياسية في مصر حيث يشترك الوجوديين معهم في مبدأ الالتزام أو امتزاج الواقعية بالرومانسية حينا و استجابة لدواعي العصر و الروح السائدة في المجتمع في ذلك الوقت.
تكمن الواقعية لدى الكتاب العرب في محاولة خروج العقل العربي من أزمته كما أنها كانت صدمة له في نفس الوقت.
كانت بداية شرارة الواقعية في الأدب العربي عندما ظهرت في بعض كتابات محمود تيمور المتأثر في الأساس بالأدب الفرنسي كانت قصصه عبارة عن لوحات لأوضاع اجتماعية و بدى واضحا انتمائه إلى أدب جي دي موباسان .
كما نجد هذا تيار الواقعي في بعض قصص طه حسين مثل قصة المعذبون في الأرض و شجرة البؤس.
و كذلك عند توفيق الحكيم في رواية يوميات نائب في الأرياف و يوسف إدريس الحرام و عبد الرحمن الشرقاوي الأرض و الأمثلة كثيرة.
لم يكن نجيب محفوظ أول من تأثر بالواقعية في الأدب العربي و لم يكن الوحيد كذلك
لكنه استخدمها بشكل مغاير و مراوغ. صنع منها ساتر أو وسيلة لجذب المتلقي لمنطقة يجيدها تماما من وجهة نظري.
من تتبع مراحل إبداع نجيب محفوظ يظهر حرصه الشديد في عدم المجازفة في التفرد بشكل خاص عن سائر كتاب عصره كتب الرواية التاريخية عندما كانت سائدة و استخدم الواقعية عندما بدأ غيره في كتابتها و أصبحت شائعة و سمة عامة في الأدب العربي و العالمي. مما لاشك فيه أن نجيب محفوظ اتسم بالذكاء حيث طوع السائد في الأدب العربي بحيث يكتب أفكاره الخاصة و هنا التميز, خلط الفلسفة بالواقعية في رواية واحدة الحكاية التي تبدو واقعية تحمل أفكار فلسفية شديدة الرقي و التميز.
فولتير الفيلسوف الفرنسي أول من مهد طريق الفلسفة الواقعية و أن ما يبدو خيرا من أول نظرة ليس إلا بريقا كاذبا يخفي تحته الشر و انطلاقا من هذا المدلول للواقعية فهي تنظر إلى الأخلاق الإنسانية و السلوكيات العالمية و القيم المثالية الخيرة على أنها قشور بسيطة تخفي وراءها القشور الوحشية و الشر فدافع الشجاعة مثلا في الحقيقة اليأس من الحياة.
ارتكز المذهب الواقعي في الآداب كذلك على الفلسفة بين الوضعية بزعامة اوغست كونت و التجريبية بزعامة جون ستيوارت ميل و قد أرسى دعائم هذه النظرية بعد كونت و كثير من الفلاسفة حيث يقول( نحن نعتقد في استقلال الفن و الفن ليس وسيلة لكنه غاية و كل فنان يهدف إلى ما سوى الجمال فليس بفنان فيما أرى).
من سمات الواقعية الدعوة إلى تصوير البطولة النابعة من صميم الشعب أو على الأقل الشخصيات الايجابية المتفائلة التي تعبر عن الجانب المشرق في الإنسان و التخلص من بقايا الرومانسية المريضة الذابلة التي تمثل الانسحاب من الحياة اليومية لا عجز عن مواجهة الواقع.
الأسس التي قامت عليها الواقعية هي المذاهب الفلسفية و المادية مثل الفلسفة التي انتشرت في فرنسا في النصف الأول من القرن التاسع عشر و رائدها الفرنسي كونت التي ترفض كل ما هو غيبي و تقتصر على عالم المادة و الحس و كذلك تعد الفلسفة التجريبية التي تلتقي مع الوضعية في رفض الغيبيات من جذور الواقعية.
و بناء علية المذهب الواقعي ليس ببعيد عن الفلسفة و الميتافيزيقا التي تبدو مسيطرة على إبداع نجيب محفوظ في كل مراحله حتى البدايات التاريخية و لذلك تعد الشكل الأمثل لطرح أفكاره و تصلح كساتر أو قناع زائف لتلك الأفكار الفلسفية و متعددة الأوجه.
ادوارد الخراط قال: فن نجيب محفوظ ليس أساسا بالفن الواقعي و أن شخصياته و بخاصة الأجداد و الآباء و الأمهات هي أنماط رئيسية ثابتة من الأنماط الإنسانية الكبرى لأنها تتجاوز الواقع)
ادوارد الخراط عالم نجيب محفوظ مجلة المجلة يناير 1963 ص27
اختيار المكان في رواية القاهرة الجديدة الجامعة التي تجمع بين جدرانها كل التيارات الفلسفية المتصارعة نظريا دون تجربة عملية.
يقدم الشخصيات تقديما مباشرا(علي طه بطاقتي الشخصية و هي تغني عن كل تعريف فقير و اشتراكي،ملحد و شريف،عاشق عذري)ص٢٥
(محجوب عبد الدايم(اصدق معادلة في الدنيا هي: الدين+العلم+ الفلسفة+ الأخلاق= طظ
مضى في سبيله فقيرا بلا أخلاق يرصد الفرص و يتوثب للانقضاض عليها بشراسة لا تعرف الحدود)ص٢٧
لم تكن الشخصيات فقط التي قدمت بشكل مباشر كذلك الفكرة التي يختبر بها الكاتب كل التيارات الفكرية المتواجدة في المجتمع، التطرف اليميني المتمثل في الاخوان المسلمين و يمثلها شخصية مأمون رضوان و التطرف اليساري المتمثل في علي طه و النفعي و الوصولي المتمثل في شخصية محجوب عبد الدايم، فقر إحسان شحاتة ترك الذي يهدد حاضرها و يدمر مستقبل أخواتها السبعة.
(قال علي طه بحماس: هو الحق،الفقر الذي يختنق في جوه الفاسد العلم و الصحة و الفضيلة أن من يرضى بحال الفلاح حيوان أو شيطان!
فقال محجوب في نفسه: أو عاقل مثلي على شرط أن يكون غنيا ثم تساءل بصوت مسموع: عرفنا الداء و هذا شيء ميسور، لكن ما العلاج؟
فقال مأمون رضوان و هو يثبت طاقيته: الدين، الإسلام بلسم لجميع آلامنا ومد علي طه ساقيه حتى كادتا تلمسان المدفأ، و قال دون مبالاة لما قال صاحب الحجرة: الحكومة و البرلمان.
فقال محجوب: الحكومة…..اي الأغنياء أو الأسر و الحكومة أسرة واحدة. الوزراء يعينون الوكلاء من الأقارب،…...فالحكومة أسرة واحدة أو طبقة واحدة متعددة الأسر)ص ٤٦،٤٧
ما هي إلا مناظرات نظرية بين التيارات الفلسفية الفكرية ينقصها التطبيق العملي و هذا ما اتاحة الكاتب في باقي أحداث الرواية، قضية إحسان الفتاة الجميلة الفقيرة ابوها مستهتر و ام ذو سمعة سيئة و لها من الأخوات سبعة. قضية فلسفية من يستطيع أن يقدم النصيحة و العون العملي بعيدا عن مناظرات الجامعة النظرية. هل تنتظر أحلام علي طه المثالية في تطوير المجتمع و تثقيفه و تطبيق الاشتراكية و يمتلك قراره و يوفر التعليم المجاني و حق في العلاج و حق في العدل و المساواة، ام حياة آمنة غنية تمتلك المال و الرأس مالية التي تتحكم في كل شيء، فكل هذا الشيء مقابل المال، أم مجتمع متدين يطبق الشريعة الإسلامية كما ينشده مأمون رضوان.
سقطت إحسان في هوة الصراع المتأجج بين الأحزاب السياسية التي تبحث عن منافعها الشخصية و التيارات الفلسفية الفكرية التي لا تقدم سوى النظريات المثالية.( فقال علي بلهجة لم تخل من حدة: إني لا أوافق على هذا الوضع للمسألة و انك لتعلم بأني أهيم بلذات الروح و ليس المجتمع الذي نحلم به بخال من الشر، فلا خير في مجتمع يخلو من نقص على الكمال و لكن المجتمع الذي نحلم به يمحو شرور نراها في وضعنا الحالي ضربا من القضاء و القدر.
هنا ضحك احمد بدير ضحكا عاليا و قال: لماذا تتعجلان المعركة و لم يأزف موعدها بعد.
ابتسم الرفاق، الأصدقاء الأعداء و تبادلوا نظرة ذات معنى، كأنهم يتساءلون معا ماذا تخبي لنا أيها الغد؟) ص٢١٨
رواية القاهرة الجديدة اختبار للمبادئ و المثل و الأفكار الفلسفية أكثر منها رصد حالة مجتمعية. الفقر مشكلة عالمية و الأفكار النظرية الفلسفية و الصراع الطبقي السياسي لا ينفرد بها مجتمع دون غيره فالقضية عالمية باقتدار. قضية إحسان شحاتة ترك و أخواتها السبعة تبدو واقعية نقدية يوجه الكاتب سهامه نحو مجتمع مختل لكنها واقعية مخادعة استغلها الكاتب في بث أفكاره الفلسفية، حالة تأمل في الكون و كشف أغواره.(طالما حدثنا علي طه في دار الطلبة عن مبادئه و الحديث لون من ألوان السمر الجميل. أما أن يهجر الإنسان عمله و يتخذ من الحديث عن مبادئه عملا قد يؤدي إلى غيابات السجون فسلوك أقل ما يقال فيه أنه جنون و ما صاحبنا بمجنون فكيف فعل هذا؟
انظر إلى صاحبنا مأمون رضوان! و كيف حدثنا طويلا عن الإسلام؟ ثم نظر إليه و قد جمع للسفر إلى باريس ليتأهل لوظيفة الأستاذية العظيمة…..
هذا شاب حكيم.) ص ١٧١
اتسمت اللغة بالتعالي عن الحالة الثقافية للشخصيات فعلى سبيل المثال لا الحصر جاء حوار عبد الدايم لإحسان قائلا: أهلا بزوج ابني انا حموك يا عروس؟ ص ٢٠٥
و الأمثلة كثيرة تدعم فكرة الواقعية الزائفة.
رواية خان الخليلي قدم لنا نجيب محفوظ عالمه بطريقة مباشرة لا لبس فيها و لا تحتاج إلى جهد جهيد.
احمد عاكف ذلك الرجل الأربعيني وصفه قائلا: فبلغ سن الأربعين و لم يزل طفلا، يخاف الدنيا و ييأس لأقل إخفاق، و ينكص لدى أول صدمة و ما له سلاح سوى سلاحه القديم البكاء، أو تعذيب النفس، و لكن لم يعد يجدي هذا السلاح، لان الدنيا ليست أنه الحنون، فلن ترق له إذا امتنع عن الطعام و لن ترحمه إذا بكى، بل أعرضت عنه بغير مبالاة، و تركته يمعن في العزلة و يجتز العذاب فهل يصدق الوالدان أن ذلك الكهل الأصلع الهائل قد ذهب ضحيتهما؟
رواية خان الخليلي ص ٣٤
هكذا وضع الكاتب فرضيته التي تمثل نموذجا فريدا نادرا ما تجده و تقابله في حياتك العامة و الخاصة أيضا و لا ننكر عدم وجوده في الحياة لكن الواقع يختلف كثيرا عن تلك الفرضية المركبة بطريقة فريدة.
كان لابد أن يبحث نجيب محفوظ عن منطقة أو حي أو مكان يتوافق مع شخصية احمد عاكف و يتلاءم مع خصائصه.
يوغل الكاتب في وصف الحي وصفا دقيقا كي يصنع ذلك التوحد بين نفسية شخصية احمد عاكف المنغمس في القراءة مختبئا عن الدنيا التي لم يصب منها إلا القليل.
(كان يرى ذلك المنظر لأول مرة فأكبر على نفوره من الحي الجديد، و مضى يسرح الطرف في مشاهده الغريبة المترامية و هي مشاهد حقيقية بأن تدهش عينين لم تألف غير الورق، و لا عهد لهما بآيات الطبيعة أو الآثار)رواية خان الخليلي ص١٢.
تتوالى تجارب اختبار الفرضية التي اختارها نجيب محفوظ في رواية خان الخليلي. وضع شخصية احمد عاكف- بعد ما استفاض في شرح أبعاد شخصيته و أتم صناعة حالة توحد و تماهي مع المكان العتيق القاهرة القديمة و حي خان الخليلي- مع الشاب المثقف احمد راشد(كان احمد عاكف على عكس صاحبه يحسب أن الماضي انطوى على العظمة الحقيقية و أنه لم يعرف غير بعض نماذج العظمة الماضية و لا يدري شيئا عن عظماء عصرنا…..من رسل العصر الماضي اضرب مثلا بهذين العبقريين فرويد و كارل ماركس) رواية خان الخليلي ص ٥٨.
إذا ما سلمنا باستخدام نجيب محفوظ أقدم و أشهر رمزية في الادب عامة الدنيا و متاعها و رمزيات المرأة تلك الفتاة الراغبة في الزواج، الجارة الحسناء الحائرة بين احمد عاكف و أخيه الصغير المريض بمرض عضال.
(هذا الشاب الجسور فليس في مذهبه بين التحية و اللقاء سوى غمضة عين).
جيل الشباب الذي يعلن نجيب محفوظ تحيزه له.
في النهاية يكتشف احمد عاكف حقيقة حاول كثيرا الهروب منها أنه لم يحقق شيئا في حياته يذكر خائب كما وصفه الكاتب من أول الرواية و لم يعطي الفرصة كي يكتشفها المتلقي.
( في البدء قصم ظهرك عقار أبيك و بدد آمالك حدبك على شفايفك ثم أعقم مواهبك العقلية ببيئتك الجاهلة؟
ماذا يتبقى لك من أحلام دنياك؟ ذهب الشباب فلم ينجب حتى ذكرى جميلة، هاهي الكهولة تطعن بك فيما وراء مشارف الشيخوخة، فكيف تحتمل الحياة العقيمة؟) رواية خان الخليلي ص١٤٧.
جاءت اللغة متعالية عن ثقافة الشخصيات و لكن طبيعة الموضوع ربما تشفع للكاتب استخدامه درجة طيبة من اللغة و متقاربة مع الشخصيات و ليست بعيدة كثيرا عن ثقافتها.
في رواية زقاق المدق يواصل نجيب محفوظ لعبته التي اكتسبت ثقل التكرار و إجادة رواية بعد أخرى.
حميدة مجهولة النسب و أم متوفاة و تعيش مع صديقة أمها الدلالة تفعل كل شيء و أي شيء مقابل المال. المعضلة هي أحلام حميدة بالثراء و مقتها حياة الزقاق و تطلعها إلى الأفضل دائما. هل هي وقعت في شرك نصبه لها خسيس لم يخطأ نجيب محفوظ هذه الخطيئة الساذجة لكن الخسيس صرح لها منذ الوهلة الأولى عرض شراكة بينهما جسدها البض مقابل خبرته في عالم النخاسة ليحصدا معا المال الذي يثير شهيتهما معا.
المال وقت الحرب العالمية الثانية في يد الاحتلال الإنجليزي يسعى له عباس الحلو و من قبله حسين كرشة.
كذلك حميدة أصبحت المومس المفضلة لجنود الاحتلال.
لو طبقنا نظرية الرمزية في الادب نستطيع أن نقول في لحظة ما من الرواية تحولت حميدة رمز للوطن الذي ارتمى في أحضان الاحتلال و عقد صفقة معاهدة ٣٦. تمام كتلك المومس التي لا تمارس البغاء سوى مع جنود الاحتلال و تركت وراء ظهرها الشاب الطاهر النقي عباس الحلو الذي ثار و انتفض و واصل البحث عن حميدة ليثأر لكرامته.
اللغة الأدبية ليست فقط وسيلة تستخدم لترجمة الأفكار التي تضطرم في ذهن الكاتب لكنها أيضا أداة تحتاج براعة في استخدامها و يجب أن تكون ملائمة للشخصية اذا ما استخدم الكاتب طريقة الحوار و ليس السرد. كعادة نجيب محفوظ تأتي لغة الحوار أعلى كثيرا من مستوى ثقافة الشخصية. نجد أمثلة كنموذج و ليس الحصر في كل رواية.
حوار أم حسين كرشة( عدت يا بني…..
الحمد لله الذي أثابك إلى رشدك و حماك من وسوسة الشيطان، ادخل بيتك و ضحكت في انفعال ادخل يا غادر لكم أقضضت مضجعي. و قطعت قلبي). رواية زقاق المدق ص
كيف لتلك المرأة الشعبية تتحدث بطريقة يعجز طالب جامعي بل دكتور يدرس في الجامعة أن يتحدث بهذه الطريقة.
استطاع نجيب محفوظ طرح قضايا مجتمعية و مناقشتها عن طريق نسج خيوط سردية تبدو واقعية مثل استخدام أسماء أحياء عريقة في مدينة عريقة مثل القاهرة.
كذلك النماذج البشرية تحمل سمات تبدو واقعية ملابسها و تصرفاتها لكن الخيال السردي وضعها في سياق فلسفي. تبدو كل رواية كجلسة مناقشة بين أشخاص متباينة الثقافة و التراث المعرفي.
كتب: نبهان رمضان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...