باسمة العوام - قراءة في المجموعة القصصية "نهر الموت" للكاتب المصري"أحمد عبدالله إسماعيل"، الصادرة عن دار زحمة كُتّاب للنشر والتوزيع / مصر.. عام 2022

ماذا لو صار النهر الذي تغذيه الينابيع العذبة مصدراً للموت بدلا من الحياة ؟ ماذا لو صار مصبّه في البحار والمحيطات مقبرة تحتضن أشلاءنا المبعثرة ؟ ماذا لو صارت ضفافه التي قامت عليها أقدم وأعرق الحضارات صحارى قاحلة تفوح منها رائحة العفن والتلوث والفساد ؟ وما هو نهر الموت هذا الذي اندفنت في مجراه قصص الموتى الذين كتب عنهم " أحمد عبد الله إسماعيل " ؟ أم هي حكايات أموات على قيد الحياة ، زارهم هاجس الرحيل عن وطن ملقى على عتبات الريح ، يتوسدون الحجارة في ترحالهم تارة ، وتارة يركبون الموج فتبعثرهم الطرقات ، وتتآمر عليهم الريح مع السماء فتضيعهم المراكب وتتعالى الصرخات بين الأحلام والجراح ؟ أم هو نهر يدعى نهر الموت سنكتشف أسراره ومكنوناته بين سطور هذا الكتاب ؟!
__ " نهر الموت " مجموعة قصصية ، غلافها يشي بحكاية شباب تائه بين حاضر أسود وغد مجهول . شباب حاصره ليل الغموض وأسره الألم كالعبيد بعد أن أرهقته التفاصيل التي تخترق الضلوع مع كل رجفة برد ، فراح يبحث عن وطن تنتهي فيه كل محاولاته للهروب ؛ وطن ينتحب فيه الندى ولا يرحل عنه الصبر ليزهر ربيعه شوكاً والغيم تأكله المسافات .
خمس عشرة قصة في ( 94 ) صفحة ، والرابعة منها عنوان المجموعة " نهر الموت " ومنها النص الذي كتب على صفحة الغلاف الخلفية والتي توجز حكاية هؤلاء الذين يركبون الموج تتقاذفهم كوابيس الموت ، فنقرأ :
☆☆ص27 .....
نهر الموت
" في طريق وعر ، نجري بصعوبة قبيل الفجر هائمين على وجوهنا ، يتملكنا الرعب ويحيط بنا الخوف ، لا نحتمي من البرد القارس فوق الجبل سوى بسماء ندعو في كل شهيق وزفير أن ترحمنا ، انتفض جسدي بعدما سقط زميلاي من شدة التعب . أتساءل: هل كان حلماً ، لابل كان كابوساً فظيعاً ، خدعنا المهرب !
ليست النهاية التي رسمناها في خيالنا لتلك الليلة ، عندما يئست متيقنا من هلاكنا لمحت مع أول خيوط النهار أحد المنازل الحدودية المنعزلة يلوح في الأفق، بعدما أطعمنا وسقانا ما يبقينا على قيد الحياة ، ساعدنا رب هذا البيت على العودة إلى الفندق نجر أذيال الخيبة ، أما أنا كنت أشعر شعور من يمضغ الحصى بعدما فشلت في الوصول إلى نهر الموت ."
__ خمس عشرة قصة حملت العناوين الآتية :
( عطر القرية / درويش / ثرثرة في قهوة / نهر الموت / يا ليتني / حب في الهواء/ السكر المر / الدوامة / طلب صداقة / احتضار المشاعر / الحلم القاتل / حلاوة الروح / لحظة العمر / النسب / جزاء سنمار ) .
وقدم لها الدكتور " أحمد فرحات " تحت عنوان ( قراءة في حلم أحمد عبدلله إسماعيل ) ، موضحا الفرق بين الحلم والرؤيا ، وكيف استطاع الكاتب توظيف هذه الرؤيا في قصصه .
__وبين المنبع والمصب نبحر ، وعلى ضفاف النهر نحطّ الرحال مع كاتبنا ، نلتقي أناساً جمعتهم الآلام والأحلام ، فاض نهرهم يوما فذهبت أحلامهم أدراج الرياح ، تلاشت من ذاكرتهم عندما نطق الفجر بالحقيقة . والبداية مع " محمد " الذي يحلم بالعودة إلى قريته وتنشق عطرها ، ثم " درويش " صاحب الرؤيا التي تعكس خفايا نفسه وما يجول في أعماقه من أفكار ثقافية واجتماعية وقيم يورثها الأب لأولاده . وما إن تصل إلى القهوة ستسمع ثرثرة وضجيجا وحكايات بين المنطق واللامنطق .
==في المحطة الرابعة نلتقي " فتحي" الذي
خرج من مصر إلى الأردن ثم سوريا قاصداً لبنان بحثاً عن عمل ورزق وحياة عبر نهر الموت ؛ ذاك النهر الذي يصب في البحر الأبيض المتوسط ليحمله البحر إلى حلمه . فأيّ نهرٍ هذا الذي صادفه " فتحي " ؟ أهو نهر العاصي الذي عصى الطبيعة وسار بعكس اتجاهها من الجنوب إلى الشمال ، والذي شهد جرائم الإرهاب وثورات ما سمي بالربيع العربي ، التي راح ضحيتها شباب بعمر الزهور وكانت خريفا قاتلا لا ربيعاً ؟ أم هو نهر الليطاني في لبنان الذي سمي ب " شريان الموت " لكثرة التلوث والقذارة التي أودت بحياة البشر ودمرت موردا للحياة في البلاد ؟ أم هي الأنهار العربية التي تصب في قلب البحر الأبيض المتوسط الذي صار ملجأ لمن يبحث عن الحياة في قوارب الموت ؟

__ وبين ما كان وما هو كائن وما يمكن أن يكون ، نتابع .. نقلب الصفحات ونرحل بخيالنا مع الحكايات وأحلام الليل والنهار ، مع الحقيقة ، مع الماضي والحاضر .. بين التمني وواقع مفروض أسير الهواجس والخوف يتأرجح في فضاء لاحدود له ولا نهاية . فتلك امرأة نادمة على مافعلته بأم زوجها وتصرخ " يا ليتني " ، وآخر يتذمر من ثرثرة امرأة في الطائرة فيتحول تذمره لعشق و " حب في الهواء " ، ثم حب آخر يفشل فيصير السُكّر مراً . أما " الدوامة " فتبتلع ذاك المؤلف السينمائي الذي يحلم بتغيير واقع أجوف ، النصر فيه والنجاح للغباء والزيف والتملق فقط . ومن هذا الواقع إلى واقع أكثر زيفا وخداعا ومكرا، عالم الفضاء الأزرق، عالم التواصل الاجتماعي اللا اجتماعي والصداقات اللا صادقة نقرأ " طلب صداقة " .
وهكذا كلما قرأنا قصة ، فاضت المشاعر وتلاشت المسافة بين مضمون العنوان المرسوم على الغلاف ، والعناوين التي كلما تعمقنا أكثر بها وقرأنا تفاصيلها، وجدنا خيطاً يربط بينها وبين نهر الموت نقيض نهر الحياة الذي نقرأ عنه مثلا ، في " لحظة العمر " :
☆☆ص79 .....
فتّ الموت في ساعده ، أظلمت الدنيا في عينيه، توقف نهر حياته عن الانسياب، وبدأت عقارب الساعة تدور ببطء شديد ، أو ربما كفّت الأرض عن الدوران !" .
__ إذا هي المسافة التي تفصل بين منبع النهر ومصبه ، مسافة المجرى ومايحمله في طريقه للوصول . أبعاد بمفهوم المسافات ، وأبعاد بمفهوم الحياة والعلاقات المتداخلة والخارجة والمسافة المعنوية التي تفصل بين ضفتي النهر وبيننا وبين مجراه ووجهته ومدى قدرتنا على ضبط الأشرعة ومواجهة العواصف والحفاظ على النقاء والصفاء . جميعنا يولد نقيا ويرحل مع نهر الحياة متأثراً بكل مايصادفه ويلقاه، وفي النهاية يتلاشى في بحر لا نهاية له مخلفا آثاره في مجرى النهر وعلى ضفافه .
هي فلسفة وجود ، وواقع حالم بالغد يتناوب بين الليل والنهار ، حاول الكاتب بذرها بين سطوره ليقدم لنا هذا العمل بلغة سردية سلسة وبسيطة خالية من التعقيد والغموض تربط الأحداث بزمكانية واقعية تشد القارئ وتستفز عواطفه ومشاعره الإنسانية ، وتعكس المتغيرات والتأثيرات التي تحدثها الشخصيات داخل النصوص . وقد تنوعت لغة السرد بين حوارات ، اقتباسات لحكم وأمثال ، واحيانا حوارات شعرية كما ورد في قصة " ثرثرة في قهوة " :
☆☆ص23 ...
" لأي حد يحب مصر ، بلدنا دار
ولو يفكر يوم يعادي ، هتبقى نار
وراها جيش شغله يخطط ليل ونهار
وفي حضن قلبه هموم الكل
الصغار قبل الكبار
رغم إن جيش الدفاع غير الدمار ."

__ وفي النهاية ...
" نهر الموت " ليس أسطورة من عالم الخيال ، وليس لوحة مجردة رسمها فنان ، وليس كل من عبره بالضرورة صار في عالم الأموات ، بل ربما مات ألف مرة وهو على قيد الحياة .
" نهر الموت " حكايات من قلب الواقع ومن عميق فلسفة هذا الوجود ، قدمها كاتبها " أحمد عبدالله إسماعيل " بأسلوب تقليدي خالٍ من التعقيد كان بحاجة لبذل جهد اكبر في بناء هندستها وحبكة أحداثها بقوة اكبر ، ليترك فضاء أوسع أمام القارئ للمشاركة في الغوص أكثر في منعطفات العمل وتحديد ملامحه العامة ، وتشويقه أكثر للبحث والكشف عما يختبئ بين السطور .
وبعد القراءة نتوقف ، نلج إلى عالمنا، نتأمل أحلامنا وهي تغرد خارج سرب الواقع ، ثم نمضي..
نمضي وبداخلنا وطن قيّده رحيل .. فصار معتقلاً .
نمضي في رحلة المنتهى آواخر هزيع العمر ، وتمضي بنا الحياة ويبقى سؤال الوجود:
إلى أين؟!!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...