بشرى تاكفراست - الدراسات الحديثة ونظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني

كم هي كثيرة تلك الدراسات التي تناولت عبد القاهر الجرجاني ونظريته في النظم، وكم حملت هذه الدراسات آراء متباينة مرة ومتفقة مرات متعددة، وكم تضاربت الأفكار حول فكرة النظم منذ أن تنبه الشيخ محمد عبده لكل من كتاب:"دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" وأخذ منهما دروسا في رحاب جامع الأزهر، واعتبراهما أولى بالدراسة من المتون وشروحها وحواشيها، لما اتسما به من دراسة عميقة للنصوص الأدبية، تقرب القارئ من تذوق البلاغة بأسلوب سهل وبسيط و لا صلة لهما بالجدل العقيم الذي لا نتيجة له، وكان من أثر تدريسهما أن خرجا مطبوعين مصححين إلى الوجود.


وتناول الدكتور طه حسين عبد القاهر الجرجاني بالبحث في تمهيد كتاب " نقد النثر" لقدامة بن جعفر تحت عنوان:" البيان العربي"، وهو يرى أنه تم على يده التوفيق بين البيانين: العربي واليوناني بل أقر في نهاية بحثه أن من يقرأ "دلائل الإعجاز" لا يسعه" إلا أن يعترف بما أنفق عبد القاهر من جهد صادق خصب، في التأليف بين قواعد النحو العربي وبين آراء أرسطو العامة في الجملة والأسلوب والفصول، وقد وفق عبد القاهر فيما حاول توفيقا يدعو إلى الإعجاب. وإذا كان الجاحظ هو واضع أساس البيان العربي حقا فعبد القاهر هو الذي رفع قواعده وأحكم بناءه" (1)


ودرس الدكتور محمد مندور الجرجاني ونظريته في كتاب" النقد المنهجي عند العرب" وفي مؤلفه " الميزان الجديد" وهو أول من لفت الانتباه إلى الأسس اللغوية لمنهج الجرجاني قائلا:" وفي الحق إن عبد القاهر قد اهتدى في العلوم اللغوية كلها إلى مذهب لا يمكن أن نبالغ في أهميته، مذهب يشهد لصاحبه بعبقرية لغوية منقطعة النظير، وعلى أساس هذا المذهب كون مبادئه في إدراك دلائل الإعجاز في القرآن، وفي النثر العربي و الشعر العربي على السواء.

مذهب عبد القاهر هو أصح وأحدث ما وصل إليه علم اللغة في أوروبا لأيامنا هذه، هو مذهب العالم السويسري الثبت فردنا ند دي سوسير الذي توفي سنة 1913 م، ونحن لا يهمنا الآن من هذا المذهب الخطير إلا طريقة استخدامه كأس لمنهج لغوي "فيولوجي" في نقد النصوص، لقد فطن عبد القاهر إلى أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ، بل مجموعة من العلاقاتsystème de rapports فقال: "اعلم أن هناك أصلا أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب وينكر من آخر، وهو أن الألفاظ المفردة التي من أوضاع اللغة، لم توضع لتصرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيصرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف وأصل عظيم، والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها، لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا"فعل" و"يفعل" لما كنا نعرف الخبر في نفسه ومن أصله، ولو لم يكونوا قد قالوا "افعل" لما كنا نعرف الأمر من أصله ولا نجده في نفوسنا، وحتى لو لم يكونوا قد وصفوا الحروف لكنا نجهل معانيها، فلا نعقل نفيا ولا نهيا ولا استفهاما و لا استثناء، كيف و المواضعة لا تكون ولا تتصور إلا على معلوم، فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلت خذ ذاك لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها، كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له، ومن هذا الذي يشك أنا لم نعرف الرجل و الفرس و الضرب والقتل إلا من أساميها؟ لو كان ذلك مصاغا في العقل، لكان ينبغي إذا قيل "زيد" أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر ذلك بصفة...وإذ قد عرفت هذه الجملة فاعلم أن معاني الكلام كلها معان لا تتصور إلا فيما بين شيأين، والأصل و الأول هو الخبر وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع، ومن الثابت في العقول و القائم في النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، ومن ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء. وكنت إذا قلت "اضرب" لم تستطيع أن تريد منه معنى في نفسك من غير أن تريد الخبر به عن شيء مظهر أو مقدر، وكان لفظك به إذ أنت لم ترد ذلك – وصوت تصوته سواء، (صفحة 287- 288 كناب دلائل الإعجاز).

و في هذا النص البالغ الأهمية نحد فلسفة عبد القاهر اللغوية العميقة، وعن هذه الفلسفة صدرت كل آرائه في نقد النصوص" (2)، وقال في موضع آخر: " منهج عبد القاهر يستند إلى نظرية في اللغة، أرى فيها ويرى معي من يمعن النظر أنها تماشي ما وصل إليه علم اللسان الحديث من آراء.ونقطة البدء نجدها في آخر " دلائل الإعجاز" حيث يقرر المؤلف ما يقرره علماء اليوم من أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات systemedes rapports وعلى هذا الأساس العام بنى عبد القاهر كل تفكيره اللغوي الفني"(3)


وكتب الدكتور مصطفى ناصف عن النظم في كتاب " دلائل الإعجاز" في مؤلفه "نظرية المعنى في النقد العربي " وهو يرى أن فكرة النظم في كتاب "الدلائل" ذات بذور في تفكير السلف، ويشير إلى أن عبد القاهر سبق إلى أن إعجاز القرآن لنظمه من قبل الجاحظ والواسطي والخطابي والرماني. ويتناول مذهب الصرفة وموقف عبد القاهر الرافض له بقوله:" وقد رفض عبد القاهر مفهوم الصرفة، ولم يجد فيه ما يدعو إلى طول الجدال"(4)... ويأخذ على عبد القاهر أنه لم يعن بنصوص القرآن مبينا مدى تفوق القرآن على غيره من النصوص وذلك بقوله:" و الواقع أن صاحبنا لم يحاول البتة أن يبين مدى تفوق العبارة القرآنية على غيرها من العبارات، ولو سألت أين دلائل الإعجاز في كتاب عبد القاهر لما كنت مسرفا.إن جهد عبد القاهر في تبين ملامح العبارة القرآنية لا يكاد يذكر بخير ذلك أن الكتاب أقرب في مجمله إلى حديث ما في اللغة ".(5) ويختم الحديث عن نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني بقوله " لسنا نريد أن نقصر من عمل عبد القاهر، ولكن الفرق بين اللغة وفلسفتها والاستيطيقا اللغوية لم يكن متماسكا في عقل عبد القاهر فضلا على من هم دونه"(6)،


وعقد الدكتور بدوي طبانة فصلا تحت عنوان " بلاغة عبد القاهر في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة" في كتابه " البيان العربي" بدأه بالموازنة بين اتجاه عبد القاهر ومعاصره ابن سنان الخفاجي صاحب " سر الفصاحة" وتحدث عن المعاني و البيان في كتابي عبد القاهر وختم بحديث مطول عن فكرة النظم.." و الواقع أن هذه الفكرة لم يكن عبد القاهر مخترعا لها، وإن كان هو الذي بسط فيها القول، وأقام على أساسها فلسفة كتابه فقد سبقه إليها أبو عبد الله محمد بن زيد الو اسطي المتكلم (ت 307 هـ) الذي ألف كتابا سماه " إعجاز القرآن في نظمه".

وظهرت هذه الفكرة واضحة في الصراع الذي أثاره امتزاج الثقافات، وتعصب حملة اليونانية لفلسفة اليونان ومنطقهم، ودفاع حملة العربية عن تراثهم وثقافتهم ، ومنها الثقافة النحوية.

ومن مظاهر هذا الصراع تلك المناظرة الحادة التي قامت بين الحسن بن عبد الله المرزباني المعروف بأبي سعيد السيرافي وبين أبي بشر متى بن يونس في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات"(7).

ويقول في موضع أخر" وإذا كان عبد القاهر يدين بفكرة النظم، ولا يعترف بجزئياته، فإن له لفتة موفقة إلى ما ينبني على تلك الفكرة من أصول النقد الواعي" (8).

وعقد بعد ذلك فصلا للفظ والمعنى عند عبد القاهر وحدد فصلا لبلاغة التقديم والتأخير " ويرتب عبد القاهر على هذا أن المزايا في النظم إنما تكون بحسب المعاني والأغراض، بأن التقديم والتأخير كله يقوم على هذا الأساس" (9).وختم بحديث مفصل عن الذكر والحذف(10).


ويتناول الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه " النقد الأدبي الحديث "قضية اللفظ والمعنى عند عبد القاهر ويؤكد في النهاية قائلا:" ونعتقد أن عبد القاهر لم يقر من رجحوا المعنى على اللفظ، على نحو ما شرحنا من آرائهم فيما سبق، بل كان من أنصار الصياغة من حيث دلالة هذه الصياغة على جلاء الصورة الأدبية" (11) ثم يتحدث عن النظم عند عبد القاهر ويرى أنه " قام في هذا الباب بجهد عظيم الخطر، فهو يقصد بالنظم ما يطلق عليه الغربيين علم التراكيب (syntaxe)، وهو عندهم أهم أجزاء النحو، ويعرفه عبد القاهر بأنه: وضع "كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو"..(12).

ويتطرق بعد ذلك إلى التقويم الجمالي وصلته بالمضمون عند عبد القاهر ويذكر نماذج في نقد بندتو كروتشيه وآرائه في علم الجمال و يقول: " إنما ذكرنا من نقد بندتوكروتشيه ما يتصل اتصالا وثيقا بنقد عبد القاهر، لنوضح فضل عبقرية عربية انتهت بعمق نظرياتها في النقد الأدبي إلى نتائج عالمية ذات قيمة خالدة ولها صلة بفلسفة الجمال في النقد الحديث"(13).


وألف الدكتور أحمد أحمد بدوي كتابا عن " عبد القاهر الجرجاني وجهوده في البلاغة العربية" تحدث فيه عن حياة عبد القاهر وآثاره وشعره وفصل القول في نظرية النظم" (14)، ثم تحدث عن إعجاز القرآن قبل عبد القاهر، وختم بمحور حول عبد القاهر بين معاصريه.


وتناول الدكتور شوقي ضيف عبد القاهر الجرجاني في كتابه " البلاغة تطور وتاريخ" فخصص فصلا لوضع عبد القاهر لنظرية المعاني و آخر لوضعه لنظرية البيان. وقال معلقا:" ولعبد القاهر مكانة كبيرة في تاريخ البلاغة، إذ استطاع أن يضع نظريتي علم المعاني و البيان وضعا دقيقا، أما النظرية الأولى فخص بعرضها وتفصيلها كتابه " دلائل الإعجاز " وأما النظرية الثانية فخص بها وبمباحثها كتاب " أسرار البلاغة" (15).


وعقد الدكتور إحسان عباس فصلا في كتابه "" تاريخ النقد الأدبي عند العرب" تحدث فيه عن الانطلاق من فكرة الإعجاز إلى إقرار قواعد النقد و البلاغة ثم بحث في قضية اللفظ و المعنى تحت ضوء نظرية النظم الجر جانية، وانتهى إلى أن عبد القاهر ألف كتاب" دلائل الإعجاز " أولا ثم بعده كتاب " أسرار البلاغة "فاسمعه يقول:"...ومن مرحلة المعنى يتكون " علم المعاني " ومن مرحلة " معنى المعنى " يجيء "علم البيان "، ولهذا نستطيع أن نقول إن عبد القاهر بعد أن انتهى من كتابه دلائل الإعجاز الذي تحدث فيه حول المعنى، حاول "أن يخصص كتابا لدراسة معنى المعنى فكان من ذلك كتابه " أسرار البلاغة " (16).


و تحدث سيد قطب عن نظرية النظم في كتابه " النقد الأدبي أصوله و مناهجه فقال:" لقد حاول أن يضع قواعد فنية للبلاغة و الجمال الفني في كتابه " دلائل الإعجاز" كما حاول أن يضع قواعد نفسية للبلاغة في كتابه "أسرار البلاغة"وقد تأثر بالفلسفة الإغريقية وبالمنطق"(17) بل ذهب أبعد من ذلك فأقر أن عبد القاهر " أول من قرر نظرية في تاريخ النقد العربي ويصح أن نسميها نظرية النظم"(18) و انتقد سيد قطب إهمال عبد القاهر لدراسة الجانب الصوتي للألفاظ وفي ذلك يقول:" ومع أننا نختلف مع عبد القاهر في كثير مما تحويه نظريته هذه بسبب إغفاله التام لقيمة اللفظ الصوتية مفردا ومجتمعا مع غيره، وهو ما عبرنا عنه بالإيقاع الموسيقي، كما يغفل الظلال الخيالية في أحيان كثيرة، ولها عندنا قيمة كبرى في العمل الفني... مع هذا فإننا نعجب باستطاعته أن يقرر نظرية هامة كهذه – عليها الطابع العلمي – دون أن يخل بنفاذ حسه الفني في كثير مواضيع الكتاب" (19).


ومن من أخذ عليه إهماله دراسة الجانب الصوتي أيضا د.محمد زكي العشماوي في كتابه " قضايا النقد الأدبي بين القديم و الحديث قائلا: " ولكن الذي نؤاخذ عليه عبد القاهر أنه في بحثه هذا الطويل، والذي يرتبط ارتباطا وثيقا باللغة ومكوناتها الشعورية و المعنوية لم يفسح المجال لدراسة الجانب الصوتي في اللغة ودلالاته على المعنى بشكل إيجابي، فليس من شك في أن جانبا هاما من التجربة في الشعر مصدره الصوت و النغم" (20) بل ذهب أبعد من ذلك حين أكد أنه " لا ينبغي أن نكتفي في منهج لغوي كهذا بالإشارة إلى هذا الجانب مجرد إشارة، بل إن الموقف كان يحتم على عبد القاهر أن يكثف علاقة الأصوات باللغة ووظيفتها في أداء المعنى و على الأخص أنه متهم لفرط حماسته وغيرته على تأكيد الوحدة بين اللفظ والمعنى، بإغفاله جانب اللفظ وإنكاره لقيمته من حيث هو صوت مسموع، ومع إيماننا بأن اللفظ المفرد لا يكتسب قيمته الصوتية أو الشعورية إلا إذا جاء في شكل سياق، إلا أننا لا نذهب إلى إنكار قيمته الصوتية في الشعر جملة، كما أننا لا ينبغي أن نكتفي بمجرد الإشارة إلى أن الصوت جزء من المعنى بل ينبغي أن نحدد طبيعة العلاقات الإيجابية بين الأصوات ومعانيها" (21).



وتطرق الدكتور تمام حسان في كتابه" اللغة العربية معناها ومبناها"إلى نظرية النظم فقال:" ولقد كانت مبادرة العلامة عبد القاهر رحمه الله بدراسة النظم وما يتصل به من بناء وترتيب وتعليق من أكبر الجهود التي بذلتها الثقافة العربية قيمة في سبيل إيضاح المعنى الوظيفي في السياق أو التركيب.

ومع قطع النظر من رأيي الشخصي في قيمة البلاغة العربية بعامة من حيث كونها منهجا من مناهج النقد الأدبي وعن صلاحيتها أو عدم صلاحيتها في هذا المجال أجدني مدفوعا إلى المبادرة بتأكيد أن دراسة عبد القاهر للنظم وما يتصل به تقف بكبرياء كتفا إلى كتف مع أحدث النظريات اللغوية في الغرب وتفوق معظمها في مجال فهم طرق التركيب اللغوي هذا مع الفارق الزمني الواسع الذي كان ينبغي أن يكون ميزة للجهود المحدثة على جهد عبد القاهر" (22).



وأفرد الدكتور أحمد مطلوب لعبد القاهر الجرجاني كتابا عنونه" عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده" خصص الفصل الأول منه للتعريف بعبد القاهر و نشاطه الثقافي وإنتاجاته فعرف بمحتواها وذكر المصادر القديمة التي أشارت إليها أو اعتمدتها، أما الفصل الثاني فقد خصه لنظرية النظم، أما باقي الفصول فقد كانت ذات صبغة بلاغية وأدبية ترتبط بنظرية النظم.

ويختم أحمد مطلوب بقوله " لقد تحدث عبد القاهر في كتابه " دلائل الإعجاز " وأسرار البلاغة" عن كثير من اللفظ و المعنى و التصوير الأدبي و السرقات و الذوق و التأثير النفسي، وربطها بنظرية النظم التي أطال الكلام عليها، وهدفه من ذلك الوصول إلى معرفة الإعجاز وقد وفق فيما سعى إليه ونفع الدراسات الأدبية بنظريته وآرائه التي بناها عليها، وبذلك كان أعظم ناقد شهده النقد العربي القديم لأنه التزم بفكرة واضحة وسعى إلى هدف محدد" (23).


ويرى الأستاذ إبراهيم مصطفى في كتاب " إحياء النحو " أن عبد القاهر الجرجاني أعطى تصورا جديدا للبحث النحوي في كتاب "دلائل الإعجاز" فلم يهتم بأواخر الكلام وعلامات الإعراب، بل بين أن للكلام نظما " وأن رعاية هذا النظم وإتباع قوانينه هي السبيل إلى الإبانة والإفهام، وأنه إذا عدل بالكلام عن سنن هذا النظم لم يكن مفهما معناه، ولا دال على ما يراد منه"(24) وانتهى الأستاذ إبراهيم مصطفى إلى أن الذي شغل الناس عن نظم عبد القاهر أمران هما:

أولا: الحالة التي كان عليها العلم والعلماء في القرن الخامس الهجري حيث كانت العقول قد اكتفت باجترار وتقليد الأفكار المسبقة و الحلول الجاهزة فلم تقبل أي إبداع أو تجديد.

ثانيا: المذهب الذوقي الذي ركز عليه عبد القاهر لسبر أغوار اللغة ومعرفة مكوناتها" فقد تنبه الحس اللغوي لرنة الأساليب، وضبط خصائصها في زمن غلبت العجمة بغلبة الأعاجم، ووقف العلماء من علم العربية عند ظاهر اللفظ "لا يبلغ بهم الحس اللغوي أن يتذوقوا ما ذاق عبد القاهر، ولا أن يدركوا ما أدرك"(25).

و عليه يؤكد الأستاذ إبراهيم مصطفى" أنه قد آن لمذهب عبد القاهر أن يحيا، وأن يكون هو سبيل البحث النحوي"(26).


وصنف الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي كتابا عن " عبد القاهر والبلاغة العربية"، بدأه بترجمة وافية من أمهات مصادر التراجم "كبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للشيخ جلال الدين السيوطي، وفوات الوفيات لمحمد بن أحمد الكتبي، وعقد الأستاذ بعد ذلك فصلا لعبد القاهر و الكتاب المحدثين اكتفى فيه بتلخيص كل ما قيل عن عبد القاهر الجرجاني دون أن يبدي رأيه.

وعرض المؤلف بعد ذلك فصلا عن عبد القاهر وأثره في وضع البيان العربي (27) ثم انتقل للحديث عن موضوع كتاب " دلائل الإعجاز" و كتاب أسرار البلاغة و خلص إلى أن عبد القاهر "قد أساء عرض أفكاره في كتابه" الأسرار" و كذا في " الدلائل"، فخرج تأليفه مشوها مضطربا، معادا مكرورا (28)." ولايفوتنا أن نشير إلى أن المؤلف أشار بإيجاز إلى بعض الأبواب التي تعرض لها عبد القاهر فدرس باب المجاز بفرعيه: المرسل والعقلي، والتشبيه والاستعارة، كما درس النظم، ووقف على مذهب عبد القاهر في تقديم المسند إليه.

وختم كتابه بالحديث عن منهج عبد القاهر في كتابيه وأكد أنه" منهج أدبي"محض يعرض فيه الرجل على القارئ الأساليب العربية ويحللها، ويدرسها دراسة فهم وتذوق ونقد، ويستنبط منها ما يشاء من القواعد الأصول ".(29) وعليه دعا إلى ضرورة العودة إلى منهج عبد القاهر.


و الدكتور درويش الجندي ألف كتابا عن نظرية النظم عند عبد القاهر تحت عنوان" نظرية عبد القاهر في النظم" استهله بدراسة لبيئة عبد القاهر و عصره وثقافته، وثنى بالتأريخ لقضية الإعجاز من القرن الأول إلى القرن الخامس الهجري زمن عبد القاهر.

عرج الدكتور درويش الجندي بعد ذلك للحديث عن نظرية النظم الجرجانية مبينا أسسها ومعالمها شارحا أهدافها المتمثلة في:

أ‌- بيان أن جوهر الكلام هو المعنى القائم في النفس.

ب‌- ربط البلاغة بالإعجاز.

والجديد في هذا البحث أنه استعان بالبحوث الكلامية في تفسير نظرية عبد القاهر في النظم وربط هذه النظرية بتلك البحوث ربطا وثيقا.(30).


و في كتاب " المذاهب النقدية "(31) للدكتور ماهر حسن فهمي يتعرض لنظرية النظم، فيحدث عن قضية اللفظ و المعنى من حيث نشأتها وأهميتها، ويؤكد أن مقاييس القدماء النقدية كانت مبنية على أساس موقفهم منها.و يعتبر عبد القاهر،إماما للمذهب التصويري ، وهو يبني رأيه هذا على أساس من قول لعبد القاهر في الأسرار ، يربط فيه التصورات والتخيلات ويعتبر ذلك بذرة المذهب التصويري عنده. ويشير كذلك إلى الصفة التحليلية في منهجه، وكيف تطور النقد العلمي العربي على يده، وعبد القاهر كان رائدا – ولا شك –في فهمه لطبيعة الصورة، ولكن من الشطط أن نعده رائدا لمذهب أدبي على ما ندرك من مفهوم "المذهب" في أيامنا هذه.


واعتبر الأستاذ محمد خلف الله في كتابه " من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده" كتاب " الدلائل" بحثا في أسلوب تأليف الكلام ونظمه، وترتيب معانيه، وما يعرض لها من مظاهر معنوية، محاولا أن ينقل الاهتمام من جانب اللفظ إلى جانب المعنى، ويشير إلى أن عبد القاهر متلجلج في هذه القضية، بينما يقوم " الأسرار" على فكرة أن "مقياس الجودة الأدبية تأثير الصورة البيانية في نفس متذوقها" (32) وهو جزء من تفكير سيكولوجي أعم يطبع الكتاب بطابعه عن طريق " الفحص الباطن" وتأكيد الجانب النفسي أي الطريقة النفسانية التي يسميها المحدثون " التأمل الباطني(33) ويعقد محمد خلف الله فصلا يدرس فيه تأثر عبد القاهر في بعض نواحي تفكيره البلاغي و النقدي بالثقافة الإغريقية ولا سيما بحوث أرسطو...ويوجز أهم النواحي التي تعرض لها كتاباه:" الشعر والخطابة" لكي يرى إلى أي مدى تأثر بهما عبد القاهر، ثم يختم بحثه قائلا:" غير أن هذا التأثير لا ينافي الأصالة، ولا ينفي عن عبد القاهر صفة العالم المبتكر، ولا يقلل من أهمية نظريته التي لم يسبقه سابق إلى عرضها، وتحقيقها، وإفراد موضوعها بالدرس، كما يفرد العالم الحديث موضوعا معينا للبحث و التنقيب في رسالة خاصة، فمنهجه وطريقة تأليفه إذن ، من أبرز المعالم في الدراسات العربية النقدية، وشخصيته العلمية في نظريته واضحة حقا بجانب شخصية "أرسطو" وإن قدرته على تسخير العلم في كشف أسرار الذوق لدليل على أصالته كفيل بخلوده ." (34)


وألف الدكتور محمد بركات حمدي أبو علي كتابا في نظرية النظم الجرجانية تحث عنوان:"معالم المنهج البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني " استهله بفصل عن عبد القاهر ونظرية النظم مؤكدا أن " المتتبع لمؤلفات عبد القاهر في الرسالة الشافية و الدلائل والأسرار يلاحظ قلة الشواهد والآيات القرآنية وتحليلها، وهذه الملاحظة قد وقف عليها الأستاذ أمين الخولي، إذ حكم لعبد القاهر بالبلاغة و الأدب في كتابه "الأسرار" ولكنه يأخذ عليه في كتابه " الدلائل" أنه لا يتحدث في قضية الإعجاز بكثير و لا قليل، بل لا يستشهد بالقرآن على نسبة كافية، وكأنه يتحرى ترك ذلك لما تشعر به من قلة الشواهد القرآنية في كتابه هذا قلة ظاهرة.


وتابع الأستاذ أمين الخولي في هذه الملاحظة الدكتور مصطفى ناصف، في أن عبد القاهر لم يعن بنصوص القرآن في كتابه الأسرار... ويرى الرأي نفسه الدكتور أحمد بدوي ويؤيده، ولتوثيق هذا قمنا بإحصاء الآيات القرآنية التي استخدمها عبد القاهر في رسالته وكتابيه، فكانت كالآتي:

1- ورد في الرسالة الشافية ثمان آيات من خمس سور، وتقع هذه الرسالة في خمس وأربعين صفحة من الحجم المتوسط.

2- و في كتاب "دلائل الإعجاز" يورد عبد القاهر مائة وستا وستين آية، في خمس وأربعين سورة، ويقع كتاب " الدلائل" في حدود ثلاثمائة وأربع وستين صفحة من الحجم المتوسط، وقلة ورود الآيات، وعدم التعرض إلى تفسيرها، أمر واضح في هذا الكتاب، ولا أظن أن عبد القاهر قد خالف بين عنوان الكتاب وهو "دلائل الإعجاز" وما جاء فيه على غير ذلك، كما ظهر لبعض الباحثين.و ذلك لأن العنوان من شقين، الأول في " الدلائل" وهي العلامات و الوسائل و البدايات و الأسس و الركائز ثم إضافة " الدلائل" إلى " الإعجاز"وهو إعجاز القرآن، ومعنى عنوان الكتاب أنه في غير تفسير الإعجاز القرآني، وإنما في وسائل هذا الإعجاز و في طرائق فهمه.

3- و في كتابه"أسرار البلاغة" نرى أن عبد القاهر قد أورد تسعا وثلاثين آية من خمس وعشرين سورة، وهذا يفسر ما ذهبنا إليه من أن عبد القاهر ما انشغل بتفسير البيان القرآني، ولكنه اهتم بتفسير الوسيلة وإيضاحها...

وهذا الفهم يؤدي إلى دفع تهمة" قصور عبد القاهر في استخدام الآيات القرآنية، وعدم تفسيره البيان القرآني.." (35).


وبقصد تعريف القارئ بعلم من أعلام العرب، تناول الدكتور أحمد علي دهمان " الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني منهجا وتطبيقا" بغية الوقوف على كيفية دراسة عبد القاهر للصورة البلاغية في ظل نظرية النظم و تبيان طبيعتها، لذا بدأ بالتفتيش عن الأساس النظري لفكر عبد القاهر اللغوي و البلاغي ليختم بتقويم منهجي لمنهج عبد القاهر بين القدماء و المحدثين، عن طريق الربط بين الجانبين النظري و التطبيقي " لأن هذا الربط يعطي قيمة كبرى للدراسة تبرر الأصالة، وتوضح جوانبها، ولا سيما عند ناقد ثبت مثل عبد القاهر، الذي لم يقف فكره النقدي عند " التنظير" وحده، وإنما جاوزه إلى التذوق و التحليل، للوصول إلى القيم الفنية في الأثر الأدبي، وردها إلى عناصر في صياغته ونظمه، الأمر الذي جعل لبحوثه قيمة خاصة، لا نعثر على شبيه لها في مورثنا النقدي والبلاغي تقريبا"(36).


و درس الدكتور عبد العزيز عبد المعطي عرفة الذوق البلاغي لدى عبد القاهر الجرجاني في ظل نظرية النظم من خلال مؤلفه " تربية الذوق البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني" استهله بالحديث عن الذوق البلاغي قبل عبد القاهر ثم انتقل لأصالة الذوق البلاغي مع عبد القاهر وفي ذلك يقول:" وجاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني، ودرس النظم ووضع يده على موطن الفكر في النظم و الترتيب، و كشف عن الإثبات و صوره العجيبة، وحدد دورا لألفاظ، وموقف المعاني الشعرية، ومكانة الصور التي تبرز فيها تلك المعاني.

و تحت ضوء نظريته في النظم دفع أخطاء السابقين في تفسير البيان العربي بعامة وناقش آراء اللفظيين، وبين فضل المفسر على التفسير ووحد موقف منشد النصوص" (37).

هذه مجمل الدراسات الحديثة العامة التي تناولت " نظرية النظم" عند عبد القاهر الجرجاني، وهي تهدف إلى بيان عظمة عبد القاهر بالنسبة للدراسات المعاصرة من خلال دراسته القيمة للتراث الأدبي، وتحليله ومناقشته و كيف تصرف المتكلم، فأثبت ونفى، وقيد وأطلق، وعرف ونكر، وقدم وآخر، وفصل ووصل، وفضل أداة على أخرى، ولفظا على آخر، واستعار وشبه، وكنى وصرح، وذكر وأضمر، و أوجز وأطنب، إلى آخر تلك التصرفات التي ليس لها حد ونهاية كما يقول الشيخ نفسه. وقد ربط كل هذه الوجوه و الفروق بغرض الشاعر ومدى التحامها به أو قربها أو بعدها منه، كل ذلك بقريحة نفاذه، وذوق بلاغي سليم، و معرفة واسعة بكلام العرب و طرق القول عندهم.

هذا البحث البيبلوغرافي إذ يرجو لنفسه أن يقرب القارئ الكريم من مجمل البحوث الحديثة التي تناولت نظرية النظم الجرجانية بالدرس و التحليل وحسبي أني حاولت و الكمال لله وحده والله ولي التوفيق.


قراءة نقدية لنص من كتاب "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني:


نود بهذه المناسبة أن نشارك بقراءة نقدية لنص من كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، وهو كالتالي:

يقول عبد القاهر الجرجاني في كتاب " دلائل الإعجاز في علم المعاني":

" ثم قال: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي و العربي، والقروي و البدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير": فقد تراه كيف أسقط أمر المعاني وأتى أن يجب لها فضل فقال: وهي مطروحة في الطريق ثم قال: وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا: فأعلمك أن فضل الشعر بلفظه لا بمعناه وأنه إذا عدم الحسن في لفظه ونظمه لم يستحق هذا الاسم بالحقيقة، وأعاد طرفا من هذا الحديث في( البيان) فقال:" ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارا من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذكر، وربما خيل إلي أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدا أن يقولوا شعرا جيدا لمكان أعراقهم من أولئك الآباء:(ثم قال) ولولا أن أكون عيابا ثم للعلماء خاصة لصورت لك بعض ما سمعت من أبي عبيدة ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة":

واعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب ما بلغوه إلا لأن الخطأ فيه عظيم وأنه يفضي بصاحبه إلى أن ينكر الإعجاز ويبطل التحدي من حيث لا يشعر، وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أن لا يجب فضل ومزية إلا من جانب المعنى وحتى يكون قد قال حكمة أو أدبا واستخرج معنى غريبا أو شبيها نادرا فقد وجب إطراح جميع ما قاله الناس في الفصاحة والبلاغة وفي شأن النظم والتأليف وبطلان يجب بالنظم فضل وأن تدخله المزية وأن تتفاوت فيه المنازل.إذا بطل ذلك فقد بطل أن يكون في الكلام معجز وصار الأمر إلى ما يقوله اليهود ومن قال بمثل مقالهم في هذا الباب ودخل في مثل تلك الجهالات ونعوذ بالله من العمى بعد الإبصار.


فصـــــــــل

لا يكون لإحدى العبارتين مزية على الأخرى، حتى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها، فإن قلت:فإذا أفادت هذه ما لا تفيد تلك فليستا عبارتين عن معنى واحد بل هما عبارتان عن معنيين اثنين: قيل لك:إن قولنا " المعنى" في مثل هذا يراد به الغرض والذي أراد المتكلم أن يثبته أو ينفيه نحو أن تقصد تشبيه الرجل بالأسد فتقول: زيد كالأسد، ثم تريد هذا المعنى بعينه فتقول:كأن زيدا الأسد. فتفيد تشبيهه أيضا بالأسد إلا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادة لم تكن في الأول و هي أن تجعله من فرط شجاعته وقوة قلبه وأنه لا يروعه شيء بحيث لا يتميز عن الأسد ولا يقصر عنه حتى يتوهم أنه أسد في صورة آدمي. وإذا كان هذا كذلك فانظر هل كانت هذه الزيادة وهذا الفرق إلا بما توخى في نظم اللفظ وترتيبه حيث قدم الكاف إلى صدر الكلام وركبت مع "إن" وإذا لم يكن إلى الشك سبيل أن ذلك كان بالنظم فاجعله العبرة في الكلام كله َورُضْ نفسك على تفهم ذلك وتتبعه، واجعل فيها أنك تزاول منه أمرا عظيما لا يقادر قدره، وتدخل في بحر عميق لا يدرك قعره.(39)

تعد قضية "اللفظ و المعنى" من المشاكل المهمة في علم الجمال الحديث، و شغل بها النقد القديم قبل أن يعالجها النقد الحديث و قد تحدث فيها النقاد على المعاني الجمالية الموضوعية التي تعد من أسس الحكم على العمل الأدبي من الناحية الفنية، وعلى الرغم من أن مادة التعبير الأدبي هي الجمل بما تشتمل عليه من ألفاظ منظومة أو منثورة يستعان بها على محاكاة الأشياء و الأعمال كما قرر ذلك أفلاطون و أرسطو فليست القواعد الجمالية مقصورة على ما يخص الجمل والأبيات المفردة، بل إن منها ما يخص الأجناس و القوالب الفنية، أي وحدة العمل الأدبي كله. وقد أولى النقد العربي القديم كبير اهتمام بالمسألة و انقسم النقاد فيها فرقا و أقساما: أصحاب اللفظ، أصحاب المعنى ثم الذين جمعوا بينهما وعبد القاهر الجرجاني ممن نص على و جوب اتحاد المعنى بالمعنى، و امتزاج الصورة بالمادة، و تكافؤ الشكل مع المضمون مرد ذلك أنه نشأ نشأة لغوية و كانت له عناية فائقة باللغة و النحو حتى لقب بعبد القاهر النحوي. إن أول ما يعترضك في هذا النص(40) الذي بين أيدينا قوله: "ثم قال": دليل على أن الإمام ينهج منهجا جداليا يشبه بالمنهج الجدلي عند المتكلمين و هذا طبيعي لأنه نشأ في بيئة كلامية صرفة منهجها بسط آراء المعترضين ثم الرد عليها.ويتبع ما سبق بقوله:"وذهب الشيخ":ويقصد به:أبو عمرو الشيباني، واستعمل "ال"التي تعطيه الوقار والاحترام .

إن أول ما يستوقف عبد القاهر في نص الجاحظ أمرين:

1- اعتبار الجاحظ أن سبيل الكلام هو سبيل التصوير و الصناعة " إنما الشعر صناعة وضرب من التصوير " وهو في نظر عبد القاهر التصاق صرف بالألفاظ و الجانب الشكلي من الكلام حيث أن ذلك سلب للمزية و الفضيلة لأنه محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل و المزية في الكلام أن تنظر إلى مجرد معناه، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه أن لا يكون تفصيل له من حيث هو شعر وكلام وهذا قاطع فاعرفه"(41)

2- هو قولة الجاحظ: "المعاني مطروحة في الطريق " إذا انطلقنا من أن الجاحظ أستاذ لعبد القاهر فهمنا أنه يناصره وليس متعصبا ولا مبالغا كما يذهب البعض، ونلاحظ أنه يردد نفس الكلام في كتاب " البيان والتبيين "قائلا:"كلام الناس في طبقات كما أن الناس أنفسهم في طبقات"(42).

لقد اعتبرت كتب البلاغة و النقد أن الجاحظ من أنصار اللفظ ولكن عبد القاهر عندما درس، كشف النقاب عن رأيه (الجاحظ)فنسب له في البداية كما نلاحظ في النص أنه من أنصار اللفظ ثم أضاف إليه كلمة " النظم"وهو شيء لم يقل به الجاحظ، وما ذلك إلا نابع من منهجية الجرجاني التعليمية التي تهدف أن توصل إليك تدريجيا، فأوضح عبد القاهر أنه ليس من أنصار اللفظ بعدما فتت النظرية الجاحظية، إذ الجاحظ يرفض أن يكون حسن الكلام من لفظه و لا في معناه بل في" تنسيقه" و" تركيبه" وفي تراصه ويتضح ذلك من قوله" والشعر صناعة وضرب من التصوير".

فالمعاني مطروحة في الطريق، ولكن الفرق يرجع إلى الصياغة، فالمسرح واحد ولكن الصور تتعدد وتختلف باختلاف الصياغة، فالمعاني واحدة لا تتجدد وإنما تصاغ بأحاسيس ومعاناة جديدة، إن الجديد في هذه الأحاسيس و المعاناة هو" الأنا " لأن شكلها منفرد وبيئتها خاصة ومعاناتها مستقلة، من ثم فالتعبير عن مثل هذا لا يجب أن يكون مثله.

وعبارة الجاحظ كما ترى توهم كلها أن الفضيلة في جانب الألفاظ عندما يستقيم وزنها، وتكون سهلة المخارج جيدة السبك، ويكون الأديب في هذه الحال كمن يقوم بالصنع وتخير الألوان لتناسب بعضها بعضا، أما المعاني فهي مطروحة في الطريق.

وقد أوضح عبد القاهر السر في مجيء عبارة الجاحظ عما وردت عليه، بأنه لما كانت المعاني إنما تتبين بالألفاظ، وأن لا سبيل لترتيبها وجمع شملها إلا ترتيب الكلام في نطقه، فكنّوا على ترتيب المعاني الألفاظ، ثم بالألفاظ بحذف الترتيب"(43)

فالمراد من قوله:" ذهب الشيخ إلى استحسان المعاني " هو استحسان أبي عمرو الشيباني لقول من قال:

لا تحسبن الموت موت البلى إنما الموت سؤال الرجال

كـــلاهما مـــــوت ولكـــن ذا أفظع من ذاك لذل السؤال


ذلك أن ليس تحت هذين البيتين شيء يستحق أن يستحسن، وإنما تحيز لهما الشيخ لما في البيتين من معنى الوعظ و التنفير من ذل السؤال، فالمعاني التي حكم الجاحظ بإطراحها في الطريق هي "أصول المعاني " المشتركة بين جملة الناس عربيهم وعجميهم وبدويهم ومدنيهم، ومن سوء التقدير أن يخطر بأوهام أحد الناس أن الجاحظ يسوى بين المعاني كلها عند الناس جملة، وهذا ما أورده عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز" (44، وأن ما يتعارض مع هذا الادعاء قول الجاحظ:" إنما الألفاظ على أقدار المعاني فكثيرها لكثيرها وقليلها لقليلها، وشريفها لشريفها وسخفها لسخفها و المعاني المفردة البائنة بصورها تحتاج من الألفاظ إلى أقل مما تحتاج إليه المعاني المشتركة والجهات الملتبسة" (45)، فمعظم الدارسين المعاصرين يعتقدون أن الجاحظ يضرب كلامه، وينقض بعضه بعضا فهو يزعم أن المعاني مطروحة في الطريق، ثم يرجع ليقول إن فيها شريفا وسخيفا وكفى بهذا ضلالا وجهلا، لكن الجاحظ إنما قصد بالمعاني المطروحة في الطريق تلك المعاني التي تشترك فيها كافة الناس والتي هي" أصول المعاني" ومعرفتها من قبيل الضروريات، أو هي المعاني المفردة البائنة بصورها كما سماها الجاحظ نفسه، أما المعاني الشريفة فهي تلك المعاني التي لا يمتلك ناصيتها إلا خاصة من البلغاء و الفصحاء.

وأما قوله:" إنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء و في صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير "(46) فهذا من قبيل ما قاله عنه عبد القاهر مدافعا عن العلماء الأوائل – والجاحظ واحد منهم – بأنهم وصفوا " اللفظ" في ذلك بأوصاف، علم أنها لا تكون أوصافا له من حيث هو لفظ كقولهم: لفظ شريف وأنه قد زان المعنى، وأنه له ديباجة وأن عليه طلاوة، وأن المعنى منه مثل الوشي وأنه عليه كالحلي إلى أشباه ذلك مما يعلم ضرورة أنه لا يعني بمثله الصوت و الحرف.(47)

لقد بين عبد القاهر الجرجاني أن كلام الجاحظ ليس على ظاهره وحجته أقوى وأدمغ من هذر بعض الباحثين فنظر في كلام الجاحظ ومقدار صلته بالفصاحة أولا ثم في مقدار صلته بالألفاظ – من حيث هي الألفاظ- أم للمعاني.

وأول ذلك قوله /" إقامة الوزن" وهو وجهان، أولها: أوزان المفردات، وهذا لا يدخل في عداد البلاغة والثاني: وهو مراد الجاحظ، حسب ما يحدده سياق الكلام، وهو أوزان الشعر، فعليه مدار كلام الجاحظ في هذا النص، وهذا أيضا لا مدخل له في البلاغة ولا في الفصاحة، وقوله " تخير اللفظ" له وجهان:أولهما:أن اللفظ يتخيره المتكلم حسب معانيه، التي يريد إبلاغها للسامعين و الثاني أن التخير يكون في ألفاظ تؤدي المعنى، ثم تستجيب فضلا عن ذلك إلى أوزان الشعر الذي هو موضوع الكلام. أما" سهولة المخرج"فليس المراد منه الألفاظ المفردة، لآن أكثر لغة العرب وسوادها الأعظم هو سهل مخرجه، وإنما المراد منه الكلام المركب وهذا لا يحدث ذكره إلا بعد أن يكون الكلام يؤدي معانيه المطلوبة، فأداء المعنى أسبق من تسهيل المخارج، وكذلك قوله في "كثرة الماء" بل إن الكلام لا يكثر ماؤه ويسلس حتى يكون قد أوفى بمعناه، أما " صحة الطبع " و الطبيعة إنما تجود بالمعاني، وليس بالألفاظ.

أما " جودة السبك" فهده هي الصناعة والصياغة والنسج والتصوير، كلها أمور عائدة إلى المعاني، لا إلى الألفاظ، فهو حين يرتب معانيه في نفسه ويصورها للمستمعين في ألفاظها، تخرج مسبوكة فتظهر فيها صناعته وصياغته، ونسجه وتصويره، فإن أحسن ترتيب المعاني في النفس حسنت هذه تبعا لها، وإن أساء تلك ساءت هذه، فإنما الألفاظ على أقدار المعاني. كل هذه الأمور قد ذكرها الجاحظ وهو يتكلم عن الشعر، لذلك ختم كلامه بقوله:" فإنما الشعر.." وهو قال ذلك تعليقا على اختيار أبي عمرو الشيباني للبيتين السابقين، وهو لم يعب عليه اختياره إياهما، لأنه هو نفسه جعلاهما في مختاراته في " البيان والتبيين"، وإنما عاب عليه أنه لم يعتبر في اختياره إلا المعنى، كما أنه عاب على النحاة أنهم لا يختارون من الأشعار إلا ما فيها من إعراب وعاب على رواة الأخبار اقتصارهم على ما فيها من شاهد ومثل.

إن مقياس الجاحظ في اختيار الأشعار ليس هو المعنى فقط ولا هو الإعراب فقط ولا هو الشاهد و المثل فقط، بل هو كل ذلك مع إقامة وزنه، وتخير لفظه وسهولة مخرجه وكثرة مائه وجودة سبكه وصحة طبع قائله... هذا مع عدم إغفاله لأمرين، أولهما: هو ما يعود إلى التراكيب التي جاءت في كلام الجاحظ وأنها كلها عائدة إلى الكلام المركب الذي لا يقوم إلا على أساس المعنى وليس على أساس اللفظ المفرد، والثاني: إن المعاني التي يقصد إليها الجاحظ هنا هي: "أصول المعاني".

إن من اعتمد هذا النص المشهور من كلام الجاحظ وجعله دليلا على انتصاره للألفاظ دون المعاني إنما اعتقد شبهة تم إسقاطها بمعونة من عبد القاهر ومن الجاحظ نفسه وإنما جاء هذا الخطأ من قلة التدبير وسرعة الحكم وتقليد السابقين ولو أنهم انتبهوا وتابعوا كلام الجاحظ لألقوه يقول:" وقد قيل للخليل بن أحمد: ما لك لا تقول الشعر؟ قال الذي يجيئني لا أرضاه، والذي أرضاه لا يجيئني" (48) والجاحظ ما قال هذا الكلام عبثا بل لأن موضعه مناسب له وهو كلام أغفله الباحثون، فالذي يجيء الفراهيدي لا يرضاه و الذي يرضاه لا يجيئه، قطعا ليس هي الألفاظ، لأن الخليل موسوعة "لغوية، محيط – أو يكاد – بألفاظ العربية مهملها ومستعملها وهو واضع أول معجم في العربية وهذا يدلنا على أن الجاحظ كان على وعي من أن البلاغة ليست متعلقة بالألفاظ من حيث هي ألفاظ مفردة، لأنه لو كان كذلك لكان الخليل أفصح العرب وأشعرها، بل الذي تقتضي الفصاحة هي المعاني ذلك أن ما يرضاه الخليل من المعاني الشعرية التي تنظم فيها العبارة الراقية، إلى المعنى الصادق لا تتهيأ له وما يتهيأ له منها لا يرضاه، وذلك لما يجد فيه من التكلف و الخلو من الإحساس الصادق والبناء الفني الرصين، وهذا ما خلص إليه الجرجاني عندما تحدث عن المفاضلة بين العبارتين فالفاصل في ذلك هو التأثير في النفس والتلاؤم بين الألفاظ التي هي أوعية للمعاني.

إننا إذا دققنا النظر في هذا النص نجد أن كلا من الجاحظ وعبد القاهر ينحيان منحى واحدا، لقد انتهى الجرجاني إلى نتيجة مفادها أن الجاحظ في هذا النص لم يتطرق إلى اللفظ من حيث هو لفظ مفرد وإنما معنى المعنى، وما يزيد هذا الأمر إثباتا قول الجاحظ السابق:" إنما الألفاظ على أقدار المعاني فكثيرها لكثيرها وقليلها لقليلها، وشريفها لشريفها، وسخيفها لسخيفها.." (49) أليس هذا الكلام يحمل لمحة إلى ما أدار عليه عبد القاهر كتابه" الدلائل" ؟ أليس فيه أن الألفاظ تابعة للمعاني؟، أليست أقدار الألفاظ تابعة لأقدار المعاني، ولا تكون الألفاظ كثيرة و لا شريفة و لا سخيفة إلا وهي في كل ذلك تابعة للمعاني؟

وشيوع فكرة أن الجاحظ من أنصار اللفظ ترجع إلى:

1- أن الأوائل الذين جاءوا بها قد أخطأوا، لأن منطلقهم كان هو أن اللفظ وحي معجز، وأن اللغة توفيقا وليس اصطلاحا – وهذا محال – وقد أثار هذا الموضوع جلال الدين السيوطي في كتابه" المزهر"، وإذا اقترضنا أن اللغة موقوفة، فكيف يتجرأ بعضنا على صنع وخلق لغات مثل " لغة الإسبرنتو" واللغة" العبرية الحديثة"، واللغة "التركية " التي تم تحديثها، فأين إذا الوقف من هذه اللغات ؟ وعليه فكل اللغات من صنع البشر فكيف تربط هذا بقوله تعالى: "وعلم آدام الأسماء كلها"، المقصود هو أن الله قوى الإنسان على خلق اللغة وجعله قادرا على ذلك في أي وقت شاء لأنه علمه الأسماء كلها...

2- أن الجرجاني لم يدرس في الجامعات والمعاهد، فلم يدرس إلا في عصر النهضة مع الأستاذ محمد عبده بجامع الأزهر الشريف، وذلك لكون الجرجاني كان مشكوكا في إيمانه.

في الجزء الثالث من النص نجد أن عبد القاهر لم يكن يطمئن كل الاطمئنان للرأي الذي يعلي من شأن التشابيه الغريبة أو المعاني النادرة في الشعر، أو الرأي الذي يصور الاستعارة في شكلها اللفظي فقط دون تحديد مكامن الحسن فيها، لم يكن يكترث بكل هذه الآراء إيمانا منه بأن لا فائدة من إثقال كاهل الشعراء بما لا طاقة لهم به، لأن جمالية القول الشعري لا تنحصر في المعنى النادر أو التشبيه الغريب، وإنما تكمن أساسا في حسن التأليف والتناغم بين الأجزاء. و على الباحث أن يوجه كل اهتماماته للنظم لأنه سر الإعجاز وموطن جمالية القول بصفة عامة، على أن البحث ينبغي أن يكون على درجة كبيرة من الدقة و الموضوعية حتى تتبين عن قرب أهمية النظم في إضفاء الجمالية على المعنى. وإذا نحن عالجنا هذه القضية بالدقة اللازمة أدركنا أهمية المعنى في التأليف أو النظم، وحتى نقف على صحة هذا الرأي نرى جميعا درس الجرجاني للمثالين البلاغيين التاليين:

" زيد كالأسد" – " كان زيد الأسد"، أهمية المثالين تكمن في أننا نبحث في دائرة بلاغية واحدة وهي التشبيه، فمع أننا حددنا المعنى في المثالين وذلك بأن شبهنا " زيدا " بالأسد، فالمعنى تقريبا واحد وهو التشبيه أي هو تشبيه بالأسد في صورة إنسان، غير أن الجرجاني لا يقف عند هذا الحد مستسلما لصورة المعنى كما يفرضها الواقع لأول وهلة لأنه لاحظ تغيرا في النظم على أساسه، يتغير المعنى بمجرد ما حولنا " الكاف " من المثال الأول وألحقناها "بأن" في المثال الثاني تحول المعنى فجاء على صورة أعمق مما كانت عليه الصورة الوسطي بين التشبيه والاستعارة، هل هذا يعني أن تغير كلمة " أسد" بكلمة " ليث" يمكن أن يؤدي إلى نفس التغير الذي وقفنا عنده الآن، قطعا لا، لأنهما لفظتان وضعتا أصلا لتأدية المعنى فلا مزية لهذه على تلك، والسؤال المطروح هو: لماذا لم يدخل الجرجاني التشبيه في دائرة معنى المعنى؟ إن التشبيه قناة تمر عبرها الاستعارة، فهو بمثابة المعنى الأول الذي يساهم في تشكيلها دون أن يصوغ صورتها النهائية، والواقع أن الألفاظ بالنسبة للدلالة غير المباشرة لا تحمل قيمة في ذاتها، لأنها وضعت لأداء المعنى الأول من خلال تعلق الكلمات بعضها ببعض، ولكنها جاءت على تلك الهيئة المخصوصة لأداء صورة معنى المعنى على وجه أكمل، فلو أننا وضعنا مكان لفظة" الأسد " لفظة " الليث " في جملة "رأيت الأسد" لما كان لذلك من أثر على الغرض الأصلي للجملة، أما حينما يتغير النظم فإن المعنى سيتغير لا محالة، فالجرجاني ينكر أن تكون لفظة فصيحة في حد ذاتها لأنه لا توجد مفردة أفصح من مفردة، فالفصاحة ليست صفة للمفردة على الإطلاق، فحين نسمع ابن الرومي يقول:


أعانقها والنفــس بعـــد مشـــوقة إليها وهـــل بعــد العنـــاق تداني؟

وكأن فؤادي ليس يشفى ر سيسه سوى أن ترى الروحان يمتزجان (50)


فكلمة "ر سيسه" هل هي كلمة فصيحة " هل نستطيع تبديلها بغيرها ونحصل على نفس المعنى؟ فالرسيس هو بقايا الحرقة واللوعة وعمق الحب و الصبابة، فهي لا تبدل بغيرها من عشرات الكلمات التي نجدها في المعجم، و هذا لا يعني أنها فصيحة وإنما ما ارتبطت به من استعمال وسياق ونظم هو الذي أكسبها الفصاحة فإذا قلت إن فصاحتها جاءت من حروفها فالقاموس مليء بالكلمات التي لها نفس الدلالة ونفس المخارج الصوتية ولكنها غير فصيحة "إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي الألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وإن الألفاظ تثبت لها الفضيلة، وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ"(51).

ما كان يؤرق الجرجاني ويشغله هو مكمن الإعجاز في القرآن الكريم، ماهو هذا الوصف الذي جعل من القرآن نصا معجزا ؟ ما هي الشروط الجمالية في النص القرآني ؟ ما السر في تفضيل كلام على كلام وتقديم عبارة على عبارة؟. عن هذا السؤال قدم الشيخ إجابات مختلفة متنوعة تناولها بالدرس و التحليل فجاء بها على الشكل التالي:

1- هل السر في الكلم المفرد؟ لا، لأن اعتبارها كذلك ضرب من المحال إذ تصبح اللفظة المثلوة في القرآن أفضل منها وهي مثلوة خارجه وهذا كلام لا يقبله العقل.

2- هل السر في معاني الألفاظ؟ بالطبع لا، لأنه لو كان الأمر كذلك لكانت لفظة" الله" قبل نزول القرآن أقل دلالة من لفظة " الرب"، مع أن معاني الكلم المفردة كلها تواضع واصطلاح.

3- هل السر في مقاطع الآي وفواصلها ؟ لا،لأن الفواصل في الآي يقول الجرجاني كالقوافي في الشعر إن لم يكن الإعجاز في كل هذه الأشياء فما الذي هز الناس وملأ صدورهم وأعجزهم حين دخل عليهم فخرسوا وحملهم على هذا الوصف:" إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة". وما الذي دفع الجاحظ إلى هذا القول:" ولو أن رجلا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه".

4- هل يكمن الإعجاز في الاستعارة ؟ لا، لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في مواضع معينة دون غيرها، ويتضح ذلك عند مقارنتها لهذين التركيبيين:"واشتعل الرأس شيبا " و" اشتعل شيب الرأس"، فعلى الرغم من اشتراكها في الاستعارة فإن أحدهما يفضل الآخر ويسمو عليه، فلو كان الأمر رهينا بالاستعارة لوجب أن يستوي قوله تعالى في الآية بقول البشر، وهذا محال، فقولنا:" اشتعل شيب الرأس" معناه أن الشيب غط جانبا من الرأس دون أن يشمل الرأس كله، عكس قوله تعالى:" واشتعل الرأس شيبا" فهي جملة تؤكد التوقد للرأس برمته، من تم فهو مفهوم شمولي يشمل الرأس وصاحبه بما في ذلك فكره وسلوكه... وعليه فالجملتين مختلفتين كليا. إن سر خلود الآية الكريمة يكمن في نظمها:" ولا نظم في الكلم و لا ترتب حتى يعلق بعضها ببعض ويبين بعضها على بعض"(52)، « وأن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله" (53)، نلاحظ من خلال ما تقدم:

إن خصائص النظم هي في الحقيقة جزء لا يتجزأ من معاني النحو، ففي قوله تعالى:"وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر و استوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين "، يرجع عبد القاهر (54) جمال الآية إلى المواضع التالية، إذا نحن أدركناها بأذواقنا أدركنا سر العظمة في الآية وهي:

1- أن نوديت الأرض ثم أمرت: يا أرض ابلعي.

2- أن كان النداء " بيا" دون" أي": يا أرض – يا سماء.

3- إضافة الماء إلى الكاف: ماءك.

4- أن نادى الأرض وأمرها بما يخصها وماهو من شأنها كذلك.

5- استخدام المبني للمجهول في لفظة " وغيض".

6- التأكيد والتقرير في " وقضي الأمر".

7- إضمار السفينة في قوله" واستوت على الجودي".

8- مقابلة " قيل " في الفاتحة مع "قيل" في الخاتمة " قيل يا أرض.. وقيل بعدا للقوم الظالمين"...هكذا نفتخر بأن شيخنا الفاضل سبق ما وصلت إليه العقلية الغربية مع اللسانيات التوليدية في إطار ما سمو بنظرية " تماسك النص"...

الملاحظ أن عبد القاهر اعتمد في ذلك، الذوق الناضج السليم الممتاز، و القريحة الوقادة التي لا يمسها ماس إلا شحن من كهربائها لكي يردك أسرار الجمال، حتى إنه ليحسن أن المعنى يتألم ويتظلم إذا لم يؤد بالعبارة الصالحة، فذوقه علمي، ولكن ليس العلمية بمعناها الرياضي المنتمي للعلوم المحضة ولكنها بمعناها الإدراكي القادر على تفتيت الشيء وتذوق حلوه ومره مما جعل نظريته تتجاوز لحظة ولادتها فقفزت من القرن الخامس الهجري لتعايش أحدث النظريات في القرن الواحد والعشرين، فرحم الله عبد القاهر فأثره أكبر من أن يمحى وفضله أكثر من أن ينسى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


الهـوامـــــــــــش

(1) نقد النثر، قدامة بن جعفر، ص 30، المكتبة العلمية بيروت.

(2) النقد المنهجي عند العرب، ص 334-335، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة، القاهرة.

(3) في الميزان الجديد، محمد منذور، ص 175، ط 3، مكتبة نهضة مصر.

(4) نظرية المعنى في النقد العربي، مصطفى ناصف، ص 29، دار الأندلس.

(5) المرجع نفسه، ص 30

(6) المرجع نفسه، ص 30-31.

(7) البيان العربي، د. بدوي طبانة، ص 165-166، ط 5 دار العودة، بيروت.

(8) المرجع نفسه، ص 179.

(9) المرجع نفسه، ص174.

(10) المرجع نفسه، ص180

(11) النقد الأدبي الحديث، محمد غنيمي هلال، ص 268، دار الثقافة، بيروت.

(12) المرجع نفسه، ص 277.

(13) المرجع نفسه، ص 291.

(14) عبد القاهر الجرجاني، أحمد أحمد بدوي، ص 101، سلسلة أعلام العرب.

(15) البلاغة تطور وتاريخ، د. شوقي ضيف، ص 160، دار المعارف، ط.8.

(16) تاريخ النقد الأدبي، د.إحسان عباس، ص 429، دار الثقافة، بيروت، لبنان.

(17) النقد الأدبي أصوله ومناهجه، سيد قطب، ص 126، دار الشروق 1983.

(18) المرجع نفسه، ص 127.

(19) المرجع نفسه، ص 128.

(20) قضايا النقد الأدبي بين القديم و الحديث د. محمد زكي العشماوي، ص305، دار النهضة المصرية بيروت 1984.

(21) المرجع نفسه، ص 305، دار النهضة المصرية.بيروت، 1984.

(22) المرجع نفسه، و الصفحة نفسها.

(23) اللغة العربية معناها ومبناها، لتمام حسان، ص 18-19، دار الثقافة، الدار البيضاء.

(24) عبد القاهر الجرجاني:بلاغته ونقده "، د.أحمد مطلوب ص 329، ط، بيروت 1973.

(25) إحياء النحو، إبراهيم مصطفى، ص 16 مطبعة لجنة التأليف و الترجمة والنشر، سنة 1938.

(26) المرجع السابق، صفحة 19 و 20.

(27) المرجع السابق، ص 20.

(28) عبد القاهر الجرجاني و البلاغة العربية، محمد عبد المنعم خفاجي، صفحة 17-34، المطبعة المنيرة ط 1 سنة 1952.

(29) المرجع نفسه صفحة 40.

(30) المرجع نفسه صفحة 138.

(31) نظرية عبد القاهر في النظم، درويش الجندي صفحة 11 مكتبة نهضة مصر بالفوجانا 1960.

(32) المذاهب النقدية، ماهر حسن فهمي مكتبة النهضة العربية القاهرة 1962.

(33) من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده، محمد خلف الله صفحة 42-43 معهد البحوث والدراسات العربية القاهرة 1970.

(34) المرجع نفسه، ص 43.

(35) المرجع نفسه، صفحة 115 معهد البحوث و الدراسات العربية القاهرة 1970.

(36) معالم المنهج البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني، محمد بركات حمدي أبو علي ص 14-15-24 طبعة دار الفكر عمان الأردن 1984.

(37) الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني، أحمد علي دهمان، ج 1 ص 12-13 طبعة دار طلاس للدراسات و الترجمة و النشر 1986.

(38) تربية الذوق البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني عبد العزيز عبد المعطي عرفة، ص 6 ط1 سنة 1983.

(39) دلائل الإعجاز في علم المعني، عبد القاهر الجرجاني، ص 198-199، تصحيح الإمام الشيخ محمد عبده و الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، دار المعرفة لطباعة و النشر، بيروت، لبنان.

(40) المصدر السابق، ص 198-199

(41) دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، ص 197.

(42) البيان و التبيين: أبو عثمان عمرو الجاحظ، ج1، ص 144.

(43) دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، ص 51.

(44) المصدر نفسه ص 205.

(45) الحيوان الجاحظ.ج 3، ص 311، تحقيق عبد السلام محمد هارون.

(46) المصدر، ج 3، ص 132، تحقيق عبد السلام محمد هارون.

(47) دلائل لإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، ص 194.

(48) الحيوان، الجاحظ، ج 3، ص 132، تحقيق عبد السلام محمد هارون.

(49) الحيوان الجاحظ، ج 3، ص 311.

(50) ديوان ابن الرومي: ج 6، ص 22، تحقيق عبد الأمير علي مهنا، منشورات دار و مكتبة الهلال.

(51) دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني، ص 38.

(52) المصدر السابق، ص 44.

(53) المصدر نفسه ص 64.

(54) المصدر نفسه، ص 36-37.


د. بشرى تاكفراست
أستاذة جامعية مراكش-المغرب.
* (نشرت هذه المقالة بمجلة جامعة ابن يوسف العدد الرابع سنة2005)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...