عبدالرحيم الخصار - الأدب الأفريقي المجهول عربيا لا يزال ضحية الكولونيالية.. الهيمنة الغربية على ذائقة القراء تعيق تقدم أعمال إبداعية فريدة

ما حظ الأدب الأفريقي من الحضور في العالم العربي، لماذا يعرف القراء العرب كتاب القارات البعيدة، بينما لا يعرفون سوى أسماء قليلة من كتاب قارتهم غير العرب، هل لهذا الوضع امتداد كولونيالي أم أن الأمر يعود إلى قيمة الأدب الأفريقي نفسه، إذا كان هناك من حيف في حق هذا الأدب فمن يقف وراءه، لماذا توجد بلدان أفريقية، مجهولة آدابها بالمطلق، لدى القراء العرب، لماذا يغيب الأدب الأفريقي المكتوب باللغات المحلية عن القارئ العربي، ولا يصله في المقابل سوى القليل من المكتوب بالفرنسية والإنجليزية، والأقل من المترجم عنهما إلى العربية، هل يحتاج الكاتب الأفريقي لجمع حقائبه والانتقال إلى باريس، إن كان يكتب بالفرنسية، أو لندن، إن كان يكتب بالإنجليزية، كي يصل صوته إلى بلدان العالم، ماذا عن المترجمين والنقاد والباحثين والناشرين العرب، هل أنصفوا الأدب الأفريقي أم أسهموا في مضاعفة الحيف عبر غض الطرف عنه؟

توجهنا بهذه الأسئلة إلى ثلاثة من المتخصصين في الأدب الأفريقي وقضايا الترجمة، من مصر والمغرب وتونس، محاولين بذلك الكشف عن الصورة الواقعية لهذا الأدب في بلداننا العربية.
الجهل بأدب الجيران
يقول الناقد المغربي المتخصص في الأدب الأفريقي بنعيسى بوحمالة "لعلها ظاهرة تعرو الكثير من الآداب الوطنية والقارية، الشيء الذي كنت وصفته، في دراسة سابقة لي عن العلائق الممكنة بين الأدبين، العربي والأفريقي، بمفارقة الجوار. فبمقدار ما تتنامى درجة التفاعل بين جغرافيات وأمم متجاورة، إن إنسانياً، اجتماعاً، أو اقتصادياً...، يتخذ الأمر في الغالب الأعم شكلاً من جهل نسبي إن لم يكن مطبقاً، من لدن هذا الطرف أو ذاك، بأدب الجيران".
يعزو صاحب "النزعة الزنجية في الشعر العربي المعاصر" هذه المفارقة بالأساس إلى الشرط الكولونيالي: "في الوضعية المحددة للتفاعل المفترض بين الأدبين، العربي والأفريقي، تتبعاً وتأثراً ونقلاً لنقل إنه رغماً من كون الأفارقة السود شكلوا ولا يزالون، جزءاً لا يتجزأ من النسيج المجتمعي والثقافي العربي، ويكفي أن نلمع، أدبياً إلى مثال عنترة بن شداد في الشعر الجاهلي ومحمد الفيتوري في الشعر المعاصر، في مقابل ما كان للشاعر الرومنتيكي السوري، عبدالباسط الصوفي (كان ملحقاً ثقافياً بسفارة بلاده في غينيا خلال ستينيات القرن الماضي)، من حضور في المحافل الأدبية لغرب أفريقيا. علاوة على اكتشاف القراء الأفارقة لنجيب محفوظ والرواية العربية بالتبعية، بعد تتويجه بجائزة نوبل للآداب... مع ذلك فإن تداعيات الماضي الاستعماري المشترك، وضعف آليات النشر والترويج الثقافيين في أفريقيا وكذلك انشداد الوجدان العربي، كما الأفريقي والعالم الثالث بوجه عام، إلى ما ينتج وينشر من آداب في العواصم الغربية الكبرى، مما حتم أن يؤشر أولاً، على الأسماء ومعها الإصدارات الأدبية الأفريقية في باريس أو لندن أو نيويورك، كيما تنتزع عناية الأوساط الإعلامية والأكاديمية والنقدية وتحظى بالتالي بالقراءة في العالم العربي".
لا ينفي الناقد والمترجم المغربي أن بذرة لاهتمام العربي بالأدب والثقافة الأفريقيين تؤول إلى عقود مضت، "سيان على الصعيد المؤسسي كإنشاء معهد البحوث والدراسات الأفريقية في القاهرة بدءاً من أواخر أربعينيات القرن الماضي وتلاه نظيره الليبي، خلال الثمانينيات فالمعهد المغربي مع بداية التسعينيات، ناهيك باحتضان الجزائر لمهرجان الثقافة الأفريقية في دورته الثانية بعد دورة داكار أواخر الستينيات. كل ذلك في مضمار توثيق الروابط التاريخية والروحية والثقافية مع أفريقيا جنوب الصحراء. وهناك على الصعيد الفردي من قبيل ما أنجزه رعيل ريادي في هذا المجال كالمصري علي شلش والمغاربة قاسم الزهيري، حسن المنيعي ومحمد السرغيني واللبناني شربل داغر، من أعمال توثيقية أو تعريفية أو نقولات نوعية طالت الأدب الأفريقي في مختلف أجناسه التعبيرية ونبهت الوعي الثقافي العربي إلى مجريات الشأن الأدبي لدى جيراننا الجنوبيين".
لكن البذرة نفسها بحسب بوحمالة، "ستقيض لها، لإكراهات متراكبة، ألا تنضج كفاية لتثمر جهوداً ومشاريع ممنهجة وسائط وأقنية معقلنة وذلك في مرمى تجاوز ضآلة معرفتنا بالأدب الأفريقي".
الجوائز الغربية هي معيار الأدب الأفريقي؟
تطرح مديرة المركز القومي للترجمة في مصر كرمة سامي إشكالية في غاية الأهمية: "عندما فاز الروائي التنزاني المولد عبدالرزاق قرنح والمقيم في بريطانيا بجائزة نوبل للآداب أعلنت الأكاديمية السويدية أنه منحه الجائزة نظراً إلى سرده المتعاطف الذي يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات. وليس المجال الآن لأن نتوقف عند نيات الأكاديمية بهذا التصريح! لكننا عندئذ شعرنا بالخجل مؤسسات وأفراداً لأننا لم نكن نعرفه وبالطبع بدأ التدافع على ترجمة أعماله وتناولها بحثاً، فهل كان قرنح هو الأجدى بالبحث والترجمة، وهل هو خير من يمثل الأدب الأفريقي، أم أنه بعيداً من مكانته القابلة للنقاش النقدي يمثل شريحة مختلفة من الكتاب لا تعبر بالفعل عن الأدب الأفريقي الحقيقي، وأنه يكتب من منطقه سردية يضع فيها قدماً في الشمال الأوروبي وقدماً أخرى في الجنوب الأفريقي؟
وفي تصريحاته الأولى بعد الفوز قال قرنح "ما زلت أحاول استيعاب الأمر"، وله كل الحق! ثم أهدى جائزته، مشكوراً، لأفريقيا والأفريقيين. ودعا قارة أوروبا إلى اعتبار اللاجئين الوافدين إليها من أفريقيا بمثابة ثروة، مشدداً على أن هؤلاء لا يأتون فارغي الأيدي".
تتساءل مديرة المركز القومي للترجمة "وبعد أن فترت الفرحة وسكنت بفوزه يأتي السؤال: هل هذا أدب أفريقيا، وأي أفريقيا نقصد بعد أن مزقها "الاستخراب" ورسم على أرضها حدوداً وهمية وأنشأ دولاً مصطنعة، وما الفرق بين تجربته وتجربة تشينوا أتشيبي وول شوينكا أو نجوجي واثيونغو؟"
ترى كرمة سامي أن أي خطوة نحو دراسة ملف الأدب الأفريقي وترجمته باطلة، إلا إذا بدأت بقراءة كتابين: "أفريقيا الجديدة: دراسة في الجغرافيا السياسية" للدكتور جمال حمدان (1996)، وكتاب "التابع ينهض: الرواية في غرب أفريقيا" للدكتورة رضوى عاشور (1980). وتتعمق كرمة في طرحها على النحو التالي: علينا تطبيق ما يحتويه الكتابان من دراسة للجغرافيا السياسية، وتشخيص دقيق لطبيعة القارة على مجال الجغرافيا الثقافية ونشأة أدب قومي يعكس الثقافة الوطنية. وما أحوجنا الآن إلى أن نستوعب تنوع أفريقيا الثقافي الذي ينطلق من تعدد لغاتها ولهجاتها، والمقاومة اللغوية التي ظهرت في العديد من دولها، بعودة مبدعيها إلى الكتابة بلغاتهم المحلية. فهل لدينا الكتائب المتأهبة للدراسة والترجمة من الهوسة والسواحيلي والزولو والأورومو وغيرها، إلى جانب لغات المستعمر الذي تظاهر بالرحيل عن أفريقيا؟".
وانطلاقاً من تجربتها المهنية تؤكد كرمة سامي أن المركز القومي للترجمة أصدر 87 كتاباً عن أفريقيا معظمها مترجم عن الإنجليزية، من بينها أعمال تشينوا أتشيبي وول شوينكا وبن أوكري. وتضيف "لقد بدأنا مبادرات للترجمة والتعريف بالثقافة الأفريقية سنعلنها حين تثمر، ولكن ستظل الأشباح التي انطلقت من متن رواية چوزيف كونراد "قلب الظلام" الصادرة في 1899 تطاردنا لأننا لم نرد الصفعة بعد، ولم نثأر لقارتنا ولو على مستوى السرد والحكاية، ولم نقدم بعد عبء المثقف العربي بديلاً لعبء الرجل الأبيض!".
الحاجة إلى رأسمال وعمل جماعي
ينطلق المترجم التونسي جمال الجلاصي من السياق التاريخي الذي يفيد بأن الأدب الأفريقي المكتوب باللغات الكولونيالية (الفرنسية الإنجليزية والبرتغالية) ولد في كنف الاستعمار، وبدأ أدباً تابعياً غرائبياً، يقوم أساساً على كتابة الأساطير والخرافات والحكايات الأفريقية، ثم شيئاً فشيئاً عرف طريق الرواية والشعر والقصة القصيرة، وانطلق في مقاومة الاستعمار بتلك اللغات ذاتها. فطهرت في بداية ثلاثينيات القرن الماضي مدرسة الزنوجة في الأدب على يد الشعراء إيمي سيزير وليوبولد سيدار سنغور، وهي تؤسس بصفة نهائية لاستقلالية الأدب الأفريقي عن الأدب الاستعماري.
وعن وضع الأدب الأفريقي في بلداننا العربية يقول الجلاصي: "على رغم من بعض المحاولات النادرة التي قام بها مترجمون فرادى للتعريف بالأدب الأفريقي، ظل هذا الأخير مجهولاً عند القراء في العالم العربي، ولعل ذلك يعود أساساً إلى الثقافة المدرسية التي تلقيناها، والتي تقوم أساساً على أن الغرب والشمال هما مصدر الأدب والفلسفة، كما أنهما مصدر المعرفة العلمية والتقنية. ولا يقع تذكر أفريقيا إلا عند الحديث عن الأساطير والسحر والشعوذة أو الرقص والموسيقى".
يضيف الجلاصي: "كل قراء العالم باستثناء قراء العالم العربي يعرفون جيداً قيمة الأدب الأفريقي وكل مترجمي العالم يترجمونه ويحصلون على الجوائز ومراسم الاحترام والتقدير، لكن ظل مترجمو العالم العربي أسيري تلك النظرة المدرسية، متعلقين بالأدب الأوروبي والأميركي الشمالي واللاتيني، ثم اتجهوا إلى الأدب الياباني. لم يفكر المترجمون العرب في ترجمة تجارب أدبية فهم يترجمون كتاباً اشتهروا في الغرب فتنتقل إليهم العدوى. للأسف لا يعمل المترجم العربي على إزالة الضباب على تجارب شعوب ولغات بل هم يكرسون فقط كتاب الجوائز الغربية، باعتبارها مصدراً للربح المضمون للناشرين".
يوكد صاحب "أعشاب اللغة" أن المترجمين العرب يعجزون عن ترجمة الأدب الأفريقي المكتوب باللغات المحلية لسبب رئيس، هو جهلهم بتلك اللغات. سألناه عن تجربته الشخصية فصرح لنا بأنه انطلق في مغامرة ترجمة الأدب الأفريقي منذ سنة 2012 بترجمة رواية "إضراب الشحاذين" لأيقونة الرواية الأفريقية السنغالية أميناتا ساو فال، ثم الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الرئيس ليوبولد سيدار سنغور، وبعده الشاعر المارتنيكي إيمي سيزير. ووصلت ترجماته من الأدب الأفريقي إلى نحو 12 عنواناً بين الرواية والقصة القصيرة والشعر، إضافة إلى مقالات تعريفية ببعض رموز هذا الأدب. وأخيراً أسس جمال الجلاصي مع دار أبجديات التونسية وصاحبها المترجم وليد بن أحمد ،سلسلة "ضوء أسود" وهي أول سلسلة في العالم العربي متخصصة بترجمة الأدب الأفريقي جنوب الصحراء، كما أن المعهد الوطني للترجمة في تونس بدأ في ترجمة مجموعة من الروايات الأفريقية في إطار توجه جديد للعناية بهذا الأدب، وكانت البداية بترجمة روايات لألان مابانكو وأحمدو كوروما.
يختم جمال الجلاصي كلامه مذكراً بالتقصير الهائل في حقل الترجمة بالعالم العربي: "تظل الترجمة في العالم العربي اجتهاداً شخصياً من بعض المترجمين، لذلك تغيب الأفكار الاستراتيجية والسلاسل التعريفية بآداب مجهولة، ماذا نعرف عن الأدب المقدوني أو القوقازي أو اليوناني؟ لا بد من مؤسسات حكومية تمول هذه الخطط أو دور نشر مدعومة برأس مال كبير حتى تقوم الترجمة بدورها كدبلوماسية للحضارات، وحتى يظل المترجمون خيول التنوير ومهربي أرواح أخواتهم وإخوتهم البعيدين".

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب الإفريقي - ملف
المشاهدات
645
آخر تحديث
أعلى