كثيرون يسألونني لماذا أنتم الأبناء الخمسة، ثلاثة أولاد وبنتان، عدا الأخ الصغير السادس جئتم كلكم عميان؟ ولماذا لم يتوقف الوالدان عن الإنجاب وهما يريان إنهما ينجبان عميانا سيتعذبون كثيرا في هذه الدنيا الكاسرة، وسيعذبون من حولهم أيضا؟؟ وألوذ بالصمت فأنا أعرف نصف الحقيقة، أو بعضها ومع ذلك فما أعرفه يكفي لتفجير الدهشة أو التكذيب ،وربما اللوم والإدانة لأبي المسكين الذي مات دون أن نراه. فقط لا زال صوته المجلجل الحماسي كأنه يخطب في الجماهير يرج ذاكرتي، ويهز جسدي فزعا! سأورد الآن جزءا يسير مما أعرف عنه فهو كما كانت تقول أمي، ولحقت أنا على آخر فصول حياته، كان مولعا بالأنوار الساطعة شديدة الإبهار مثلما كان مهووسا بالقادة الثوريين الكبار، والتنويريين العظام في هذا العالم وكأنه واحد منهم، ولا أدري طبعا إن كان قد قرأ كل أو بعض كتبهم أو عرف حقا سير حياتهم. سمعته مرة يتحدث عن كومونة باريس فاعتقدت أن رحاها تدور الآن في بغداد، وهو من يتولى قيادتها من حجرته في بيتنا الصغير المؤجر وسيحرز النصر فيها على الأعداء رغم قوتهم وجبروتهم! ولكن لا ينبغي ان نغفل طيبته فهو كان يعمل في مؤسسة الكهرباء وبأجر زهيد لا يكاد يكفي لعيشنا على بساطته،(إذا حظينا في فطورنا صباحا بالشاي والخبز حمدنا الله كثيرا) كانوا يرونه كل يوم حاملا الدرج الخشبي على كتفه النحيل يداري مصابيح الشوارع، حريصا على سلامتها ونظافتها! يقول لمن يعجب لشدة اهتمامه بهذه المصابيح التي يضربها الأطفال أحيانا بالحجارة "يجب أن يتوفر النور للناس في الليل، سواء كانوا عائدين سكارى من حاناتهم، أو ذاهبين للصلاة في المساجد"، وتمضي والدتي للقول أن الأمر حتى الآن يبدو حسنا بل رائعا، رغم ما كانت عائلتنا تعانيه من آلام وجوع عندما يعتقل بين فترة وأخرى أو يسجن لسنوات طويلة، ولكن مصيبتنا الكبرى معه أنه مضى بهوايته الكهربائية وولعه بالأنوار الساطعة والبحث عن المصابيح الكبيرة الثقيلة ذات الشعل المتوهجة إلى حدها الأقصى كأنه صياد يبحث عن الحوت الأعظم، ليجربها علينا ونحن مازلنا صغاراً رضعاً في مهودنا الخشبية الصغيرة! فكلما ولد له طفل كان يضع فوق مهده مصباحا من النوع الذي يسمى بالبروجكتر ويسلط الضوء الباهر على وجهه وجسده بحجة غريبة: "أريد لكل خليه في جسده أن تتشبع بالنور ليكره الظلام ويثور عليه"، فكرة لا يسعني سوى القول أنها طائشة تعيسة اصبنا جراءها بالعمى، كان النور الشديد الذي يكفي لإنارة ساحة كرة قدم مثلا، يضخه أبي في حدقات عيوننا الصغيرة فيحرق ما يسمى شبكية العين وبتلف عصبها الغائر في الأعماق! هكذا عرفت من أطباء كثيرين راجعناهم بعد أن وقعت المصيبة، وعشنا العمى المطبق طيلة حياتنا اللاحقة! لم يرتدع الأب عن هوايته المجنونة، رغم بكاء الأم، وصيحاتها في وجهه: "دعهم ينشئون بنور الدنيا العادي البسيط، دعهم هم حين يكبرون يسعون للنور الذي يريدون" لكن الأب لم يكف عن تسليط مصابيحه المستوردة أو التي يتفنن في ترتيب شعلها وزجاحها على عيوننا وقلوبنا الصغيرة، وقد ظل حتى آخر لحظة في حياته لا يقر انها هي التي أطفأت النور في عيوننا وأعماقنا وحرمتنا من السير في طرق الدنيا كالآخرين. ظل بإصرار، وعناد مرعبين يتفنن، في صنع البروجكترات ووضعها فوق اسرتنا الصغيرة. حدثتني أمي عن حملها بي قائلة: إنه جلب ذات يوم مصباحا كبيرا ثقيلا وكأنه نصف مقصلة، قال أنه استورد من بلد لا يكف عن التغني به وبما يقول إنها "أمجاده العظمى التي غيرت مجرى التاريخ" وكأنه بلده هو ، وسلط ضوءه الكثيف الثقيل على بطنها قائلا لأمي، المسكينة المخلصة الحريصة على طاعته ، "أريد لأبني ان يرى حتى رحمك مضيئا مشرقا،" قالت لي أمي احسست بالضوء الشديد مثل سكين هائلة تخترق جسدي إلى عينيك وشعرت بانطفائهما كزهرتين طالهما لهب حارق، فكنت طفلي الثالث الذي أنكب في عماه! كنت بجانب سريرها وهي تحتضر ،قالت كلمتها أو بالأحرى حكمتها التي لا تنسى: "المهووسون بالأنوار الساطعة لا يقلون سوءاً ولا خطرا عن المهوسين بالظلام!" مضيفة بصوت راعش متهدج "وبين شمعة واحدة، ومصباح بألف شمعة، يتكون العمى أو حدة البصر، وكان حظ عائلتا العمى!" مضت إلى قبرها تسير أيضا بعينين ضعيفتين قاومت العمى طويلا فأنوار أبي الفائرة الهادرة لم ترحم عينيها الجميلتين كما يقول الناس عنها! خاصة حين تجلس عند مهودنا تهدهدنا بأغانيها الجميلة الحزينة بينما انوار أبي الحادة مسلطة على وجهها العذب الشاحب كما أتصوره الآن. عزاؤنا أن لنا أخا صغيرا ولد بعد وفاة ابي بشهرين، فنجا من مصابيحه الكبيرة الحارقة، وترعرع بهدوء وقد غمره ضياء الشمس الناعمة الهادئة، فجاء بعينين واسعتين جميلتين تتغزل بهما أمي وفتيات الحي معا، هذا ما يبعث فرحا غامرا في قلبي ويخفف علي وطأة العمى، أخي المبصر الجميل رحيم بنا يرعانا رغم تعدد وكثرة مشاكلنا ومتطلباتنا يقودنا دون توان أو تذمر لقضاء حاجاتنا . يتابع أخبار الطب والعلم من أجلنا، لا يكف عن زرع الأمل في قلوبنا قائلا : ثمة أخبار طيبة تقول، أنهم توصلوا لعلاج، يستعيد عصب العين التالفة حتى ولو من حريق أنوار الكسوف الشمسي" لا زال الأمل يراودني ان أرى هذه الدنيا رغم مصائبها حتى ولو لنهار واحد قبل الموت! أجلس كل يوم عند عتبة الدار، أنتظر، اخي ليأتي من عمله أتخيله سيحمل معه نعمة البصر ملفوفة مع الأطعمة التي يجلبها لنا من المطاعم كل يوم دون أن ينسى حكايات طريفة يحاول بها أن يمنحنا بها العزاء والسلوان