سأسير، الاسبوع الذي مضى، في شوارع نابلس، سأرى خيمة الاعتصام التي اقيمت على دوار المدينة والناس الذين يترددون عليها تضامنا مع ابنائهم الاسرى. كأن لسان هؤلاء في الاسرى لسان محمود درويش في الشهيد حين كتب: "يا ذبيحتنا الانيقة، فاحترق لتضيئنا، ولتنبثق نجما قصيا ولتبق وحدك عاليا، لا يلمس الزمن الثقيل مجالك الحيوي، فاصعد ما استطعت فأنت اجملنا شهيدا" وسأجلس، قبل ان ادخل الى شوارع البلدة القديمة، بعض الوقت قرب الخيمة اتصفح جرائد الخميس، لأبصر صور بعض الاسرى ترفعها ايدي اقاربهم، واعرف ان بعض هؤلاء انفق خمسة عشر عاماً في الاسر او يزيد. وربما اكرر عبارة ما، عبارة ترى في هؤلاء الذين يتضامنون مع الاسرى اسرى آخرين، فمن منا، منذ بداية الاحتلال لم يكن اسيراً، ومن منا، منذ بداية النكبة، لم يكن اسيرا ايضا. ونحن، منذ تفتحت اعيننا على هذه الدنيا، ونحن اسرى فكرة ما، اسرى مكان ما، اسرى قضية ما. ربما اكرر عبارة ما ثم اخجل، وارى في هؤلاء الاسرى اجملنا. وسأدخل الى البلدة القديمة في نابلس. سأرى حجم الدمار الذي حل بها. كأن المدينة هذه غير المدينة التي كنت اعرفها صبيا يافعاً كان يصول في ازقتها ويجول، وكان يدخل في بيوتها وينفق فيها ساعات لدى اقاربه. سأرى مدخل البلدة القديمة من الناحية الغربية وقد دمر، ولم يبق منه سوى آثار، فأتذكر البحتري وما قاله في ايوان كسرى، واتذكر احمد شوقي وما قاله في آثار العرب الدارسة في الاندلس، واكرر مطلع قصيدة الثاني: اختلاف النهار والليل ينسي اذكرا لي الصبا وايام انسي واتذكر ايام الصبا وايام انسي. اتذكر طفولتي واربط ما بين حالي وحال المدينة، وادرك اننا دخلنا مرحلة الشيخوخة مبكراً. فالاحتلال الذي هدم المباني، منذ اجتياح 2002، بصورة لافتة، هو نفسه الذي امات القلب، وجعل كل واحد منا يكبر، في السنوات الاربع الاخيرة، بطريقة المتواليات الهندسية، لا المتواليات الحسابية. وسأرى الاسواق تعج بالمواطنين، فالعام الدراسي على الابواب، ولا بد من دفاتر واقلام وحقائب مدرسية. وربما اسأل نفسي: ما المستقبل الذي ينتظر هذا الجيل، الجيل الجديد، وهل يحلمون بما حلم به الذين سبقوهم؟ لقد نشأوا في زمن صعب، وعاشوا اياماً قاسية، ايام حرب حقيقية. لقد عاشوا ايام الحصار التي جعلت من مدينتهم، ومن مدن فلسطين الاخرى ايضا، (غيتو) في زمن انقراض (الفيتو) والاسوار وجدار برلين وجدران العنصرية. وسأشتري يوم الثلاثاء الجريدة، فأرى فيها الملاحق التي منها ملحق "كتاب في جريدة"، وسأتصفح مسار القصص المختارة للكاتب الفلسطيني ابن قرية المقيبلة الذي ابعد، في عملية تبادل لاسرى، الى مصر، في العام 4791، الكاتب "توفيق فياض"، وسأرى القصص التي اختيرت له، وهي قصص اعرفها جيدا، اذ لفتت انتباهي وانا ادرس بعض الموضوعات في الادب الفلسطيني، مثل موضوع اليهود، وموضوع الانكليز، وسأقول حسنا فعل الذي اختار قصة "الكلب سمور". لكأن المرء احياناً يكون قاب قوسين او ادنى من الرحيل. لكأن الارض هذه ضاقت وضاقت. بما رحبت، ولكأن الاسرائيليين منذ مائة عام ينفذون مخططهم بهدوء: اذا كانت المجازر ستفضحنا امام العالم، وهي التي ستعجل في ترحيل العرب، فلا بد من ترحيل، ولكن بهدوء. لنجعل حياتهم جحيماً،وهكذا سيرحلون. لكأن المرء احياناً يكون قاب قوسين او ادنى من الرحيل، ولكن الكلب سمور يحضر فجأة ليعلمنا درساً قديما جديداً هو الوفاء الى المكان. غادر سمور في العام 1948 قريته مع صاحبه ليقيم في المنفى الذي لم يرق له ولم يحتمله، ولما لم يعد صاحبه الى قريته تخلى عنه وعاد وحيداً. عاد، كما قال قاسم ابن صاحبه "على الاقل يموت في الدار يابا.. مش مثلنا، نموت مهججين من الجوع والعطش، لا بيت ولا مأوى". ترى هل اخطأ الشاعر حين كتب: والذي ما له وطن ما له في الثرى ضريح؟