أ. د. عادل الأسطة - زياد خداش.. قراءات في قصص قصيرة

- زياد خداش غارق "بالضحك "

أذكر أنني التقيت بالقاص زياد خداش في بداية تسعينيات القرن العشرين . كان يومها بصحبة القاص سامي الكيلاني وكانا معا يكتبان في جريدة أصدرتها حركة " فدا " وعمل فيها الروائي أحمد رفيق عوض ، وإن لم تخني الذاكرة فقد أصدرا معا مجلة أدبية لعل عنوانها " الغربال " ، ومنذ ذلك اللقاء تصادقنا وصرنا نلتقي بين فترة وفترة ، وكلما زرت رام الله اتصلت به وغالبا ما زرنا معا الشاعر أحمد دحبور - رحمه الله - والقاص أكرم هنية - أمد الله في عمره .
وعلى الرغم من صداقتنا المديدة حتى اليوم إلا أنني لم أكتب عنه قاصا أو أديبا ، فهو يكتب القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا ويهتم بجماليات النص الأدبي ويعبر في الوقت نفسه عن حياته كما يعيشها ، وهو لا يميل إلى الأدب الملتزم ببعديه الاجتماعي والسياسي ، وهذا عموما بدأ يطغى على كتابات كتاب كثر من جيل ( أوسلو ) وما بعد أوسلو - استثني كتاب التيارات السياسية والكتاب الملتزمين بقضايا اجتماعية يعبرون عنها في نصوصهم .
الأمر يبدو لافتا . صداقة أدبية بين كاتب وناقد يختلفان أدبيا أكثر مما يلتقيان . هذا صحيح .
أحيانا أتساءل عن السبب . أيعود إلى أن جنس القصة القصيرة بدأ يذوي أم إلى أنني أميل في نقدي إلى النصوص التي يعالج فيها كتابها قضايا سياسية واجتماعية ؟
أيا كان الأمر فإن عدم الكتابة عن زياد قاصا لم يفسد للود قضية ، كما أن ما كتبه عني مرة من أنني ناقد لا يلتفت إلى البعد الجمالي لم يترك أثرا سلبيا على علاقتنا .
إنها الذائقة .
حاولت مؤخرا أن أقرأ " الغارقون بالضحك " الصادرة عن مكتبة كل شيء في حيفا في العام ٢٠١٩.
توقفت أمام المقدمة " التي يمكن الاستغناء عنها " وهي مقدمة عن " سيرته الذاتية التي لم تحدث " .
يقص زياد عن حياته ما لم يعشه . يتخيل حياته كيف يمكن أن تكون حدثت لو لم تقم دولة إسرائيل . إنها سيرته الذاتية التي لم تحدث ولكن كان يمكن أن تكون حدثت ، فلو قابلنا بين أنا السارد وبين حياة زياد للاحظنا اختلافات شاسعة ، ولكن أيضا لو قارنا بين الأحداث التاريخية في النص والأحداث التاريخية على أرض الواقع للاحظنا تطابقا وصدقا في السرد ، بخلاف ما قصه عن حياته الشخصية .
هل يمكن أن يقرأ ما كتب تحت العنوان " سيرتي الذاتية التي لم تحدث " بمعزل عن سيرة حياة الكاتب زياد خداش ؟
لو حدث وقمنا بذلك فماذا سيبقى من القصة التي تتكيء على الخيال والواقع معا ؟
ولكن ماذا لو قرأ قاريء النص قراءة نصية ؟
هل سيتوصل إلى ما توصل إليه قاريء يربط بين النص وكاتبه ؟
قصص زياد خداش القصيرة ، وقبلها قصص محمود شقير القصيرة والقصيرة جدا ، قصص تعتمد المفارقة والخيال ومزج الواقعي بالمتخيل ، ويخرج المرء بعد قراءتها بانطباع عام عنها ، أما إذا أراد أن يرسم صورة لمؤلفها أو للواقع الاجتماعي من خلالها فقد لا يخرج بطائل . إنها أشبه بقصائد شعرية لا تصلح إلا نادرا لأن يطبق عليها منهج اجتماعي إيديولوجي أو حتى منهج نفسي يدرس سيرة الأديب من خلال نصوصه .
إن " سيرتي الذاتية التي لم تحدث " ، ومثلها قصة " رجال غرباء " تقوم على تخيل وعلى قلب الحقائق مثلا ، علما بأن الثانية تبدو واضحة للفلسطيني إذ سرعان ما يكتشف المفارقة فيها ؛ المفارقة القائمة على أن أصحاب الأرض الفلسطينيين صاروا غرباء وصارت الرواية الصهيونية هي الرواية الصحيحة .
ولكن ماذا لو قرأ المطبعون العرب هذه القصة اليوم ؟ من المؤكد أنهم سيأخذون بالرواية الصهيونية وسينظرون إلينا على أننا معتدون وإرهابيون .
ربما سيمنحون زياد خداش جائزة أدبية رفيعة . هل ارشح القصة لجائزة خليجية مكانها دولة الإمارات أو مملكة البحرين ، أو المملكة العربية السعودية أو الكويت لاحقا ؟
إن قراءة نص أدبي واحد في زمنين مختلفين ومن قارئين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين .
دقوا على الخشب .
خربشات أدبية
١٤ تشرين الأول ٢٠٢٠

****

- وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري :

وأنا أقرأ قصة " أنف ليلى مراد " من مجموعته القصصية " أنف ليلى مراد " ( زياد خداش ) تذكرت قصيدة الشاعر الجاهلي المنخل اليشكري التي مطلعها :
ولقد دخلت على الفتاة الخدر في اليوم المطير
ومنها :
وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري .
منصور شاب من حيفا يجلس في مقهى الانشراح وحين يرى أحلام قادمة تجلب الحلبة لأبيها النادل يعجب بها ، بأحلام وبالحلبة أيضا التي شم رائحتها .
ما سبب إعجاب منصور بأحلام ؟ ما الذي لفت نظره فيها ؟
يشبه أنف أحلام أنف ليلى مراد ومنصور معجب بأنف ليلى ، وأحلام تحضر الحلبة معها ومنصور يحب الحلبة ، ولهذا قرر أن يتزوج منها فيتم له ذلك في غضون أسبوعين ويربح من هذا الزواج ، فأبو أحلام يقنع صاحب المنتزه بإيجاد عمل لمنصور .
كان حلم منصور النادل أن يحضر الحفل الذي ستحييه أم كلثوم في المنتزه / المقهى ويختار صاحب المقهى منصورا ليقدم الضيافة لأم كلثوم ، وحين يقدم الضيافة لها يدعوها لزيارته وزوجته في بيته فتلبي الدعوة وتأكل الحلبة اللذيذة التي تتقن زوجته صنعها .
عندما تسأل أم كلثوم عن رأيها في حيفا وناسها وحفلها هناك تأتي على زيارتها بيت النادل وزوجته وتسميه رشاد وتسمي زوجته ليلى . يستغرب منصور الأمر ولكنه سرعان ما يخاطب زوجته بليلى وسرعان ما تخاطبه هي برشاد . لقد أنساهما حب أم كلثوم اسميهما وقبلا بالاسم الذي ذكرتهما فيه .
" ضرب الحبيب زبيب " يقول المثل وهناك مثل نابلسي سمعته في مقهى البرلمان ونسيته أنسب من المثل الذي ذكرته . من يذكره ؟
منصور أحب أحلام لأن أنفها يشبه أنف ليلى مراد ولأنه يحب الحلبة ، ولكن المغزى في القصة ليس هنا . إنه - أي المغزى - هو ما تقوله روح المجموعة القصصية كلها ، وهو ما آمل أن أوضحه في مقال الأحد القادم لدفاتر الأيام ١٦ تشرين الأول ٢٠٢٢ .
صباح الخير
خربشات ١٠ / ١٠ / ٢٠٢٢ .
المثل النابلسي " الحبيب زلط زلط والعدو واقف عالغلط "

****

- " أنف ليلى مراد " وقصة " حديث متقطع لآلة كاتبة " ل زياد خداش :

عندما نشر زياد خداش قصته " حديث متقطع لآلة كاتبة ! " في جريدة الأيام الفلسطينية ( ١٢ / ٤ / ٢٠٢٢ ) وأعدت نشرها في صفحتي في يوم نشرها ، أثارت قدرا لا بأس به من الجدل شارك فيه الروائية Afaf Khalaf والشاعر طلعت قديح .
لفتت عفاف خلف انتباهنا إلى مسلسل " Chicago typewriter " وملخصه أن ثلاثة من الكتاب عاصروا الثورة الكورية إبان احتلال اليابان لكوريا " وتجسدوا في العصر الحديث .. واحد منهم يو آه يدعى إلى نيويورك لتوقيع كتابه ويرى في دار النشر التي دعته آلة كاتبة بأحرف كورية ويقوم بطلبها من صاحب الدار الذي يرفض . بعد مغادرة الكاتب إلى كوريا تصدر الآلة أصواتا فيرسلها إلى الكاتب الذي كان يمر بأزمة الكتاب " الصمت " وتبدأ الآلة بالكتابة عنه ، أو الأصح رواية قصته مع الآلة بالكتابة عنه ، أو الأصح رواية قصته مع أصدقائه إبان الثورة وعن المقاومة الكورية فترة الثلاثينيات للمحتل الياباني " .
هل تأثر زياد خداش بالمسلسل ، فثمة تشابه بين قصته والمسلسل ؟
عندما كتب غسان كنفاني روايته " ما تبقى لكم " ١٩٦٦ تأثر برواية ( وليم فوكنر ) " الصخب والعنف " وأقر غسان بذلك ولم ينكر إعجابه برواية ( فوكنر ) .
يقال إن بعض روايات إبراهيم نصرالله ماخوذة فكرتها عن أفلام سينمائية عالمية ، وإبراهيم متابع جيد للسينما .
الكتابة كتابة على الكتابة وغالبا ما يكون الأديب نتاج قراءاته ومشاهداته وتجربته .
لمن يرغب في متابعة الجدل الذي دار حول القصة يمكن العودة إلى صفحتي ويقرأ ما نشرته في ١٢ / ٤ / ٢٠٢٢ .
طبعا القصة تحتاج إلى إعادة نظر في زمن نشرها المدرج أسفل القصة وهو ٨ / ٧ / ١٩٧٣ ، فجريدة فلسطين صدرت في يافا بين ١٩١١ و ١٩٤٨ وواصلت الصدور في القدس في العام ١٩٥٠ حتى العام ١٩٦٧ إذ صارت تصدر باسم جديد هو الدستور وفي عمان .
صباح الخير
خربشات

****

- زياد خداش.. يستحضر فلسطين قبل ١٩٤٨ :

قبل سنوات كتبت عن حضور فلسطين في النثر الفلسطيني قبل العام ١٩٤٨ ولاحظت ندرة الكتابة عن المكان فيها قياسا إلى اهتمام الكتاب اليهود القادم أكثرهم من أوروبا به - أي المكان .
المقالة التي نشرتها لاقت اهتمام الاستشراق الإسرائيلي فترجمها إلى العبرية ( يوفال أبراهام ) كما لو أنه اكتشف فيها ما يحقق المقولة الصهيونية " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض " ، علما بأنني أوضحت سبب قلة الالتفات إلى المكان في النثر الفلسطيني ولم أعزه إلى خلو فلسطين من الفلسطينيين .
زياد خداش في مجموعته القصصية الجديدة " أنف ليلى مراد " (٢٠٢٢) يكتب عن يافا وحيفا واهتمام سكانهما بالفن واستقبالهم للفنانين المصريين الكبار : أم كلثوم وتحية كاريوكا وآخرين ، فهل نجح ؟
ما لم يكتبه زياد هو أن عمي المرحوم محمد الأسطة غنى في يافا مع محمد عبد الوهاب ولقب عمي ب " بلبل فلسطين " وقد تصور عمي مع محمد عبد الوهاب وظلت جدتي بعد النكبة تحتفظ بصورة ابنها في غرفة وكالة الغوث التي بنتها لها الوكالة عوضا عن بيتها في حي النزهة في يافا .
تزوج عمي من مصرية وأنجبا ولدا وفي ١٩٤٨ ذهبت إلى مصر لتعيش مع أهلها ، وجن عمي ومات في عمان في مقهى ولم يحضر أي من إخوته جنازته ، وفي رواية أسامة العيسة " مجانين بيت لحم " إشارة إليه .
غالبا ما أشرت من قبل إلى هذه الحادثة .
إن جننت أنا فلا تقولوا مجنون بالوراثة ، إذ إن المسؤول هو المقاطعة والفصائل واخوتي وتخلف شعبنا الفضولي .
سامحونا والله المستعان به وعلى رأي القذافي " طز في أميركا " واضيف : وطز فينا وفي إسرائيل والأنظمة العربية زيادة على البيعة .
صباح الخير
خربشات
١١ / ١٠ / ٢٠٢٢ .
( أدرجت هذا الصباح مقالي " للحقيقة وجهان والثلج أسود فوق مدينتا وفيه كتبت عن ترجمة مقالي إلى العبرية )

***

- تحية كاريوكا " بفكر في اللي ناسيني وبنسى اللي فاكرني "

من قصص " أنف ليلى مراد " للقاص زياد خداش خداش قصة عنوانها " حين اقتحمت غرفة تحية كاريوكا " التي تجري في حيفا قبل العام ١٩٤٨ .
تزور تحية كاريوكا حيفا لتعرض فيلمها " طاقية الإخفاء " وكان بصحبتها الممثل بشارة واكيم والمطرب محمد الكحلاوي . يحب بشارة تحية كاريوكا حبا جنونيا وهي تحترمه ولكنها تهيم بمحمد الذي يغار منه بشارة غيرة شديدة .
بشارة يكتب يومياته وتحية كاريوكا تكتب أيضا يومياتها ، وعامل الفندق ينتهز فرصة غيابها عن غرفتها فيدخل إليها ويقرأ يومياتها ويعرف عن هيامها بالكحلاوي .
" بفكر في اللي نسيني وبنسى اللي فاكرنا " يغني محمد عبد الوهاب وتقلده أيضا نجاة الصغيرة .
القلب وما يهوى وأما المثقب العبدي الشاعر الجاهلي فقال :
أفاطم قبل بينك متعيني
ومنعك ما سألت بأن تبيني
فلا تعدي مواعد كاذبات
تمر بها رياح الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي
خلافك ما وصلت بها يميني
إذا لقطعتها ولقلت بيني
كذلك اجتوي من يجتويني
و
لمن ظعن تطالع من ضبيب ... إلخ
والجاهلية تطل برأسها والحرب النووية القادمة لا سمح الله ستجعل منا صابونا أسود لمخلوقات جديدة .
مساء الخير
خربشات

***

- الكلب سمور والكلبة ليكا :

" الكلب سمور " عنوان قصة قصيرة للقاص توفيق فياض Tawfik Fayad ظهرت في مجموعته " الشارع الأصفر "(١٩٦٨) صور فيها كاتبها حياة الفلسطينيين ومعاناتهم ، إثر نكبة ١٩٤٨ ، في بعدهم عن الديار . يرفض الكلب سمور الذي يملكه بوقاسم الحياة في المنفى ، فيقرر العودة إلى قريته في فلسطين ليموت فيها ، فالموت في الوطن أفضل ألف مرة من حياة اللجوء والشتات والإقامة في الخيام عالة على صدقات الأمم المتحدة .
أما الكلبة ليكا في قصة زياد خداش " ظل عجيب لياسمينة في حيفا " فهي كلبة الشاعر اللبناني / الفلسطيني وديع البستاني الذي توفي في العام ١٩٥٤ ، ويعود بنا زياد خداش كاتبها ، وناشرها في مجموعة " أنف ليلى مراد " الصادرة حديثا عن منشورات الأهلية ( ٢٠٢٢ ) ، يعود بنا إلى حيفا وشط بحرها وبيت وديع البستاني هناك .
وديع البستاني أشهر من نار على علم ، إذ يعرفه قراء الشعر الفلسطيني المكتوب قبل العام ١٩٤٨ ، فهو صاحب ديوان " الفلسطينيات " ؛ الديوان الذي دافع فيه عن عروبة فلسطين . هل يمكن نسيان بيته الشعري الذي يفتخر فيه بعروبته :
" أجل عيسوي ! اسألوا الأمس والغدا
ولكن عروبي يحب محمدا " .
عندما هجر الصهيونيون عرب حيفا في ١٩٤٨ آثر الشاعر البقاء فيها في بيته الذي بناه ، وظل فيه حتى العام ١٩٥٣ إذ لم يقو على البقاء في حيفا التي صارت مدينة مختلفة فلم يعد سكانها عربا كما ألفهم . ببساطة صارت حيفا مدينة يهودية ، وهنا خضع الشاعر إلى ضغوطات أسرته التي آثرت العودة إلى لبنان حيث قرية الدبية .
يتخيل زياد خداش الآتي :
ربت ليلى ابنة الشاعر وديع كلبة واعتنت بها ، بالإضافة إلى أنها زرعت في بيتها شجرة ياسمين ، وعندما هاجرت الأسرة في ١٩٤٨ وبقي وديع وزوجته روز بقيت ليكا معهما ترعى شجرة الياسمين كما أوصتها ليلى ، وإذ قررت روز الهجرة واستجاب لها وديع فقد اصطحبا معهما ليكا ، ولكن ما إن وصلت السيارة رأس الناقورة وهمت العائلة بقطع الحدود حتى تراجعت ليكا وقررت العودة إلى ظل شجرة الياسمين لتحرسها عملا بوصية ليلى .
سمور و ليكا كلبان وفيان ، ومرة نشرت في جريدة الأيام الفلسطينية مقالا في جزأين عنوانه " كلاب في الذاكرة " . هل ستخلد ليكا التي اخترعها زياد في الذاكرة ؟
أعتقد أن مجموعة زياد خداش الجديدة الوارد عنوانها أعلاه تستحق الوقوف عندها .
مساء الخيرات والمسرات
وتحية للكلب سمور والكلبة ليكا
خربشات الأحد
٩ تشرين الأول ٢٠٢٢


****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...