لقد ألفت البكاء بعد فقد وحيدها واستبدلت بالرقص التنهدات وبالغناء النحيب. كانت تعمل في أحد المسارح راقصة ومغنية، فأصبحت تعمل في مسرح الحياة نائحة وباكية.
في سنة 1776 قامت أمريكا تطالب باستقلالها وأعوزتها الجيوش فأرسلت تستنجد فرنسا. أرسلت فرنسا المدد إليها بقيادة القائد لافاييت ذلك العظيم الذي أصبح فيما بعد من زعماء الثورة الفرنسية. نالت أمريكا استقلالها وظلت مساعدة فرنسا لها دينا في عنقها تترقب الفرص للوفاء به. ولكن الأعوام توالت وما زال هذا الدين غلا في عنق أمريكا.
وفي سنة 1914 انفجرت الحرب العظمى في أنحاء أوربا وقامت لها الدول وقعدت. وأخيرا أرسلت فرنسا تطالب بدينها وتلح في طلب المدد. تذكرت أمريكا لافاييت وجيشه فأرسلت جيشها وفاء دين، وتحية إجلال، لروح ذلك البطل الخالد.
وشاعت الأنشودة المشهورة (جئنا إليك يا لافاييت) في أمريكا بين صفوف الجند وفي المسارح والمقاهي. أنشدها القوم لحث الشباب على التطوع في الجيش المرسل مددا لروح لافاييت ممثلة في فرنسا، ولكم ألهبت تلك الأنشودة من قلوب، ولكم أثارت من حمية الشباب ودفعت بهم زرافات إلى صفوف الجيش الراحل إلى وطن لافاييت وفاء دين ورد جميل.
شهرت تلك ألأم بإنشاد هذه الأنشودة واشتهر وحيدها بأنه أول من تطوع في هذا الجيش. كانت الأم تغني تلك الأنشودة وهي ترقص رقصة الجندي المقتول، رقصه تمثل وقوع الجندي الباسل في ميدان القتال فداء الوطن وضحية النصر فكانت تلهب قلوب المتفرجين حماسا وإقداما. وأنشدتها لآخر مرة ليلة رحيل الجيش في المعسكر، وكان ابنها من اكبر المعجبين بها، والمتحمسين لها. هذه آخر مرة رأت وحيدها وفي الصباح رحل الجيش.
رجع الجيش ولكن وحيدها لم يرجع فقد قتل في ميدان الحرب شهيدا كما أملت عليه تلك الروح التي ألهبتها الأم بأنشودتها. لم يمت في ساحة الوطن وإنما قتل في ساحة الوفاء
وأنشد الجند (وجئنا إليك يا لافاييت) احتفاء برجوعهم إلى وطنهم فتقطعت نياط قلب حسرة وكمدا. وتمثلت لها الحرب بأبشع مظاهرها. فهزأت من الجند الساذج الذي يسير إلى الموت فرحا مستبسلا مضللا بكلمات جوفاء كالوطن والحرية والوفاء والشهامة. وازدرت أناشيد الحرب وأعلام الحرب، وكل ما يمس الحرب، لأنها كلها ليست إلا وسائل إغراء الشباب ليقدم على الموت فتنال الأمة مطامعها. وهكذا لابد من ثمن لكل نصر.
بزغت الشمس هذا الصباح فتململت الأم في فراشها وانحدر الدمع على صدرها سخينا ملتهبا فتنهدت قائلة (رباه، أما في دنياك من جديد؟) ليس هناك جديد لك أيتها الثكلى، فقد حرمت ثمار غرس تعهدته وسهرت عليه فجنى الموت ما كنت إليه تتطلعين، وتمتع الفناء بزهر تعهدته وسقيته دم القلب. ليس لك سوى أنشودة تعيدينها ليل نهار هي كل مالك من ذكرى. نعم ليس هنالك سوى أنشودة الذكرى فردديها كلما غنت الطيور، وردديها طلوع شمس ومغربها. ردديها ما بقي فيك صوت ينشد، ردديها، ولتكن آخر ما يسمع من صوتك العذب الرقيق.
صحت الأم في ذ لكاليوم يملؤها شعور خفي، إنها ستلاقي وحيدها ولكن أين؟ وكيف؟ لا تدري. لقد دعاها الجند اليوم وتوسلوا إليها لتحضر احتفالهم بمرور عام على وفاة وحيدها. ذهبت ولكنها كانت ذاهلة عن كل ما حولها. يكلمها هذا ويعزيها ذاك فلا تشعر بشيء ألا أنها ستلاقي وحيدها اليوم.
وعزفت الموسيقى بأنشودة (جئنا إليك يالافاييت) فاندفعت ألأم نحو المنبر بشعور غريب وبدأت تغني وترقص رقصة الجندي المقتول، كما كانت ترقصها ليلة ترحيل الجيش. تسمع الجند أليها بقلوب باكية، وعيون ينهمر الدمع منها انهمارا. لقد رأى كل منهم الموت بعينه فما بكى، ورأى أصدقائه يترنحون قتلى في ساحة الحرب فما ذرفت عينه نصف ما ذرفت لمنظر تلك الأم الثكلى ترقص رقصة تمثل وحيدها يقع قتيلا في الحرب. سمعوا المدافع والطبول وسمعوا الأنين وحشرجة الموت فما هلعت قلوبهم ولا وجلت مثلما وجلت لسماع صوت الأم وهي تنشد أنشودة دفعت ثمنها غاليا.
وترنحت ألأم في رقصتها استعدادا لسقطة الموت الأخيرة، سقطة تمثل سقطة الجندي الباسل مقتولا في ساحة الحرب. وهنا ٍرأت وحيدها! نعم رأته يسير أليها بطيئا مهيبا! يسير أليها هي بعد أن قام من بين صفوف الجند مادا ذراعيه نحوها. فصرخت صرخة مروعة (ولدي. . . . ولدي. . . ألي يا ولدي)
وسقطت كما يسقط الجندي المقتول في ساحة الحرب.
للآنسة سهير القلماوي
ليسانسييه في الآداب
مجلة الرسالة - العدد 23بتاريخ: 11 - 12 - 1933
في سنة 1776 قامت أمريكا تطالب باستقلالها وأعوزتها الجيوش فأرسلت تستنجد فرنسا. أرسلت فرنسا المدد إليها بقيادة القائد لافاييت ذلك العظيم الذي أصبح فيما بعد من زعماء الثورة الفرنسية. نالت أمريكا استقلالها وظلت مساعدة فرنسا لها دينا في عنقها تترقب الفرص للوفاء به. ولكن الأعوام توالت وما زال هذا الدين غلا في عنق أمريكا.
وفي سنة 1914 انفجرت الحرب العظمى في أنحاء أوربا وقامت لها الدول وقعدت. وأخيرا أرسلت فرنسا تطالب بدينها وتلح في طلب المدد. تذكرت أمريكا لافاييت وجيشه فأرسلت جيشها وفاء دين، وتحية إجلال، لروح ذلك البطل الخالد.
وشاعت الأنشودة المشهورة (جئنا إليك يا لافاييت) في أمريكا بين صفوف الجند وفي المسارح والمقاهي. أنشدها القوم لحث الشباب على التطوع في الجيش المرسل مددا لروح لافاييت ممثلة في فرنسا، ولكم ألهبت تلك الأنشودة من قلوب، ولكم أثارت من حمية الشباب ودفعت بهم زرافات إلى صفوف الجيش الراحل إلى وطن لافاييت وفاء دين ورد جميل.
شهرت تلك ألأم بإنشاد هذه الأنشودة واشتهر وحيدها بأنه أول من تطوع في هذا الجيش. كانت الأم تغني تلك الأنشودة وهي ترقص رقصة الجندي المقتول، رقصه تمثل وقوع الجندي الباسل في ميدان القتال فداء الوطن وضحية النصر فكانت تلهب قلوب المتفرجين حماسا وإقداما. وأنشدتها لآخر مرة ليلة رحيل الجيش في المعسكر، وكان ابنها من اكبر المعجبين بها، والمتحمسين لها. هذه آخر مرة رأت وحيدها وفي الصباح رحل الجيش.
رجع الجيش ولكن وحيدها لم يرجع فقد قتل في ميدان الحرب شهيدا كما أملت عليه تلك الروح التي ألهبتها الأم بأنشودتها. لم يمت في ساحة الوطن وإنما قتل في ساحة الوفاء
وأنشد الجند (وجئنا إليك يا لافاييت) احتفاء برجوعهم إلى وطنهم فتقطعت نياط قلب حسرة وكمدا. وتمثلت لها الحرب بأبشع مظاهرها. فهزأت من الجند الساذج الذي يسير إلى الموت فرحا مستبسلا مضللا بكلمات جوفاء كالوطن والحرية والوفاء والشهامة. وازدرت أناشيد الحرب وأعلام الحرب، وكل ما يمس الحرب، لأنها كلها ليست إلا وسائل إغراء الشباب ليقدم على الموت فتنال الأمة مطامعها. وهكذا لابد من ثمن لكل نصر.
بزغت الشمس هذا الصباح فتململت الأم في فراشها وانحدر الدمع على صدرها سخينا ملتهبا فتنهدت قائلة (رباه، أما في دنياك من جديد؟) ليس هناك جديد لك أيتها الثكلى، فقد حرمت ثمار غرس تعهدته وسهرت عليه فجنى الموت ما كنت إليه تتطلعين، وتمتع الفناء بزهر تعهدته وسقيته دم القلب. ليس لك سوى أنشودة تعيدينها ليل نهار هي كل مالك من ذكرى. نعم ليس هنالك سوى أنشودة الذكرى فردديها كلما غنت الطيور، وردديها طلوع شمس ومغربها. ردديها ما بقي فيك صوت ينشد، ردديها، ولتكن آخر ما يسمع من صوتك العذب الرقيق.
صحت الأم في ذ لكاليوم يملؤها شعور خفي، إنها ستلاقي وحيدها ولكن أين؟ وكيف؟ لا تدري. لقد دعاها الجند اليوم وتوسلوا إليها لتحضر احتفالهم بمرور عام على وفاة وحيدها. ذهبت ولكنها كانت ذاهلة عن كل ما حولها. يكلمها هذا ويعزيها ذاك فلا تشعر بشيء ألا أنها ستلاقي وحيدها اليوم.
وعزفت الموسيقى بأنشودة (جئنا إليك يالافاييت) فاندفعت ألأم نحو المنبر بشعور غريب وبدأت تغني وترقص رقصة الجندي المقتول، كما كانت ترقصها ليلة ترحيل الجيش. تسمع الجند أليها بقلوب باكية، وعيون ينهمر الدمع منها انهمارا. لقد رأى كل منهم الموت بعينه فما بكى، ورأى أصدقائه يترنحون قتلى في ساحة الحرب فما ذرفت عينه نصف ما ذرفت لمنظر تلك الأم الثكلى ترقص رقصة تمثل وحيدها يقع قتيلا في الحرب. سمعوا المدافع والطبول وسمعوا الأنين وحشرجة الموت فما هلعت قلوبهم ولا وجلت مثلما وجلت لسماع صوت الأم وهي تنشد أنشودة دفعت ثمنها غاليا.
وترنحت ألأم في رقصتها استعدادا لسقطة الموت الأخيرة، سقطة تمثل سقطة الجندي الباسل مقتولا في ساحة الحرب. وهنا ٍرأت وحيدها! نعم رأته يسير أليها بطيئا مهيبا! يسير أليها هي بعد أن قام من بين صفوف الجند مادا ذراعيه نحوها. فصرخت صرخة مروعة (ولدي. . . . ولدي. . . ألي يا ولدي)
وسقطت كما يسقط الجندي المقتول في ساحة الحرب.
للآنسة سهير القلماوي
ليسانسييه في الآداب
مجلة الرسالة - العدد 23بتاريخ: 11 - 12 - 1933