أ. د. عادل الأسطة - الروح الجاهلية: حروب داحس والغبراء

وأنت تصغي إلى خطابات قادتنا الذين رفعوا شعار الاشتراكية والعلمانية، من صدام حسين إلى العقيد الليبي، تتذكر نزار قباني وسطره الشهير: "لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية". وتتذكر سطر محمود درويش: "أنا ألف عام من اللحظة العربية، أبني على الرمل ما تأخذ الريح".
قبل بداية الحرب الأميركية على العراق، بدأ الرئيس العراقي يعد العدّة لأم المعارك، فاجتمع بالمقربين منه، كما اجتمع برؤساء القبائل والعشائر، حتى يعاهدوه على الوقوف إلى جانبه في صد العدوان. هل تفاجأتَ يومها لكون المجتمع العراقي مجتمعاً عشائرياً؟ لماذا غابت عن ذهنك روايات جبرا إبراهيم جبرا التي اتخذت من العراق والعراقيين بعداً لها؟ في "السفينة" يتعلم العراقي في عواصم البلدان الأوروبية ويعود إلى بغداد ليحيا حياته، ولا يخرج عن عادات العشيرة وتقاليدها. (لن يختلف الأمر في رواية العراقية بتول الخضري: "كم بدت السماء قريبة". كان والد الراوية أوروبياً في أوروبا، وحين عاد إلى بغداد، ومعه زوجته الأوروبية، بدا عراقياً صرفاً، وربّى ابنته تربية أقرب إلى تربية ابن العشيرة، ما جعل المسافة بينه وبين زوجته تكبر وتكبر، حتى آلت العلاقة إلى طلاق). أراد صدام أن يبني دولة حديثة، علمانية، ثم انتهى ورعاً تقياً مؤمناً، وأسلم العراق إلى الهباء / الاحتلال، وما بناه أخذته الريح، وعاد العراق، بسبب حكم صدام، عشرات، بل مئات السنين إلى الوراء. هل اختلف الأمر في ليبيا؟
وأنت تتابع ما يجري في ليبيا الآن، تسترجع ما جرى في العراق. أراد القذافي أن تكون دولته اشتراكية جماهيرية عظمى، وبدلاً من أن يبني مجتمعاً مدنياً حديثاً، أخذ، مع بداية الأحداث، ومثله ابنه سيف، يؤلّب، باسم اللات، العصبيات القبلية –والتعبير لمظفر النواب في "وتريات ليلية" (1973). ستصغي إلى قائد اشتراكي –هكذا أراد لدولته أن تكون: جماهيرية اشتراكية – يتحدث عن القبائل، ويجتمع بأبنائها ليخاطبها، فما زالت القبلية هي السمة الأغلب في المجتمع الليبي بعد 42 عاماً من حكم الثائر.
اشترى العقيد الأسلحة بمليارات الدولارات، وخزنها وكدسها –ربما ليوم التحرير الأكبر- وها هي تستخدم في الحروب القبلية. هل اختلف كثيراً عن صدام حسين، الذي أنفق مئات المليارات في حروبه ليحرر فلسطين من البوابة الشرقية؟ (تتذكر ما كتبه مظفر النواب: وضع الحرب بغير مكان الحرب / وعند الحرب تقلد سيفين من الخشب / طنب عرب ليس جدال في ذلك / والنبطية أيضاً أرض عربية / أم ذي للعرب النجب وذي للعرب الجنب). قال البعثيون بالوحدة، وأضافوا القطرية ذيلاً قبلياً – والتعبير أيضاً لمظفر النواب.
تتأمل في بدايات الحاكم العربي ونهاياته: صدام حسين، بن علي، حسني مبارك، معمر القذافي، والزعيم اليمني علي عبد الله صالح. بدأوا ضباطاً أحراراً ثائرين على واقع عفن، وانتهوا إلى ما انتهوا إليه. جاؤوا من الريف، جاؤوا من أسر فقيرة، وحكموا وطناً غدوا من أثرى أثريائه. ثاروا على الملكية، وتحولوا إلى ملوك، بل إلى ملوك الملوك. كم تقدر ثروة كل واحد منهم؟ أربعون ملياراً. سبعون ملياراً. مائة وثلاثون ملياراً. وكما أطلق صدام، في آخر أيامه، شعر لحيته، يفعل الآن الرئيس المصري الشيء نفسه. لعله أيضاً يواظب على قراءة القرآن.
"أنا ألف عام من اللحظة العربية، أبني على الرمل ما تأخذ الريح". هذا سطر من قصيدة عنوانها "أقبية، أندلسية، صحرا". (1979). حكم صدام عشرين عاماً وأراد أن يورث ابنه الحكم، وحكم بن علي ثلاثة وعشرين عاماً، وأرادت زوجته ليلى أن ترثه في حياته، وحكم حسني مبارك ثلاثين عاماً، وأراد أن يورث ابنه جمالا، وها هو العقيد يحكم، ويحكم معه أبناؤه كلهم: كتيبة خميس القذافي، وكتيبة الساعدي القذافي و.. و... وخاف الرئيس اليمني فقرر أن لا توريث. ولا تدري إلام سيؤول مصير القذافي والرئيس اليمني، وتمعن النظر في الحاكم العربي وهو يخطب هذه الأيام فتراه مرتبكاً. هل يكرر سطر درويش: أبني على الرمل ما تأخذ الريح؟ ربما.
وأنت تقرأ مقال فاروق وادي في "الأيام" (4/3/2011): أنا.. أنا.. أنا.. الذي.. إلخ، تشعر بالراحة، فها أنت تجد مَن يشاطرك الرأي.
في روايات إبراهيم الكوني، في مكتبتك له روايتان: "واو الصغرى" و"التبر". حاولت أن تقرأه فلم تواصل. لم يسحرك عالمه الروائي، فلا لغته سحرتك ولا طريقة قصّه، ولا عالم الصحراء الذي كتب عنه.. وأنت تقرأ عن مديح الآخرين له روائياً، وعن ترجمات رواياته إلى اللغات الأوروبية، تشك في ذائقتك، وتقول: لعل الخلل في ذائقتي! لعل. ومنذ أربعين عاماً وأنت تلتفت إلى ما يقوله العقيد وما يقال عنه. ولم تعرف عن ليبيا وعاداتها وتقاليدها وثقافتها ورموزها الأدبية أي شيء. ليبيا هي العقيد. حاولت أن تقرأ إبراهيم الكوني، فلم ترق أعماله لك، ولم تكتب عنه. عرفت المغربي محمد شكري، والجزائري الطاهر وطار، والتونسي أبا القاسم الشابي، والسوداني الطيب صالح، والمصري نجيب محفوظ، والليبي... الليبي معمر القذافي.. الليبي الوحيد الذي كتبت عنه مقالة بمائة دولار هو القاص معمر القذافي. لقد أراد اختصار ليبيا في شخصه. هل عبثاً كان الليبيون يكررون: الله ومعمر وليبيا وبس. ولكتابة المقال حكاية. (تكرر قول محمود درويش الذي أورد على لسان المتنبي: هذا هو العبد الأمير / وهذه الناس الجياع / والقرمطي أنا / أبيع القصر أغنية / وأهدمه بأغنية).
ويأتيك زميلك. نريد عقد مؤتمر عن القذافي أديباً! – يا رجل ماذا سأكتب عن القذافي أديباً؟ - اكتب أي شيء. اكتب ما تراه عن مجموعته القصصية. تقرأ المجموعة فيدهشك ما كتبه عن المدينة. يدهشك تصوره لها. الآن وأنت تصغي إليه يتحدث بالخطاب القبلي لا تستغرب ما كتبه عن المدينة. إنه بدوي قبلي مثله مثل ميسون التي تزوجها معاوية بن أبي سفيان وأسكنها القصر، فحنّت إلى الخيمة:

ولبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الكفوف

وتتذكر خيمة القذافي. هل تلبس شخصية ميسون؟ هل استطاع أن يخرج من عقلية القبيلة؟
في خطاباته الأخيرة تحدث العقيد أنه خصص 22 مليار دولار لبنغازي، وقد خسرتها هذه لأنها انتفضت، ولو لم تنتفض وأنفقها عليها لأحرجته أمام مدن ليبية أخرى. كلام زعيم قبيلة، لا رئيس جماهيرية اشتراكية عظمى. تُرى هل أخطأ نزار قباني حين قال: إن روحنا روح جاهلية؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...