هالني هيكلة المهول، يوم تحدى الرقيب بركات، ورفع برميل الماء فوق رأسه كجرة صغيرة. مدهشة قوته تلك، التي كانت سببًا في شهرته بين أفراد الكتيبة، لأن فواز اعتاد، بدافع من شهامته، أن يجر المدافع التي نعجز عن زحزحتها في الرمل الناعم أثناء التدريب.
كان عرقه ينضح تحت الشمس المختالة بسطوتها، ويبتسم، مختالاً بتشجيعنا المشوب بمرح كبير.
بعد انصراف طابور المساء، نراه منهمكًا في مطاردة الكلاب التي تتسلل من تحت الأسلاك الشائكة، فنشير له إلى الواحد منهم ونحن مستلقون أمام الملاجئ، نضحك وهو يطاردهم كفهد أسمر رشيق، ويعود إلينا وهو يلهث، ويلمع سمار جلده الداكن، المندى بعنف المطاردة، ويطوح بعصا غليظة، حفر فيها اسمه.. فواز مطاوع.
يحب الرقيب (بركات) أن يسمع الحكاية، مرات، ومرات.. يقول:
ـ ايه حكاية الكلب اللي سرق فرخة امك يا فواز؟
يضحك فواز.. كل مرة يضحك، ويحكي، كيف انتظر حتى ينام كل أفراد الملجأ لينفرد بالفرخة وحده، كل مرة يفعل هذا بعد عودته من الأجازة، لكن سلطان النوم غلبه لحظة طارت فيها الفرخة.
يضحك بركات حتى يحمر وجهه وتدمع عيناه، كل مرة يضحك حتى يحمر وجهه وتدمع عيناه. يقول له فواز بجرأة يحبها حتى الرائد نصر الريدي.
ـ يعني اضحكك في المسا، وتكدرني في الصبح… أنت منوفي صُح.
يغض بركات الطرف عنه طمعا في باقي الحكاية.. يقول :
ـ وجريت ورا الكلب لغاية كتيبة الصواريخ؟
ـ والله لو كان عبر .. كان بيني وبينه فركة كعب، لكن الكنجي طلع لي من تحت الأرض:
– اثبت مكانك..
قلت له: يا بلد الكلب فر بالفروج، قال اثبت مكانك لأضرب في المليان..
وسمعت تكة الترباس قلت يا بوي، صعيدي ويعملها صُح، ووقفت ابص للكلب وهو بيغطس في الضلمه.. كأنه واكل من حشايا.
ولولا لهجته تلك، لمات فواز في ليلة الفروج هذه، لأن كنجي الصواريخ قال له بعدها:
ـ أنا قلت في عقل بالي، اليهودي ممكن يتكلم عربي.. لكن صعيدي، كيف!!
وبعد وقف إطلاق النار. زارني الرقيب بركات في المستشفي الميداني، وأخبرني أن ” فواز وقع في أيديهم”.
يومها بكى بركات كبنت صغيرة، وأخرستني الدهشة لما قارنت بين صوته في أرض الطابور وصوته وهو ينهنه بجواري على حرف السرير الذي كان يهتز من وطأه بدنه الجرم، وأحسست أن بركات تذكر أْسْرَهُ في 67 التي طالما تاه بها فخرًا بين أفراد الكتيبة، رغم أنها كانت لبضع ساعات، هرب بعدها، وحتى.. لم يُسجل اسمه في كشوف الأسرى.
حين قرأت اسم فواز في قائمة الصليب الأحمر وعرفت أنه رجع لمصر، أرسلت له على عنوانه: أسيوط .. مركز البداري.
لم يأتني رد على أي رسالة، ولم أعد أسمع عنه حتى أمس، عندما قرأت اسمه في نفس الجريدة التي نشرت قائمة الصليب الأحمر قبل سنوات. تأملت الصورة، نفس السمرة والملامح الغليطة، هوهو، لولا اللحية والشعر المهوش، والدماء التي نقرشت وجهه، وصدر جلبابه الأبيض. وفي الصورة، كان أحد جنود الشرطة المسلحين واقفا بجوار الجثة، ومع أن عينيه كانتا مفتوحتين على آخرهما، لكنهما خاليتين من هذا البريق الذي كنا نعرفه، كلما نراه راجعًا يطوح عصاه، بعد مطارد لكلب تسلل إلى الكتيبة من تحت الأسلاك.
*مجموعة قصص أيام هند 1990م
sadazakera.wordpress.com
كان عرقه ينضح تحت الشمس المختالة بسطوتها، ويبتسم، مختالاً بتشجيعنا المشوب بمرح كبير.
بعد انصراف طابور المساء، نراه منهمكًا في مطاردة الكلاب التي تتسلل من تحت الأسلاك الشائكة، فنشير له إلى الواحد منهم ونحن مستلقون أمام الملاجئ، نضحك وهو يطاردهم كفهد أسمر رشيق، ويعود إلينا وهو يلهث، ويلمع سمار جلده الداكن، المندى بعنف المطاردة، ويطوح بعصا غليظة، حفر فيها اسمه.. فواز مطاوع.
يحب الرقيب (بركات) أن يسمع الحكاية، مرات، ومرات.. يقول:
ـ ايه حكاية الكلب اللي سرق فرخة امك يا فواز؟
يضحك فواز.. كل مرة يضحك، ويحكي، كيف انتظر حتى ينام كل أفراد الملجأ لينفرد بالفرخة وحده، كل مرة يفعل هذا بعد عودته من الأجازة، لكن سلطان النوم غلبه لحظة طارت فيها الفرخة.
يضحك بركات حتى يحمر وجهه وتدمع عيناه، كل مرة يضحك حتى يحمر وجهه وتدمع عيناه. يقول له فواز بجرأة يحبها حتى الرائد نصر الريدي.
ـ يعني اضحكك في المسا، وتكدرني في الصبح… أنت منوفي صُح.
يغض بركات الطرف عنه طمعا في باقي الحكاية.. يقول :
ـ وجريت ورا الكلب لغاية كتيبة الصواريخ؟
ـ والله لو كان عبر .. كان بيني وبينه فركة كعب، لكن الكنجي طلع لي من تحت الأرض:
– اثبت مكانك..
قلت له: يا بلد الكلب فر بالفروج، قال اثبت مكانك لأضرب في المليان..
وسمعت تكة الترباس قلت يا بوي، صعيدي ويعملها صُح، ووقفت ابص للكلب وهو بيغطس في الضلمه.. كأنه واكل من حشايا.
ولولا لهجته تلك، لمات فواز في ليلة الفروج هذه، لأن كنجي الصواريخ قال له بعدها:
ـ أنا قلت في عقل بالي، اليهودي ممكن يتكلم عربي.. لكن صعيدي، كيف!!
وبعد وقف إطلاق النار. زارني الرقيب بركات في المستشفي الميداني، وأخبرني أن ” فواز وقع في أيديهم”.
يومها بكى بركات كبنت صغيرة، وأخرستني الدهشة لما قارنت بين صوته في أرض الطابور وصوته وهو ينهنه بجواري على حرف السرير الذي كان يهتز من وطأه بدنه الجرم، وأحسست أن بركات تذكر أْسْرَهُ في 67 التي طالما تاه بها فخرًا بين أفراد الكتيبة، رغم أنها كانت لبضع ساعات، هرب بعدها، وحتى.. لم يُسجل اسمه في كشوف الأسرى.
حين قرأت اسم فواز في قائمة الصليب الأحمر وعرفت أنه رجع لمصر، أرسلت له على عنوانه: أسيوط .. مركز البداري.
لم يأتني رد على أي رسالة، ولم أعد أسمع عنه حتى أمس، عندما قرأت اسمه في نفس الجريدة التي نشرت قائمة الصليب الأحمر قبل سنوات. تأملت الصورة، نفس السمرة والملامح الغليطة، هوهو، لولا اللحية والشعر المهوش، والدماء التي نقرشت وجهه، وصدر جلبابه الأبيض. وفي الصورة، كان أحد جنود الشرطة المسلحين واقفا بجوار الجثة، ومع أن عينيه كانتا مفتوحتين على آخرهما، لكنهما خاليتين من هذا البريق الذي كنا نعرفه، كلما نراه راجعًا يطوح عصاه، بعد مطارد لكلب تسلل إلى الكتيبة من تحت الأسلاك.
*مجموعة قصص أيام هند 1990م
فواز مطاوع. قصة: سيد الوكيل
فواز مطاوع* هالني هيكلة المهول، يوم تحدى الرقيب بركات، ورفع برميل الماء فوق رأسه كجرة صغيرة. مدهشة قوته تلك، التي كانت سببًا في شهرته بين أفراد الكتيبة، لأن فواز اعتاد، بدافع من شهامته، أن يجر المد…
sadazakera.wordpress.com
