(أحن إليكِ دائمًا)
تجلس أمام مرآتها، على مقربةٍ من نافذة الصباح المشمس، وبقايا النوم في عينيها واضحةً، لتبحث عن الشعرة البيضاء التي حلمتْ بها.
تبحث أولاً في الجانب الأيسر، الغزير، وهي تعلم أنها لن تجدها هنا، مع أنها كانت بهذا الجانب في الحلم، ثم ترفعه خلف أذنها، فيظهر عنقها الناصع، كجذع شجرةٍ، تحت وجهها المنحوت بذقنه المدبب وأنفه المستقيم، وتفرد شعر الجانب الآخر، وما إن يلمس أطرافه ثديها، كمثريُّ الشكل، تشدُّ ظهرها فيبرز أكثر، تتأمله، غير أنها، ما إن تلمح سريرها غير المرتب، خلفها، تشعر بغصةٍ، يعبس لها جبينها الواسع ويتقوس حاجباها الكثيفان، فتقف، منتفضةً، وتقترب مائلةً من المرآة.
تزفر وتسترخي ملامحها كمن حصل على كل ما يريد من الحياة عندما تجد الشعرة البيضاء أخيرًا، في المقدمة يمينًا، مع أنها بحثت في هذا الجزء أكثر من مرةٍ، وكانت، ببياضها الساطع، مثل طريقٍ أخذتها مباشرةً إلى زمانها القديم، فرأت، بعين الحنين المصاحبة لها منذ مدةٍ، العجوز التي كان يناديها الكل، آباءً وأبناءً، في الحارة التي بدلتها الأيام، بالجدة، وحضرها صوتها، المنحول، وقد رقَّ، وهي تفيض بحكاياتها ما إن تشاغبها إحدى النسوة بسؤالٍ عن زوجها، الذي يعلم الكل أنه غاب عنها بعد أيامٍ من عرسهما، فظلت في انتظاره صامدةً مثل الزمن والحزن، رغم جمالها الكاوي لرجال زمنها ولوم الأهل، الذين تساقطوا من حولها واحدًا بعد آخر، لتبقى بين الناس كشجرةٍ جافةٍ.. وحيدةً إلا من ونس حكاياتها التي تتذرع بأيِّ سببٍ لتحكيها، وإن لم تجد من يسمعها، تحكيها لنفسها بين جدرانها الكالحة، في الليل خاصةً، وما تلبث أن تنوح.. تنوح بما كان يظن الصغار أنه صوت العفاريت، وحدها من كانت تجادل أترابها، عندما يجمعهم اللعب في النهار التالي، وتقول لهم أنه صوت الموت، وكي لا يسخرون منها، كانت تلفِّق حكاياتٍ مخيفةً عن العجوز، وما إن ترى تأثير ما لفَّقتْ في العيون التي أخذت تتَّسع محدقةً فيها، تسألهم عن لون شعر الناس عامةً، يجيبون بصوتٍ واحدٍ:
- أسود.
فتخبرهم، بصوتٍ هامسٍ وجسدٍ مرتجفٍ من شدة الإنفعال، أن الموت عندما ينعس ويريد أن ينام قليلاً يختبئ في جسد إنسانٍ، وما إن يفعل، يصير شعر هذا الإنسان كله أبيض مثل القطن، وقبل أن يفيقوا من ذهولهم، تقودهم ليشاهدوا شعر العجوز، الأبيض مثل القطن، فما يكون من العجوز، أمام طنينهم المستفز، إلا أن تثور، وتلاحقهم بجسدها المتهالك وهي تسبهم وترميهم بالحجارة الصغيرة، فيركضون خائفِين.
- شريرة.
ترددها مبتسمة وقد سال من عينيها الحنين، ولمع، لهذا الصوت البعيد.. صوت حبيبها الذي لفظ آخر أنفاسه في حضنها بعد زفافهما بأيامٍ، عندما أخذتهما أقدامهما إلى الميدان في اليوم العاشر للثورة، والذي كان يقولها وهو يضحك معقبًا كلما حكت له واحدةً من حكاياتها هذه، ولكنها تقاوم الحنين والدموع التي ترقرقت، وتخلِّص الشعرة البيضاء من الخصلة السوداء حولها، وتفردها أمام وجهها، وقد تلاشت منه الابتسامة، وهي تفكر أن تنتزعها، وما تلبث أن تردها مكانها مرةً أخرى، وتعود إلى السرير وهي تلم شعرها كله في كعكةٍ خلف رأسها، وتمسك هاتفها المحمول وتتكئ، فيطل ثديها من الطوق الواسع لإبطها الأيمن، وتكتب، في صفحتها الزائفة في الفيس بوك، كل تفاصيل حلمها، غير أنها تحذف ما كتبت وتفتح الماسنجر، وتكتب: أحنُّ إليكِ دائمًا. وترسلها إلى صفحتها الحقيقية، وتغلق الهاتف وتقوم لتستحم.
********
الزمن... في قصص الكاتب ياسر جمعة
غالبًا ما يكون لعبته الذكية -إن لم يكن البطل- الذي ينفذ من خلاله إلى عوالمَ وأحداث وأبطال نصوصه، راصدًا بتقلباته بين الماضي والحاضر والخاص والعام الشخوص والأحداث، كما نلاحظ في هذا النص الذي بدأ الزمن فيه منذ الصباح وعاد بنا إلى الحلم الذي كان قبيل الاستيقاظ من خلال شعرةٍ بيضاء "البطلة الحقيقية للنص" فيحكي لنا عبرها "أكثر من حكايةٍ" في أكثر من زمنٍ بحيثيةٍ مكانيةٍ ضيقةٍ جدًا قد تتجاوز الرأس وملامح الوجه، لتنتقل بنا إلى سريرٍ غير مرتبٍ تعكسه المرآة التي ترى العجوز الحالمة فيها نفسها واصفًا لنا ملامح وجهها بدقةٍ شائقةٍ تبلغ حدَّ المشاهدة مصورًا حياة تلك العجوز بشبابها وشيبها وحنينها لزوجها الذي غاب عنها وهي عروس مازالت، وخلَّف وارءه وجعها... وجعها الذي لا يفتأ يئن حنينًا يبلغ حد شهقة الموت التي لفظها في حضنها أيام الثورة
وسأكتفي بالقول كي لا أطيل أكثر:
الثورة امرأةٌ ما انفكتْ تنجبُ الرجال الحقيقيين كلما فرجت ساقَيها، وسيبقى حنينها أي الثورة مشتعلاً لكل الرجال الذي ماتوا إبان إنجابها لهم
وأتساءل هنا كقارئة:
هل السياسة قادرةٌ إلى هذا الحد على رصد الجوانب الاجتماعية المتوغِّلة في الذات البشرية بهذه الدقة، أم قلم القاص هنا؟
ومن ثمّة: أيُّ القراءات قادرٌ قلمي على إنجابها في ظل هكذا نصٍ، لم يكتفي بالمرأة والرجل لتجسيد الحب الحقيقيّ؛ بل جاوز حدود الانسان والحب والذكرى، ليتمثَّل الوطن كحقيقةٍ أبديةٍ لا تموت وإن شاب شعرها كله، وليست شعرةً واحدةً فقط.
تجلس أمام مرآتها، على مقربةٍ من نافذة الصباح المشمس، وبقايا النوم في عينيها واضحةً، لتبحث عن الشعرة البيضاء التي حلمتْ بها.
تبحث أولاً في الجانب الأيسر، الغزير، وهي تعلم أنها لن تجدها هنا، مع أنها كانت بهذا الجانب في الحلم، ثم ترفعه خلف أذنها، فيظهر عنقها الناصع، كجذع شجرةٍ، تحت وجهها المنحوت بذقنه المدبب وأنفه المستقيم، وتفرد شعر الجانب الآخر، وما إن يلمس أطرافه ثديها، كمثريُّ الشكل، تشدُّ ظهرها فيبرز أكثر، تتأمله، غير أنها، ما إن تلمح سريرها غير المرتب، خلفها، تشعر بغصةٍ، يعبس لها جبينها الواسع ويتقوس حاجباها الكثيفان، فتقف، منتفضةً، وتقترب مائلةً من المرآة.
تزفر وتسترخي ملامحها كمن حصل على كل ما يريد من الحياة عندما تجد الشعرة البيضاء أخيرًا، في المقدمة يمينًا، مع أنها بحثت في هذا الجزء أكثر من مرةٍ، وكانت، ببياضها الساطع، مثل طريقٍ أخذتها مباشرةً إلى زمانها القديم، فرأت، بعين الحنين المصاحبة لها منذ مدةٍ، العجوز التي كان يناديها الكل، آباءً وأبناءً، في الحارة التي بدلتها الأيام، بالجدة، وحضرها صوتها، المنحول، وقد رقَّ، وهي تفيض بحكاياتها ما إن تشاغبها إحدى النسوة بسؤالٍ عن زوجها، الذي يعلم الكل أنه غاب عنها بعد أيامٍ من عرسهما، فظلت في انتظاره صامدةً مثل الزمن والحزن، رغم جمالها الكاوي لرجال زمنها ولوم الأهل، الذين تساقطوا من حولها واحدًا بعد آخر، لتبقى بين الناس كشجرةٍ جافةٍ.. وحيدةً إلا من ونس حكاياتها التي تتذرع بأيِّ سببٍ لتحكيها، وإن لم تجد من يسمعها، تحكيها لنفسها بين جدرانها الكالحة، في الليل خاصةً، وما تلبث أن تنوح.. تنوح بما كان يظن الصغار أنه صوت العفاريت، وحدها من كانت تجادل أترابها، عندما يجمعهم اللعب في النهار التالي، وتقول لهم أنه صوت الموت، وكي لا يسخرون منها، كانت تلفِّق حكاياتٍ مخيفةً عن العجوز، وما إن ترى تأثير ما لفَّقتْ في العيون التي أخذت تتَّسع محدقةً فيها، تسألهم عن لون شعر الناس عامةً، يجيبون بصوتٍ واحدٍ:
- أسود.
فتخبرهم، بصوتٍ هامسٍ وجسدٍ مرتجفٍ من شدة الإنفعال، أن الموت عندما ينعس ويريد أن ينام قليلاً يختبئ في جسد إنسانٍ، وما إن يفعل، يصير شعر هذا الإنسان كله أبيض مثل القطن، وقبل أن يفيقوا من ذهولهم، تقودهم ليشاهدوا شعر العجوز، الأبيض مثل القطن، فما يكون من العجوز، أمام طنينهم المستفز، إلا أن تثور، وتلاحقهم بجسدها المتهالك وهي تسبهم وترميهم بالحجارة الصغيرة، فيركضون خائفِين.
- شريرة.
ترددها مبتسمة وقد سال من عينيها الحنين، ولمع، لهذا الصوت البعيد.. صوت حبيبها الذي لفظ آخر أنفاسه في حضنها بعد زفافهما بأيامٍ، عندما أخذتهما أقدامهما إلى الميدان في اليوم العاشر للثورة، والذي كان يقولها وهو يضحك معقبًا كلما حكت له واحدةً من حكاياتها هذه، ولكنها تقاوم الحنين والدموع التي ترقرقت، وتخلِّص الشعرة البيضاء من الخصلة السوداء حولها، وتفردها أمام وجهها، وقد تلاشت منه الابتسامة، وهي تفكر أن تنتزعها، وما تلبث أن تردها مكانها مرةً أخرى، وتعود إلى السرير وهي تلم شعرها كله في كعكةٍ خلف رأسها، وتمسك هاتفها المحمول وتتكئ، فيطل ثديها من الطوق الواسع لإبطها الأيمن، وتكتب، في صفحتها الزائفة في الفيس بوك، كل تفاصيل حلمها، غير أنها تحذف ما كتبت وتفتح الماسنجر، وتكتب: أحنُّ إليكِ دائمًا. وترسلها إلى صفحتها الحقيقية، وتغلق الهاتف وتقوم لتستحم.
********
الزمن... في قصص الكاتب ياسر جمعة
غالبًا ما يكون لعبته الذكية -إن لم يكن البطل- الذي ينفذ من خلاله إلى عوالمَ وأحداث وأبطال نصوصه، راصدًا بتقلباته بين الماضي والحاضر والخاص والعام الشخوص والأحداث، كما نلاحظ في هذا النص الذي بدأ الزمن فيه منذ الصباح وعاد بنا إلى الحلم الذي كان قبيل الاستيقاظ من خلال شعرةٍ بيضاء "البطلة الحقيقية للنص" فيحكي لنا عبرها "أكثر من حكايةٍ" في أكثر من زمنٍ بحيثيةٍ مكانيةٍ ضيقةٍ جدًا قد تتجاوز الرأس وملامح الوجه، لتنتقل بنا إلى سريرٍ غير مرتبٍ تعكسه المرآة التي ترى العجوز الحالمة فيها نفسها واصفًا لنا ملامح وجهها بدقةٍ شائقةٍ تبلغ حدَّ المشاهدة مصورًا حياة تلك العجوز بشبابها وشيبها وحنينها لزوجها الذي غاب عنها وهي عروس مازالت، وخلَّف وارءه وجعها... وجعها الذي لا يفتأ يئن حنينًا يبلغ حد شهقة الموت التي لفظها في حضنها أيام الثورة
وسأكتفي بالقول كي لا أطيل أكثر:
الثورة امرأةٌ ما انفكتْ تنجبُ الرجال الحقيقيين كلما فرجت ساقَيها، وسيبقى حنينها أي الثورة مشتعلاً لكل الرجال الذي ماتوا إبان إنجابها لهم
وأتساءل هنا كقارئة:
هل السياسة قادرةٌ إلى هذا الحد على رصد الجوانب الاجتماعية المتوغِّلة في الذات البشرية بهذه الدقة، أم قلم القاص هنا؟
ومن ثمّة: أيُّ القراءات قادرٌ قلمي على إنجابها في ظل هكذا نصٍ، لم يكتفي بالمرأة والرجل لتجسيد الحب الحقيقيّ؛ بل جاوز حدود الانسان والحب والذكرى، ليتمثَّل الوطن كحقيقةٍ أبديةٍ لا تموت وإن شاب شعرها كله، وليست شعرةً واحدةً فقط.