في العام ١٩٧٨ أصدر روائي مصري شاب هو براء الخطيب رواية عنوانها «إنهم يأتون من الخلف»، وقد قرأتها في حينه ولم أعد أذكر منها إلا عنوانها وقصة الإسكندر المكدوني مع حلاقيه.
أذكر العنوان الذي يتضح مدلوله من خلال قراءة النص فقط، فقراءته منفصلاً دون قراءة المتن الروائي يقود إلى مدلولات مختلفة يتعلق كل مدلول بتجربة القارئ وثقافته؛ الغدر أو الخيانة أو الخديعة أو.. وإذا ما فسره المرء تفسيراً مجازياً فقد تذهب به المخيلة إلى مدلول جنسي، والأخير هو ما يقوله المتن الروائي عموماً، وهو ما يحيل إلى الواقع المصري بعد سياسة الانفتاح في زمن أنور السادات وتغلغل المال الخليجي في مصر.
وما أذكره أكثر ووظفته مراراً في روايتي «تداعيات ضمير المخاطب» وبعض كتاباتي هو قصة حلاق الإسكندر المكدوني التي ترد في الجزء العاشر الأخير للرواية ولها دلالة رمزية بالتأكيد، فما هي قصة حلاق الإسكندر؟
كان للإسكندر قرنان لا يعرف بهما إلا حلاقوه، ولذلك كان الإسكندر يقتل الحلاق كلما أنهى الحلاقة حتى لا يذيع سره ويفشيه، وهكذا لم يبقَ في المدينة إلا حلاق مكير قصير، فأدرك أن منيته اقتربت، ولم ينتظر أن يطلب منه الإسكندر القدوم إليه، فقر قراره أن يذهب بنفسه إلى الإسكندر ويعلمه أنه يعلم السر ولكنه أخفاه، علما أنه لم يكن يعرفه، فاطمأن له الإسكندر وتركه يحلق له، فاكتشف الحلاق السر، ثم ضاق ذرعاً به وهرب من المدينة.
سار الحلاق حتى عطش فاقترب من بئر جفت مياهها وصار يصيح «الإسكندر له قرنان» حتى بصق دما امتزج بالتراب ولد منه طفل، وعندما كبر صار يكرر العبارة نفسها وهكذا ذاع سر الإسكندر وانتشر.
في العام ١٩٩٣ كتبت روايتي المذكورة وعانت شخصيتها الرئيسة كثيراً لمجرد أنها أفشت سر مستشرقة وزوجها وارتباطهما بالمخابرات الإسرائيلية، ووظفت في الرواية حكاية الإسكندر المكدوني وحلاقيه. أحياناً أنت تقتل ليس لأنك شخص خطير، وإنما تقتل لأنك تكتشف سراً خطيراً.
تذكرت ما سبق يوم الثلاثاء الماضي الذي ارتقى فيه في مدينة نابلس خمسة شبان من ضمنهم حلاقان شابان هما حمدي شرف وعلي عنتر.
كان هذان كما عرفت عائدين من صالوني حلاقتهما معاً إلى البلدة القديمة حيث يقطنان فلاحظا قوات وحدة إسرائيلية متسللة إلى البلدة القديمة لاغتيال مجموعة من شباب «عرين الأسود» الذين يتخذون من حارة الياسمينة وحوش العطعوط مقراً لهم، فاتصل الحلاقان بأصدقائهما يبلغونهم بما شاهدا، وهنا أطلقت القوات الإسرائيلية النار عليهما فأردتهما شهيدين.
كان الحلاقان حمدي شرف وعلي عنتر مثل حلاق الإسكندر الأخير القصير المكير ولكنهما لم يكونا قصيرين وما كانا مكيرين، فهما شابان ناهضان ممتلئان أنيقان أناقة مزين وحلاق يزين الآخرين، ومن ينظر في صورة كل منهما لا يحتاج إلى برهان يؤكد صحة كتابتي.
الطريف في الأمر اللافت للنظر في بعض الفيديوات التي تنتشر للمطاردين بعد ارتقائهم صورهم وهم في صالونات الحلاقة يزينهم الحلاق كما لو أنهم ذاهبون إلى عرسهم، وهذا ما لاحظته وأنا أشاهد مقاطع فيديو للشهيد إبراهيم النابلسي. لقد بدا في بعض مقاطع الفيديو عريساً حقاً وما زاد المقطع جمالاً مخاطبة حلاقه له وهو يرش عليه الكولونيا:
«- تكلين.. تكلين».
في قصيدته «أعراس» من مجموعته «أعراس» (١٩٧٧) يقول محمود درويش في وصف الفدائي:
«عاشق يأتي من الحرب إلى يوم الزفاف/ يرتدي بدلته الأولى/ ويدخل/ حلبة الرقص حصانا/ من حماس وقرنفل..»
ولكن الطائرات تأتي «لتخطف العاشق من حضن الفراشة».
أحد الحلاقين متزوج وله ثلاثة أطفال والله أعلم أن الثاني كان يهيئ نفسه أيضاً للزواج.
هل أقول: اللعنة على الإسكندر المكدوني أم على الاحتلال؟
عادل الأسطة
2022-10-30
الأيام
أذكر العنوان الذي يتضح مدلوله من خلال قراءة النص فقط، فقراءته منفصلاً دون قراءة المتن الروائي يقود إلى مدلولات مختلفة يتعلق كل مدلول بتجربة القارئ وثقافته؛ الغدر أو الخيانة أو الخديعة أو.. وإذا ما فسره المرء تفسيراً مجازياً فقد تذهب به المخيلة إلى مدلول جنسي، والأخير هو ما يقوله المتن الروائي عموماً، وهو ما يحيل إلى الواقع المصري بعد سياسة الانفتاح في زمن أنور السادات وتغلغل المال الخليجي في مصر.
وما أذكره أكثر ووظفته مراراً في روايتي «تداعيات ضمير المخاطب» وبعض كتاباتي هو قصة حلاق الإسكندر المكدوني التي ترد في الجزء العاشر الأخير للرواية ولها دلالة رمزية بالتأكيد، فما هي قصة حلاق الإسكندر؟
كان للإسكندر قرنان لا يعرف بهما إلا حلاقوه، ولذلك كان الإسكندر يقتل الحلاق كلما أنهى الحلاقة حتى لا يذيع سره ويفشيه، وهكذا لم يبقَ في المدينة إلا حلاق مكير قصير، فأدرك أن منيته اقتربت، ولم ينتظر أن يطلب منه الإسكندر القدوم إليه، فقر قراره أن يذهب بنفسه إلى الإسكندر ويعلمه أنه يعلم السر ولكنه أخفاه، علما أنه لم يكن يعرفه، فاطمأن له الإسكندر وتركه يحلق له، فاكتشف الحلاق السر، ثم ضاق ذرعاً به وهرب من المدينة.
سار الحلاق حتى عطش فاقترب من بئر جفت مياهها وصار يصيح «الإسكندر له قرنان» حتى بصق دما امتزج بالتراب ولد منه طفل، وعندما كبر صار يكرر العبارة نفسها وهكذا ذاع سر الإسكندر وانتشر.
في العام ١٩٩٣ كتبت روايتي المذكورة وعانت شخصيتها الرئيسة كثيراً لمجرد أنها أفشت سر مستشرقة وزوجها وارتباطهما بالمخابرات الإسرائيلية، ووظفت في الرواية حكاية الإسكندر المكدوني وحلاقيه. أحياناً أنت تقتل ليس لأنك شخص خطير، وإنما تقتل لأنك تكتشف سراً خطيراً.
تذكرت ما سبق يوم الثلاثاء الماضي الذي ارتقى فيه في مدينة نابلس خمسة شبان من ضمنهم حلاقان شابان هما حمدي شرف وعلي عنتر.
كان هذان كما عرفت عائدين من صالوني حلاقتهما معاً إلى البلدة القديمة حيث يقطنان فلاحظا قوات وحدة إسرائيلية متسللة إلى البلدة القديمة لاغتيال مجموعة من شباب «عرين الأسود» الذين يتخذون من حارة الياسمينة وحوش العطعوط مقراً لهم، فاتصل الحلاقان بأصدقائهما يبلغونهم بما شاهدا، وهنا أطلقت القوات الإسرائيلية النار عليهما فأردتهما شهيدين.
كان الحلاقان حمدي شرف وعلي عنتر مثل حلاق الإسكندر الأخير القصير المكير ولكنهما لم يكونا قصيرين وما كانا مكيرين، فهما شابان ناهضان ممتلئان أنيقان أناقة مزين وحلاق يزين الآخرين، ومن ينظر في صورة كل منهما لا يحتاج إلى برهان يؤكد صحة كتابتي.
الطريف في الأمر اللافت للنظر في بعض الفيديوات التي تنتشر للمطاردين بعد ارتقائهم صورهم وهم في صالونات الحلاقة يزينهم الحلاق كما لو أنهم ذاهبون إلى عرسهم، وهذا ما لاحظته وأنا أشاهد مقاطع فيديو للشهيد إبراهيم النابلسي. لقد بدا في بعض مقاطع الفيديو عريساً حقاً وما زاد المقطع جمالاً مخاطبة حلاقه له وهو يرش عليه الكولونيا:
«- تكلين.. تكلين».
في قصيدته «أعراس» من مجموعته «أعراس» (١٩٧٧) يقول محمود درويش في وصف الفدائي:
«عاشق يأتي من الحرب إلى يوم الزفاف/ يرتدي بدلته الأولى/ ويدخل/ حلبة الرقص حصانا/ من حماس وقرنفل..»
ولكن الطائرات تأتي «لتخطف العاشق من حضن الفراشة».
أحد الحلاقين متزوج وله ثلاثة أطفال والله أعلم أن الثاني كان يهيئ نفسه أيضاً للزواج.
هل أقول: اللعنة على الإسكندر المكدوني أم على الاحتلال؟
عادل الأسطة
2022-10-30
الأيام