مرة، ذات صباحٍ رائق، بينما كنتُ غارقًا في أحلامٍ بلونِ وسِحر الماضي المكلَّل بالنور، سمعتُ فجأةً صوتَ قرعٍ خافت يأتي من خارج الغرفة. كما لو أن أحدهم كان يطرق بأظفاره طرقًا فوق تمثالٍ من رخام. أيُعقَل أن هناك مَن يريد زيارة الغراب العجوز الوحيد بعد كل هذا العُمر؟ تمتمتُ لنفسي: ربما.
بلا مزيد من التردد، عزمتُ على النهوض من سريري وخطوتُ إلى الخارج وأنا أفكر فيما يمكن أن أقوله للزائر المحتمَل، معتذرًا عن نومي حتى هذه الساعة، التاسعة صباحًا إلا دقيقة. وفتحتُ باب البيت، فإذا بنور النهار، ولا شيء غيره. استدرتُ قافلًا نحو الحجرة، أتساءل في داخلي إن كان هذا حلما. لكنني سرعان ما سمعتُ قرعًا أعلى. شيءٌ ما في الداخل؟ هل هي الريح فقط؟ ربما.
وهنا انتبهتُ إلى أن الصوت يأتي من غرفة المكتب. ليس من داخلها وإنما من خارج نافذتها الكبيرة. بيدٍ مرتعشة قليلًا أزحتُ الستارة الخضراء الموشاة بزخارف بيضاء، لأرى وراء الزجاج عصفورًا في لون الأبنوس، يرفرف بجناحيه في الهواء ولا يهبط لحظةً للراحة، وإنما يندفع ليضرب الزجاج بمنقاره الصغير، ثم يتراجع ويعاودها. تعجبتُ من الطائر الأخرق للحظة، ثم تنبَّهتُ إلى أن زجاج النافذة من النوع العاكس، وأنه يبدو من الخارج مثل المرايا. لا بد إذن من أنه يرى عصفورًا آخر في تلك المرآة، ويسعى للتيقن من حقيقة وجود هذا المخلوق الذي يشبهه تماما في كل شيء، ربما.
ينتزع مني ابتسامة. عصفور صغير ربما، لكن همَّته بلا حدود. وأستطيع أن أقول إن فرصةَ أن ترى مخلوقًا بريًّا، من هذا القرب وعلى هذه الحال، قد لا تتكرر كثيرًا. ووجدتُ نفسي أتمتم: الرفاق كلهم قد طاروا قبل ذلك، والآن سوف يرحل هو الآخر ويتركني خاليا، إلا من الذكرى ربما.
أنتبه الآن فقط إلى أن أصوات قرع الزجاج بالمنقار تماثل تمامًا أصوات نقر زوجتي على لوحة المفاتيح القديمة. كان نقرها يتعالى كلما توغَّلَت في الكتابة، وكنتُ أشكو إليها -بحماقتي المعهودة- من الضجيج. تحضرني الأصوات فأنظر إلى قماش الأريكة الرمادي الذي أشرقَت عليه الشمس وأظهرَت فوقه حبَّات غبارٍ تحوم في الهواء المعطَّر بالبخور، وأفكِّر في أنها لن تمسَّ هذا النسيج مرة أخرى، ربما.
لكنني أصعد بنظري إلى رف المكتبة الأدنى، وأرى صَفًّا من كتبٍ تحمل اسمَها الذي تعرفه الملائكة، فأفكر في أنها لم ترحل حقًّا، وربما لن تفعل أبدا. وفي أن العصفور الذي طار بعيدًا قبل لحظات، سيعود ليطرق نافذتي مجددًّا ذات يوم، في التاسعة صباحًا إلا دقيقة، ربما.
27/02/2021
أحمد الديب
أحمد الديب
كاتب ومترجم من الإسكندرية. درس الصيدلة وعمل بتدريس العلوم والكتابة والترجمة العلمية، بالإضافة إلى عمله بقسم العلوم في مكتبة الإسكندرية. له كتاب قصصي منشور بعنوان "حكايات بعد النوم" صدر عام 2014 عن دار مدارات وصدرت طبعته الثانية عام 2020 عن دار الشروق. وله ترجمات منشورة منها "باتمان: العام واحد" و"باتمان نوار: الهالوين الطويل". وله أيضًا كتابات وترجمات في العلوم والأدب والسينما، ينشرها على مدونته
بلا مزيد من التردد، عزمتُ على النهوض من سريري وخطوتُ إلى الخارج وأنا أفكر فيما يمكن أن أقوله للزائر المحتمَل، معتذرًا عن نومي حتى هذه الساعة، التاسعة صباحًا إلا دقيقة. وفتحتُ باب البيت، فإذا بنور النهار، ولا شيء غيره. استدرتُ قافلًا نحو الحجرة، أتساءل في داخلي إن كان هذا حلما. لكنني سرعان ما سمعتُ قرعًا أعلى. شيءٌ ما في الداخل؟ هل هي الريح فقط؟ ربما.
وهنا انتبهتُ إلى أن الصوت يأتي من غرفة المكتب. ليس من داخلها وإنما من خارج نافذتها الكبيرة. بيدٍ مرتعشة قليلًا أزحتُ الستارة الخضراء الموشاة بزخارف بيضاء، لأرى وراء الزجاج عصفورًا في لون الأبنوس، يرفرف بجناحيه في الهواء ولا يهبط لحظةً للراحة، وإنما يندفع ليضرب الزجاج بمنقاره الصغير، ثم يتراجع ويعاودها. تعجبتُ من الطائر الأخرق للحظة، ثم تنبَّهتُ إلى أن زجاج النافذة من النوع العاكس، وأنه يبدو من الخارج مثل المرايا. لا بد إذن من أنه يرى عصفورًا آخر في تلك المرآة، ويسعى للتيقن من حقيقة وجود هذا المخلوق الذي يشبهه تماما في كل شيء، ربما.
ينتزع مني ابتسامة. عصفور صغير ربما، لكن همَّته بلا حدود. وأستطيع أن أقول إن فرصةَ أن ترى مخلوقًا بريًّا، من هذا القرب وعلى هذه الحال، قد لا تتكرر كثيرًا. ووجدتُ نفسي أتمتم: الرفاق كلهم قد طاروا قبل ذلك، والآن سوف يرحل هو الآخر ويتركني خاليا، إلا من الذكرى ربما.
أنتبه الآن فقط إلى أن أصوات قرع الزجاج بالمنقار تماثل تمامًا أصوات نقر زوجتي على لوحة المفاتيح القديمة. كان نقرها يتعالى كلما توغَّلَت في الكتابة، وكنتُ أشكو إليها -بحماقتي المعهودة- من الضجيج. تحضرني الأصوات فأنظر إلى قماش الأريكة الرمادي الذي أشرقَت عليه الشمس وأظهرَت فوقه حبَّات غبارٍ تحوم في الهواء المعطَّر بالبخور، وأفكِّر في أنها لن تمسَّ هذا النسيج مرة أخرى، ربما.
لكنني أصعد بنظري إلى رف المكتبة الأدنى، وأرى صَفًّا من كتبٍ تحمل اسمَها الذي تعرفه الملائكة، فأفكر في أنها لم ترحل حقًّا، وربما لن تفعل أبدا. وفي أن العصفور الذي طار بعيدًا قبل لحظات، سيعود ليطرق نافذتي مجددًّا ذات يوم، في التاسعة صباحًا إلا دقيقة، ربما.
27/02/2021
أحمد الديب
أحمد الديب
كاتب ومترجم من الإسكندرية. درس الصيدلة وعمل بتدريس العلوم والكتابة والترجمة العلمية، بالإضافة إلى عمله بقسم العلوم في مكتبة الإسكندرية. له كتاب قصصي منشور بعنوان "حكايات بعد النوم" صدر عام 2014 عن دار مدارات وصدرت طبعته الثانية عام 2020 عن دار الشروق. وله ترجمات منشورة منها "باتمان: العام واحد" و"باتمان نوار: الهالوين الطويل". وله أيضًا كتابات وترجمات في العلوم والأدب والسينما، ينشرها على مدونته