لحظة فاصلة يتوق إليها كل من يعمل مثله، لحظة نادرة، قد لا تتكرر وربما لا يعرفها معظم الباحثين، لحظة جرى تمهيد لها، عمل دؤوب، وأيام صعبة فى هذه المنطقة النائية
أخيرا.. لا يفصلهم عنها إلا الباب الموصد منذ قرون سحيقة، أختام بادية، غبرة القدم، وتوقع صامت يسرى من قطعة الخشب المنحوتة بدقة، المستوية، الناعمة، المرتكزة إلى نقبين، الأول أسفل والثانى أعلى.
يتقدم الأستاذ منحنيا فى الممر المؤدى، أوشك على انتهاء. ببطء وبأيد مدربة تم حفره، بتأن، على مهل، الأبصار كلها تتجه إلى الباب.
لحظة فاصلة يتوق إليها كل من يعمل مثله، لحظة نادرة، قد لا تتكرر وربما لا يعرفها معظم الباحثين، لحظة جرى تمهيد لها، عمل دؤوب، وأيام صعبة فى هذه المنطقة النائية، الموغلة فى الرمال إلى الغرب، لم يكن الاستدلال إليها سهلا بدون جهود سابقة لباحثين أمضوا سنوات فى المنطقة ولم يصلوا إلى شىء.
كل الدلائل تشير إلى أنه سيلقاها وجها لوجه بمجرد فتح هذا الباب ونزع غطاء التابوت، سيقع بصره على القناع الذى يغطى الوجه الملفوف فى الكتان المحكم والقناع الدال، المؤشر على ما كان يوما، نظراته تصل ما انقطع منذ توالى القرون والحقب بعد أداء الكهنة طقوس فتح الفم، منذ أن لمس كبيرهم الفم بعلامة الحياة ــ سنخ ــ قبل أن تدوى الصيحة «انهض إنك لست بميت».
هل خوطبت الأثنى بعبارات مماثلة؟
بأى إيقاع كان النطق؟ أى روائح كانت تعبق الفراغ قبل إغلاقه؟
هل ستنفذ إلى حواسه بقاياها؟
ربما يشم عتاقتها الآن بعد اكتمال الفتح وسفور الموقع عن آخر مكنونه؟
نهاية وشيكة لعمل دؤوب استمر سنوات من عمره وتمهيد لا يمكن الإلمام به ممن سبقوه، إنه يحاول جاهدا إقصاء الخواطر والرؤى والتداعيات التى يثيرها الموقف حتى يفرغ ويصفو تماما للحظة المواجهة، الرؤية الكشف، لا يجد لفظا محددا يمكنه أن يستكين إليه وأن يدل على حاله.
فى الصباح راجع كل ما تم. نقوش الباب «نسخت وصورت، كذلك المتون المقدسة على جانبى الممر، منها أيقن ما ينتظره وراء الباب.
كل الدلائل تؤكد أنه لم يفتح، لم يعبث بالمحتوى منذ إغلاقه ذلك اليوم البعيد، يصعب تسميته أو تحديده من موقع اللحظة الآنية.
لا يدرى.. هل سيجد حبلا مجدولا يوثق مصراعى الباب موثقا بخرطوش يحمل اسمها. تماما مثل ذلك الحبل الذى تطلع إليه كارتر مدركا أنه أمام الخطوة المؤدية. لكن ثمة فرق، الحبل الذى رآه الإنجليزى ومساعدوه مده وعقده وختمه كبار الكهنة الذين نقلوا محتويات مقبرة توت عنخ آمون خشية سرقتها بعد اضطراب الأحوال وسريان انتهاك المقدسات، وإقلاق مراقد الداخلين، لهذا كانت المحتويات مكدسة على عجل، بدون ترتيب يليق بوريث عرش الإله حورس، أى أن المرقد قد تم فضه مرة بعد إغلاقه، لكنه هنا أمام باب لم يفتح قط. يحول بين رقدتها وفراغ الممر المؤدى إلى الخارج.
«نفرت».
إنها الجميلة، من أميرات البيت الكبير، إنها الآتية من بعيد كما يقول أحد ألقابها؟ ألهذا اختارت هذا الموضع المنعزل؟، يكاد يلفظ الوصف الذى صاغه هو.
لم يقرأه فى ألقابها أو توقيعاتها. أتى به هو ليقينه أنه ملائم متوافق معها، لكم يبدو مرقدها منعزلا، منيع العتبات، جمع بمفردها، فليؤجل ما يتوارد عليه إلى لحيظات سيغمض خلالها عينيه ويستعيد ما يمر به الآن، عندئذ ربما يبصر ما لا يراه، ما لا يطلع عليه وربما تبزغ فكرة لا تواتيه فى حينه.
أنتبه
تطلع، فلن تفض أختام لم يقربها أحد قبلك مرتين، تبصر، لولا المصادفة التى أوحت إليك بمفتتح الطريق المؤدى إلى الناحية لأمضيت عمرك ولذهبت بدون معرفة تلك اللحيظات.
يرفع المصباح، ضوء هادئ، بارد، لا يثير الحرارة، مناسب للأماكن المغلقة، يثبت يده عند نقطة محددة، يتقدم مساعده خطوة، إنه خلفه تماما، يتناول المصباح حتى يتفرغ أستاذه لمعالجة الباب برفق وتأن وحذر.
يطرق الباب، يصغى، الطرقات هذه المرة مختلفة، تسبق الفتح مباشرة. يوحى الصوت بالفراغ المؤطر، يمكنه أن يتصور ملامح القناع الذى يغطى المومياء الملفوفة بالكتان، لطول ما أمعن التفكير وانشغل بها، كأنه قابلها وتطلع إليها، تحدث وسمع منها.
سبعة أيام استمر تنظيف ما حول الباب بفرشاة ناعمة، تم الكشف عن الحدود التى سيتم التعامل معها، ينحنى، يتحسس الحد الغائر، يشفق على الخشب العتيق الذى لم يمسه بشر منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة عام وبضع سنين من مقدمة الأداة المصنوعة من الصلب الحاد.
يدس سن الآلة العريض، الحاد، يدفعه متأنيا، متمهلا، محاولا ألا يتسرب انفعاله إلى ثبات يده وضمة أصابعه، إنه مستغرق، متمكن الآن، يدفع ضاغطا المقبض. مقاومة يسيرة، يقدر أن السن عبر إلى فراغ، قدر من أصداء الطرقات متانة وسمك الباب، لكنه مفاجأة الآن بالسهولة التى غاص بها مقدم النصل فى الحد الفاصل بين الجدار والخشب، ينتصب واقفا، يضغط مقدمة الأداة من أعلى، المقاومة تحتاج ضغطا أشد لكنه ينفذ إلى الفراغ عينه الذى قدره بأسفل.
هل يبدأ الآن؟
وراء الحاجز يساعده باذلا طاقة تستعصى على الإدراك، يقف تماما محدقا إلى الأمام، يلتفت إلى مساعده، سيسدد هو الضوء إلى الداخل حتى تكتمل الرؤية.
يرفع المصباح، يصبح بمحاذاة كتفه، يتراجع الباب تحت ضغطة يده بيسر. فراغ يتسع له، لا يمكن أى شخص خلفه من النظر عبر كتفه، ينتظم مساعدوه ومعاونوه من عمال متخصصين خلفه على امتداد الممر، لكنه عند هذا الحد بمفرده، توقف الباب عن التراجع مفسحا لفراغ يستوعب بالكاد.
من يصل إلى هنا لابد أن يكون وحيدا، فردا، مفردا، إنه فى مواجهة فراغ، لم يحرك المصباح بعد حتى يمكنه الرؤية، مازال واقفا عند حدود العتمة، تنفذ الرائحة المعتقة، الكامنة إلى أنفه، إلى صدره، يعرف خطورة الهواء المقيم واحتواءه على ما يسبب الهلكة لكن بعد حين مقدر، لكنه لا يعبأ، إنه فى مواجهة لحظة فاصلة، إنه على وشك أن يرى، أن يقف على ما طال كمونه ولم يتبق إلا الإسفار.
شيئا فشيئا يغيب عنه ما يحيطه، يتجه تماما إلى ما ينتظر دخوله دائرة إبصاره، كأنه يقف داخل فراغ خاص به، يتحرك فيه، هو فقط لا غير، يعرف مثل هذا الحال، الرغبة فى تأجيل اللحظة الدانية التى سيتحقق فيها المأمول، لكنه الآن مأخوذ، مستغرق، متجه إلى ما ينتظره، إلى رؤية ما تنبأ به، ما جمع من أجله الأدلة، ما بذل صوبه الجهد والوقت وتوقع المأمول.
يرفع المصباح إلى نقطة يمكن للضوء أن يتقدمه ليكشف له الفراغ وما يحوى لا يدرى كيف تبدو ملامحه الآن، لا يراه أحد من المواجهة إلا سموها وجلالها وحضورها الماثل فى مواجهته.
ليس قناعا ما يبدو له، ليس تابوتا مغلقا، ليست العين التى ترى للراحل المسافر معالم الوجود، إنما هو فى مواجهتها تماما، ترقد أمامه، مفتوحة العينين، جهيرة النظر، جلية البصر، تحدق صوبه مرتدية كامل ثيابها، منسدل شعرها، أصابع يديها مغطاة بأصابع ذهبية، كل منها يحيطه خاتم سيدنو فيما بعد ليحدد النوع والشكل وطبيعة الشكل، إنه فى مواجهتها، يدركها بالكلية.
فراشها بيضاوى، طبقات من كتان أبيض شفاف، يحيطها، يفيض منه بقدر، كأنها على وشك أن تهم، أن تشب، أن تبادر، لكنها لا تفعل.
الإقدام منه هو، يتجه بجماعة إليها، بكل ما استوعبه من شوارد وتفاصيل، إنه مدرك تماما، واع لفرادة الحالة، لم يقرأ ولم يسمع ولم يصف من سبقوه حالة كهذه.
إنها مكتملة، مكملة فى مواجهته، حاضرة، يتجه إلى الوجه، حاضر غائب، على وشك التبسم، لا يمكنه الإمساك بملامح محددة، غير أن تناسق الملامح مما أذهله، سنوات طويلة يتفحص الرسوم الجدارية. والملامح البادية عبر أوراق البردى والحلى والصناديق الصغيرة، وقطع الأثاث التى سلمت من عبث الأيدى، لكنه لم ير مثلها، لم تقع عينه على شبيه لها.
لم ير شبيها أو قرينا لها لأنها الحالة الأولى من نوعها، ليس تحنيط ما يرى، لا يمت الجسد إلى المألوف من المومياوات المحنطة التى تخفى ملامحها بالكتان، والأربطة.
إنه فى مواجهتها، هى.. المحدقة إليه بعينين توشكان على تتبعه إذا حاد عن موقعه، لا يدرى أى تصرف يجب أن يبدر عنه، ماذا عليه أن يتبع؟
هل ينحنى؟
هل يتقدم؟
هل يحدق فى اتجاه ملامحها أم يحاول الإحاطة بالمفردات الباقية، باقة الورد التى تبث عطرها المحفوظ، الكامن، ليس بوسعه إلا أن يثبت الضوء، لا يمكنه إلا التملى، أن ينهل مما أتيح له قبل أن يشاركه غريب حتى لو كان من أقرب المقربين.
ضجعتها قيام مستمر، شروع فى نهوض، وملامحها حاوية لبدء ابتسامة وتأهب لسؤال ولواح أسى ما. ربما لحظة الانتقال من حال إلى حال.
حضورها تمهيد لحضور لم يسفر عن ملامحه بعد، لذلك تطول وقفته وكأنه يتوقع قيامها، أو صدور ضحكة عنها، أو النطق بلغة لم يسمع إيقاعها قط.
شعرها مصفف، مسدل حول وجهها الذى يمكن وصفه بالدائرى أو الاستطالة، شفتاها منفرجتان إلى حد لا يمكن ملاحظته إلا رغم أنها متجهة إلى الأمام، لكنها تدنو من التفاتة محسوبة.
إلى يمين
إلى شمال؟
لا يمكنه التحديد. لا يقين ممكنا عدا أنها أمامه، وثيرة الرقدة، مشعة البهاء القادم من عمق سحيق، ينتبه إلى استيعابه لها مع ثبات نظره، مع توجهه صوب وجهها، لكنه رأى صدرها الناهض.
استدارة النهدين، الزهور موضعها فوق البطن، تخفى خموص البطن وانخساف السرة.
يوثق ملامحها فى ذاكرته، ما عدا تلك اللحظة الممتدة تكرار، يستقر الضوء، تشع عيناها صوبه، يوشك لكنه يحجم، عند لحظة معينة يدرك أن ثمة أمرا يجرى.
متى بالضبط
ربما لحيظة امتزاج نظراتها بنظره، تلاقى البصرين، تداخلهما.
مؤكد..
يتغير لون الوجه الأصفر المائل إلى حمرة، يخبو ضوء المصباح الذى يعرفه، يحل ضوء آخر يجهل مصدره، لا يقدر على تحديد رؤيته، يميل إلى الأمام لكنه لا يتحرك.
من صفرة مشربة بحمرة إلى قتامة لا يمكنه تحديدها أو معرفتها أو منع اكتمالها، غضون تظهر، جفاف يحل، يتسرب التناسق، والنظر المنبعث من عينيها، وتمتزج ملامحها، يمد يده لكنها لا تتحرك، يبسط أصابعه لكنها لا تشير، يهم بالنطق غير أن اللفظ لا يخرج، لا يسمع أحد استنجاده وغواثه لإيقاف اكتمال الفناء، تحولها إلى رماد يتهاوى بسرعة كلما أطال التحديق، حتى الكتان الأبيض الحاوى..
أخيرا.. لا يفصلهم عنها إلا الباب الموصد منذ قرون سحيقة، أختام بادية، غبرة القدم، وتوقع صامت يسرى من قطعة الخشب المنحوتة بدقة، المستوية، الناعمة، المرتكزة إلى نقبين، الأول أسفل والثانى أعلى.
يتقدم الأستاذ منحنيا فى الممر المؤدى، أوشك على انتهاء. ببطء وبأيد مدربة تم حفره، بتأن، على مهل، الأبصار كلها تتجه إلى الباب.
لحظة فاصلة يتوق إليها كل من يعمل مثله، لحظة نادرة، قد لا تتكرر وربما لا يعرفها معظم الباحثين، لحظة جرى تمهيد لها، عمل دؤوب، وأيام صعبة فى هذه المنطقة النائية، الموغلة فى الرمال إلى الغرب، لم يكن الاستدلال إليها سهلا بدون جهود سابقة لباحثين أمضوا سنوات فى المنطقة ولم يصلوا إلى شىء.
كل الدلائل تشير إلى أنه سيلقاها وجها لوجه بمجرد فتح هذا الباب ونزع غطاء التابوت، سيقع بصره على القناع الذى يغطى الوجه الملفوف فى الكتان المحكم والقناع الدال، المؤشر على ما كان يوما، نظراته تصل ما انقطع منذ توالى القرون والحقب بعد أداء الكهنة طقوس فتح الفم، منذ أن لمس كبيرهم الفم بعلامة الحياة ــ سنخ ــ قبل أن تدوى الصيحة «انهض إنك لست بميت».
هل خوطبت الأثنى بعبارات مماثلة؟
بأى إيقاع كان النطق؟ أى روائح كانت تعبق الفراغ قبل إغلاقه؟
هل ستنفذ إلى حواسه بقاياها؟
ربما يشم عتاقتها الآن بعد اكتمال الفتح وسفور الموقع عن آخر مكنونه؟
نهاية وشيكة لعمل دؤوب استمر سنوات من عمره وتمهيد لا يمكن الإلمام به ممن سبقوه، إنه يحاول جاهدا إقصاء الخواطر والرؤى والتداعيات التى يثيرها الموقف حتى يفرغ ويصفو تماما للحظة المواجهة، الرؤية الكشف، لا يجد لفظا محددا يمكنه أن يستكين إليه وأن يدل على حاله.
فى الصباح راجع كل ما تم. نقوش الباب «نسخت وصورت، كذلك المتون المقدسة على جانبى الممر، منها أيقن ما ينتظره وراء الباب.
كل الدلائل تؤكد أنه لم يفتح، لم يعبث بالمحتوى منذ إغلاقه ذلك اليوم البعيد، يصعب تسميته أو تحديده من موقع اللحظة الآنية.
لا يدرى.. هل سيجد حبلا مجدولا يوثق مصراعى الباب موثقا بخرطوش يحمل اسمها. تماما مثل ذلك الحبل الذى تطلع إليه كارتر مدركا أنه أمام الخطوة المؤدية. لكن ثمة فرق، الحبل الذى رآه الإنجليزى ومساعدوه مده وعقده وختمه كبار الكهنة الذين نقلوا محتويات مقبرة توت عنخ آمون خشية سرقتها بعد اضطراب الأحوال وسريان انتهاك المقدسات، وإقلاق مراقد الداخلين، لهذا كانت المحتويات مكدسة على عجل، بدون ترتيب يليق بوريث عرش الإله حورس، أى أن المرقد قد تم فضه مرة بعد إغلاقه، لكنه هنا أمام باب لم يفتح قط. يحول بين رقدتها وفراغ الممر المؤدى إلى الخارج.
«نفرت».
إنها الجميلة، من أميرات البيت الكبير، إنها الآتية من بعيد كما يقول أحد ألقابها؟ ألهذا اختارت هذا الموضع المنعزل؟، يكاد يلفظ الوصف الذى صاغه هو.
لم يقرأه فى ألقابها أو توقيعاتها. أتى به هو ليقينه أنه ملائم متوافق معها، لكم يبدو مرقدها منعزلا، منيع العتبات، جمع بمفردها، فليؤجل ما يتوارد عليه إلى لحيظات سيغمض خلالها عينيه ويستعيد ما يمر به الآن، عندئذ ربما يبصر ما لا يراه، ما لا يطلع عليه وربما تبزغ فكرة لا تواتيه فى حينه.
أنتبه
تطلع، فلن تفض أختام لم يقربها أحد قبلك مرتين، تبصر، لولا المصادفة التى أوحت إليك بمفتتح الطريق المؤدى إلى الناحية لأمضيت عمرك ولذهبت بدون معرفة تلك اللحيظات.
يرفع المصباح، ضوء هادئ، بارد، لا يثير الحرارة، مناسب للأماكن المغلقة، يثبت يده عند نقطة محددة، يتقدم مساعده خطوة، إنه خلفه تماما، يتناول المصباح حتى يتفرغ أستاذه لمعالجة الباب برفق وتأن وحذر.
يطرق الباب، يصغى، الطرقات هذه المرة مختلفة، تسبق الفتح مباشرة. يوحى الصوت بالفراغ المؤطر، يمكنه أن يتصور ملامح القناع الذى يغطى المومياء الملفوفة بالكتان، لطول ما أمعن التفكير وانشغل بها، كأنه قابلها وتطلع إليها، تحدث وسمع منها.
سبعة أيام استمر تنظيف ما حول الباب بفرشاة ناعمة، تم الكشف عن الحدود التى سيتم التعامل معها، ينحنى، يتحسس الحد الغائر، يشفق على الخشب العتيق الذى لم يمسه بشر منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة عام وبضع سنين من مقدمة الأداة المصنوعة من الصلب الحاد.
يدس سن الآلة العريض، الحاد، يدفعه متأنيا، متمهلا، محاولا ألا يتسرب انفعاله إلى ثبات يده وضمة أصابعه، إنه مستغرق، متمكن الآن، يدفع ضاغطا المقبض. مقاومة يسيرة، يقدر أن السن عبر إلى فراغ، قدر من أصداء الطرقات متانة وسمك الباب، لكنه مفاجأة الآن بالسهولة التى غاص بها مقدم النصل فى الحد الفاصل بين الجدار والخشب، ينتصب واقفا، يضغط مقدمة الأداة من أعلى، المقاومة تحتاج ضغطا أشد لكنه ينفذ إلى الفراغ عينه الذى قدره بأسفل.
هل يبدأ الآن؟
وراء الحاجز يساعده باذلا طاقة تستعصى على الإدراك، يقف تماما محدقا إلى الأمام، يلتفت إلى مساعده، سيسدد هو الضوء إلى الداخل حتى تكتمل الرؤية.
يرفع المصباح، يصبح بمحاذاة كتفه، يتراجع الباب تحت ضغطة يده بيسر. فراغ يتسع له، لا يمكن أى شخص خلفه من النظر عبر كتفه، ينتظم مساعدوه ومعاونوه من عمال متخصصين خلفه على امتداد الممر، لكنه عند هذا الحد بمفرده، توقف الباب عن التراجع مفسحا لفراغ يستوعب بالكاد.
من يصل إلى هنا لابد أن يكون وحيدا، فردا، مفردا، إنه فى مواجهة فراغ، لم يحرك المصباح بعد حتى يمكنه الرؤية، مازال واقفا عند حدود العتمة، تنفذ الرائحة المعتقة، الكامنة إلى أنفه، إلى صدره، يعرف خطورة الهواء المقيم واحتواءه على ما يسبب الهلكة لكن بعد حين مقدر، لكنه لا يعبأ، إنه فى مواجهة لحظة فاصلة، إنه على وشك أن يرى، أن يقف على ما طال كمونه ولم يتبق إلا الإسفار.
شيئا فشيئا يغيب عنه ما يحيطه، يتجه تماما إلى ما ينتظر دخوله دائرة إبصاره، كأنه يقف داخل فراغ خاص به، يتحرك فيه، هو فقط لا غير، يعرف مثل هذا الحال، الرغبة فى تأجيل اللحظة الدانية التى سيتحقق فيها المأمول، لكنه الآن مأخوذ، مستغرق، متجه إلى ما ينتظره، إلى رؤية ما تنبأ به، ما جمع من أجله الأدلة، ما بذل صوبه الجهد والوقت وتوقع المأمول.
يرفع المصباح إلى نقطة يمكن للضوء أن يتقدمه ليكشف له الفراغ وما يحوى لا يدرى كيف تبدو ملامحه الآن، لا يراه أحد من المواجهة إلا سموها وجلالها وحضورها الماثل فى مواجهته.
ليس قناعا ما يبدو له، ليس تابوتا مغلقا، ليست العين التى ترى للراحل المسافر معالم الوجود، إنما هو فى مواجهتها تماما، ترقد أمامه، مفتوحة العينين، جهيرة النظر، جلية البصر، تحدق صوبه مرتدية كامل ثيابها، منسدل شعرها، أصابع يديها مغطاة بأصابع ذهبية، كل منها يحيطه خاتم سيدنو فيما بعد ليحدد النوع والشكل وطبيعة الشكل، إنه فى مواجهتها، يدركها بالكلية.
فراشها بيضاوى، طبقات من كتان أبيض شفاف، يحيطها، يفيض منه بقدر، كأنها على وشك أن تهم، أن تشب، أن تبادر، لكنها لا تفعل.
الإقدام منه هو، يتجه بجماعة إليها، بكل ما استوعبه من شوارد وتفاصيل، إنه مدرك تماما، واع لفرادة الحالة، لم يقرأ ولم يسمع ولم يصف من سبقوه حالة كهذه.
إنها مكتملة، مكملة فى مواجهته، حاضرة، يتجه إلى الوجه، حاضر غائب، على وشك التبسم، لا يمكنه الإمساك بملامح محددة، غير أن تناسق الملامح مما أذهله، سنوات طويلة يتفحص الرسوم الجدارية. والملامح البادية عبر أوراق البردى والحلى والصناديق الصغيرة، وقطع الأثاث التى سلمت من عبث الأيدى، لكنه لم ير مثلها، لم تقع عينه على شبيه لها.
لم ير شبيها أو قرينا لها لأنها الحالة الأولى من نوعها، ليس تحنيط ما يرى، لا يمت الجسد إلى المألوف من المومياوات المحنطة التى تخفى ملامحها بالكتان، والأربطة.
إنه فى مواجهتها، هى.. المحدقة إليه بعينين توشكان على تتبعه إذا حاد عن موقعه، لا يدرى أى تصرف يجب أن يبدر عنه، ماذا عليه أن يتبع؟
هل ينحنى؟
هل يتقدم؟
هل يحدق فى اتجاه ملامحها أم يحاول الإحاطة بالمفردات الباقية، باقة الورد التى تبث عطرها المحفوظ، الكامن، ليس بوسعه إلا أن يثبت الضوء، لا يمكنه إلا التملى، أن ينهل مما أتيح له قبل أن يشاركه غريب حتى لو كان من أقرب المقربين.
ضجعتها قيام مستمر، شروع فى نهوض، وملامحها حاوية لبدء ابتسامة وتأهب لسؤال ولواح أسى ما. ربما لحظة الانتقال من حال إلى حال.
حضورها تمهيد لحضور لم يسفر عن ملامحه بعد، لذلك تطول وقفته وكأنه يتوقع قيامها، أو صدور ضحكة عنها، أو النطق بلغة لم يسمع إيقاعها قط.
شعرها مصفف، مسدل حول وجهها الذى يمكن وصفه بالدائرى أو الاستطالة، شفتاها منفرجتان إلى حد لا يمكن ملاحظته إلا رغم أنها متجهة إلى الأمام، لكنها تدنو من التفاتة محسوبة.
إلى يمين
إلى شمال؟
لا يمكنه التحديد. لا يقين ممكنا عدا أنها أمامه، وثيرة الرقدة، مشعة البهاء القادم من عمق سحيق، ينتبه إلى استيعابه لها مع ثبات نظره، مع توجهه صوب وجهها، لكنه رأى صدرها الناهض.
استدارة النهدين، الزهور موضعها فوق البطن، تخفى خموص البطن وانخساف السرة.
يوثق ملامحها فى ذاكرته، ما عدا تلك اللحظة الممتدة تكرار، يستقر الضوء، تشع عيناها صوبه، يوشك لكنه يحجم، عند لحظة معينة يدرك أن ثمة أمرا يجرى.
متى بالضبط
ربما لحيظة امتزاج نظراتها بنظره، تلاقى البصرين، تداخلهما.
مؤكد..
يتغير لون الوجه الأصفر المائل إلى حمرة، يخبو ضوء المصباح الذى يعرفه، يحل ضوء آخر يجهل مصدره، لا يقدر على تحديد رؤيته، يميل إلى الأمام لكنه لا يتحرك.
من صفرة مشربة بحمرة إلى قتامة لا يمكنه تحديدها أو معرفتها أو منع اكتمالها، غضون تظهر، جفاف يحل، يتسرب التناسق، والنظر المنبعث من عينيها، وتمتزج ملامحها، يمد يده لكنها لا تتحرك، يبسط أصابعه لكنها لا تشير، يهم بالنطق غير أن اللفظ لا يخرج، لا يسمع أحد استنجاده وغواثه لإيقاف اكتمال الفناء، تحولها إلى رماد يتهاوى بسرعة كلما أطال التحديق، حتى الكتان الأبيض الحاوى..