وسعل.. أو على الأصح عوى كالكلب.. وهو يسد فمه بكمه حتى لا يبلغ الصوت أسماع الحاضرين.. وألقى عليهم نظرات قلقة مضطربة.. وهمس فى أذنى..
لم أره قط رؤية العين.. ولكنى سمعت به ممن رأوه وعرفوه.. فقد كان لذلك الرجل صيت فى الأقاليم منذ أكثر من ثلث قرن.. كان رجلا فارع الطول، فيما يقال، ضخم الجرم، ذا هيئة تفرض على الناس التبجيل والاحترام.. وكان شديد العناية بثيابه، لا يرتدى منها إلا ما غلا فى الثمن وزاد فى المهابة.. كان عظيم الهامة، أشيب اللحية، طويل المسبحة، كبير العمامة..
روى لى محدثى عنه قائلا:
عرفت الشيخ «البلبيسى» لأول مرة فى دار الباشا المدير. دخلت عليهم فى تلك «المنظرة» التى كان يجتمع فيها من حين إلى حين جلة علماء المديرية وأكابر أعيانها: فأبصرت «الشيخ» بطلعته الجليلة فى صدر المجلس، فما شككت فى أنه أعظمهم فضلا وأرفعهم قدرا.. فلما قدمنى إليه المدير، لم أنتظر حتى أعى اسمه، وانكببت لهيبته، على يده أقبلها.. فسحبها منى برفق وأفسح لى مكانا إلى جواره، وهو يقول بصوته الوقور:
- استغفر الله يا بنى، استغفر الله!.. على من أخذت العلم فى الأزهر الشريف؟!
فعلت وجهى حُمرة الخجل وقلت:
- لم أدرس العلم.. ولكنى رجل مزارع من ذوى الأملاك. فربّت يدى بكفه قائلا:
- وأنعم بالزراعة والزراع.. من يزرع خيرا يحصد خيرا، ومن يزرع.. وسعل سعالا خافتا غريبا كأنه عواء.. جهد فى كتمه بكمه ومضى يقول متلطفا:
- كيف اتفق أننى لم أرك هنا من قبل؟
فقلت وأنا ألقى نظرة على الباشا المدير المتشاغل عنا بضيوفه وهم يتحدثون، فيما بينهم، هامسين، حتى لا يزعجونا، فيما اعتقدت، بأصواتهم:
- إنى قليل المجىء إلى البندر. ولا أغادر أرضى وعزبتى إلا إذا دعتنى إلى ذلك المصالح أو الضرورات..
فقال الشيخ وهو يعد بأصابعه المرتجفة حبات مسبحته:
- حسنا فعلت يا بنى.. لقد قالوا فى الأمثال: الأرض التى لا ترى قدم صاحبها لا تفلح..
وسعل ذلك السعال الغريب المكتوم وقد وضحت معالمه المشابهة لعواء الكلب.. فأخذتنى رعدة...وأحس ذلك منى.. فمال على أذنى هامساً:
- هل أزعجك سعالى؟ لا تخش شيئاً.. هذا أمر يأتى أحياناً ويمر مر الكرام..
فقلت له باطمئنان:
- بل لا تنزعج فضيلتك.. إنما هو برد عارض من برد هذه الأيام.. فقال لى بنبرة وقور هامسا:
- لا.. يا بنى.. هذا ليس ببرد.. إننى ما تعودت الكذب. إنما هو مرض آخر.
- ليس خطيرا على كل حال..
- أرجو أن يبرئنى الله منه..
وسعل.. أو على الأصح عوى كالكلب.. وهو يسد فمه بكمه حتى لا يبلغ الصوت أسماع الحاضرين.. وألقى عليهم نظرات قلقة مضطربة.. وهمس فى أذنى:
- لعل سعالى لم يصل إليهم. أما أنت فمثل ابنى.. ولعلك تكتم عنى.. إنها بلية، ابتلانى بها الله.. وهو لا يبلو إلا عباده الصالحين.. أسأله تعالى أن ينهى هذه الأزمة على خير حتى أنصرف عن هذا المجلس..
فأخذتنى به شفقة.. ورأيته يلم أطراف عباءته، ليسرع بالنهوض، ولكن السعال أو العواء أدركه.. فلبث فى مكانه يحشو فمه بكمه.. حتى هدأ قليلا.. فقلت له:
- أما من علاج لهذا؟
- العلاج بيد الله.. وأخشى أن يكون قد فات أوانه.. كل ما أرجوه ألا يكون دائى خطرا على الناس.. كفى ما حدث لذلك الخادم المسكين!
- ماذا حدث له؟
قلتها مرتاعا.. فقال بصوت مرتجف متعب جاف:
- اشتدت علىّ الأزمة يوما. وقيل إنى كنت أسعل سعالا كعواء ذلك الكلب «المسعور» الذى عضنى.. فلما أراد خادمى إسعافى ومعونتى هبرته بأسنانى وعضضته عضة أدت إلى وفاته.. رحمه الله رحمة واسعة! ورحمنى أنا أيضا وغفر لى..
وقطع سعاله حديثه.. وجعل يمزق كمه بأسنانه، حتى لا يخرج الصوت من فمه واضحا.. وجعلت أنا أحاول التزحزح من مكانى مبتعدا عنه من الخوف.. ولكن احترامى له، وعطفى عليه، وحرصى على شعوره، وخشيتى من لفت الأنظار إليه.. كل هذا سمرنى فى مقعدى.. فتجلدت وقلت له بصوت متهدج:
إنها ولا شك أزمة خفيفة ستمر..
ولم أتم.. فقد جحظت عيناه.. وتغير وجهه.. وأرغى وأزبد.. وكشر عن أنيابه، وانقلب فى لحظة من ذلك الشيخ الوقور، إلى كلب خطر عقور.. وترك كمه وفغر فاه بعواء سافر مرعب.. ومد يديه نحوى كأنهما مخالب.. وهمَّ بالهجوم علىَّ..
وهنا لم أدر من الفزع إلا وأنا أثب نحو الباب وثبة، صدمتنى بعارضته الخشبية صدمة، ما برح أثرها باقيا فى جبينى.. وما كدت أجد نفسى فى فناء الدار.. حتى صحت من حلاوة الروح بالخدم والحجاب:
- الحمد لله! هربت بجلدى.. لكن المصيبة هى مصيبة الباشا المدير وضيوفه.. لقد أكلهم فضيلة الشيخ ونهشهم وانتهى الأمر!
وأردت أن أدفع بالحجاب إلى داخل «المنظرة» لينقذوا من يمكن إنقاذه.. وإذا بى أرى الباشا المدير وضيوفه، يتوسطهم «الشيخ» الجليل، خارجين من الباب يتمايلون، والضحك يكاد يقطعهم تقطيعا..
فلما انكشفت لى الحقيقة وأبديت احتجاجى.. قال لى المدير باسما:
- ألا تعرف الشيخ «البلبيسى» ونوادره ودعاباته؟! هذا هو الشيخ البلبيسى.. هل تعرفه الآن؟
فأشرت إلى الصدمة فى جبهتى وقلت مبتسما:
- معرفة تركت فىّ أثرا!
فتقدم نحوى «الشيخ» كما يتقدم الممثل بعد أن مسح عن وجهه طلاء التمثيل.. وقال:
- الحمد لله على السلامة! إن شاء الله قريبا..
فقاطعته صائحا:
- مستحيل.. لا يلدغ بل قل.. لا يعض مؤمن..
فبادر هو يكمل العبارة:
- من كلب مرتين.. هذا صحيح.. ولكن من قال لك إنى سأكون كلبا فى المرة القادمة؟
- إذا قابلتنى فى المرة القادمة فكن كما شئت وشاءت لك براعتك..
ولم أقابله بعدها قط.. إلى أن مات وذهبت أيامه.. ولم يعد لهذه المجالس و«المنادر» وجود.. وانقرض هذا النوع من الناس.. وانقرض معه نوع من المواهب الطبيعية يتفجر من السليقة الإنسانية، كان لازما لإدخال الأنس على مجالس ذلك العهد.
إن لكل عصر رجال أنسه.. ولكن عصر «المنادر» كان له رجال قلما يجود بمثلهم الزمان..
لا آسف على شىء أسفى على أنى لم أقابل «الشيخ البلبيسى» مرة أخرى. وإن كنت على ثقة بأنه كان سيترك فىّ مرة أخرى أثرا لا يمحى.
* من مجموعة: مدرسة المغفلين
لم أره قط رؤية العين.. ولكنى سمعت به ممن رأوه وعرفوه.. فقد كان لذلك الرجل صيت فى الأقاليم منذ أكثر من ثلث قرن.. كان رجلا فارع الطول، فيما يقال، ضخم الجرم، ذا هيئة تفرض على الناس التبجيل والاحترام.. وكان شديد العناية بثيابه، لا يرتدى منها إلا ما غلا فى الثمن وزاد فى المهابة.. كان عظيم الهامة، أشيب اللحية، طويل المسبحة، كبير العمامة..
روى لى محدثى عنه قائلا:
عرفت الشيخ «البلبيسى» لأول مرة فى دار الباشا المدير. دخلت عليهم فى تلك «المنظرة» التى كان يجتمع فيها من حين إلى حين جلة علماء المديرية وأكابر أعيانها: فأبصرت «الشيخ» بطلعته الجليلة فى صدر المجلس، فما شككت فى أنه أعظمهم فضلا وأرفعهم قدرا.. فلما قدمنى إليه المدير، لم أنتظر حتى أعى اسمه، وانكببت لهيبته، على يده أقبلها.. فسحبها منى برفق وأفسح لى مكانا إلى جواره، وهو يقول بصوته الوقور:
- استغفر الله يا بنى، استغفر الله!.. على من أخذت العلم فى الأزهر الشريف؟!
فعلت وجهى حُمرة الخجل وقلت:
- لم أدرس العلم.. ولكنى رجل مزارع من ذوى الأملاك. فربّت يدى بكفه قائلا:
- وأنعم بالزراعة والزراع.. من يزرع خيرا يحصد خيرا، ومن يزرع.. وسعل سعالا خافتا غريبا كأنه عواء.. جهد فى كتمه بكمه ومضى يقول متلطفا:
- كيف اتفق أننى لم أرك هنا من قبل؟
فقلت وأنا ألقى نظرة على الباشا المدير المتشاغل عنا بضيوفه وهم يتحدثون، فيما بينهم، هامسين، حتى لا يزعجونا، فيما اعتقدت، بأصواتهم:
- إنى قليل المجىء إلى البندر. ولا أغادر أرضى وعزبتى إلا إذا دعتنى إلى ذلك المصالح أو الضرورات..
فقال الشيخ وهو يعد بأصابعه المرتجفة حبات مسبحته:
- حسنا فعلت يا بنى.. لقد قالوا فى الأمثال: الأرض التى لا ترى قدم صاحبها لا تفلح..
وسعل ذلك السعال الغريب المكتوم وقد وضحت معالمه المشابهة لعواء الكلب.. فأخذتنى رعدة...وأحس ذلك منى.. فمال على أذنى هامساً:
- هل أزعجك سعالى؟ لا تخش شيئاً.. هذا أمر يأتى أحياناً ويمر مر الكرام..
فقلت له باطمئنان:
- بل لا تنزعج فضيلتك.. إنما هو برد عارض من برد هذه الأيام.. فقال لى بنبرة وقور هامسا:
- لا.. يا بنى.. هذا ليس ببرد.. إننى ما تعودت الكذب. إنما هو مرض آخر.
- ليس خطيرا على كل حال..
- أرجو أن يبرئنى الله منه..
وسعل.. أو على الأصح عوى كالكلب.. وهو يسد فمه بكمه حتى لا يبلغ الصوت أسماع الحاضرين.. وألقى عليهم نظرات قلقة مضطربة.. وهمس فى أذنى:
- لعل سعالى لم يصل إليهم. أما أنت فمثل ابنى.. ولعلك تكتم عنى.. إنها بلية، ابتلانى بها الله.. وهو لا يبلو إلا عباده الصالحين.. أسأله تعالى أن ينهى هذه الأزمة على خير حتى أنصرف عن هذا المجلس..
فأخذتنى به شفقة.. ورأيته يلم أطراف عباءته، ليسرع بالنهوض، ولكن السعال أو العواء أدركه.. فلبث فى مكانه يحشو فمه بكمه.. حتى هدأ قليلا.. فقلت له:
- أما من علاج لهذا؟
- العلاج بيد الله.. وأخشى أن يكون قد فات أوانه.. كل ما أرجوه ألا يكون دائى خطرا على الناس.. كفى ما حدث لذلك الخادم المسكين!
- ماذا حدث له؟
قلتها مرتاعا.. فقال بصوت مرتجف متعب جاف:
- اشتدت علىّ الأزمة يوما. وقيل إنى كنت أسعل سعالا كعواء ذلك الكلب «المسعور» الذى عضنى.. فلما أراد خادمى إسعافى ومعونتى هبرته بأسنانى وعضضته عضة أدت إلى وفاته.. رحمه الله رحمة واسعة! ورحمنى أنا أيضا وغفر لى..
وقطع سعاله حديثه.. وجعل يمزق كمه بأسنانه، حتى لا يخرج الصوت من فمه واضحا.. وجعلت أنا أحاول التزحزح من مكانى مبتعدا عنه من الخوف.. ولكن احترامى له، وعطفى عليه، وحرصى على شعوره، وخشيتى من لفت الأنظار إليه.. كل هذا سمرنى فى مقعدى.. فتجلدت وقلت له بصوت متهدج:
إنها ولا شك أزمة خفيفة ستمر..
ولم أتم.. فقد جحظت عيناه.. وتغير وجهه.. وأرغى وأزبد.. وكشر عن أنيابه، وانقلب فى لحظة من ذلك الشيخ الوقور، إلى كلب خطر عقور.. وترك كمه وفغر فاه بعواء سافر مرعب.. ومد يديه نحوى كأنهما مخالب.. وهمَّ بالهجوم علىَّ..
وهنا لم أدر من الفزع إلا وأنا أثب نحو الباب وثبة، صدمتنى بعارضته الخشبية صدمة، ما برح أثرها باقيا فى جبينى.. وما كدت أجد نفسى فى فناء الدار.. حتى صحت من حلاوة الروح بالخدم والحجاب:
- الحمد لله! هربت بجلدى.. لكن المصيبة هى مصيبة الباشا المدير وضيوفه.. لقد أكلهم فضيلة الشيخ ونهشهم وانتهى الأمر!
وأردت أن أدفع بالحجاب إلى داخل «المنظرة» لينقذوا من يمكن إنقاذه.. وإذا بى أرى الباشا المدير وضيوفه، يتوسطهم «الشيخ» الجليل، خارجين من الباب يتمايلون، والضحك يكاد يقطعهم تقطيعا..
فلما انكشفت لى الحقيقة وأبديت احتجاجى.. قال لى المدير باسما:
- ألا تعرف الشيخ «البلبيسى» ونوادره ودعاباته؟! هذا هو الشيخ البلبيسى.. هل تعرفه الآن؟
فأشرت إلى الصدمة فى جبهتى وقلت مبتسما:
- معرفة تركت فىّ أثرا!
فتقدم نحوى «الشيخ» كما يتقدم الممثل بعد أن مسح عن وجهه طلاء التمثيل.. وقال:
- الحمد لله على السلامة! إن شاء الله قريبا..
فقاطعته صائحا:
- مستحيل.. لا يلدغ بل قل.. لا يعض مؤمن..
فبادر هو يكمل العبارة:
- من كلب مرتين.. هذا صحيح.. ولكن من قال لك إنى سأكون كلبا فى المرة القادمة؟
- إذا قابلتنى فى المرة القادمة فكن كما شئت وشاءت لك براعتك..
ولم أقابله بعدها قط.. إلى أن مات وذهبت أيامه.. ولم يعد لهذه المجالس و«المنادر» وجود.. وانقرض هذا النوع من الناس.. وانقرض معه نوع من المواهب الطبيعية يتفجر من السليقة الإنسانية، كان لازما لإدخال الأنس على مجالس ذلك العهد.
إن لكل عصر رجال أنسه.. ولكن عصر «المنادر» كان له رجال قلما يجود بمثلهم الزمان..
لا آسف على شىء أسفى على أنى لم أقابل «الشيخ البلبيسى» مرة أخرى. وإن كنت على ثقة بأنه كان سيترك فىّ مرة أخرى أثرا لا يمحى.
* من مجموعة: مدرسة المغفلين