تتعامل الكاتبة عبير حسني محمود مع الأماكن والشخصيات في قصتها ( شموع منصهرة ) برهافة شديدة، و ( شموع منصهرة ) هي القصة الفائزة بالمركز الرابع في مسابقة صلاح هلال الأدبية 2022م، وقدمت لنا المكان في لوحة تشكيلية بديعة، حمام نسائي كان ملكا للأسرة المالكة وآل في النهاية لسيدة فُضلى ميراثا عن أبيها :
( لقد ورثت هذا المكان عن والدي ، ومن قبله جدتي ، حافظت على عبقه القديم ، عملت على تطويره فأدخلت القليل من الحداثة ، حتى صار يتحدى الزمن بقوة )
والحمام يتجاوز الاستحمام وغسل الجسد وتدليكه إلى هدهدة النفس وتطبيب الروح :
(كانت السيدات قابعات حول المغطس الكبير ..كن كمن ينسلخ عن الأحزان والأفكارالمتربصة لأرواحهم ،وقد استسلمن لأصابع أجادت عملها بحرفية ليس لها مثيل. )
واختارت الكاتبة عبير حسني شخصياتها بعناية فائقة، فالسيدة صاحبة الحمام، اهتمت بتصويرها من الخارج، ومن الداخل :
( ترتدي عباءة خضراء والكثير من الأسوارالملونة الكبيرة ووشاح أحمر حول رقبتها يعلن عن شخصية عميقة تقبع خلف عيونها العسلية وهذا الكحل القادم من عصر المماليك يستكين بين جفونها . )
هذه السيدة تنجذب إلى فتاة صموتة، كانت مع عروس صديقتها تتجهز للزفاف، وتضرب لها موعدا للقاء، وتجد هذه الفتاة نفسها وبدون تفكير تسير إليها في الموعد المحدد إلى الحمام، لتستقبلها بحفاوة طيبة، وتصارحها السيدة :
( لقد دعوتك اليوم دون الأخريات ممن حضرن حفل صديقتك لأتعرف لصاحبة تلك الروح الطفولية ، تلك العنيدة المتوارية خلف باب الصمت )
وقد استخدمت الكاتبة تقنية ( الفلاش باك ) وهي تقنية سينمائية بالأساس، وهيأت الفتاة ( للبوح ) :
(استرخيت خاضعة لأصابعها الماهرة ، كنت كمن تسبح بنهر هادئ يأخذ همومي ، وخيباتي ، ويلقي بها بعيدا ، حتى تحولت لعصفورة أطفو على صفحة ماءه بلا مقاومة )
وكأن السيدة صاحبة الحمام، نجحت في تحويل حمامها إلى دار للاستشفاء، وقامت بدور المعالج النفسي، فجعلت الفتاة تبوح، تبوح بهمومها وأحزانها، وتبدأ في الكشف عن أزمتها.
وهذه الفتاة عازفة بيانو ماهرة، وكونت مع جارها عازف الكمان فرقة موسيقية، وصار هو المايسترو :
( ذات مساء كانت القاعة تشهد حفلا موسيقا رائعا...كان يعزف الكمان وأنا آلاحقه بين الأصابع البيضاء والسوداء للبيانو..نظرة واحدة منه ترشدني كمايسترو ماهر .انتهي الحفل واسرع الىّ كعادته لنغادر سويا ، كان جاري وصديقي أيضا. )
وعقب الحفل تذهب إليها صديقة لها، وتطلب منها الالتحاق بالفرقة للعزف على آلة الكمان، ولأن المايسترو يثق فيها وفي حُسن اختيارها للعازفات الجُدد، قبل ترشيحها لصديقتها دون نقاش، وسرعان مانما الحب بينهما، وسرعان ما تزوجا، هل أزمة الفتاة أنها لم تكتشف حبها له إلا بعد أن تزوج بصديقتها؟. فهل ترى أنها كانت الأولى بالزواج منه وخاصة أنه جار وصديق لها؟
إن بوح الفتاة يأتي وهي في المغطس، والذي يفوق، رغم أدواته التي تبدو بسيطة أكبر من العيادات النفسية المجهزة بأحدث التقنيات ويتم الأخذ فيها بالأساليب العلمية المتقدمة :
( فأسرعت الفتاة لتأتي حاملة مبخرة نحاسية ، تتصاعد منها أبخرة نادرة العبق لامست روحي . . )
ومع كل كشف واعتراف، تنصهر شمعة، وتكسو العمود الرخامي أمام المغطس، فعلى أنقاضها تشعل شمعة ...
لو أنهت الكاتبة القصة عند هذا الحد لحققت القصة كل خصائصها الفنية والموضوعية، ولكن الكاتبة تنحرف بمسار القصة انحرافا حادا وخطيرا، ساهم تغيير مسارها في تعميقها، وفي إثارة خيال القارئ، وإجباره على إعادة القراءة، لاكتشاف دلالات أخرى جديدة أكثر عمقا، فتفاجأنا السيدة بسحب الفتاة من يدها، والولوج بها إلى غرفة صغيرة، غطت جدرانها لوحات من أزمنة مختلفة، ومن بين هذه اللوحات، لوحة لفتاة تعزف القيثارة، لتندهش وهي تنظر للفتاة العازفة وتقول إنها أنا، فتصحح لها السيدة صاحبة الحمام، إنها جدتي، وتحكي لها حكايتها :
( كانت تعزف حزنها لكل ليلة لفراق جدي وهروبه مع أخرى تاركا اياها بعد حب اسطوري جمع قلبيهما .. عزفها ،لطالما طرب له ملوكا وأمراء ، لكنها ماتت وحيدة بتلك الغرفة ، أحيانا أسمع عزفها ليلا أو هكذا يخيل لي ..لهذا السبب اخترتك دون الأخريات ،فعندما رأيتك تذكرت أحلامها القديمة ،بل رأيت حزنها المقدس .. كمن يبحث بين الرماد المحترق عن شرارة موؤدة تنتظرني لأنفخ فيها لتشتعل النيران من جديد ، جدتي قلبها بارد وحنون ، وانت جذوة مشتعلة لم تطمسها الذكريات بعد ..)
وتأتي النهاية :
( انهمرت دموع كنت احسبها لن تعبر يوما مقلتي ، تابعت حديثها وهى تناولني رداءا أخضر يشبه ردائها الذى ترتديه ، وقد كان نفس رداء صاحبة اللوحة القابعة على الجدار .)
ولعل تكون الرسالة الأعمق التي أرادت إيصالها للقارئ قد وصلت من خلال تلك العلاقات المتشابكة، وخاصة العلاقة الأخيرة، والتي يحاول القارئ فيها الربط بين الفتاة وبين الجدة، فكلتاهما تعاتي من خيبات في الحب، ولكن الجدة رغم خيباتها واصلت العزف والغناء، وكانت مثل الشمعة التي تنصهر، وهذا قدر بعض الناس وخاصة الفنانيين، وهؤلاء هم من يثرون الحياة، ويجعلونها ممكنة واكثر احتمالا، وهاهي الفتاة تسير على درب الجدة، وتعلو وتسمو باحزانها، لتكمل المسيرة.
تحية للكاتبة التي قدمت لنا نصا قصصيا، يؤكد على إحساساتها الصوتية العالية، وتناثرت الألوان والأضواء والظلال في جنباته، وبرهافة الأنثى، ونعومتها قدمت لنا نصا فريدا ومتميزا، وشديد الثراء الفني والموضوعي، وأرجو في هذه العجالة أن أكون قد نثرت حوله بعض قطرات الضوء.
....................................................................
وسنواصل القراءة في القصص الفائزة في مسابقة صلاح هلال الحنفي في دورتها ( 21 ) ومنها : ( خرج ولم يعد ) للكاتب السوداني حاتم الأمين داموس، ( صداع العطر ) للكاتبة عزة مصطفى عبدالعال، ( رقاصة ) للكاتب المغربي زهير بوغراوي، ( القليل مني ) للكاتبة السورية رنا كمال العسلي، ( غير قابل للنسيان ) للكاتبة سوسن حمدي محمد محفوظ، ( طفل من المريخ ) للكاتب محمود خالد عبدالجواد
( لقد ورثت هذا المكان عن والدي ، ومن قبله جدتي ، حافظت على عبقه القديم ، عملت على تطويره فأدخلت القليل من الحداثة ، حتى صار يتحدى الزمن بقوة )
والحمام يتجاوز الاستحمام وغسل الجسد وتدليكه إلى هدهدة النفس وتطبيب الروح :
(كانت السيدات قابعات حول المغطس الكبير ..كن كمن ينسلخ عن الأحزان والأفكارالمتربصة لأرواحهم ،وقد استسلمن لأصابع أجادت عملها بحرفية ليس لها مثيل. )
واختارت الكاتبة عبير حسني شخصياتها بعناية فائقة، فالسيدة صاحبة الحمام، اهتمت بتصويرها من الخارج، ومن الداخل :
( ترتدي عباءة خضراء والكثير من الأسوارالملونة الكبيرة ووشاح أحمر حول رقبتها يعلن عن شخصية عميقة تقبع خلف عيونها العسلية وهذا الكحل القادم من عصر المماليك يستكين بين جفونها . )
هذه السيدة تنجذب إلى فتاة صموتة، كانت مع عروس صديقتها تتجهز للزفاف، وتضرب لها موعدا للقاء، وتجد هذه الفتاة نفسها وبدون تفكير تسير إليها في الموعد المحدد إلى الحمام، لتستقبلها بحفاوة طيبة، وتصارحها السيدة :
( لقد دعوتك اليوم دون الأخريات ممن حضرن حفل صديقتك لأتعرف لصاحبة تلك الروح الطفولية ، تلك العنيدة المتوارية خلف باب الصمت )
وقد استخدمت الكاتبة تقنية ( الفلاش باك ) وهي تقنية سينمائية بالأساس، وهيأت الفتاة ( للبوح ) :
(استرخيت خاضعة لأصابعها الماهرة ، كنت كمن تسبح بنهر هادئ يأخذ همومي ، وخيباتي ، ويلقي بها بعيدا ، حتى تحولت لعصفورة أطفو على صفحة ماءه بلا مقاومة )
وكأن السيدة صاحبة الحمام، نجحت في تحويل حمامها إلى دار للاستشفاء، وقامت بدور المعالج النفسي، فجعلت الفتاة تبوح، تبوح بهمومها وأحزانها، وتبدأ في الكشف عن أزمتها.
وهذه الفتاة عازفة بيانو ماهرة، وكونت مع جارها عازف الكمان فرقة موسيقية، وصار هو المايسترو :
( ذات مساء كانت القاعة تشهد حفلا موسيقا رائعا...كان يعزف الكمان وأنا آلاحقه بين الأصابع البيضاء والسوداء للبيانو..نظرة واحدة منه ترشدني كمايسترو ماهر .انتهي الحفل واسرع الىّ كعادته لنغادر سويا ، كان جاري وصديقي أيضا. )
وعقب الحفل تذهب إليها صديقة لها، وتطلب منها الالتحاق بالفرقة للعزف على آلة الكمان، ولأن المايسترو يثق فيها وفي حُسن اختيارها للعازفات الجُدد، قبل ترشيحها لصديقتها دون نقاش، وسرعان مانما الحب بينهما، وسرعان ما تزوجا، هل أزمة الفتاة أنها لم تكتشف حبها له إلا بعد أن تزوج بصديقتها؟. فهل ترى أنها كانت الأولى بالزواج منه وخاصة أنه جار وصديق لها؟
إن بوح الفتاة يأتي وهي في المغطس، والذي يفوق، رغم أدواته التي تبدو بسيطة أكبر من العيادات النفسية المجهزة بأحدث التقنيات ويتم الأخذ فيها بالأساليب العلمية المتقدمة :
( فأسرعت الفتاة لتأتي حاملة مبخرة نحاسية ، تتصاعد منها أبخرة نادرة العبق لامست روحي . . )
ومع كل كشف واعتراف، تنصهر شمعة، وتكسو العمود الرخامي أمام المغطس، فعلى أنقاضها تشعل شمعة ...
لو أنهت الكاتبة القصة عند هذا الحد لحققت القصة كل خصائصها الفنية والموضوعية، ولكن الكاتبة تنحرف بمسار القصة انحرافا حادا وخطيرا، ساهم تغيير مسارها في تعميقها، وفي إثارة خيال القارئ، وإجباره على إعادة القراءة، لاكتشاف دلالات أخرى جديدة أكثر عمقا، فتفاجأنا السيدة بسحب الفتاة من يدها، والولوج بها إلى غرفة صغيرة، غطت جدرانها لوحات من أزمنة مختلفة، ومن بين هذه اللوحات، لوحة لفتاة تعزف القيثارة، لتندهش وهي تنظر للفتاة العازفة وتقول إنها أنا، فتصحح لها السيدة صاحبة الحمام، إنها جدتي، وتحكي لها حكايتها :
( كانت تعزف حزنها لكل ليلة لفراق جدي وهروبه مع أخرى تاركا اياها بعد حب اسطوري جمع قلبيهما .. عزفها ،لطالما طرب له ملوكا وأمراء ، لكنها ماتت وحيدة بتلك الغرفة ، أحيانا أسمع عزفها ليلا أو هكذا يخيل لي ..لهذا السبب اخترتك دون الأخريات ،فعندما رأيتك تذكرت أحلامها القديمة ،بل رأيت حزنها المقدس .. كمن يبحث بين الرماد المحترق عن شرارة موؤدة تنتظرني لأنفخ فيها لتشتعل النيران من جديد ، جدتي قلبها بارد وحنون ، وانت جذوة مشتعلة لم تطمسها الذكريات بعد ..)
وتأتي النهاية :
( انهمرت دموع كنت احسبها لن تعبر يوما مقلتي ، تابعت حديثها وهى تناولني رداءا أخضر يشبه ردائها الذى ترتديه ، وقد كان نفس رداء صاحبة اللوحة القابعة على الجدار .)
ولعل تكون الرسالة الأعمق التي أرادت إيصالها للقارئ قد وصلت من خلال تلك العلاقات المتشابكة، وخاصة العلاقة الأخيرة، والتي يحاول القارئ فيها الربط بين الفتاة وبين الجدة، فكلتاهما تعاتي من خيبات في الحب، ولكن الجدة رغم خيباتها واصلت العزف والغناء، وكانت مثل الشمعة التي تنصهر، وهذا قدر بعض الناس وخاصة الفنانيين، وهؤلاء هم من يثرون الحياة، ويجعلونها ممكنة واكثر احتمالا، وهاهي الفتاة تسير على درب الجدة، وتعلو وتسمو باحزانها، لتكمل المسيرة.
تحية للكاتبة التي قدمت لنا نصا قصصيا، يؤكد على إحساساتها الصوتية العالية، وتناثرت الألوان والأضواء والظلال في جنباته، وبرهافة الأنثى، ونعومتها قدمت لنا نصا فريدا ومتميزا، وشديد الثراء الفني والموضوعي، وأرجو في هذه العجالة أن أكون قد نثرت حوله بعض قطرات الضوء.
....................................................................
وسنواصل القراءة في القصص الفائزة في مسابقة صلاح هلال الحنفي في دورتها ( 21 ) ومنها : ( خرج ولم يعد ) للكاتب السوداني حاتم الأمين داموس، ( صداع العطر ) للكاتبة عزة مصطفى عبدالعال، ( رقاصة ) للكاتب المغربي زهير بوغراوي، ( القليل مني ) للكاتبة السورية رنا كمال العسلي، ( غير قابل للنسيان ) للكاتبة سوسن حمدي محمد محفوظ، ( طفل من المريخ ) للكاتب محمود خالد عبدالجواد