في البدايات، كنت ألتقط مايقع عليه بصري من الأدب المترجم، غالبا ملخصات لأعمال روائية كبرى، أجد كتابا صغيرا مكتوبا على غلافه "البؤساء" لفيكتور هيجو، ثم بعدها بسنوات أعلم أنها رواية ضخمة تقع في خمسة مجلدات كبار عندما أرى ترجمة منير بعلبكي. أقتني آنا كارنينا لتولستوي، غلاف كلاسيكي أنيق معبر عن أحداث الرواية، والفن التشكيلي أثناء طباعة العمل في سلسلة روايات عالمية بمصر، ولكن أكتشف أن الرواية الأصلية تقع في جزأين كبيرين يربوان على ألف وخمسمائة صفحة. وكذلك الحرب والسلام في كتاب صغير بسلسلة روايات الهلال، عليه صورة نابليون بونابرت ممتطيا حصانه. لاتزيد الصفحات عن مائة وستون صفحة. بينما الرواية تقع في أربعة أجزاء متجاوزة الثلاثة ألاف صفحة. أشتري رواية لديستويفسكي من الإصدارات القديمة أيضا. تحمل عنوانا مثيرا: المرابية العجوز. لاتزيد صفحاتها الصغيرة عن مائة وسبعون صفحة. ثم اكتشف بعدها أنها واحدة من أشهر الأعمال الروائية وعنوانها الأصلي هو: الجريمة والعقاب.
كنت شغوفا بالقراءة، ألتهم مايقع بين يدى من الكتب، أعمال كثيرة مما يقدم لنا تخضع لأذواق معينة، ذات تفضيلات إنتقائية غريبة، تخاطب مستهلك عادي، لا قاريء مثقف، لايهمها ضخ أدب عالمي بكامل دقته وحيويته في مجرى نهر الأدب العربي، فهي تفتقر إلى مفهوم التنوير والنهضة. لكن على الجانب الآخر، تجيء لحظة معينة ويضاء لك عالما كنت تحلم بالولوج إليه، ولكن لاتدري من يملك مفاتيحه، وماهى الطرق المؤدية إليه. إنها التحولات التي تتتاب المرء مع رحلة القراءة الدائمة.
تكتشف أن نجيب محفوظ مختلف، وأكثر عمقا، من كثيرين كانت شهرتهم مدوية، يستطيع الاستحواذ على ذائقتك، وتفكيرك لزمن طويل، تصاحب إبداعاته وتتواصل معك في رحلة العمر، وأن ثمة أسماء أخرى أيضا، تستحق الاحتفاظ بأعمالها في مكتبتك، وتستحق استعادة مطالعتها مرات أخرى.
قرأت ديستويفسكي متفرقا، ملخصا، ومشوها، بواسطة أعمال قليلة، لا تعطي انطباعا بأن هناك كاتبا جبارا، غزير الإنتاج، ذا تأثير مزلزل على معظم الكتاب الذين جاءوا بعده، فلا أحد من الكبار غير مدين له بطبقة من وعيه وتميزه.
من حسن الطالع، أن اتيح لي، في فترة مبكرة، الإطلاع على أعماله كاملة، عبر ترجمة رجل من أولي العزم، صاحب رسالة سامية، كان يحيا في هذا العالم متقمصا روح قديس، زاهدا، لايعرف سوى العطاء، إنه المترجم السوري الراحل د. سامي الدروبي، الأكاديمي. والدبلوماسي، والوزير. كانت هذه الطبعة العربية الصادرة في ستينيات القرن المنصرم، مرصوصة بإتقان، بتسلسلها، ثمانية عشر مجلدا، على أرفف مكتبة الإذاعة المصرية، بماسبيرو، كنز حقيقي، وقعت عليه، دونما تخطيط. حينها لم تكن هذه الطبعة متوافرة في أسواق الكتب، ربما تجد جزءا ولا تجد الأخر، خاصة تلك الروايات متعددة الأجزاء. كانت طبعة نادرة، لم تكن الهيئة المصرية العامة للكتاب قد أعادت طباعتها بعد.
في هذا الزمن، بداية الثمانينيات، كان لدى من الوقت مايتيح لي القراءة بشكل يومي، ولساعات طويلة، لذا بدأت من فوري في إستعارة هذه الأعمال، بترتيبها، مجلدا وراء الأخر. أتذكر ألآن هذه الفترة بمتعة بالغة، شبيهة بالمتعة التي كانت تحتويني أثناء القراءة في تلك الأيام. أن تجد نبرة اسلوبية موحدة، وسياق متناغم، يوفرهما لك مترجم قدير، يقوم بمثل هذا العمل الشاق، دون كلل، من أجل إمداد الثقافة العربية بهذه الأعمال الخالدة، دون أن ينظر إلى المردود المالي، أو ينشغل بالربح، فالرجل ميسور الحال، لكنه قبل هذا، ذا نفس غنية، وروح متسام، إنه يريد تكوين مبدع عربي، عبر ضخ هذه الأعمال إلى اللغة العربية، ليتمثلها، ويهضمها، ويضيف إلى قلمه ثراء وزخما، وإن كان عالم هذا الكاتب العظيم، ديستويفسكي تحديدا، قريبا من عالمنا، لكنه يتناوله على نحو مختلف، معتمدا ابتكارات سردية أخرى، وتحليلات سيكولوجية أكثر عمقا. لايستطيع كاتب مواصلة إبداعه على نحو جيد، دون الإطلاع عليها. فقد وصل بفنه إلى الخلود.
هكذا بدأت الرحلة، القراءة المتأنية مع الإثنين: ديستويفسكي بترجمة الدروبي.
كانت الفرنسية، التي يجيدها الدروبي إجادة تامة، هى اللغة الوسيطة التي ينقل عنها. بدأت بالمجلد الأول، كان يحتوي على ثلاثة أعمال: الفقراء، المثل، قلب ضعيف..
كان ديستويفسكي في السادسة والعشرين عندما كتب روايته الأولى الخالدة: الفقراء، التي يسرت له التواجد بقوة في قلب مجتمع الأدباء الروس، واتاحت له شهرة كبيرة عندما زكاها الناقد الروسي الأشهر بيلينسكي، مثنيا عليها بعد قرائتها في ليلة باكية. وقد أذهله أن يجد نفسه أمام شاب صغير، عندما استقبله للمرة الاولى.
البكاء الحار، عندما تطالع هذه الرواية حدث مع النقاد الروس، وحدث معي، وأكيد حدث معك، ومع كل من قرأها في أى لغة، فهى عمل مأساوي، حزين، تابعت أحداثه بدموعي، وانا اتابع خطابات ماكار الكسييفتش وفارفارا إلكسييفنا المتبادلة، وهما يبوحان بكل مايمكن تصوره من آلام وعذابات، وقهر إنساني جارح، عبر تقنية الرسائل، وهى الشكل الذي فضله ديستويفسكي في هذا العمل، مبتعدا عن الشكل الكلاسيكي للرواية. لا أعتقد أن أعمالا كثيرة كتبت على هذا النحو من قبل، ربما كانت آلام فيرتر للألماني يوهان جوته والتي كتبت في القرن الثامن عشر، ملهمة له في استخدام هذا الشكل الفريد. فهى أيضا رواية العذاب والجراح الإنسانية العميقة، غير القابلة للبرء. كتبها الشاعر الكبير وهو في العمر نفسه. ستة وعشرون عاما تقريبا.
في "الفقراء" تحديدا، تجمعت كل العناصر التي سيعمل عليها ديستويفسكي لاحقا: التعاسة، الألم، التحطم، البؤس، انعدام الأمل، الإيمان، الإلحاد، البروليتاريا..
الرسائل بوح حميم واعترافات صادقة، مونولوجات متبادلة، تصنع في النهاية حوارات دافئة. ديالوجا لشخصين تركا الحياة وتفرغا لحب نادر، ملتمسين طمأنينة مفتقدة، للحماية من عالم شديد القسوة.
بدت هذه الرواية تحديدا، كخميرة للأعمال اللاحقة، التي غزت الأدب الروسي ثم الأدب العالمي كعلامات فارقة. إنها كتابات رجل معتل الصحة، مريض أبدي، يعاني جراح روحية لاتندمل. لقد حفر عميقا في النفس الإنسانية، مسكونا بحس تراجيدي مجسم، حتى وصل إلى أغوار سحيقة، أجهدت كل من جاء بعده، فهو، في الحقيقة، رجل معذب، ذاق صنوف الألم، العوز، الصرع، مقتل الأب، السجن بديلا عن الإعدام، تجارب كفيلة بالقضاء على أى إنسان، ولكنها حولته إلى كاتب نافذ البصيرة، يقرأ نفسه بنفسه أولا، كأنه يحيا محنة دائمة، متأرجحا بين المتناقضات: الخير والشر، الإيمان والإلحاد، التمرد والخنوع..إلخ. حتى صار خبيرا بالمشاعر والإنفعالات الإنسانية المختلفة، ساعيا وراء الأفكار الكبرى، ليستجلي النفس البشرية، متقصيا وقائع الحياة، عملا بعد أخر، مخترقا أعقد القضايا، مستبطنا انفعالات أبطاله، عن طريق نزوعه السيكولوجي الذي برع فيه على نحو مذهل، مايجعل القاريء يخلط بينه وبين أبطاله أحيانا. إنه يعترف: " أنا أكتب محموما، في جو من العذاب والقلق، فإذا ما أجهدت أصبحت جسما محطما". كاتب دينامي يكتب بعصبية، مشفقا على أبطاله، يسطر بدموعه في كثير من الأحيان، متمثلا الأحداث، ومستغرقا في مآسيها اللعينة التي ينسجها بإتقان، مضخما الوقائع ليتيح الحركة لشخصيات معقدة، تجرجر قدميها نحو مصائر مأساوية.
تتوالى الروائع الخالدة، عشرة نصوص قصيرة بالمجلد الثاني، قرية. ستيبانتشيكو وسكانها، وحلم العم في المجلد الثالث..ثم مذلون مهانون، خامسا ذكريات من منزل الموتى..تواصل المتابعة حتي تصل إلى الجريمة والعقاب في جزأين الثامن والتاسع، حتى تلتقي الأخوة كارامازوف بالمجلدات الثلاثة الأخيرة، السادس عشر، السابع عشر، الثامن عشر. دون أن تنسى مرورك على الأبله والشياطين والمراهق، كل رواية منهم تنفرد بجزأين كاملين.
كان الأمر أشبه بالعثور على خبيئة، لكنها أشبه بصندوق "بندورا" الشهير، ملئ بكل شرور العالم وقساوته، لكن عزاؤنا إنه يحتوي في قاعه على وميض الأمل.
كان التعاطف والتضامن مرادفا للقراءة أمام هذه المعاناة البشرية، التي بدت لي وكأني أعاين موسوعة للعذاب الإنساني، والذوات المنهكة، تألمت، وكدت أصاب بالإحباط، وأنا أتابع رجل يتعامل مع الحياة كجحيم أرضي مستعر، يحرق في أتونه الضعفاء، والمساكين، ربما كتبت لهم النجاة في الآخرة، بعد مرحلة التطهير الناري، شديد القسوة. رغم تأرجحه الديني، لكن روحا مسيحية، وإيمان لاهوتي، يرقدان بعيدا، في أعماقه، من السهل إكتشافهما.
أعترف: سرت عدوى هذه الآلام في داخلي، متسللة إلى بعض نصوصي التي كتبتها تحت هذا التأثير الفادح، حينما كنت أكتب نصوص مجموعة" مجموعة شخص حزين يستطيع الضحك". كلما عدت إليها، أجد نبرة الآسى غالبة، أجد مرثيات حزينة لبشر محطمين، وكائنات منهكة. كنت أكتب تحت سطوة هذه التأثيرات المهلكة لكاتب يستحوذ على المرء كليا إذا تفرغ لقراءته، فهو لن يتركه سوى في حالة من اثنتين: إما كاتب وإما حطام.
بالتأكيد، كانت رحلة مثيرة، اصطحبنا إلى دروبها الشائكة والممتعة، رجل فاضل حقا، يستحق التكريم في كل أقطار الوطن العربي، كان الدكتور سامي الدروبي، المترجم العظيم الذي وهب عمره للفكر والثقافة والإبداع الرفيع، يعمل بجدية لافتة، في سباق مع الزمن، وفي خاطره مواطن عربي يستحق حياة أفضل، لقد ترك حوالي ثمانون مجلدا مترجما. ليس ديستويفسكي فقط، هناك أيضا العظماء الروس الكبار تولستوي. وليرمنتوف. وتورجنيف والفيلسوف الفرنسي هنري برجسون. والكاتب اليوغسلافي إيفو أندرتش. وآخرين. الذكريات. لامعلومات كافية عنهءسطور قليلة مكرورة هنا وهناك. لكن في النهاية نحن مدينون لهذا القديس الذي آثر العزلة، لاهروبا، أو ضجرا من الحياة، بل من أجلنا نحن قراء العربية.
وأذكر فضله هنا وأنا أستعيد حديث للكاتب الراحل إبراهيم أصلان، وهو يقول أنه في بداية حياته نصحه أحد الكتاب الكبار قائلا: إذا قرأت أعمال ديستويفسكي الكاملة،ثم قرأت كتابين عنه ستصبح كاتبا.
صابر رشدي
كنت شغوفا بالقراءة، ألتهم مايقع بين يدى من الكتب، أعمال كثيرة مما يقدم لنا تخضع لأذواق معينة، ذات تفضيلات إنتقائية غريبة، تخاطب مستهلك عادي، لا قاريء مثقف، لايهمها ضخ أدب عالمي بكامل دقته وحيويته في مجرى نهر الأدب العربي، فهي تفتقر إلى مفهوم التنوير والنهضة. لكن على الجانب الآخر، تجيء لحظة معينة ويضاء لك عالما كنت تحلم بالولوج إليه، ولكن لاتدري من يملك مفاتيحه، وماهى الطرق المؤدية إليه. إنها التحولات التي تتتاب المرء مع رحلة القراءة الدائمة.
تكتشف أن نجيب محفوظ مختلف، وأكثر عمقا، من كثيرين كانت شهرتهم مدوية، يستطيع الاستحواذ على ذائقتك، وتفكيرك لزمن طويل، تصاحب إبداعاته وتتواصل معك في رحلة العمر، وأن ثمة أسماء أخرى أيضا، تستحق الاحتفاظ بأعمالها في مكتبتك، وتستحق استعادة مطالعتها مرات أخرى.
قرأت ديستويفسكي متفرقا، ملخصا، ومشوها، بواسطة أعمال قليلة، لا تعطي انطباعا بأن هناك كاتبا جبارا، غزير الإنتاج، ذا تأثير مزلزل على معظم الكتاب الذين جاءوا بعده، فلا أحد من الكبار غير مدين له بطبقة من وعيه وتميزه.
من حسن الطالع، أن اتيح لي، في فترة مبكرة، الإطلاع على أعماله كاملة، عبر ترجمة رجل من أولي العزم، صاحب رسالة سامية، كان يحيا في هذا العالم متقمصا روح قديس، زاهدا، لايعرف سوى العطاء، إنه المترجم السوري الراحل د. سامي الدروبي، الأكاديمي. والدبلوماسي، والوزير. كانت هذه الطبعة العربية الصادرة في ستينيات القرن المنصرم، مرصوصة بإتقان، بتسلسلها، ثمانية عشر مجلدا، على أرفف مكتبة الإذاعة المصرية، بماسبيرو، كنز حقيقي، وقعت عليه، دونما تخطيط. حينها لم تكن هذه الطبعة متوافرة في أسواق الكتب، ربما تجد جزءا ولا تجد الأخر، خاصة تلك الروايات متعددة الأجزاء. كانت طبعة نادرة، لم تكن الهيئة المصرية العامة للكتاب قد أعادت طباعتها بعد.
في هذا الزمن، بداية الثمانينيات، كان لدى من الوقت مايتيح لي القراءة بشكل يومي، ولساعات طويلة، لذا بدأت من فوري في إستعارة هذه الأعمال، بترتيبها، مجلدا وراء الأخر. أتذكر ألآن هذه الفترة بمتعة بالغة، شبيهة بالمتعة التي كانت تحتويني أثناء القراءة في تلك الأيام. أن تجد نبرة اسلوبية موحدة، وسياق متناغم، يوفرهما لك مترجم قدير، يقوم بمثل هذا العمل الشاق، دون كلل، من أجل إمداد الثقافة العربية بهذه الأعمال الخالدة، دون أن ينظر إلى المردود المالي، أو ينشغل بالربح، فالرجل ميسور الحال، لكنه قبل هذا، ذا نفس غنية، وروح متسام، إنه يريد تكوين مبدع عربي، عبر ضخ هذه الأعمال إلى اللغة العربية، ليتمثلها، ويهضمها، ويضيف إلى قلمه ثراء وزخما، وإن كان عالم هذا الكاتب العظيم، ديستويفسكي تحديدا، قريبا من عالمنا، لكنه يتناوله على نحو مختلف، معتمدا ابتكارات سردية أخرى، وتحليلات سيكولوجية أكثر عمقا. لايستطيع كاتب مواصلة إبداعه على نحو جيد، دون الإطلاع عليها. فقد وصل بفنه إلى الخلود.
هكذا بدأت الرحلة، القراءة المتأنية مع الإثنين: ديستويفسكي بترجمة الدروبي.
كانت الفرنسية، التي يجيدها الدروبي إجادة تامة، هى اللغة الوسيطة التي ينقل عنها. بدأت بالمجلد الأول، كان يحتوي على ثلاثة أعمال: الفقراء، المثل، قلب ضعيف..
كان ديستويفسكي في السادسة والعشرين عندما كتب روايته الأولى الخالدة: الفقراء، التي يسرت له التواجد بقوة في قلب مجتمع الأدباء الروس، واتاحت له شهرة كبيرة عندما زكاها الناقد الروسي الأشهر بيلينسكي، مثنيا عليها بعد قرائتها في ليلة باكية. وقد أذهله أن يجد نفسه أمام شاب صغير، عندما استقبله للمرة الاولى.
البكاء الحار، عندما تطالع هذه الرواية حدث مع النقاد الروس، وحدث معي، وأكيد حدث معك، ومع كل من قرأها في أى لغة، فهى عمل مأساوي، حزين، تابعت أحداثه بدموعي، وانا اتابع خطابات ماكار الكسييفتش وفارفارا إلكسييفنا المتبادلة، وهما يبوحان بكل مايمكن تصوره من آلام وعذابات، وقهر إنساني جارح، عبر تقنية الرسائل، وهى الشكل الذي فضله ديستويفسكي في هذا العمل، مبتعدا عن الشكل الكلاسيكي للرواية. لا أعتقد أن أعمالا كثيرة كتبت على هذا النحو من قبل، ربما كانت آلام فيرتر للألماني يوهان جوته والتي كتبت في القرن الثامن عشر، ملهمة له في استخدام هذا الشكل الفريد. فهى أيضا رواية العذاب والجراح الإنسانية العميقة، غير القابلة للبرء. كتبها الشاعر الكبير وهو في العمر نفسه. ستة وعشرون عاما تقريبا.
في "الفقراء" تحديدا، تجمعت كل العناصر التي سيعمل عليها ديستويفسكي لاحقا: التعاسة، الألم، التحطم، البؤس، انعدام الأمل، الإيمان، الإلحاد، البروليتاريا..
الرسائل بوح حميم واعترافات صادقة، مونولوجات متبادلة، تصنع في النهاية حوارات دافئة. ديالوجا لشخصين تركا الحياة وتفرغا لحب نادر، ملتمسين طمأنينة مفتقدة، للحماية من عالم شديد القسوة.
بدت هذه الرواية تحديدا، كخميرة للأعمال اللاحقة، التي غزت الأدب الروسي ثم الأدب العالمي كعلامات فارقة. إنها كتابات رجل معتل الصحة، مريض أبدي، يعاني جراح روحية لاتندمل. لقد حفر عميقا في النفس الإنسانية، مسكونا بحس تراجيدي مجسم، حتى وصل إلى أغوار سحيقة، أجهدت كل من جاء بعده، فهو، في الحقيقة، رجل معذب، ذاق صنوف الألم، العوز، الصرع، مقتل الأب، السجن بديلا عن الإعدام، تجارب كفيلة بالقضاء على أى إنسان، ولكنها حولته إلى كاتب نافذ البصيرة، يقرأ نفسه بنفسه أولا، كأنه يحيا محنة دائمة، متأرجحا بين المتناقضات: الخير والشر، الإيمان والإلحاد، التمرد والخنوع..إلخ. حتى صار خبيرا بالمشاعر والإنفعالات الإنسانية المختلفة، ساعيا وراء الأفكار الكبرى، ليستجلي النفس البشرية، متقصيا وقائع الحياة، عملا بعد أخر، مخترقا أعقد القضايا، مستبطنا انفعالات أبطاله، عن طريق نزوعه السيكولوجي الذي برع فيه على نحو مذهل، مايجعل القاريء يخلط بينه وبين أبطاله أحيانا. إنه يعترف: " أنا أكتب محموما، في جو من العذاب والقلق، فإذا ما أجهدت أصبحت جسما محطما". كاتب دينامي يكتب بعصبية، مشفقا على أبطاله، يسطر بدموعه في كثير من الأحيان، متمثلا الأحداث، ومستغرقا في مآسيها اللعينة التي ينسجها بإتقان، مضخما الوقائع ليتيح الحركة لشخصيات معقدة، تجرجر قدميها نحو مصائر مأساوية.
تتوالى الروائع الخالدة، عشرة نصوص قصيرة بالمجلد الثاني، قرية. ستيبانتشيكو وسكانها، وحلم العم في المجلد الثالث..ثم مذلون مهانون، خامسا ذكريات من منزل الموتى..تواصل المتابعة حتي تصل إلى الجريمة والعقاب في جزأين الثامن والتاسع، حتى تلتقي الأخوة كارامازوف بالمجلدات الثلاثة الأخيرة، السادس عشر، السابع عشر، الثامن عشر. دون أن تنسى مرورك على الأبله والشياطين والمراهق، كل رواية منهم تنفرد بجزأين كاملين.
كان الأمر أشبه بالعثور على خبيئة، لكنها أشبه بصندوق "بندورا" الشهير، ملئ بكل شرور العالم وقساوته، لكن عزاؤنا إنه يحتوي في قاعه على وميض الأمل.
كان التعاطف والتضامن مرادفا للقراءة أمام هذه المعاناة البشرية، التي بدت لي وكأني أعاين موسوعة للعذاب الإنساني، والذوات المنهكة، تألمت، وكدت أصاب بالإحباط، وأنا أتابع رجل يتعامل مع الحياة كجحيم أرضي مستعر، يحرق في أتونه الضعفاء، والمساكين، ربما كتبت لهم النجاة في الآخرة، بعد مرحلة التطهير الناري، شديد القسوة. رغم تأرجحه الديني، لكن روحا مسيحية، وإيمان لاهوتي، يرقدان بعيدا، في أعماقه، من السهل إكتشافهما.
أعترف: سرت عدوى هذه الآلام في داخلي، متسللة إلى بعض نصوصي التي كتبتها تحت هذا التأثير الفادح، حينما كنت أكتب نصوص مجموعة" مجموعة شخص حزين يستطيع الضحك". كلما عدت إليها، أجد نبرة الآسى غالبة، أجد مرثيات حزينة لبشر محطمين، وكائنات منهكة. كنت أكتب تحت سطوة هذه التأثيرات المهلكة لكاتب يستحوذ على المرء كليا إذا تفرغ لقراءته، فهو لن يتركه سوى في حالة من اثنتين: إما كاتب وإما حطام.
بالتأكيد، كانت رحلة مثيرة، اصطحبنا إلى دروبها الشائكة والممتعة، رجل فاضل حقا، يستحق التكريم في كل أقطار الوطن العربي، كان الدكتور سامي الدروبي، المترجم العظيم الذي وهب عمره للفكر والثقافة والإبداع الرفيع، يعمل بجدية لافتة، في سباق مع الزمن، وفي خاطره مواطن عربي يستحق حياة أفضل، لقد ترك حوالي ثمانون مجلدا مترجما. ليس ديستويفسكي فقط، هناك أيضا العظماء الروس الكبار تولستوي. وليرمنتوف. وتورجنيف والفيلسوف الفرنسي هنري برجسون. والكاتب اليوغسلافي إيفو أندرتش. وآخرين. الذكريات. لامعلومات كافية عنهءسطور قليلة مكرورة هنا وهناك. لكن في النهاية نحن مدينون لهذا القديس الذي آثر العزلة، لاهروبا، أو ضجرا من الحياة، بل من أجلنا نحن قراء العربية.
وأذكر فضله هنا وأنا أستعيد حديث للكاتب الراحل إبراهيم أصلان، وهو يقول أنه في بداية حياته نصحه أحد الكتاب الكبار قائلا: إذا قرأت أعمال ديستويفسكي الكاملة،ثم قرأت كتابين عنه ستصبح كاتبا.
صابر رشدي