كيف انفتق ذاك الفتق الوسيع في نسيج الذاكرة الممتدة فخرجت منه كل هذه المخدات مخدة إثر أخري ، كما لو كانت محشورة حشراً ومكدسة تكديساً عنيفاً داخل هذا النسيج وكان ماو فعله القط “سني” لم يكن إلا خمشاً ليس إلا فتمزق الخيط اللاضم لتلك الغلالة الرهيفة التي قبعت بداخلها كل هذه المخدات ، رغم أ “سني” نفسه لم يكن إلا نتيجة هذه اللعبة التي لا نمل تكرارها دائماً حتي تدفع بعيداً بذلك الملل الرهيب الجائم علي حياتنا وقد صارت رغماً عنا بتلك الجزيرة التي كانت وما زالت بيزنطية الروح والملامح، بعد أن لفظتنا مدننا المستباحة القاسية ، مدينة إثر أخري ، كنا نذهب بين الحين والحين إلي أولومبيا السمسارة وتقول لها : عاوزين شقة مناسبة لمستر أبي علي ، وبعد يوم أو يومين تتصل بنا أولومبيا وتقول : تعالوا شوفوا شقة مستر أبو علي ، فنذهب ثلاثتنا : زوجي وأبو علي وأنا إلي مكتبها الواقع في منطقة انجومي ، التي هي قرية استيقظت ذات صباح لتجد نفسها في أحضان المدينة ، أولومبيا تدعونا إلي شرب قهوة تركية ، لكننا نعترض ونقول لها : لا .. لا … القهوة عربية ، ولأن أبا علي كان من القوميين العرب ذات يوم ، وناصرياً لا حل له ، فإنه كان يحرص علي إفهام أولومبيا أن البن كان يزرع في اليمن أصلاً قبل زراعته في أي مكان آخر أو كيف اكتشفت الماعز البن باليمن عندما لاحظ الرعاة مزاج الماعز آكلة البن ونشاطها الغامر بعد وجبة أو وجبتين منه ، وكنا بعد القهوة وتصحيح معلومات أولومبيا نذهب للدور علي الشقق نتفرج علي واحدة واثنتين وثلاث ، ثم نقول لها : لا … لا يا أولومبيا : مع الأسف الشقة واسعة وكبيرة وغالية علي أبي علي ، أو أن الشقة بعيدة عن وسط البلد ، , وأبو علي عاوز واحدة قريبة من قلب الأحداث – كنا نسخر كثيراً من ندرة الأحداث بالجزيرة – وعندما لا نجد شيئاً نقوله ، كان أبو علي يحلها بهدء ، يهز كنفيه ويرسم علامة التأفف بشفتيه ثم يقول : ريحها ثقيلة . أولومبيا لا تيأس منا ابداً ، ونحن حريصون علي اللعب ، لذلك ما أن هاتفني في صباح ذلك الخريف المشمس نادر الحدوث بالجزيرة وأنبأتني عن وجود شقة مناسبة لأبي علي ، حتي أيقظت زوجي بسرعة فأيقظ أبا علي بدوره وأرتدينا ملابسنا بسرعة أطفال ذاهبين إلي حديقة الحيوان ، وقد قررنا أكل أي سندوتش في السكة عند كرياكو ، لنذهب بعد ذلك إلي أولومبيا في مكتبها كنا في ظاهر الأمر نتصنع نوعاً من الجدية والاهتمام للحصول علي شقة للرجل ، لكن في الحقيقة ، كانت بداخل كل منا رغبة عميقفة في أن يبقي الوضع علي ما هو عليه ، فمنذ أن حل أبو علي في الجزيرة وهو يقيم كضيف عندنا ريثما يجد سكناً مناسباً له ، وكنا مستأنسين جميعاً ببعضنا البعض ، بالأحري كنا نحاول التشبث بوجودنا معاً ، وكان ثلاثتنا أثنان هما جليفر وجمعة في الحكاية الشهيرة رغم أننا لم نكن أناساً خارجين من خرافة تحطمت مركبهم وألقت بهم الأقدار في جزيرة مجهولة بعرض البحر ، بل كنا مقذوفين إلي شط نجمة الهلال الخصيب من الشط البيروتي القريب ، وقد دفعتنا دفعاً حمم الحرب ونيرانها وأوساخ السياسة وشناعة الأنظمة المهنجة بالسماسرة والعسكر ، الذين باعوا وسلموا كل شئ ووزعوا العمل بينهم وبين الشعارتية من كل نوع ابتداء من رافعي رايات الأحمر القاني وحتي حاملي أعلام السواد من أهل العباءات والعمم ، وهكذا وجدنا أنفسنا ذات يوم عل يمتن سفينة شحن خرجت بنا من طرابلس لبنان بقيادة ريان اسمه الكابتن روبين نسف كل تصوراتي الحالمة عن ربانية السفن في الأفلام السينمائية وهم يقبلون حبيباتهم تحت أنصاري علي خلفية من زرقة البحر ونوارس بيضاء ترفرف عالياً ، معلنة عن اقتراب الشط ، وقد منحت روبين من مخيلتي : يداً حديدية بخطاف عوضاً عن يده اليسري وعصابة سوداء علي عينه المفقوءة وفقاً لمشيئتي فاكتملت صورته وظلت مطبوعة في ذاكرتي بعد ذلك ، بجسده البدين وهو يرتدي السروال القصير ويلطم بكفه الضخم بحاراً شاباًُ لم يحول الدفة في الوقت المناسب كما أمره روبين . استقبلتنا السيدة كرياكو بشعرها الشمسي المتوهج بأكسيد النحاس وحاجبيها الأسودين اللذين يذكراني كلما رفعتهما لتتكلم بأنتوني كوين ، وراحت تعد لنا ثلاثة ساندوتشات أو شاطر ومشطور وبينهما طازج من نساير ورك الديك الرومي علي أرضية من ورق الخس وشرائح الطماطم ، أكلنا بسرعة حتي نوافي أولومبيا في الموعد عند العاشرة والنصف . فرجتنا إلهة الأولمب علي الشقة كانت لا تبعد كثيراً عن سور البلد القديم الفاصل بين المنطقة اليونانية ومناطق الجيش التركي ، كانت صغيرة ، متميزة الذوق في معمارها ، نظيفة بحرية سعرها معقول ، وبها كل المواصفات التي كنا نطلبها من أولومبيا دوما ، بدت المرأة مرتاحة أو شبه منتصرة ، ربما لأنه بد علينا وكأننا تورطنا وأسقط في يدنا كما يقال ، فلا عذر ولا حجة لنا في عدم قبول الشقة وقد خلت من كل عيوب الشقق السابقة التي أعلناها لأولومبيا ، لكن سرعان ما خاب ظنها بعد أن أطل أبو علي من شباك غرفة النوم الرئيسية ثم قال : – ياه … مستحيل . تحركنا زوجي وأنا ، ونظرنا إلي حيث نظر ، ثم صحنا في صوت واحد : – فعلاً … مستحيل . كانت الشقة تطل علي الفناء الخلفي لكنيسة حيث نبتت من الأرض مجموعة صلبان حجرية فوق بلاطات رخامية سوداء وبيضاء لمقابر تناثرت عليها زهور جافة صفراء وزرقاء وبنفسجية . وأخري حمراء بدت علي البعد زاهية وكأنها وضعت منذ يوم أو يومين علي الأكثر اقتربت أولومبيا قليلاً من النافذة ونظرت ، تراجعت دون أن تقول شيئاً وشعرنا وكأنها ظنت أن مبعث رفضنا هو أننا مسلمون لا نرغب في أن تطالعنا كل يوم كنيسة ومقبرة يصلبان ابتسما لبعضنا البعض بخبث ثم قال لها أبو علي بإنجليزيته الممتازة التي اكتسبها أيام العزحين كان يدرس في جامعة أكسفورد: – إيه … هل هناك شقة أخري يا عزيزتي ؟ – لا … سوف أري بعد ذلك وأتصل بك .. كنا لا نعرف أن أولومبيا لن تمل البحث عن شقة لأبي علي ، ليس فقط بسبب مهنتها والتكسب ، ولكن لأننا نظن : زوجي وأنا أنها تميل إليه بعض الشئ فذلك العجوز الذي أوشك علي الدخول في الستين ، كان لا يزال يحتفظ بوسامة قديمة وكاريزما جاذبة لكثير من النساء اللواتي يلتقيهن . عدنا لنركب سيارته البويك القديمة التي جئنا بها إلي أولومبيا والتي كان قد أستأجرها منذ وقت قريب من مكتب تأجير سيارات ، وكنت قد بدأت أفتح الباب لأجلس علي المقعد الأمامي إلي جانبه ، عندما سمعت من المنزل المقابل المكلل الإفريز العلوي لبوابته بتاج ضخم من زهور الفتلة البيضاء الرائعة . – سني .. سني . حدقت في المنزل لأتبين صاحبة الصوت ، لكني رأيت قطاً ممتلئاً يخرج من بوابة البيت الموارية ، وكأنه استعار شعر زوجة كرياكو علي جسده وهو يتهادي عابراً الطريق الضيق الفارغ تقريباً عند ذلك الصباح الشتوي ويتقدم باتجاهنا حتي اقترب من باب السيارة الذي لم أكن قد أغلقته بعد دخولي إليها همست بتلقائية واندفاع يهيمنان علي كلما رأيت كائناً من تلك العائلة الأسدية المستأنسة . – بس بس .. بس بس .. سني سني . سارع القط من خطوته ، وبقفزة واحدة فاجأتني ، وجدته وقد استقر في حجري وأنا جالسة داخل السيارة . ضحكت وقد دغدغتني مخدات أقدامه الطرية اللينة وهي تلامس جسدي ، رحت أمسح علي رأسه وأمسد شعره بفرح ، إذ بدا لي ظريفاً أليفاً ، ثم قلت : – غريب خالص ، وطبعه مختلف عن طباع القطط . رغم ذلك كنت أشعر بداخلي بنوع من الريبة الغامضة فصاحبته قد نادته لكنهتجاهل نداءها ، بينما تسارع بالقفز في حجري لمجرد أن همست له باسمه ، كدت أدفع به بعيداً عني ، خارج السيارة ، لكن أبو علي بدأ يدير محرك السيارة تأهباً للسير والقط بدأ يكوم نفسه علي هيئة كعكة مشتعلة بالأحمر في حجري ويغمض عينيه ، وكأنه يرقد مستأنساً بفراشه المعتاد . أعلنت بهدوء : – سنأخذه معنا . صاح زوجي بسرعة : – يعني نسرقه ، صاحبته نادت عليه وأنت سمعت بنفسك . رددت : – لكنه لم يعبرها ونط عندنا . – ياسلام ! رد زوجي ساخراً . حسم أبوعلي الأمر ، إذ كان قد بدأ يتحرك بالسياة مبتعداً عن المكان دون تعليق ، كنت أعرف أنه وجد حكاية جديدة سوف ننشغل بها لبعض الوقت دافعين عن أنفسنا الملل اليومي المعتاد الذي نوزعه بين التسكع في الشوارع بالسيارة ولعب ، الشطرنج طوال ساعات ، ثم القراءة والفرجة علي التليفزيون – مرة أو مرتين ربما، كنا قد اشتركنا في مظاهرات صاخبة ضد حزب الديمقراطية الجديدة وهو حزب يميني فاشي -، وربما كان شعوره أن حكاية الشقة أوشكت أن تكون مملة بدورها ، صاح زوجي بضيق : – كيف نحطه في الشقة ونلم وسخه ، ثم أن البراغيث ستغرقنا بسببه ؟! – ولا يهمك . قلت : ثم واصلت : – سأشتري له طوق براغيث ، وأحل مشاكل وساخنة ، والله يظهر أنه ظريف ودمه خفيف ، نطق بو علي أخيراً وهو يتجاوز سيارة رولز حديثة تقودها حسناء تعتبر من النوادر في هذه الجزيرة : – لكن واضح أن سني زهقان من صاحبته ، لأنه هرب عند أول فرصة أتيحت له ، وتركها وخرج : قال زوجي بسرعة : – كأنه كان زوجها ومطلعة دينه . ضحك الرجلان ، ورمقت زوجي بينما أزم أنفي وأخرج لساني تعليقاً علي دعابته وسرنا في اتجاه البيت . طوال الشهور التي تلت ذلك بدا سني قطاً عادياً تماماً يأكل وينام مهذب لا يسرق لا يخرب أي شئ أثناء لعبه ، ربما مد يده مرة أو مرتين أثناء لعبنا الشطرنج ، مدحرجاً لقطعة بعيداً عن الرقعة أو خاطفاً لبيدق بأسنانه في محاولة يائسة لافتراسه. زوجي اعتبره قطاً بليداً أضاف لمللنا مللاً في هذه الجزيرة أبوعهلي رأيه أنه قط عاطل عن كل جاذبيه تتمتع بها القطط عادة ، وكنت أظن أنهما متعتنا تجاهه ، وربما اهتميم به يثير بداخلهما شيئاً ما ضده ، وربما كان سلوكه الأول معني يقف وراء عدم قبولهما له في الحقيقة اعتراضي علي سني الذي لم أصرح لهما به ، أبداً كان لونه فقط فأنا كنت أفضل أن يكون أسود ويا حبذا لو كان رمادياً مخططاً بالرصاص عموماً سارت حياتنا مع سني حتي ذلك اليوم الشتوي البارد جداً . والذي أعقب عدة أيام ممطرة وكانت الأرض قد تغطت بطبقة خفية من الجليد بعد انخفاض الحرارة وتراجعها عدة درجات تحت الصفر ، وذات مساء لم يعد البرد محتملاً رغم وجود تدفئة مركزية بالمنزل ، وكان أبو علي قد ذهب لزيارة صديق قديم له وفد علي الجزيرة في الصباح وقرر أن يبيت عنده بالفندق فهو لا يرغب الخروج مرة أخري في البرد ، وهكذا قبعنا زوجي وأنا في الفراش مبكرين نقرأ حيناً ، ونشاهد التليفزيون حيناً آخر وإلي جانبنا سني يلتمس الدفء مثلنا ويهر ، حتي بدأ يهيمن علينا النعاس ، فقال زوجي : – أنزلي القط من علي السرير وخليه ينام علي السجادة بالأرض ، لأن نفسه مصر وصوته خرم أذني . قلت : – لا .. حرام خليه ينام عند الرجلين لأن الليلة بردها شديد جداً . – لا . خليه في الأرض أفضل ، قال . كان النعاس قد هزمني تماماً ، فلم أقو علي مزيد من الجدل فأزحت القط بصعوبة إلي الأرض وطلبت منه بصوت ضاع في برزخ السبات : – نام عندك ياسني .. وإياك تطلع لفوق . يبدو أن القط امتثل لطلبي وقتاً طويلاً ، ربما حتي يتيقن من نومنا تماماً لأني أفقت بينما كنت أنقلب لأجده إلي جانب رأسي علي المخدة فأمرته بغيظ : – سني . خليك تحت وغياك تطلع هنا ، فأهم ؟ ثم سحبته إلي الأرض مرة ثانية لم تمر دقيقة أخري إلا وقفز إلي السرير ، لكنه قبع هذه المرة عند الرجلين في نهاية الفراش وهو يموء مستعطفاً بصوت خفيض فقلت لنفسي لا بأس ، وتركته ينام ونمت بعد أن انزلقت بكاملي تحت الاغطية ألوذ بها من برد لا يطاق ، لا أعرف كم من الوقت مضي وأنا نائمة ، لكني صحيت علي صياح زوجي وهو يزعق : – زفت . . الزفت سني لازم يطلع بره ، معقول يعني ينام فوق دماغي علي المخدة . – كانت لزوجي موهبة فذة تتخلص في قدرته النادرة علي الكلام فور أن يفيق من اليوم وكأنه لم يكن نائماً قبل ذلك أبداً . – تحت عيني ، كان سني فارشاً جسده علي مخدتي وجانب من مخدة زوجي ويهر برصنا علي المخدة لألقي به خارج الحجرة ثم أغلق بابها وأعود لأندس تحت الاغطية دون أن أنطق كلمة واحدة . حاولت النوم بعد ذلك لكني لم أفلح ، إذ أخذ سني يموء متوسلاً من وراء الباب وكأنه رضيع افتقد صدر امه قاومت جاذبية نداءاته مراراً وأنا أقول لروحي لا والله عنده كاريزما .. ثم أخذني النوم في بحوره الغامضة مرة أخري أفقت في الصباح التالي علي ضوء خفيف من شمس بخيلة وجدت سني في الممر فور أن نهضت وفتح الباب ، كان نائماً بالقرب من باب الحجرة في الممر وداعبته . – سني .. صباح الخير يا سني . لم يحرك بوقي أذنيه في اتجاه صوتي أو يفتح عينيه نصف فتحة ، مثلما يفعل عندما يكون راقداً فتركته لأمضي إلي الحمام لكني وبينما أغلق الباب رأيته يفتح عينيه بخبث ويغمضهما سريعاً بينما يمد يده الأمامية قليلاً علي الأرض . خرجت من الحامم وسارعت بإعداد الإفطار ، لأن زوجي سيذهب إلي المطار في لارنكا لاستقبال صديق قديم ، لفظته مدينة عربية مجدداً بسبب نشاطه السياسي وقذفت به إلي هنا لم أنس وضع الحليب لسني في وعائه بالمطبخ ناديته كلنه ظل قابعاً في مكانه بالممر دون أن يجاوبني أيقظت زوجي ودخلنا المطبخ لنفطر واثناء جمعي للصحون من علي الطاولة بعد أن انتهينا ودخل زوجي إلي حجرة النوم ليغير ملابسه ، سمعته يصيح بعنف : – تعالي … تعال بسرعة ، شوفي الوسخ سني تركت ما بيدي وجريت بسرعة إلي حجرة النوم ، كان زوجي واقفاً حاملاً مخدتي بطرف يده ، ناظراً إليها بتقزز كانت مبللة كلها تقريباً بلون أصفر فاتح صرخت بدوري . – يا خبر أسود .. مخدتي . رد زوجي بسخرية وهو يهز المخدة بيده : – علي مخدتك عملها وعلي كيسها القزقيزي يا مدام . وقفت مبهوتة أنظر إلي المخدة وكيسها الحريري وقد تلوثت ورداته زهرية اللون بما فعله عليه سني ، شعرت بحنق شديد عليه ، بالأحري شعرت بإهانة بالغة من فعلته الشنيعة وأنا أردد لنفسي : – يبول علي مخدتي ، مطرح ما أحط دماغي وأنام .. الجبان . ثم أني طرت خارجة من الحجرة وأنا أزعق : – آه يا كلب ، طيب ، والله ما أنت قاعد في البيت لحظة واحدة بعد عملتك السودا.. طيب .. أخذت أبحث عنه تحت الكراسي وفي كل مكان بالبيت بينما صوت زوجي يلاحقني ساخراً وهو يقلد الرجل الذي كنا قد اشترينا منه الأكياس الحريرية للوسائد من جناح الاتحاد السوفيتي في المعرض الصناعي الدولي بنيقوسيا وهو يقول بعربية فصيحة عتيقة : – إنها صناعة يدوية من القز القزاقيزي الفاخر وممتازة جداً ، وروسمتها كلاسكية تعود إلي القرن السابع عشر . كانت أكياس جميلة بالفعل ورسوماتها المطرزة بخيوط الحرير بالغة الرقة فاشتريناها وإن كانت عبارة البائع الأخيرة قد ذكرتني بما يقوله أهل قرية ليفكارا الجبلية دائماً ، عن بضاعتهم المماثلة من المفارش والأغطية ، بأن مايكل أنجلو هو الذي صممها لهم عندما جاء إلي جزيرتهم القبرصية في القرن الثالث عشر الميلادي. طردنا سني بعد أن وجدته فوراً ، ورميت المخدة بكيسها القزاقيزي في الزبالة ، لكن مخدة سني هذه كانت قد دفعتني بعيداً عن المخدات فرحت أغوص في تلك الحميمية الغريبة التي تشدنا دوماً إلي مخداتنا إلا أننا نضع عليها عدد كل مساء وردت آمالنا وأحلامنا ؟ . أم لأنها الصدر الحنون ، تلوذ به دموعنا وقت همومنا وحزننا ؟ أم لأنها هي وحدها ولا شئ آخر التي يتردد عندها رنين القلب ووجيبه ، إذ نأخذها إلي صدورنا ، متشبثين بها كجدار قلعة يقف علي أبوابها الأعداء وجدتني اتأمل المخدات ، وقد أخذتني حالة إشراق فانبثاق من حشايا الذاكرة ومتكئات الروح التائهة لأستعيد من بين مخدات الآخرين ومخداتي أيامهم التي كانت وأيامي . بيروت الحصار كان بعضهم قد بدأ يتثاءب ، والبعض الآخر قد مل الاستماع إلي تلك الطفلة الكبيرة الواقعة أمامهم ، كأنها لا تتحدث عن قذيفة ، بل عن لعبة من ألعابها الصغيرة بيد أننا تنبهنا جميعاً إلي إجابتها عن سؤال وجهه إلينا أحدهم بهدوء ” ننسحب ؟ لماذا ننسحب عندما يهاجمنا الإسرائيليون ؟ لماذا نفكر بالانسحاب يا أخي ؟ بعد ايام قليلة كان السائل قد انسحب بالفعل ليس من أمام الإسرائيليين بل من بيروت كلها ، إلي إفريقيا ليلحق بأسرته المهاجرة هناك ، أمام هي فقد خرجت ذات مساء إلي موقع عسكري علي البحر تحمل قذائفها ، برفقة عدد من الذين لم يفكروا أبداً بالاسنحاب ولم تعد ولم يعودوا أبداً من هناك ، وكان آخر ما تذكرنها عنها ، أن رائحتها ذلك المساء كانت طيبة ، بل زكية جداً …