(1)
فى المواقع الأمامية للكتيبة 18 مشا ة تيسر لى أن ألتقى مع محاربين أشداء ، وأبطال يقضون أيامهم فى صمت مطبق ، فيما تجرجر الأيام بقايا حواف محترقة لنخيل ذهب بهاؤه ،ونسائم تتخلص رويدا رويدا من آخر الهواء الذي يعبق برائحة بارود يتغلغل فى الحفر البرميلية ،وخنادق المواصلات التبادلية .
كان المشهد الأول الذى أدمى قلبى ، وترك فى حنايا الصدر جروحا لا تندمل حين هبت رياح الخماسين فجأ ة ، وكشفت عن أجساد شهداء فى آخر حرب مضت . كانوا على هيئتهم الأخيرة ،قابضين على دباشك بنادقهم ، وفى انتظار فرصة للضرب ،فإذا بالشظية تقبرهم فى تلك الحفر البعيدة داخل سيناء ، فيدفنهم الرفاق ، ويمضون نحو الشرق ليكملوا مهمتهم القتالية فى تحرير الأرض . لقد تولى رجال السرية الطبية إعادة دفنهم ،وقرأ العسكرى الأسمر ” بشندى ” ماتيسر من القرآن الكريم على الحفرة التى ثبتنا عليها خوذة وعصا ..!
تلك هى اللحظة الفارقة التى زلزلت الفؤاد وعصفت بالقلب .كيف كانت الشهادة ، وما الكلمة الأخيرة التى نطقوا بها ،وكيف يمكن أن تعبر عن لحظة الفراق العاصفة ،والمميتة وسط ضجيج دبابات “الباتون ” العملاقة التى تزحف لتبيد كل شىء أو ” السنتوريون ” التي تشبه خنفساء ضخمة أتت من العصر الجليدي القديم؟
كان هذا المشهد الصعب الذى حولنى من نطاق الشعر بكل مايحمله من صور وأخيلة وتحليق نحو المطلق إلى جبروت الأرض بصخبها وعنفوانها وواقعيتها المحضة،وصورة الدم المجمد منذ سنوات .
(2)
كانت لحظة مريرة فى خريف عام 1974 ، وبعد مرور عام إلا قليلا عن حرب أكتوبر ، وحولى طاقم الهاون 82 مم وقد نقص منه أفراد في حرب الخريف ، وجئت مع آخرين لنسد النقص في صفوف المحاربين .
هاهم الرجا ل الذين أبلوا بلاء حسنا فى حرب لم يكد يمر عليها عام ، والألسنة مازالت تحكى عن ” فزاع” الصعيدى المجدع الذى اصطاد المجنزرة بقذيفة على الكتف ،وهاهو سيد جابر الذى لطم العسكرى الإسرائيلى على وجهه حين صادفه يقضى حاجته فى الخلاء بمنطقة الدفرسوار، مازال يراجع أوراق رفته ، وسأخرج من الخدمة وهو مازال ساخطا على كل شىء ، فالإصابة واضحة ، لكن الأوراق غير مكتملة !
والعريف ” الجنزورى ” الذى حصل على وسام الواجب ، فى أول إجازة ينزلها تطيح به يايات الإكصدام بقطار الدلتا المكدس بالركاب لأنه لم يكن يملك ثمن تذكرة القطار ، و” فريد ” البخيل الذى اكتشفوا كرمه الباذخ أيام الحصار ،حين كشف عن أسرار مخلته المليئة بكل المعلبات فى أيام السلم ،فإذا بها تنقذهم فى الشدة زمن الحرب !
هؤلاء هم الأبطال الحقيقيين لقصصى الأولى التى كتبتها من واقع خبرتى فى ظلال الجندية حيث ابتعدت الحرب قليلا ، لكنها مازالت مخبئة فى قلوب الرجال المكلومين بالفقد والشهادة ، وهى قصص تمتح من الواقع دون أن تقع فى أسره تماما .
(3)
كانت روايتى “رجال وشظايا ” هى البوابة الذهبية لدخولى ساحة السرد، لأنها أعادت طرح مفهوم الشهادة وقيمة البطولة فى وقت مبكر للغاية ، كنت وقتها أحمل رومانسية العشرينات ،ومع خشونة الجندية ، وقصص الحرب ، إذ بى أتخلى عن تلك الثوابت وأعود للواقع المدهش الغنى ،والجميل أن هذه الرواية التى كتبتها فى فترات متقطعة خلال العام التالى مباشرة على الحرب قد استمدت مرجعيتها من حكايات صديقى المقاتل ” مصطفى العايدى ” الذى عبر القناة مع الأنساق الأولى للجيش الثانى ،وعاد فى أول إجازة بخوذة جندى إسرائيلى تم أسره فى الحرب ،وتضافرت تلك الحكايات مع شهادات واقعية سجلتها بالقلم فى عدة دفاتر صغيرة من طاقمى الذى التحقت به فى السرية الميدانية “سرية الهاون الكتيبة 18 اللواء 16 ” عبر احتلالها تبة الشجرة ، وتنقلها فى الدفرسوار وسرابيوم والمحسمة وفايد ” تبة ضرب النار ” حيث كانت أرواح الشهداء تنده على رجال الخدمة كل باسمه ،وكنت أخشى خدمة ” الكينجى ” حيث يعصرنى البرد القاتل ،وهمهمات مبهمة تتردد فى الليل البهيم،مع فضاء تحوم فيه الحدآت والغربان .
“رجال وشظايا “بكل عفويتها ، وتخوف الكتابة الأولى لها مكان فى قلبى لأنها تتعامل مع الرجال الذين حاربوا بكل بساطة ،وبلا فلسفة ،هى كتابة البراءة ،ومرآة صادقة لمعاناة “الفرد ” المحارب الذى يخوض المعركة دون أن يفكر لحظة في المقابل الذى يحصل عليه ،وهى تعكس معنى أكيدا قد يبهت مع مرور الأيام ،و هو أن المحارب الحقيقى هو الإنسان البسيط الذى انحدر من أصلاب فلاحين وعمال يومية وموظفين ،وحرفيين قد يعانون العوز المادى والفقر الشديد مع مكابدات مؤلمة في الحصول على لقمة العيش لكنهم يمضون فى النزال بلا مساومة ،أما المتأنقين من البهوات والبشوات الذين يحتلون صدارة المشهد الإجتماعى فلم يقبضوا يوما على بندقية،ولم يحاربوا يوما عدوا .
كأن الأيام لاتتبدل ،وهاهم نواب الهروب من الخدمة العسكرية يحتلون أخطر المواقع قبل أن يصدر الحكم باستبعادهم ،وهذا موقف تحول إلى عنصر حاكم فى أغلب قصصى الأولى قبل أن تنكشف الأمور بمثل هذه الحدة ، فالمفارقة تكمن فى أن البسطاء الذين باعوا النفس رخيصة فداء الأرض والعرض دون مساومة هم الذين سيواجهون العنت اليومى فى دولاب العمل الروتينى الذى لايعترف سوى بالمال والنفوذ والواسطة الممقوتة !
الفصل الأول من رواية “رجال وشظايا “أهديته إلى الرقيب سامح عبد الرحمن ،وعنونته ب “نوبة صحيان ” ،وفيه تدوى المدافع إعلانا عن الحرب ، ويبد أ البروجى فى العزف الذى لاينقطع إلا وأقدام الرجال تمضى فى مهمتها المقدسة نحو الشرق السليب .
ستصادف الولد الذى لم يكن يملك حذاء ، والشيخ لطفى الذى يدافع عن حقه فى الأرض،عبد النعيم عطيه القناص الذى يثأر لموت متولى صديقه الحميم فى القرية ،وحسن حلبة ابن بورسعيد الذى ترك بيتا فى القبوطى ،ويأمل فى العودة .
فى ” نوبة الرجوع ” سنكتشف أن الحرب لم تكن فقط فى الجبهة بل داخل كل بيت فى مصر ،والآن وبعد مرور ثلاثة وثلاثين عاما على الحرب أسأل نفسى سؤالا مشروعا : ترى هل عبرت روايتى عن ر وح الرجال المقاتلين فى تلك الفترة ؟ وما السر فى أن هذا العمل قد حصل على جائزة القوات المسلحة لعام 1985 ،ثم على جائزة ” أبها” الثقافية عام 1992 ، وأخيرا على الجائزة الثانية فى أفضل رواية عن حرب 1973 فى احتفالات الجيش باليوبيل الفضى1998؟
(4)
بالتأكيد صدق التجربة ، وحرارة الحدث ،ورؤيتى لفكرة الحرب ،حيث نشاهد المحاربين مشغولين فى قتال الأعداء ،بينما السادة يحصدون كل الثمرات دون أدنى مشاركة ، وهو المعنى الذى أكدت عليه فى قصص أخرى منها ” النحيب “، ” فى البدء كانت طيبة “، الخوذة والعصا ” ، ” أيام الزهو الرمادية “،وغيرها من نصوص تتضمن ذلك الحس المأساوى لفكرة الفقد ، مع إعلاء حقيقى لمفهوم الشهادة لدى قطاع عريض يضم كافة شرائح المواطنين الكادحين .
بدأت صلتي بالسرد مصادفة حين أعلن الجيش المصري عن مسابقة في أدب الحرب وبعد أشهر قليلة من نشوبها فكتبت عملي السردي الأول ” في البدء كانت طيبة ” ، واعتمدت فيه على مقاطع سردية كاملة من كتاب العلامة الدكتور سليم حسن ” مصر القديمة ” ، ربطت فيه بين ما حدث في ” أواريس” من هجوم الهكسوس على شمال مصر ، وكيف أن المصريين قد تمكنوا من إيقاع الهزيمة بهم ، بما حدث في أكتوبر . ” البرديات الفرعونية ” تضمنت وصفا كاملا للعمليات الحربية ، ووعود الملك ( ملك طيبة المقدس ) لجنوده بالحصول على الحب والشعير وأسراب الأوز الملكية إذا ما حرروا الوطن من دنس الغزاة .
لقد مست قلبي هذه الصور القديمة التي وظفتها في النص ، فوجدت أن مسالة الاحتلال والغزو الأجنبي لم تكن بالشيء الجديد ، ففي كل مرة يضعف الداخل يواجه بمثل هذا الهجوم الكاسح . الشيء المثير أن من رفع ظلام الهزيمة في المقام الأول لم يكن هم الملوك أبدا كما كنا نقرأ في النقش الهيلوغريفي على جدران وأعمدة المعابد ، بل هم أبناء الشعب من الكادحين الذين لم يكن مسموح لهم بدخول المعابد الملكية إلا في الاحتفالات السنوية بالجلوس على العرش أو ما شابه ، وقد حصلت هذه القصة على الجائزة الأولى عام 1974 ، ونشرت بمجلة ” صباح الخير”.
(5)
لم تكن ” رجال وشظايا ” هى عملى الوحيد فى أدب الحرب ، فالرواية كانت بمثلبة اعتراف ضمنى بدخولى جحيم النثر هربا من جنة الشعر ، ووجدتنى أمسك القلم لأكتب عشرات النصوص التى تعالج بعض الأفكار التى تهاجمنى بلا هوادة : حفرة الخندق وتجويف القبر ،القبلة والقنبلة ،الدم والماء ،الحرب كلعبة خادعة والحياة كجد لايمكن المساس به ،الانبطاح خوف القذيفة والإرتماء فى احضان حبيبة ،بالله عليكم ـ ياكتاب ـ كيف يمضى الأمر ،والوقت مسلط على الرقاب فى انتظار إشارة واحدة بالموت الذى يعادل الصمت ،بالرغم من البون الشاسع الذى يفرق بينهما .
فى تجربتى مع القصة القصيرة ،انجزت ثلاث مجموعات كاملة تخص أدب الحرب ،وهى “كيف يحارب الجندى بلا خوذة ؟ “، خوذة ونورس وحيد “،”شمال.. يمين ” والعمل الأخيرلم ينشر ورقيا ،وسعيت لبثه عبر الأنترنت وأدهشني أنه لاقي أصداء نقدية هائلة ، بالرغم من أنه يعبر عن مساحة مسكوت عنها هى فترة الجندية الأولى، وما يعتورها من مآزق وصدمات عنيفة ، تقضى على البراءة ،وتفضى إلى مآس حقيقية .
” خوذة ونورس وحيد ” تلمس رهيف لتفاصيل الحياة اليومية ، وهو القسم الذي أخذ عنوانا رئيسيا ” تنويعات عسكرية ” . أردت أن أبحث عن نبرة التفاؤل في حياة هؤلاء العساكر الغلابة ، الذين يقضون أيامهم المريرة في محاولات مستمرة للحفاظ على ما بداخلهم من بهجة قليلة ، وطموحات لا تُـحـد . قصص مثل ” إجراءات ” ، ” عزومة ” ، ” عريس السرية ” ، ” جندي مؤهلات ” ، ” مسعد بنزين ” تحاول أن تقبض على فكرة ابتعاث الإشراق من قلب الحياة الخشنة ، وفيها تفصيلات إنسانية شديدة الرهافة والشفافية . زد على ذلك تلك اللمسة الرومانسية الساحرة التي تحاول أن تنفلت كل مرة من عنف وعسف وقهر الأوامر ، ومعنى ” الضبط والربط ” الذي كثيرا ما يحاول أن يقضي على الروح المنطلقة لفرد داخل جماعة مهمتها الأساسية الحفاظ على حدود الوطن .
أجزم أن تلك النصوص عــّرفت بالمقاتل المصري ، ولكنها في الوقت ذاته أنصفته كإنسان شديدالاحترام لمشاعر الآخرين ، رغم فقره وضعفه الجسماني بفعل البلهارسيا ، فهو لا يتخلى مطلقا عن كرامته وشعوره بالقيمة.
(6)
أظن أن أدب الحرب ليس هذه المادة السردية التي تعتني كثيرا بالقشرة الخارجية الصلدة للأحداث ، وهي في نفس الوقت ليست عملا دعائيا يتسم بالفجاجة والمباشرة .
أدب الحرب لا يعني الضجيج ، وانفجار القنابل ، وسقوط القتلى في الخنادق عبر المواقع القتالية ، وفي الحفر البرميلية . إنه شيء مختلف تماما ، فحين يحدث الصراع المروع بين المقاتل العربي وبين العدو الصهيوني ، تكون ثمة مساحة للحكي ، والبوح بتفصيلات تخص الداخل . هنا تسقط العبارات التقليدية المصكوكة عن معنى الحرب ، ويتم الاتجاه إلى هذا المقاتل الفرد في وحدته ، وعزلته رغم الضجيج والصخب العنيف .
إنه أدب يحفر في الطبقات الجيولوجية للنفس البشرية ، ويهتم اهتماما مؤكدا بالإنسان الذي يحمل السلاح دفاعا عن أهله وعن ذاته قبل كل شيء. يمكننا أن نرى الضعف الانساني ، وأن نعاود الكشف عن ثنائيات مضمرة في ثنايا النصوص السردية عن الشجاعة / التخاذل ، و في أحيان كثيرة عن الاقتحام / التراجع. كلها ثنائيات تنهض من قلب عفار المعارك . الوجهان المراوغان لعملة واحدة . مهمة الروائي أن يكشف ويكتشف أسرار ما دار في الغرفة المغلقة للعقل في لحظات المواجهة ، وأظنها مهمة ليست سهلة مطلقا ، لأنها تحتاج إلى وعي واستبصار ، وقدرة لا تتأتى للكثيرين على فهم التكوين السيكولوجي للنفس البشرية .
(7)
فكرة أنني تحولت من الشعر إلى السرد لا تخيفني ولا استغرب لها مطلقا ، ف ” لا أظن أن هناك جدارا صينيا بين الأجناس الأدبية ” .
هذا ما صرح به الشاعر العراقي سعدي يوسف حين كنت أتحدث معه ، وأنا أوافقه في أن الأعمال الأدبية لا خصام بينها . هناك مراوحة أحيانا بين النبرة الغنائية وصرامة السرد المتماسك . على الكاتب المجيد أن يأخذ في اعتباره شروط ومعايير المنتج الأدبي .
فعلى سبيل المثال رأى عدد من زملائي ومجايليي أن ديواني الشعري الأول ” الخيول ” 1982 يتضمن مساحة كبيرة من السرد ، مما حدا بمسرحي مرموق هو محمد الشربيني أن يعده للمسرح ، فــقـُـدم بإخراج شوقي بكر كعمل مسرحي غنائي قدم عام 1989 بنوادي المسرح تحت عنوان ” غنوة للكاكي والعفرة والحرب ” ، وكان يحظى بنسبة حضور جماهيري بالغة أثناء عرضه .
أعترف أن نبرة السرد والعنصر الحكائي ظلت ظاهرة ملموسة في قصائد دواويني الثلاث الأولى : ” الخيول” ، ” ندهة من ريحة زمان ” ، ” ريحة الحنة ” . لكن في توقيت معين أتجهت كلية إلى السرد ، واعتبرت فضاء الرواية هو الأقدر على البوح والافضاء ، وفيه مساحات هائلة للتوثيق ، والهواجس ، والأحلام .
الرواية هي بوابة مفتوحة على الكون كله . النص القصصي غرفة محكمة الإغلاق ، لها مفتاح وحيد بيدك أو بيد القاريء ، فيما يكون الشعر هو النطاق التخييلي الذي يتعامل مع كيمياء اللغة بفهم أعمق.
أرتاح للرواية ، وأشعر بالحرفة والصنعة البالغة مع القصة القصيرة ، فيما أطلق طائر الروح ليحلق في عوالم تخييلية رائعة مع الشعر .
ورغم أنني أكتب هذه الأجناس كلها منذ أواخر الستينات ، وأنا شاب صغير ، فهناك تواطؤ علني على أن أظل شاعرا .. التصنيف هنا يريح الجميع ويسعدهم . إذن لا بأس به .
(8)
اتجهت إلى عالم ” الأنترنت ” فقدمت مجموعات قصصية عديدة ومتنوعة ، منها ” شمال .. يمين ” ، ” صندل أحمر ” ، ” دفتر أحوال ” ، ولا اعتبر النشر الألكتروني بديلا عن النشر الورقي ، لكنه فضاء افتراضي يطلعك ويعرفك على آلاف القراء في تفاعل ديناميكي حقيقي لا يتوقف ولا يخمد عنفوانه فمثلا في ” شمال .. يمين ” تنويع على لحن الجندية ، تراني قد توقفت طويلا أمام الجندي وهو الوحدة الأولى للقتال كيف نراه إنسانيا وكيف يشعر بوجوده ؟
عبارة عن 21 قصة تتناول جميع تفصيلات الحياة العسكرية لجندي مستجد ، وفيها رصد لفكرة القهر الانساني ، وولوج لمناطق شديدة الإحكام في هذا النسق ، ورغم ذلك فالمجموعة تمتليء بمواقف وأحداث ساخرة تكشف عن خفة دم ابن البلد المصري ، الذي يراوغ كالزئبق كي يبقى على عقله وروحه .
” صندل أحمر ” هي حكايات متتالية لولد اسمه فلفل يعمل في محل أحذية ، وفيها كشف عن عوامل شقاء الطفولة ، والأزمنة الماضية التي تحتل الذاكرة ، وتـُـستعاد بقدر كبير من الدفء والحميمية أما ” دفتر أحوال ” فهو عودة لمناطق الواقعية الخلاقة في السرد وقد أدهشني أن المتلقين قد تجاوبوا مع النصوص وصارت للشخصيات وجود حقيقي في عوالم السرد العربي المعاصر .
لقد أتاح لي نشر هذه المجموعات فرصة التعرف على آراء مهمة من جميع أنحاء العالم عبر الشبكة العنكبوتية ، فأعدت التبويب والتصنيف ، واستفدت كثيرا من الحوار العلني ، والنقد الجاد الذي زادني يقينا أن النشر الألكتروني وسيلة مهمة للنشر ، مثلما لا ينبغي علينا التقليل من أهمية النشر الورقي ، فهو في رأيي ضرورة ، وسيبقى رغم كل شيء .
(9)
لا ينفي جنس أدبي غيره من الأجناس الأخرى ولا يحتل مواقعه . المعيار هنا مفيد للغاية. عليّ أن أسأل نفسي : هل استطاع النص الأدبي أن يحدث داخلي تلك الهزة العنيفة التي هي مقياس لا يخيب لبراعة العمل من عدمه ؟
هذا هو المقياس الوحيد الذي أعترف به .
الشعر بإيقاعه المدهش ، وكشوفاته الجمالية ، وفيوضاته الساحرة مادة للحلم والهواجس ، والجموح اللا محدود .
السرد بتفصيلاته ، وشخوصه وأحداثه يتضمن مادة معرفية ثقيلة ، وتوثيقا ، وقدرا من التقصي الدقيق للأمور .
أنا معني بالمعنى الدقيق لسحر الفن ، وهو أن يكون النص تكأة لاكتشاف عوالم خبيئة ، ومشاعر مستبطنة ، وهو أيضا فن قراءة الحياة ، والكاتب المدهش هو من يستطيع أن يصر الكون في منديل ، وهي وظيفة الشاعر ، لكنه في أحوال أخرى من يكتشف ما في هذا الكون نفسه من جمال ، وحيرة ، ودهشة ، وألم . في تفتح زهرة ، أو اندفاع فراشة نحو اللهب .
أليست هذه مهمة الكاتب في كل الأحوال .. وفي جميع الأزمنة ؟
(10)
أغلب النقاد يريحون أنفسهم ، ويقولون أن الحرب ـ بالتحديد حرب أكتوبر 1973 ـ لم يتم معالجتها بالشكل المناسب ، وهؤلاء النقاد كانوا ينتظرون أعمالا لكتاب كبار من طراز نجيب محفوظ أو يوسف ادريس أويوسف السباعى ، والمفاجأة المذهلة أن الأدباء الحقيقيين الذين عالجوا هذه التجربة أغلبهم خاض الحرب ،وكتب عنها بخبرة المقاتل أو فترة التجنيد اللاحقة أو كمراسل حربى ،خذ عندك معصوم مرزوق ،سمير عبد الفتاح ،محمود المنسى ، شحاتة عزيزجرجس ،أحمد ماضى ، محمد السيد سالم ،شمس الدين موسى ،أحمد عمارة ،إضافة إلى كتاب الستينات المعروفين مثل جمال الغيطانى ، ومحمد يوسف القعيد،ومحمود الوردانى وقاسم مسعد عليوة وفتحى امبابى ومجيد طوبيا .
منذ عدة أعوام استدعانى أحد الزملاء ممن يعدون حلقات عن سينما الحرب والسلام ،وفوجئت بمقاتلين أبطال حقيقيين ممن خاضوا غمار الحرب وحصلوا على أوسمة عسكرية رفيعة ،كان التصوير داخل سيناء وأمام المعدية رقم 6 وهى المنطقة التى استشهد أمامها الفريق عبد المنعم رياض ،دهشت عندما بدأ الضباط يحكون ذكرياتهم عن الحرب ،ومعهم جنود شاركوهم اللقمة اليابسة ورشفة الماء النادرة . كانت شهادات رائعة مع مذيعة مجتهدة هى الدكتورة مرفت محسن ،وللأسف لم تذع الحلقات حتى الآن بالرغم من أن المخرج محمد النشار كاد يبكى ،مع طوفان الذكريات لمن أحبوا مصر وحملوها فى قلوبهم ،فمتى نكف عن إخفاء أسرار المقاتلين الحقيقيين الذين وهبوا زهرة العمر مقابل شرف العروبة / الوطن ؟.
قبل33 عاما كانت مصر تحاول النهوض من عثرتها ،وكان السواد يلف الأمكنة ،والأخوال أو الأعمام قد انخرطوا فى سلك الجندية ،رغم الهزيمة الدامية إلا أن القلوب كانت خاشعة لمعنى الوطن ،ولقيمة الشهادة ،فيما قصائد أمل دنقل تعيد اكتشاف أوراق مطمورة من ركام التاريخ ،وصوت الشيخ إمام يدندن “مصر يا أما يا بهية “وغيرها من قصائد أحمد فؤاد نجم ، وكل الأيدى امتدت لتعاود المقاومة وتستحث الوطن أن ينهض .
مع البيانات الأولى تحولت مصر إلى كيان فريد يدافع ويقاوم ويستعذب الشهادة .، ترى من يحكى للأجيال الجديدة خبايا هذه الأيام المملؤة بالعزة والكرامة ،لتسلم الأجيال المحاربة الراية لأجيال جديدة عليها أن تعى مفاهيم وعبر وخفايا أيام حرب الإستنزاف ،وعبور القناة ،والدفاع عن السويس حتى آخر رمق . من يحكى عن بطولات أحمد بدوى ،ومحمد زرد ،وابراهيم الرفاعى ،وعادل يسرى ،وآلاف العساكر البسطاء الذين تحملوا التدريبات الشاقة وخاضوا معارك شرسة ضد عدو يحتمى بسلاح أمريكا ؟
تصوروا الرقيب محمد عبد العاطى الذى حطم وحده أكثر من أربع وعشرين دبابة ، لقد قابلته فى قريته شيبة قش ،من أعمال منيا القمح ،وكان يفلح أرضه بصديرى محلاوى بسيط ،كأنه يكمل درس الحياة بلغة لايفهمها سوى المحبين العاشقين للخير :الأرض بتتكلم عربى ..الله عليك يافؤاد حداد .
(11)
مثل هذه الحكايات مازالت بحاجة إلى كتابة جديدة ،صحيح أن الزمن دار دورته ، واختلت القيم ،ودهست العولمة كافة الأمكنة ،دون حسيب أو رقيب ، لكن الفلسفة التى تكمن وراء الحرب كضرورة لطرد الغريب مازات بحاجة إلى التأكيد ،ولن يفعل هذا سوى كتاب يملكون حدسا بالمستقبل وإيمانا بالمعانى الرائعة التى حملوها فى صدورهم لحظات العبور من الهزيمة إلى النصر ، ،وإدراك لما حدث منذ ثلاثة وثلاثين عاما كاملة ..مضت ،فابيض شعر العساكر /الآباء وانحنت ظهورهم ،لكنهم الأبناء ،ربما الأحفاد يحملون “جينات “الصمود ،النزال ،المقاومة ،حتى يرث الله الأرض ومن عليها !!!
تمضى ألأزمنة لتطمر ذكريات تلك الحرب الدامية . لست محبا للنكد أو الأحزان إن أكدت على حقيقة أن الآداء العسكرى العظيم فى حرب أكتوبر فاق بمراحل الاجتهادات السياسية التى سعت إلى وهم السلام دون إدراك خطورة الأمر .
هذه الرؤية الخاطئة أفضت بنا إلى سلام رسمى هش ،وتغلغل صهيونى مقيت ،فضحه كاتب عظيم هو إدوارد سعيد فى مقالاته الكاشفة .
ثلاثة وثلاثين عاما مرت على حرب أكتوبر ، وصعدت أرواح الشهداء فيها إلى الخالق العظيم تسأل الرب الرحمة لمن يعيشون على أرض مليئة بالآثام والظلم والقهر الأكيد !!
دمياط 7/11/ 2006
فى المواقع الأمامية للكتيبة 18 مشا ة تيسر لى أن ألتقى مع محاربين أشداء ، وأبطال يقضون أيامهم فى صمت مطبق ، فيما تجرجر الأيام بقايا حواف محترقة لنخيل ذهب بهاؤه ،ونسائم تتخلص رويدا رويدا من آخر الهواء الذي يعبق برائحة بارود يتغلغل فى الحفر البرميلية ،وخنادق المواصلات التبادلية .
كان المشهد الأول الذى أدمى قلبى ، وترك فى حنايا الصدر جروحا لا تندمل حين هبت رياح الخماسين فجأ ة ، وكشفت عن أجساد شهداء فى آخر حرب مضت . كانوا على هيئتهم الأخيرة ،قابضين على دباشك بنادقهم ، وفى انتظار فرصة للضرب ،فإذا بالشظية تقبرهم فى تلك الحفر البعيدة داخل سيناء ، فيدفنهم الرفاق ، ويمضون نحو الشرق ليكملوا مهمتهم القتالية فى تحرير الأرض . لقد تولى رجال السرية الطبية إعادة دفنهم ،وقرأ العسكرى الأسمر ” بشندى ” ماتيسر من القرآن الكريم على الحفرة التى ثبتنا عليها خوذة وعصا ..!
تلك هى اللحظة الفارقة التى زلزلت الفؤاد وعصفت بالقلب .كيف كانت الشهادة ، وما الكلمة الأخيرة التى نطقوا بها ،وكيف يمكن أن تعبر عن لحظة الفراق العاصفة ،والمميتة وسط ضجيج دبابات “الباتون ” العملاقة التى تزحف لتبيد كل شىء أو ” السنتوريون ” التي تشبه خنفساء ضخمة أتت من العصر الجليدي القديم؟
كان هذا المشهد الصعب الذى حولنى من نطاق الشعر بكل مايحمله من صور وأخيلة وتحليق نحو المطلق إلى جبروت الأرض بصخبها وعنفوانها وواقعيتها المحضة،وصورة الدم المجمد منذ سنوات .
(2)
كانت لحظة مريرة فى خريف عام 1974 ، وبعد مرور عام إلا قليلا عن حرب أكتوبر ، وحولى طاقم الهاون 82 مم وقد نقص منه أفراد في حرب الخريف ، وجئت مع آخرين لنسد النقص في صفوف المحاربين .
هاهم الرجا ل الذين أبلوا بلاء حسنا فى حرب لم يكد يمر عليها عام ، والألسنة مازالت تحكى عن ” فزاع” الصعيدى المجدع الذى اصطاد المجنزرة بقذيفة على الكتف ،وهاهو سيد جابر الذى لطم العسكرى الإسرائيلى على وجهه حين صادفه يقضى حاجته فى الخلاء بمنطقة الدفرسوار، مازال يراجع أوراق رفته ، وسأخرج من الخدمة وهو مازال ساخطا على كل شىء ، فالإصابة واضحة ، لكن الأوراق غير مكتملة !
والعريف ” الجنزورى ” الذى حصل على وسام الواجب ، فى أول إجازة ينزلها تطيح به يايات الإكصدام بقطار الدلتا المكدس بالركاب لأنه لم يكن يملك ثمن تذكرة القطار ، و” فريد ” البخيل الذى اكتشفوا كرمه الباذخ أيام الحصار ،حين كشف عن أسرار مخلته المليئة بكل المعلبات فى أيام السلم ،فإذا بها تنقذهم فى الشدة زمن الحرب !
هؤلاء هم الأبطال الحقيقيين لقصصى الأولى التى كتبتها من واقع خبرتى فى ظلال الجندية حيث ابتعدت الحرب قليلا ، لكنها مازالت مخبئة فى قلوب الرجال المكلومين بالفقد والشهادة ، وهى قصص تمتح من الواقع دون أن تقع فى أسره تماما .
(3)
كانت روايتى “رجال وشظايا ” هى البوابة الذهبية لدخولى ساحة السرد، لأنها أعادت طرح مفهوم الشهادة وقيمة البطولة فى وقت مبكر للغاية ، كنت وقتها أحمل رومانسية العشرينات ،ومع خشونة الجندية ، وقصص الحرب ، إذ بى أتخلى عن تلك الثوابت وأعود للواقع المدهش الغنى ،والجميل أن هذه الرواية التى كتبتها فى فترات متقطعة خلال العام التالى مباشرة على الحرب قد استمدت مرجعيتها من حكايات صديقى المقاتل ” مصطفى العايدى ” الذى عبر القناة مع الأنساق الأولى للجيش الثانى ،وعاد فى أول إجازة بخوذة جندى إسرائيلى تم أسره فى الحرب ،وتضافرت تلك الحكايات مع شهادات واقعية سجلتها بالقلم فى عدة دفاتر صغيرة من طاقمى الذى التحقت به فى السرية الميدانية “سرية الهاون الكتيبة 18 اللواء 16 ” عبر احتلالها تبة الشجرة ، وتنقلها فى الدفرسوار وسرابيوم والمحسمة وفايد ” تبة ضرب النار ” حيث كانت أرواح الشهداء تنده على رجال الخدمة كل باسمه ،وكنت أخشى خدمة ” الكينجى ” حيث يعصرنى البرد القاتل ،وهمهمات مبهمة تتردد فى الليل البهيم،مع فضاء تحوم فيه الحدآت والغربان .
“رجال وشظايا “بكل عفويتها ، وتخوف الكتابة الأولى لها مكان فى قلبى لأنها تتعامل مع الرجال الذين حاربوا بكل بساطة ،وبلا فلسفة ،هى كتابة البراءة ،ومرآة صادقة لمعاناة “الفرد ” المحارب الذى يخوض المعركة دون أن يفكر لحظة في المقابل الذى يحصل عليه ،وهى تعكس معنى أكيدا قد يبهت مع مرور الأيام ،و هو أن المحارب الحقيقى هو الإنسان البسيط الذى انحدر من أصلاب فلاحين وعمال يومية وموظفين ،وحرفيين قد يعانون العوز المادى والفقر الشديد مع مكابدات مؤلمة في الحصول على لقمة العيش لكنهم يمضون فى النزال بلا مساومة ،أما المتأنقين من البهوات والبشوات الذين يحتلون صدارة المشهد الإجتماعى فلم يقبضوا يوما على بندقية،ولم يحاربوا يوما عدوا .
كأن الأيام لاتتبدل ،وهاهم نواب الهروب من الخدمة العسكرية يحتلون أخطر المواقع قبل أن يصدر الحكم باستبعادهم ،وهذا موقف تحول إلى عنصر حاكم فى أغلب قصصى الأولى قبل أن تنكشف الأمور بمثل هذه الحدة ، فالمفارقة تكمن فى أن البسطاء الذين باعوا النفس رخيصة فداء الأرض والعرض دون مساومة هم الذين سيواجهون العنت اليومى فى دولاب العمل الروتينى الذى لايعترف سوى بالمال والنفوذ والواسطة الممقوتة !
الفصل الأول من رواية “رجال وشظايا “أهديته إلى الرقيب سامح عبد الرحمن ،وعنونته ب “نوبة صحيان ” ،وفيه تدوى المدافع إعلانا عن الحرب ، ويبد أ البروجى فى العزف الذى لاينقطع إلا وأقدام الرجال تمضى فى مهمتها المقدسة نحو الشرق السليب .
ستصادف الولد الذى لم يكن يملك حذاء ، والشيخ لطفى الذى يدافع عن حقه فى الأرض،عبد النعيم عطيه القناص الذى يثأر لموت متولى صديقه الحميم فى القرية ،وحسن حلبة ابن بورسعيد الذى ترك بيتا فى القبوطى ،ويأمل فى العودة .
فى ” نوبة الرجوع ” سنكتشف أن الحرب لم تكن فقط فى الجبهة بل داخل كل بيت فى مصر ،والآن وبعد مرور ثلاثة وثلاثين عاما على الحرب أسأل نفسى سؤالا مشروعا : ترى هل عبرت روايتى عن ر وح الرجال المقاتلين فى تلك الفترة ؟ وما السر فى أن هذا العمل قد حصل على جائزة القوات المسلحة لعام 1985 ،ثم على جائزة ” أبها” الثقافية عام 1992 ، وأخيرا على الجائزة الثانية فى أفضل رواية عن حرب 1973 فى احتفالات الجيش باليوبيل الفضى1998؟
(4)
بالتأكيد صدق التجربة ، وحرارة الحدث ،ورؤيتى لفكرة الحرب ،حيث نشاهد المحاربين مشغولين فى قتال الأعداء ،بينما السادة يحصدون كل الثمرات دون أدنى مشاركة ، وهو المعنى الذى أكدت عليه فى قصص أخرى منها ” النحيب “، ” فى البدء كانت طيبة “، الخوذة والعصا ” ، ” أيام الزهو الرمادية “،وغيرها من نصوص تتضمن ذلك الحس المأساوى لفكرة الفقد ، مع إعلاء حقيقى لمفهوم الشهادة لدى قطاع عريض يضم كافة شرائح المواطنين الكادحين .
بدأت صلتي بالسرد مصادفة حين أعلن الجيش المصري عن مسابقة في أدب الحرب وبعد أشهر قليلة من نشوبها فكتبت عملي السردي الأول ” في البدء كانت طيبة ” ، واعتمدت فيه على مقاطع سردية كاملة من كتاب العلامة الدكتور سليم حسن ” مصر القديمة ” ، ربطت فيه بين ما حدث في ” أواريس” من هجوم الهكسوس على شمال مصر ، وكيف أن المصريين قد تمكنوا من إيقاع الهزيمة بهم ، بما حدث في أكتوبر . ” البرديات الفرعونية ” تضمنت وصفا كاملا للعمليات الحربية ، ووعود الملك ( ملك طيبة المقدس ) لجنوده بالحصول على الحب والشعير وأسراب الأوز الملكية إذا ما حرروا الوطن من دنس الغزاة .
لقد مست قلبي هذه الصور القديمة التي وظفتها في النص ، فوجدت أن مسالة الاحتلال والغزو الأجنبي لم تكن بالشيء الجديد ، ففي كل مرة يضعف الداخل يواجه بمثل هذا الهجوم الكاسح . الشيء المثير أن من رفع ظلام الهزيمة في المقام الأول لم يكن هم الملوك أبدا كما كنا نقرأ في النقش الهيلوغريفي على جدران وأعمدة المعابد ، بل هم أبناء الشعب من الكادحين الذين لم يكن مسموح لهم بدخول المعابد الملكية إلا في الاحتفالات السنوية بالجلوس على العرش أو ما شابه ، وقد حصلت هذه القصة على الجائزة الأولى عام 1974 ، ونشرت بمجلة ” صباح الخير”.
(5)
لم تكن ” رجال وشظايا ” هى عملى الوحيد فى أدب الحرب ، فالرواية كانت بمثلبة اعتراف ضمنى بدخولى جحيم النثر هربا من جنة الشعر ، ووجدتنى أمسك القلم لأكتب عشرات النصوص التى تعالج بعض الأفكار التى تهاجمنى بلا هوادة : حفرة الخندق وتجويف القبر ،القبلة والقنبلة ،الدم والماء ،الحرب كلعبة خادعة والحياة كجد لايمكن المساس به ،الانبطاح خوف القذيفة والإرتماء فى احضان حبيبة ،بالله عليكم ـ ياكتاب ـ كيف يمضى الأمر ،والوقت مسلط على الرقاب فى انتظار إشارة واحدة بالموت الذى يعادل الصمت ،بالرغم من البون الشاسع الذى يفرق بينهما .
فى تجربتى مع القصة القصيرة ،انجزت ثلاث مجموعات كاملة تخص أدب الحرب ،وهى “كيف يحارب الجندى بلا خوذة ؟ “، خوذة ونورس وحيد “،”شمال.. يمين ” والعمل الأخيرلم ينشر ورقيا ،وسعيت لبثه عبر الأنترنت وأدهشني أنه لاقي أصداء نقدية هائلة ، بالرغم من أنه يعبر عن مساحة مسكوت عنها هى فترة الجندية الأولى، وما يعتورها من مآزق وصدمات عنيفة ، تقضى على البراءة ،وتفضى إلى مآس حقيقية .
” خوذة ونورس وحيد ” تلمس رهيف لتفاصيل الحياة اليومية ، وهو القسم الذي أخذ عنوانا رئيسيا ” تنويعات عسكرية ” . أردت أن أبحث عن نبرة التفاؤل في حياة هؤلاء العساكر الغلابة ، الذين يقضون أيامهم المريرة في محاولات مستمرة للحفاظ على ما بداخلهم من بهجة قليلة ، وطموحات لا تُـحـد . قصص مثل ” إجراءات ” ، ” عزومة ” ، ” عريس السرية ” ، ” جندي مؤهلات ” ، ” مسعد بنزين ” تحاول أن تقبض على فكرة ابتعاث الإشراق من قلب الحياة الخشنة ، وفيها تفصيلات إنسانية شديدة الرهافة والشفافية . زد على ذلك تلك اللمسة الرومانسية الساحرة التي تحاول أن تنفلت كل مرة من عنف وعسف وقهر الأوامر ، ومعنى ” الضبط والربط ” الذي كثيرا ما يحاول أن يقضي على الروح المنطلقة لفرد داخل جماعة مهمتها الأساسية الحفاظ على حدود الوطن .
أجزم أن تلك النصوص عــّرفت بالمقاتل المصري ، ولكنها في الوقت ذاته أنصفته كإنسان شديدالاحترام لمشاعر الآخرين ، رغم فقره وضعفه الجسماني بفعل البلهارسيا ، فهو لا يتخلى مطلقا عن كرامته وشعوره بالقيمة.
(6)
أظن أن أدب الحرب ليس هذه المادة السردية التي تعتني كثيرا بالقشرة الخارجية الصلدة للأحداث ، وهي في نفس الوقت ليست عملا دعائيا يتسم بالفجاجة والمباشرة .
أدب الحرب لا يعني الضجيج ، وانفجار القنابل ، وسقوط القتلى في الخنادق عبر المواقع القتالية ، وفي الحفر البرميلية . إنه شيء مختلف تماما ، فحين يحدث الصراع المروع بين المقاتل العربي وبين العدو الصهيوني ، تكون ثمة مساحة للحكي ، والبوح بتفصيلات تخص الداخل . هنا تسقط العبارات التقليدية المصكوكة عن معنى الحرب ، ويتم الاتجاه إلى هذا المقاتل الفرد في وحدته ، وعزلته رغم الضجيج والصخب العنيف .
إنه أدب يحفر في الطبقات الجيولوجية للنفس البشرية ، ويهتم اهتماما مؤكدا بالإنسان الذي يحمل السلاح دفاعا عن أهله وعن ذاته قبل كل شيء. يمكننا أن نرى الضعف الانساني ، وأن نعاود الكشف عن ثنائيات مضمرة في ثنايا النصوص السردية عن الشجاعة / التخاذل ، و في أحيان كثيرة عن الاقتحام / التراجع. كلها ثنائيات تنهض من قلب عفار المعارك . الوجهان المراوغان لعملة واحدة . مهمة الروائي أن يكشف ويكتشف أسرار ما دار في الغرفة المغلقة للعقل في لحظات المواجهة ، وأظنها مهمة ليست سهلة مطلقا ، لأنها تحتاج إلى وعي واستبصار ، وقدرة لا تتأتى للكثيرين على فهم التكوين السيكولوجي للنفس البشرية .
(7)
فكرة أنني تحولت من الشعر إلى السرد لا تخيفني ولا استغرب لها مطلقا ، ف ” لا أظن أن هناك جدارا صينيا بين الأجناس الأدبية ” .
هذا ما صرح به الشاعر العراقي سعدي يوسف حين كنت أتحدث معه ، وأنا أوافقه في أن الأعمال الأدبية لا خصام بينها . هناك مراوحة أحيانا بين النبرة الغنائية وصرامة السرد المتماسك . على الكاتب المجيد أن يأخذ في اعتباره شروط ومعايير المنتج الأدبي .
فعلى سبيل المثال رأى عدد من زملائي ومجايليي أن ديواني الشعري الأول ” الخيول ” 1982 يتضمن مساحة كبيرة من السرد ، مما حدا بمسرحي مرموق هو محمد الشربيني أن يعده للمسرح ، فــقـُـدم بإخراج شوقي بكر كعمل مسرحي غنائي قدم عام 1989 بنوادي المسرح تحت عنوان ” غنوة للكاكي والعفرة والحرب ” ، وكان يحظى بنسبة حضور جماهيري بالغة أثناء عرضه .
أعترف أن نبرة السرد والعنصر الحكائي ظلت ظاهرة ملموسة في قصائد دواويني الثلاث الأولى : ” الخيول” ، ” ندهة من ريحة زمان ” ، ” ريحة الحنة ” . لكن في توقيت معين أتجهت كلية إلى السرد ، واعتبرت فضاء الرواية هو الأقدر على البوح والافضاء ، وفيه مساحات هائلة للتوثيق ، والهواجس ، والأحلام .
الرواية هي بوابة مفتوحة على الكون كله . النص القصصي غرفة محكمة الإغلاق ، لها مفتاح وحيد بيدك أو بيد القاريء ، فيما يكون الشعر هو النطاق التخييلي الذي يتعامل مع كيمياء اللغة بفهم أعمق.
أرتاح للرواية ، وأشعر بالحرفة والصنعة البالغة مع القصة القصيرة ، فيما أطلق طائر الروح ليحلق في عوالم تخييلية رائعة مع الشعر .
ورغم أنني أكتب هذه الأجناس كلها منذ أواخر الستينات ، وأنا شاب صغير ، فهناك تواطؤ علني على أن أظل شاعرا .. التصنيف هنا يريح الجميع ويسعدهم . إذن لا بأس به .
(8)
اتجهت إلى عالم ” الأنترنت ” فقدمت مجموعات قصصية عديدة ومتنوعة ، منها ” شمال .. يمين ” ، ” صندل أحمر ” ، ” دفتر أحوال ” ، ولا اعتبر النشر الألكتروني بديلا عن النشر الورقي ، لكنه فضاء افتراضي يطلعك ويعرفك على آلاف القراء في تفاعل ديناميكي حقيقي لا يتوقف ولا يخمد عنفوانه فمثلا في ” شمال .. يمين ” تنويع على لحن الجندية ، تراني قد توقفت طويلا أمام الجندي وهو الوحدة الأولى للقتال كيف نراه إنسانيا وكيف يشعر بوجوده ؟
عبارة عن 21 قصة تتناول جميع تفصيلات الحياة العسكرية لجندي مستجد ، وفيها رصد لفكرة القهر الانساني ، وولوج لمناطق شديدة الإحكام في هذا النسق ، ورغم ذلك فالمجموعة تمتليء بمواقف وأحداث ساخرة تكشف عن خفة دم ابن البلد المصري ، الذي يراوغ كالزئبق كي يبقى على عقله وروحه .
” صندل أحمر ” هي حكايات متتالية لولد اسمه فلفل يعمل في محل أحذية ، وفيها كشف عن عوامل شقاء الطفولة ، والأزمنة الماضية التي تحتل الذاكرة ، وتـُـستعاد بقدر كبير من الدفء والحميمية أما ” دفتر أحوال ” فهو عودة لمناطق الواقعية الخلاقة في السرد وقد أدهشني أن المتلقين قد تجاوبوا مع النصوص وصارت للشخصيات وجود حقيقي في عوالم السرد العربي المعاصر .
لقد أتاح لي نشر هذه المجموعات فرصة التعرف على آراء مهمة من جميع أنحاء العالم عبر الشبكة العنكبوتية ، فأعدت التبويب والتصنيف ، واستفدت كثيرا من الحوار العلني ، والنقد الجاد الذي زادني يقينا أن النشر الألكتروني وسيلة مهمة للنشر ، مثلما لا ينبغي علينا التقليل من أهمية النشر الورقي ، فهو في رأيي ضرورة ، وسيبقى رغم كل شيء .
(9)
لا ينفي جنس أدبي غيره من الأجناس الأخرى ولا يحتل مواقعه . المعيار هنا مفيد للغاية. عليّ أن أسأل نفسي : هل استطاع النص الأدبي أن يحدث داخلي تلك الهزة العنيفة التي هي مقياس لا يخيب لبراعة العمل من عدمه ؟
هذا هو المقياس الوحيد الذي أعترف به .
الشعر بإيقاعه المدهش ، وكشوفاته الجمالية ، وفيوضاته الساحرة مادة للحلم والهواجس ، والجموح اللا محدود .
السرد بتفصيلاته ، وشخوصه وأحداثه يتضمن مادة معرفية ثقيلة ، وتوثيقا ، وقدرا من التقصي الدقيق للأمور .
أنا معني بالمعنى الدقيق لسحر الفن ، وهو أن يكون النص تكأة لاكتشاف عوالم خبيئة ، ومشاعر مستبطنة ، وهو أيضا فن قراءة الحياة ، والكاتب المدهش هو من يستطيع أن يصر الكون في منديل ، وهي وظيفة الشاعر ، لكنه في أحوال أخرى من يكتشف ما في هذا الكون نفسه من جمال ، وحيرة ، ودهشة ، وألم . في تفتح زهرة ، أو اندفاع فراشة نحو اللهب .
أليست هذه مهمة الكاتب في كل الأحوال .. وفي جميع الأزمنة ؟
(10)
أغلب النقاد يريحون أنفسهم ، ويقولون أن الحرب ـ بالتحديد حرب أكتوبر 1973 ـ لم يتم معالجتها بالشكل المناسب ، وهؤلاء النقاد كانوا ينتظرون أعمالا لكتاب كبار من طراز نجيب محفوظ أو يوسف ادريس أويوسف السباعى ، والمفاجأة المذهلة أن الأدباء الحقيقيين الذين عالجوا هذه التجربة أغلبهم خاض الحرب ،وكتب عنها بخبرة المقاتل أو فترة التجنيد اللاحقة أو كمراسل حربى ،خذ عندك معصوم مرزوق ،سمير عبد الفتاح ،محمود المنسى ، شحاتة عزيزجرجس ،أحمد ماضى ، محمد السيد سالم ،شمس الدين موسى ،أحمد عمارة ،إضافة إلى كتاب الستينات المعروفين مثل جمال الغيطانى ، ومحمد يوسف القعيد،ومحمود الوردانى وقاسم مسعد عليوة وفتحى امبابى ومجيد طوبيا .
منذ عدة أعوام استدعانى أحد الزملاء ممن يعدون حلقات عن سينما الحرب والسلام ،وفوجئت بمقاتلين أبطال حقيقيين ممن خاضوا غمار الحرب وحصلوا على أوسمة عسكرية رفيعة ،كان التصوير داخل سيناء وأمام المعدية رقم 6 وهى المنطقة التى استشهد أمامها الفريق عبد المنعم رياض ،دهشت عندما بدأ الضباط يحكون ذكرياتهم عن الحرب ،ومعهم جنود شاركوهم اللقمة اليابسة ورشفة الماء النادرة . كانت شهادات رائعة مع مذيعة مجتهدة هى الدكتورة مرفت محسن ،وللأسف لم تذع الحلقات حتى الآن بالرغم من أن المخرج محمد النشار كاد يبكى ،مع طوفان الذكريات لمن أحبوا مصر وحملوها فى قلوبهم ،فمتى نكف عن إخفاء أسرار المقاتلين الحقيقيين الذين وهبوا زهرة العمر مقابل شرف العروبة / الوطن ؟.
قبل33 عاما كانت مصر تحاول النهوض من عثرتها ،وكان السواد يلف الأمكنة ،والأخوال أو الأعمام قد انخرطوا فى سلك الجندية ،رغم الهزيمة الدامية إلا أن القلوب كانت خاشعة لمعنى الوطن ،ولقيمة الشهادة ،فيما قصائد أمل دنقل تعيد اكتشاف أوراق مطمورة من ركام التاريخ ،وصوت الشيخ إمام يدندن “مصر يا أما يا بهية “وغيرها من قصائد أحمد فؤاد نجم ، وكل الأيدى امتدت لتعاود المقاومة وتستحث الوطن أن ينهض .
مع البيانات الأولى تحولت مصر إلى كيان فريد يدافع ويقاوم ويستعذب الشهادة .، ترى من يحكى للأجيال الجديدة خبايا هذه الأيام المملؤة بالعزة والكرامة ،لتسلم الأجيال المحاربة الراية لأجيال جديدة عليها أن تعى مفاهيم وعبر وخفايا أيام حرب الإستنزاف ،وعبور القناة ،والدفاع عن السويس حتى آخر رمق . من يحكى عن بطولات أحمد بدوى ،ومحمد زرد ،وابراهيم الرفاعى ،وعادل يسرى ،وآلاف العساكر البسطاء الذين تحملوا التدريبات الشاقة وخاضوا معارك شرسة ضد عدو يحتمى بسلاح أمريكا ؟
تصوروا الرقيب محمد عبد العاطى الذى حطم وحده أكثر من أربع وعشرين دبابة ، لقد قابلته فى قريته شيبة قش ،من أعمال منيا القمح ،وكان يفلح أرضه بصديرى محلاوى بسيط ،كأنه يكمل درس الحياة بلغة لايفهمها سوى المحبين العاشقين للخير :الأرض بتتكلم عربى ..الله عليك يافؤاد حداد .
(11)
مثل هذه الحكايات مازالت بحاجة إلى كتابة جديدة ،صحيح أن الزمن دار دورته ، واختلت القيم ،ودهست العولمة كافة الأمكنة ،دون حسيب أو رقيب ، لكن الفلسفة التى تكمن وراء الحرب كضرورة لطرد الغريب مازات بحاجة إلى التأكيد ،ولن يفعل هذا سوى كتاب يملكون حدسا بالمستقبل وإيمانا بالمعانى الرائعة التى حملوها فى صدورهم لحظات العبور من الهزيمة إلى النصر ، ،وإدراك لما حدث منذ ثلاثة وثلاثين عاما كاملة ..مضت ،فابيض شعر العساكر /الآباء وانحنت ظهورهم ،لكنهم الأبناء ،ربما الأحفاد يحملون “جينات “الصمود ،النزال ،المقاومة ،حتى يرث الله الأرض ومن عليها !!!
تمضى ألأزمنة لتطمر ذكريات تلك الحرب الدامية . لست محبا للنكد أو الأحزان إن أكدت على حقيقة أن الآداء العسكرى العظيم فى حرب أكتوبر فاق بمراحل الاجتهادات السياسية التى سعت إلى وهم السلام دون إدراك خطورة الأمر .
هذه الرؤية الخاطئة أفضت بنا إلى سلام رسمى هش ،وتغلغل صهيونى مقيت ،فضحه كاتب عظيم هو إدوارد سعيد فى مقالاته الكاشفة .
ثلاثة وثلاثين عاما مرت على حرب أكتوبر ، وصعدت أرواح الشهداء فيها إلى الخالق العظيم تسأل الرب الرحمة لمن يعيشون على أرض مليئة بالآثام والظلم والقهر الأكيد !!
دمياط 7/11/ 2006